الفقه والمسائل الطبيّة

الشيخ محمد آصف المحسني

الفقه والمسائل الطبيّة

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣

والدماغ. وبتعبير دقيق عندنا أنها من آثار الروح بتوسط المخ.

وثبت علمياً أيضاً أنّ للقلب حركة قبل تمام أربعة أشهر بكثير ، وتسمع دقات قلب الجنين بالآلات الحديثة الطبية ، فليس الحياة الاِنسانية تدور مدار حركة القلب حدوثاً ولا بعد في ان لا تدور مدارها في البقاء والاستدامة ، فكما تبدء حركة القلب قبل الحياة الاِنسانية يمكن بقاءها بعد نهايتها خلافاً للاَطباء المتقدمين.

وحينئذٍ هل يصح أنْ نذهب الى قول الاَطباء الجدد بأنّ موت جذع المخ هو علامة انقطاع الروح عن البدن؟ وهذا يتوقف على أمرين :

١ ـ اثبات انقطاع الروح عند موته نهائياً وكلياً عن البدن ، ولا يكفي ذهاب الوعي والحس وغيرهما إذ لعله لفساد الآلة ـ وهو المخ ـ دون انقطاع الروح كذهاب البصر بفساد العين ، فلا تبصر الروح لكن عدم ابصارها لا يكشف عن انقطاع علاقتها عن البدن فاحتمال بقاء الروح واتصاله ببعض البدن ـ ولو ضعيفاً وفي الجملة ولدقائق قصيرة ـ لا نافي له ، والعلوم التجربية ـ ولو في المرحلة الراهنة ـ قاصرة عن نفي الاحتمال المذكور ، كما ان العقل عاجز عنه أيضاً والدين ساكت عنه.

٢ ـ اثبات ان المخ غير قابل للتعويض ولا للاصلاح عند خرابه ، بخلاف القلب فإنه قابل للتعويض حتّى بقلب بلاستيكي.

لكن عدم تيسر تعويضه وإصلاحه لعله لقصور الطب في دوره الحاضر لا لعدم إمكان التعويض أو الاصلاح في نفسه وما أدراك ما هو تطور الطب في مستقبل بعيد أو قريب (١)؟ فحصول الموت وحدوثه

__________________

(١) ويمكن ان يدفع هذا الايراد بما سيجيء في الفصل الرابع في جواب الاعتراض الرابع فتأمل.

١٤١

بسكون القلب وان لم يدل عليه دليل بل هو مرجوح لكنه بموت جذع المخ أيضاً لم يصل الى حد اليقين وإنْ كان راجحاً.

ولو سألتني عن الحق فاقول لك : إنّ لحظة بدء الحياة الاِنسانية (١) ولحظة نهايتها لم تثبتا بدليل قاطع ، فإنّ تعلق الروح وانقطاعها غير محسوسين ولا مدركين للعقل ولا منصوصين بنص قاطع ديني.

ثمرة القولين :

ربما يموت المخ ـ ونعني به جذعه لا قشره ـ والقلب ينبض ، وهذا على قسمين :

الاَوّل : ينبض القلب تلقائياً. الثاني : ينبض بآلة صناعية بحيث لولاها لسكن القلب بالمرة.

لا يبعد الحكم على صاحب المخ المذكور بالموت على الفرض الثاني ، فإنّ قلبه كمخه مات هو ميت ، وتحريك قلبه بآلة خارجية لا تؤثر في إعادة حياته أو إدامتها ، وفي الفرض الاَوّل الحكم بموته مبني على القولين المذكورين عند الاَطباء قديماً وحديثاً.

وستعرف أنّ للميت أحكاماً كثيرة يختلف ترتيبها في هذه الفاصلة (٢) ، فللبحث المذكور ثمرات كثيرة شرعية أهمها عند الاَطباء نزع

__________________

(١) تقدم ان ما دلّ على تعلق الروح بعد تمام أربعة أشهر بالجنين غير خال عن النقاش والخلل.

(٢) يقول طبيب : عند توقف الدورة الدموية إذا كان ضغط الدم عند المريض طبيعياً وهو في سكتة قلبية مفاجئة فامكانية أخذ عضو لكي يزرع لآخر لا تتجاوز وقتاً كبيراً من بين ١٥ الى ٢٠ دقيقة. (ص ٥٧٢ الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها).

ويقول طبيب آخر : ... ولكن الآن وبواسطة التطورات الطبية والعلوم الحيوية

١٤٢

القلب لزرعه في بدن غيره في هذه الفاصلة العابرة ، إذ تأخيره ربما يفسد القلب فلا يصلح للزرع.

وإما الكلية فإن أوصى صاحبها بنزعها مطلقاً ومن دون تحديد بزمان ما بعد الموت أو صرّح به بالفعل فيجوز نزعه في تلك الفاصلة إذا لم يكن له خطر زائد على حياته القصيرة ، واما ان علقه على موته فحاله حال القلب في الجواز وعدمه على القولين.

توضيح وتقييم :

أقول : لتوضيح محل البحث نذكر صوراً تخطر بالبال عاجلاً :

( الاَولى ) : موت تمام المخ أي جذعه وقشرته وتوقف القلب.

( الثانية ) : موت تمام المخ وحركة القلب صناعية بعد توقفه.

( الثالثة ) : موت تمام المخ مع حركة القلب تلقائياً.

( الرابعة ) : حركة القلب صناعية بعد توقفه ثم تجديد عمل المخ بعد موته.

__________________

امكن تغذية القلب والرئة والاعضاء الاُخرى بوسائل صناعية لمدة معينة أقصاها أسبوعان ، ولو ان المخ قد سبق وان مات ، وفي نظري أنّ الانسان كما نعرفه أيضاً قد مات ، وهذه التطورات مع الاَسف خلقت اختلافاً في تحديد وقت الموت ... هل هو وقوف القلب كما في التعريف الطبي القديم؟ أو وقوف عمل المخ كما في التعريف الجديد ، والذي يؤدي الى وقوف أعمال الاَعضاء الاُخرى إذا لم نجد الوسائل الصناعية؟ وقد يصل الفرق في وقت الموت الى اسبوعين بسبب اختلاف التعريف ، انتهى.

اقول : فيه نظر يظهر مما ذكرنا في المتن آنفاً.

١٤٣

( الخامسة ) : موت المخ وتوقف القلب مع حياة بعض أعضاء البدن.

( السادسة ) : موت جذع قشرة المخ وحياة جذع المخ مع الصوره المتقدمة.

أقول : وفي الصورة الاَُولى موت الفرد متحقق عند جميع الاَطباء القدامى والجدد.

وليكن في الثانية أيضاً كذلك عندهم إذ لا اثر للتحريك الصناعي المذكور.

والثالثة : هي محل الخلاف بين القدماء والمتأخرين من الاَطباء ، فعلى قول الاَوّلين يحكم بحياة الفرد ، وعلى قول الآخرين بموته.

وفي الرابعة لا مجوز للحكم بموت الفرد بل هو حي بحياة انسانية.

وفي الخامسة يحكمون بموته ، فلاحظ أقسام الحياة في الفصل الرابع الآتي ذكره عن قريب.

وفي السادسة احتمالان ، الاَوّل أنّ موت قشرة المخ يستلزم بطلان الحياة الانسانية ان صح ما ادعى بعض الاَطباء من ان قشرة المخ هي التي تميز الانسان عن الحيوان بما رزقه الله من ملكات انسانية ، وقال : إنّ جذع المخ هو الحد الاَدنى اللازم للحياة. ولا عبرة بالحياة غير الانسانية ، كما يأتي في الجواب عن الاعتراض السابع في الفصل الرابع.

الثاني : أنّ بقاء الحياة في جذع المخ تكشف عن بقاء علقة الروح الانسانية بالبدن وفقدان الوعي وسائر الملكات لفساد الآلة والعضو فلا يكشف عن بطلان الحياة الانسانية ولا اقل من الشكّ في ذلك فيعامل معه معاملة الانسان الحي استصحاباً.

وبعد فان تحديد انقطاع علاقة الروح بالبدن بالدقة في الفروض المذكورة ـ سوى الاَولين ـ غير واضح تماماً ، والله العالم.

١٤٤

(٢)

موضع المخ (١) من وجود الانسان

الخلية وان تمثل حياة إلاّ أنّ حياة الغالبية العظمى من خلايا جسد الاِنسان وكذلك اعضائه التي يحتويها هذا الجسد لها حياتها المستقلّة عن حياة الاِنسان كفرد بدليل اننا يمكن أنْ نأخذ بعض خلايا من جسم الاِنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل ولا تفقد حياتها بخروجها من جسم الاِنسان ، ومن الاَمثلة الاُخرى استئصال كلية حية من جسم إنسان لزراعتها في جسم انسان آخر انها لا تفقد حياتها ولا تكسب حياة جديدة من جسد المنقولة إليه ، بل تحيي بحياتها الاُولى طالما توافرت لها إمكانية الغذاء المناسب.

فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها باعضاء أُخرى إنسانية أو حتى بلاستيكية مع استمرارية الذات الانسانية وعدم تغيرها إلاّ المخ.

قد نظن الآن أن النفس الاِنسانية تكمن في مخ الاِنسان لاَنّه مكان استقبال جميع الحواس من سمع وبصر وشم وذوق ولمس ، إنه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي ، كما إنه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر وغيرها والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار ، وبه تم إرساء الطباع والعادات والمثل المكتسبة والمميزة لكل انسان ومكان تواجد الغرائز الموروثة كما انه مصدر الافعال المترتبة على ما

__________________

(١) الدماغ يبدأ تكوينه بعد تلقيح البويضة باسابيع ويكتمل في الاسبوع الثاني عشر. ص ١٢٧ رؤية اسلامية لزراعة بعض الاعضاء البشرية.

١٤٥

يستقبله من معلومات.

ولو نظرنا بتكبير مجهري داخل المخ لوجدناه يتكون من ملايين الخلايا العصبية التي تشبه البطاريات الكهربائية الصغيرة يترجم فيها كلّ شيء من أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربائية تحملها اسلاك دقيقة معزولة تنتهي إلى أطراف دقيقة تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيميائية تقوم بدورها بتنبيه خلايا أُخرى ، وهكذا تستقبل الاَحاسيس من سمعية وبصرية وخلافه وتنفذ المهام من فكر وأفعال.

وهنا يجب أنْ نلاحظ أنّ جميع الاَحاسيس الواردة للمخ وأيضاً جميع الاِشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام تصل منها للعلم إلى مكان معين للمخ يكون باستمرار على علم تام بمجريات الاُمور ، وذلك هو جذع المخ ، وعلى الاَدق نسيج معين داخله يسمى النسيج الشبكي. وهذا الجزء له تأثير كبير على أجزاء المخ الاُخرى ، وقد اثبتت البحوث الكثيرة أنّ هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وَعي الانسان (١) وأنّه إذا فقد الانسان وعيه لسبب أو آخر فإنّ ذلك يحدث ، لاَنّ هذا النسيج قد تعرض لضرر ما ، وذلك كالاصابة في الحوادث أو بالتأثير من السموم أو الامراض.

ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منومة ومهدئة مهلوسة ، وهو المسؤول عن نوم الاِنسان ويقظته ... ويبدو لنا الآن أنّ هذا

__________________

(١) قيل : يمكن أنْ يتلف النصفان الكرويان ويستمر الاِنسان في الحياة ، لاَنّ جذع المخ هو الذي ينظّم التنفس ، وبالتالي يستمر المريض أو المصاب في الحياة ، وانما ذهاب النصفين الكرويين يعني فقده للاحساس وللحركة وللفهم وللكلام وللسمع ولكنه كائن حي بالحياة الجسدية ، ص ٧٧ رؤية إسلامية لزراعة بعض الاَعضاء البشرية.

١٤٦

هو في الغالب مكمن النفس الاِنسانية (١).

وعند توقف القلب عن العمل نهائياً لاَي سبب من الاَسباب ، يتبعه فوراً فقدان الوعي وتوقف التنفس ، وهما وظيفتان من وظائف المخ الذي لا يتحمل توقف دورته الدموية إلاّ لثوان معدودة ، ولو أنّ الخلايا تظل حية لبضع دقائق إلاّ أنها تتوقف في أثنائها عن العمل (٢).

وأمّا العضلات والعِظام والجلد فقد تستطيع الحياة لمدة ساعات بعد توقف القلب والدورة الدموية. وقد يمكن أحياناً أن يعود القلب للعمل ويبدأ التنفس الذاتي في العمل من جديد ( في الدقائق اليسيرة ) ويعود الانسان إلى وعيه ، ففي هذه الفترة الحرجة التي يعتبر الاِنسان فيها ميتاً بكل المقاييس الاكلينيكية الطبية ولكنه بالفعل لا يكون ميتاً ، لاَنّ مخّه ومن ثُم معظم اعضاء الجسم لا زالت حية.

وقد يعود القلب والتنفس للعمل بعد فترة الدقائق الاَربع ، بعدد من الثوان ولكن قشرة المخ الحساسة قد تكون تلفت جزئياً أو كلياً على حين تستمر أجزاء المخ الاُخرى ومنها جذع المخ في العمل ، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوط شديد في ضغط الدم لفترة طويلة حتّى بدون

__________________

(١) وسيأتي توضيح حول كيفية تعلق الروح بالبدن عن قريب ان شاء الله ، ولا عبرة بتعابير مثل الكمون والمكمن وامثالها فانها غير دقيقة.

(٢) لكن نقلت وكالات الانباء في الشهر السابع من ١٩٩٦ م أنّ امرأة صينية توقف قلبها ٤٥ دقيقة إثر اتصالها بالبرق ثم رجع قلبها إلى الحركة واحتيت وقال الاطباء : إنه لم يُرَ لحد الآن من رجع إلى الحياة بعد توقف قلبه وجهاز تنفسه في هذا الوقت الطويل. ولاحظ أوّل حاشية في الفصل الرابع جواباً لهذه المشكلة فما ذكرته وكالات الانباء انما يصير مشكلة إذا علم الاطباء توقف القلب لا توقفه عن النبض فقط.

١٤٧

توقف القلب والتنفس ، وذلك لوصول الغذا للمخ بكميات غير كافية في هذه المدة ، وقد يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة غير مميتة للمخ ولا علاج حينئذٍ ، فخلايا المخ التي تموت لا يمكن تعويضها.

وفي حالة فقد كامل للوعي يستمر هذا الاِنسان في حياة جسدية مدة حياة كاملة على هذا الوضع بالرعاية الطبية ويتنفس ذاتياً ، لاَنّ جذع المخ سليم ، لكن مثل هذه الحياة لا يكون إلاّ داخل مستشفى ، وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية مع انعدام الاَمل في عودة المريض إلى وعيه ، وقد شوهد مريض كذلك استمر حياته (١٥) عاماً في أُوربا (١).

وقد يموت المخ أولاً فيؤدي إلى وفاة الاِنسان حتى إذا كانت بقية الاَعضاء الاُخرى بما في ذلك القلب سليمة كما في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق أو السقوط من أماكن مرتفعة وغير ذلك ، فيموت المخ بالكامل أو اساساً جذع المخ وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي وتوقف التنفس وانقطاع الاوكسجين عن الدم ، إنّ الدورة الدموية التي ما تزال تعمل ينقص فيها الاوكسجين ويتراكم ثاني أوكسيد الكربون وبالتدريج تموت بقية الاَعضاء الاُخرى ، ولا يعود المخ بتزويد الجسم بالاوكسجين بواسطة أجهزة التنفس الصناعي ، فإنّ خلايا

__________________

(١) إذا قلنا إنه لسلامة جذع مخه حيّ ومحكوم بالحياة لكن لا يبعد أنْ نقول بعدم وجوب حفظه عن الموت ، لاَنّ هذا الوجوب لم يدل عليه دليل لفظي نتمسك باطلاقه كما لا يخفى على الخبير المتعمق في الفقه ، ولا يشتبه عليك وجوب حفظ النفس المحترمة بحرمة قتله وبينهما بون بعيد ، وعليه فإذا لم يدفع المال لحفظه ـ والحال هذه ـ وقطع الطبيب الآلات الطبية فمات نهائياً لا يرجع تبعة موته إلى أحد ، فقد اماته الله سبحانه وتعالى ، فلاحظ وتأمل ولاحظ ما ذكرنا في ج ٣ من كتابنا حدود الشريعة مادة الحفظ تعلم ان وجوب الحفظ لا يشمل مثل المقام.

١٤٨

المخ التالفة لا يمكن تعويضها.

والخلاصة : إنّ توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة (فترة الدقائق الاربع ) كما ان استمرار القلب في العمل بعد موت المخ لا يعني الحياة (١).

وقال بعضهم : إنّ المخ يحتمل توقف القلب أقل من أربع دقائق ، فاذا القلب يعود لعمله بعد ذلك بقي المخ تالفاً ، كما إنّ توقّف التنفّس يتبعه توقّف القلب بعد أقل من ذلك (٢) وخلاصة ذلك أنّ موت الاِنسان بموت مخه ، واما تحديد وقت وفاة المخ فهنا أكثر من طريقة له ولكن أكثرها دقة وتحديداً هي ان يوصل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخ بأجهزة تخطيط المخ أو أجهزة قياس عمل المخ أو أجهزة فحص عمل جذع المخ ، فإنها دقيقة تقوم بتحديد المطلوب (٣).

__________________

(١) انتخبنا ما في المتن مما ذكر في ص ٣٣٤ إلى ص ٣٤٢ من الحياة الاِنسانية بدايتها ونهايتها.

(٢) قيل : يخرج من المخ عشرات الاَلياف العصبية (الاَعصاب) من خلال ثقوب في الجمجمة والعمود الفقري ، كما أنّ الكثير من الشرايين والاوردة تنقل اليه ومنه الدم اللازم لتعذيته ان الجهاز العصبي المركزي والمخ بصفة خاصة لا يتحمل تغييرات فيزيائية أو كيميائية في المحيط الذي يعيش فيه إلاّ في نطاق محدود جداً ، فمثلاً التغيير في درجات الحرارة بالنسبة لاعضاء اُخرى كالجلد تتحمل إلى عشر أو عشرين درجة مئوية صعوداً أو هبوطاً من الدرجة العادية (٣٧) إلاّ أنّ المخ لا يتحمل انخفاضاً أكثر من درجتين وإلاّ ابتداء عمله في التأثر ، وقد يغيب الانسان عن وعيه فيما يشبه النوم ، وهذا ماحدث لجيوش نابليون عند هجومها على روسيا في الشتاء القارص البرد وسبب اندحاره وهزيمته كما ان ازدياد درجة حرارة المخ عن ثلاث درجات قد يسبب أيضاً فقدان الوعي وقد يصاب الانسان بما يسمى ضربة شمس ، ص ٥٧ وص ٥٨ رؤية إسلامية لزراعة الاعضاء البشرية.

(٣) اظن آراء الاطباء في ذلك مختلفة وبعضهم لا يطمئن بتحديد المطلوب فلا بد من البحث في ذلك ولاحظ ما يأتي في ص ١٥٥ تجد صدق ما قلنا.

١٤٩

(٣)

أيضاً المخ والقلب

ولمّا كان قرار تشخيص الموت يتبعه ايقاف الاَجهزة الصناعية ، ووقف أجهزة التنفس يتبعه توقف القلب ، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضية ( ايّ اعتبار موت جذع الدماغ موتاً للمريض ) بصورة أخرى ، فاجريت دراسة استقصائية للحالات التي تم فيها تشخيص موت الدماغ ، ولكن الاجهزة لم توقف لسبب من الاسباب ، وقد زادت على سبعمائة حالة وقد ماتت الحالات جميعاً رغم استمرار الاجهزة. هذا وقد توقف القلب فيها بعد ساعات أو أيام من موت الدماغ ، وكان متوسطة المدة ثلاثة أيام ونصف إلى أربعة أيام ونصف يوم ، واقصى مدة سجلت لاستمرار القلب في الدق هي أربعة عشر يوماً (١) ... ولم يعش أحد ( من هذه الحالات ٧٠٠ ) ... (٢) القلب يمكنه أن يتوقّف عن العمل تماماً بسبب قطع الاَُوكسجين عنه أو قطع وصول الدم الذي يحمل الاَُوكسجين إليه ، إما تلقائياً بسبب المرض او بواسطة الجراح اثناء عمليات القلب المفتوح.

وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعية ( أي بدون تبريد ) فإنّ القلب يبقى حياً أو قابلاً للحياة لمدة تتراوح بين ٢٠ الى ٣٠ دقيقة بدون تلف كبير ، وإذا عاد الاَُوكسجين الى القلب خلال هذه المدة ( بعودة الدورة الدموية

__________________

(١) يتجه هنا سؤال وهو ان اختلاف المدة من ساعات الى اربعة عشر يوماً هل لا يكون دليلاً على عدم علية مشخصة محددة من موت جذع المخ لموت الشخص فلابد هنا من الانتظار حتى تشخيص الحلقة المفقودة فتأمل فيه.

(٢) ص ٣٥٧ الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها.

١٥٠

التاجية ) يعود القلب إلى العمل كما كان ، وإذا زادت فترة قطع الاَُوكسجين يزداد التلف تدريجاً حتى إذا وصلت المدة الى ٩٠ ـ ١٠٠ دقيقة ( أو أقل ) يفقد القلب قابليته للحياة. وأما مع التبريد فيحتمل القلب قطع الاَُوكسجين ساعات بدون تلف (١) وبالنسبة للمخ فتوجد ظروف مشابهة لما ذكر عن القلب إلاّ أن المخ يفقد قابليته إذا انقطع عنه الاوكسجين لمدة دقائق معدودة ( ٣ ـ ٥ دقايق ) وحرارته طبيعية ، ومع التبريد يمكن للمخ أن يعود للعمل بعد عدّة ساعات من التوقّف إذا عادت إليه الدموية الحاملة للاَُوكسجين (٢).

موت القلب ليس موت الفرد :

يمكن ان يتوقّف القلب عن العمل تماماً بصفة موقتة اوبصفة دائمة وتستمر حياة صاحبه بجسده وذكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته مادامت هناك مضخة بديله تضخ الدم وتسيره عبراً للدورة الدموية ، وهذه المضخة يمكن أنْ تكون قلباً عضوياً آخر من إنسان أو حيوان أو تكون آلية (٣).

موت المخ موت الفرد :

موت المخ يؤدي بالضرورة إلى موت صاحبه. نعم من الممكن أنْ توقف المخ عن العمل جزئياً لسبب ما ثمّ يعود إلى حالته الطبيعية ما لم

__________________

(١) ص ٣٨٧ نفس المصدر.

(٢) ص ٣٨٨ نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر وقيل القلب يتوقف أحياناً عن النبض ويظهر كأنه مات ولكنه لم يمت وله قابلية الحياة. وهنا التفرقة بين سكون القلب والموت ص ٥٢٩ نفس المصدر وقيل ان القلب كأي عضو في الجسم محتاج إلى غذاء وهواء يعني الاوكسجين ، فاذا توقفت دورة الدم لاي سبب كان يتوقف عن العمل ، ففيه جهاز كهربائي يساعده او ينظم نبضه ص ٥٣٥ نفس المصدر.

١٥١

يفقد الحياة أو القابلية للحياة تماماً ، وأمّا إذا فقد القابلية للحياة وانعدمت كل المؤشرات الكهربائية فيه فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك ، ولا يمكن للاِنسان الحياة بدونه ولا يوجد للمخ بديل.

(٤)

اعتراضات على هذا القول وأجوبتها

١ ـ كيف يحكم بموت إنسان بموت مخه وربما قلبه ما زال ينبض؟

أُجيب عنه بأنّ حياة عضو لا يتعارض مع موت صاحبه ، فمثلاً الشعر يستمر في النمو لمدة ٢٤ ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه وبدون أي دورة دموية جارية ، والقلب العضوي يمكنه أن يستمر خارج الجسد منفصلاً عن صاحبه مدة إذا وفر له الغذاء والحرارة المناسبة وفي هذا الاَثناء يكون صاحبه قد مات ودفن ، وكذلك كثير من أعضاء الجسد.

وجدير بالذكر هنا أنْ نعلم أنّ الحياة على اقسام :

فمنها الحياة الانسانية الواعية.

ومنها الحياة الجسدية ، وهي الحياة أثناء النوم وأثناء التخدير وتعاطي السموم في إصابات المخ وحالات الغيبوبة وحالات وفاة قشر المخ ، هذه الحياة موجودة وفيها روح (١).

ومنها الحياة العضوية ، وهي تكون بعد وفاة جذع المخ ، ولا زالت بعض الاعضاء موجودة حية. طبعاً ذلك يستدعي وجود تنفس صناعي.

__________________

(١) نعم الفرق بين القسمين في مجرد الوعي ونحوه وأما كيفية علاقة الروح الاِنسانية بالجسد في كل من الحالتين فهي مجهولة عندنا أو بالادق : عندي!

١٥٢

ومنها الحياة النسيجية.

ومنها الحياة الخلوية (١).

فلابدّ من عدم اشتباه بعضها ببعض آخر.

٢ ـ ولو أنّه لا يوجد حالياً بديل كامل للمخ فإنّه يوجد بديل لاَحد وظائفه ، وهو تحريك الجهاز التنفسي عن طريق آلة التنفس مما يوفر الاوكسجين للقلب وبقية الجسد ، فيمكن له الاحتفاظ بقابليتهم للحياة ولو لفترة من الزمان ، فلماذا لا تستعمل آلة التنفس لفترة غير محدودة.

واُجيب عنه أولاً بعدم إمكان الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة ، إذ تتدهور الحالة تدريجاً حتى يتوقف القلب العضوي والاعضاء الاُخرى بالرغم من كل الآلات المستعملة.

وثانياً بأنّه في أثناء الاِبقاء على حياة بعض الاَعضاء يكون هنا انعدام تام لحركة الاِنسان وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته.

وثالثاً بأنّ حياة بعض الاَعضاء لا تعني بالضرورة حياة صاحبه (٢).

وقد ذكر بعض الباحثين مثالاً لعدم دلالة نبض القلب على الحياة بانسان قطع رأسه تلقفه الاَطباء وحفظوا الجسد المفصول فبقي القلب الموصول بالاجهزة نابضاً ، ففي هذه الحالة لا يمكن لاحد أنْ يدّعي بقاء الروح في جسد بلا رأس. مهما كانت خلاياه حية (٣).

٣ ـ إذا كان قياس الدماغ ـ أي كهرباء الدماغ ـ يكفي بالحكم بالموت فلماذا تحدد السلطات الصحية في المملكة المتحدة عام ( ١٩٧٧ ) شروطاً

__________________

(١) ص ٥٢٥ الحياة الاِنسانية.

(٢) ص ٣٩٠ وص ٣٩١ الحياة الاِنسانية.

(٣) ص ٤٢٥ نفس المصدر.

١٥٣

فلا بد من توافرها لتشخيص موت الدماغ؟ منها على سبيل المثال :

أوّلاً : أنْ يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة ، وأن نستبعد أسباب الغيبوبَة القابلة للعلاج كلياً أو جزئياً ، مثل العقاقير المهدّئة أو المنومة أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم.

ثانياً : أنْ يكون المريض معتمداً على أجهزة التنفس الصناعي لانعدام التنفس التلقائي.

ثالثاً : ألاّ يكون هناك شكّ في وجود تلف في الدماغ غير قابل للعلاج ، مثل إصابة بالرأس أو نزيف تلقائي بالدماغ أو بعد عملية جراحية في المخ ونحو ذلك.

رابعاً : أنْ يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ ، كاتساع العينين اتساعاً ثابتاً لا يتأثر بالضوء وانعدام التأثر الانعكاسي في منطقة الاَعصاب القحفية (١) ، وهكذا.

خامساً : انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفس التلقائي (٢).

وأجاب عنه بعض الاَطباء بأنّ وضع هذه الشروط لمجرد التأكيد والاحتياط ، لا لغير ذلك. لكن موضوع الاحتياط هو الاحتمال المنافي للعلم ، إذ مع العلم لا معنى للاحتياط.

٤ ـ ليس من الاِمكان ببعيد مجيء يوم يتمكن العلم المتطور من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ أو نقل جذع الدماغ من بدن إلى بدن آخر (٣).

__________________

(١) في المنجد : القِحف ج اقحاف وقحوف وقحفة : العظم الذي فوق الدماغ. ما انفلق من الجمجمة فانفصل. إناء من خشب مثل قحف الرأس كانه نصف قدح ..

(٢) ص ٣٥٥ نفس المصدر السابق.

(٣) إذا فرضنا حياة فرد بنقل مخ فرد آخر كزيد ، فان وجدنا الفرد المذكور بافكاره

١٥٤

أقول : لكننا نتكلم الآن حسب الظروف الموجودة ، فلابدّ أنْ نقول بموت الفرد بموت جذع مخه حتى إذا جاء نصر العلم وفتح الطب فنقول بما اقتضاه الوقت.

٥ ـ الحكايات الكثيرة المتفرقة التي يتناقلها الناس من أن فلاناً مات ثم صار حياً قبل الدفن أو بعد الدفن ثم رجع إلى الاَحياء ، أو مات مرة أُخرى في قبره كما فهم ذلك بعد نبش قبره ، وهذه الحكايات وان لم نصدق بجميعها لكن لا مجال لتكذيب كلها ، ففي هذه الموارد بالطبع كان القلب متوقفاً طيلة تلك المدة والمريض لا وعي له ولا إدراك ولا حراك ، وسواء مات المخ أو لم يمت ، فإنّ حياة مثل هذا الفرد يبطل القول المذكور.

وأجاب عنه بعض الاطباء بأنّ مردّ هذا في الغالب إلى خطأ في التشخيص ، فلعلهم تبينوا توقف قلبه بحبس نبضه أو حبس نبض شرايين الرقبة او الاستماع إلى صدره ، وقد تعجز الحواس الطبيعية عن أنْ تذكر الاختلاجات الضعيفة ، ولعلهم إنْ رسم لهم رسّام القلب الكهربائي كانوا يستنبطون أنّه حيّ .. (١).

٦ ـ نقل عن جريدة الاَهرام (٣٠ / ٩ / ١٩٨٤) خبرٌ وهو :

__________________

وعواطفه وجميع مشخصاته السابقة ، فهو ينقض القول السائد اليوم بأنّ موت الفرد بموت مخه. واما إنْ وجدناه بمشخصات زيد وذاكرته وأفكاره واتجاهاته فلا ينقضه ، لامكان القول أو صحته بان هذا الفرد لم يحيى ، بل الحي هو زيد ببدن ذلك الفرد ، ومثل هذا الفرض سيوجب اسئلة شرعية واخلاقية واجتماعية وروحية ، وامره غامض جداً لا سيما بالنسبة إلى الزوجة والاولاد والاقرباء. وأظهر من هذا الفرض فرض زرع رأس أحد في بدن آخر إذا قدر الطب عليه في دهر.

(١) ص ٥٤٩ الحياة الانسانية.

١٥٥

حالة وضع أثارت اهتمام العلماء في العالم أجمع ، تلك حالة السيّدة الفلندية انجاليتالو ٣٢ عاماً ، التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامة منذ شهرين ونصف ، وقد دخلت الاُم في هذه الغيبوبة إثر اصابتها بنزيف في المخ. والغريب أنّ الاُم قد توفيت بعد أنْ وضعت طفلها ماركو بيومين ... فقد كانت الاُم تتنفس صناعياً وتتغذى بالاَنابيب وينقل لها دم مرة اُسبوعاً ، وذلك لمدة عشرة أسابيع (١).

واُجيب عنه بأنّ الاُم لم تكن حية وليس لها روح وانما هي استعملت كحاضنة صناعية للجنين الذي في جوفها.

٧ ـ إنّ تعطيل الحواس لا يستلزم فقد الحياة وإلاّ لكان النائم والمجنون والمغشي عليه فاقدين للحياة. ألا ترى أنّ القرآن الكريم لم يحكم على أصحاب الكهف ـ مع الغيبوبة الطويلة ( ٣٠٩ اعوام ) بأنهم اموات بل المستفاد من قوله تعالى : ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) (٢) حياتهم ، وكذا في قوله سبحانه : ( لو أطّلعت عليهم لولّيت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً ) (٣) قيل ذلك لطول شعورهم ونمو أظافرهم ولحاهم إلى غير ذلك مما يغير الملامح ويخيف عند زيادته عن المألوف.

أقول : مرّ جواب هذا مجملاً في بعض المسائل المتقدمة ( بداية الحياة الاِنسانية ).

ويقول بعض الاَطباء : إنّ كلّ غيبوبة لا تدلّ على موت المخ ، ولا بدّ أن يستبعد الطبيب هنا الاَسباب التي تؤدي إلى غيبوبة قابلة للعلاج كالمواد المخدرة والبرودة الشديدة في البلاد التي فيها برد شديد وعندما لا يتأكد

__________________

(١) ص ٤٤٧ نفس المصدر.

(٢ و ٣) الكهف آية ١٨.

١٥٦

عندنا سبب الغيبة لا نشخصّ موت جذع الدماغ (١).

وأوضحه بعض الاختصاصيين بقوله : إن جذع المخ نسميّه المراحل الدنيا أو الاَقل ، وأما المراحل العليا أو المراكز العليا فهي مرحلة القشرة. المراحل الدنيا لا تعني أهميتها بالنسبة للحياة بالعكس من المراحل العليا ـ المنطقة العليا هي التي تميّز الاِنسان عن الحيوان بما رزقه الله تعالى من ملكات إنسانية ـ ولكن المراحل ( أو المنطقة ) الدنيا هي الحد الاَدنى اللازم للحياة هو جذع المخ ، لذلك قيل المعتوه ليس ميّتاً لاَنه فقد الغاصة العليا وهي قشرة المخ ولكنه مازال يحتفظ بالحد الاَدنى وهو جذع المخ هو فيصل التعريف بين الحياة والموت (٢).

٨ ـ يقول طبيب : كان عندنا مريضة كان فيها كسر عملنا لها عملية قلب مفتوح وعلى طول العمليات توفيت ، عملنا لها عملية انعاش ، عملنا لها مرتين ، وبعدها صحت واستمرت وبعد العملية ما صحت وظلت فاقدة الوعي لمده ثلاثة اشهر ، وبعد ثلاثة أشهر والرئيس اقنعني بأنّ توقّف كل حاجة وتتركها تموت لانها انتهت ، فانا طرحت عليه وقلت له : إنني سمعت أشياء تجريبية على الحيوانات أنّ بعضهم يعطيها جرعة كبيرة من الكورتيزون وهي متوفرة أصلاً وما في ضرر نجرّب عليها ، وفعلاً أعطيت الجرعة العادية ثلاثين مرّة ، وبعد ثلاث ساعات صحت خرجت من المستشفى وذهبت إلى بيتها (٣).

وأُجيب عنه أنّه بطبيعة الحال لم يكن جذع المخ قد مات.

__________________

(١) ص ٥١٨ الحياة الاِنسانية.

(٢) ص ٥٤١ نفس المصدر.

(٣) ص ٥١٨ نفس المصدر.

١٥٧

(٥)

شواهد على صحّة قول الاَطباء الجدد

١ ـ حركة القلب توجد في الجنين قبل تعلق الروح الاِنسانية ، فلا تتعلق بالحياة الاِنسانية في الابتداء والانتهاء كما ذكرناه سابقاً أيضاً.

لا يقال : المخ أيضاً يتكامل في الاَُسبوع الثاني عشر كما سبق أيضاً ، فقياساً على قولك يقال : إنّ عمل المخ لا يدلّ على الحياة.

فإنا نقول : مطلق العمل لا يدلّ على تحقق الحياة الاِنسانية بل العمل الخاص وهو العمل الارادي وإدراك الكليات والعواطف وسائر الملكات ولو في الجملة وانى لك باثباتها ، فلاحظ.

٢ ـ من صفات الروح أو آثارها العواطف الاِنسانية والادراك ، وحيث إنهما تذهبان بذهاب المخ فلم تبق الحياة الاِنسانية فيكشف أنّ الروح تدور مدار المخ ، وان احتمل ذهاب العواطف لفساد المحل فلا يحتمل ذلك في إدراك الكليات التي يستقل به الروح.

٣ ـ الادراكات الحسية من الحواس الخمس كلها تنشأ وترجع إلى المخ دون القلب العضوي ، بل نسبته إلى الادراكات كنسبة اليد والرجل والانف والبطن والعضد مثلاً اليها كما هو واضح في مثل هذه الاَعصار.

وربما يمكن أنْ يتوهّم احد بأنّ الادراكات الحسية لمكان اتصاف الحيوانات أو معظمها بها أو باكثرها لا تخصّ الروح الاِنسانية ، بل الروح الحيوانية. وجوابه أنها في الاِنسان ترجع إلى روحه الاِنساني إذ لا تتعدد ارواحه وليس له روحان حيواني وانساني.

١٥٨

٤ ـ لو كان الروح متعلقة بالقلب حدوثاً وبقاءً لذهبت بذهابه وتعويضه بقلب بلاستيكي ، لكنها باقية بتمام مشخصاتها مع التعويض المذكور.

فهذه الاُمور إنْ لم تكن بتمامها دلائل على موت الفرد بموت مخه فلا أقل من كونها شواهد عليه.

(٦)

عجيبة

المخ بماله من المكانة المعقدة المهمة التي تحير العقول وهو جهاز لا نظير ولا مثيل له في الكون ـ ظاهراً ـ وقد قيل : لو أراد الانسان أن يصنع مثله من الفلز لما وسعته كرة الاَرض!!! فسبحان من مبدع وحكيم وقدير وعليم وخالق وعنت الوجوه للحي القيوم.

ولكن مع ذلك فقد أهمله القرآن المجيد ولم يذكره مطلقاً حسب فهمي القاصر لا من حيث دلالته على صفات الله الكمالية والجمالية (الثبوتية الذاتية والفعلية) ولا من حيث بيان أعظم سننه بعد الروح على الانسان ولا من حيث تعلق الروح به. وهذا مما لا أفهم له وجها.

ماللتراب وللعلوم وانما

يسعى ليعلم أنه لا يعلم

(٧) علاقة الروح بالبدن

مقتضى الآيات القرآنية والاَحاديث المعتبرة والبراهين العقلية ـ على

١٥٩

ما سبق بعضها في مسألة بداية الحياة الانسانية ـ أنّ للاِنسان روحاً ونفساً وبدناً ، وهذا أمر مقطوع لا ريب فيه.

وتقدم أنْ قلنا إنّ الروح والنفس مفهومان منطبقان على مصداق واحد جزماً أو وجداناً. والكلام هنا في بيان كيفية علاقة الروح بالبدن ، وفيها احتمالات أو أقوال :

١ ـ علاقة الروح بالبدن علاقة الحال بالمحل كما عن أهل السنة (الاشاعرة) حيث قالوا : إنّ الانسان مكون من جسد وروح تحل في هذا الجسد مادام صالحاً لاستقبال الروح (١) ، ونسميه بالعلاقة الحلولية كحلول الاَمراض بالبدن وكحلول جملة من الاَعراض بالجسم.

٢ ـ علاقتها به كعلاقة العرض بموضوعه ( حسب المصطلح في الكلام والحكمة ) ، نسبه الرازي إلى المعتزلة ( الذين يتبعون العقل في المعارف بدل متابعة أبي الحسن الاَشعري ) وأنهم قالوا : إنّ الحياة عرض قائم بالجسم ، أي أنّ الروح عرض قائم بذلك الجسم ، فجعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم كما هي منفصلة عنه على القول الاَوّل (٢).

لكن لا وثوق لنا بنقل الرازي فلا يثبت هذا عن المعتزلة ، ولم يمكنني ـ في هذا البلد البعيد عن العلم وأهله ـ الرجوع إلى كتبهم ، والله العالم.

٣ ـ أو كعلاقة الراكب بالمركب؟

٤ ـ أو كعلاقة المظروف بالظرف؟

٥ ـ أو كعلاقة الملك بمملكته ورئيس الجمهور ببلاده ، فهي علاقة

__________________

(١ و ٢) ص ٤٦٥ الحياة الانسانية نقلاً عن تفسير الرازي.

١٦٠