وكانت صدّيقة

كمال السيد

وكانت صدّيقة

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-438-161-0
الصفحات: ٢٣٥

كارهين .. ولسوف أمضي اليهم بنفسي فان تعلّلوا أحرقت عليهم البيت.

ـ إنّ فيه فاطمة يا عمر.

ـ وإن.

تداعت الذكريات في خيال أبي بكر. تذكّر يوم خطب فاطمة فردّه الرسول. انّه لن يغفر لها ذلك ... كما لن يغفر لها ما سببته من آلام لإبنته. كانت عائشة لا تطيق رؤيتهاولا رؤية زوجها .. هو أيضاً كان لا يرتاح لفاطمة وكان يشعر بالحسرة لا تقاسيه ابنته.

قال عمروهو يرمق صاحبه بنظرة ذات معنى :

ـ يا له من حديث أصبت به مقتلاً .. أنا أيضاً أذكر ان النبيّ قال : « نحن معاشر الانبياء لانورّث .. ما تركناه صدقة ».

ابتسم أبو بكر ... وكانه يقول وما في وسعي أن أفعل غير ذلك .. امامنا جولات وجولات .. وفاطمة ما تزال تقاوم ..

قال أبو بكر متوجّساً :

ـ أنا أخشى فاطمة .. انّها ثائرة ولن تسكت .. وكيف تسكت وهي بنت محمّد .. زوج عليّ.

ـ لا تخش شيئاً يا صاحبي سينتهى كلّ شيء .. ما هي إلاّ امرأة .. وليس معها أحد.

٢٠١

قال أبو بكر وقد استيقظت في أعماقه بقايا ضمير :

ـ ماذا لو نسلّمها « فدكاً » ونرتاح من كلّ هذا العناء.

ـ ماذا تقول يا صاحبي اذا أعطيتها فدكاً اليوم فستأتي غداً لتطالب بالخلافة الى بعلها .. وأنت تعرف ان فدكاً لديها ليست فاكهة أو نخيل ولا أرض انّها الخلافة .. لا لا .. لا تفعل ذلك أبداً.

ـ ألا تخشى غضبها يا أبا حفص .. غضبها يعني غضب الله ورسوله .. الجميع يعرف ذلك.

ـ وهذه أيضاً ستمرّ كما تمرّ العاصفة .. سوف نزورها ذات يوم فتصفح عنّا وينتهي كلّ شيء .. انّك لتصوم وتصلّي وتحجّ وتجاهد فلا تقلق.

ـ اتمنّى أن يكون ذلك.

كانت عائشة تصغي بصمت الى حديث أبيها تدرك ما يموج في أعماقه من رقّة تكاد تنقض كل صلابته لولا صاحبه الذي لا يعرف غير الاندفاع كالزوبعة ... ولولاه ما وقف أبوها كلّ هذه المواقف ... وعائشة تدرك جيداً ان عمر يحلب لابيها ليأخذ شطراً منه غداً. على هذا تعاهدا ومعهما « الجرّاح ».

عائشة لا ترتاح لتردد أبيها. انّها تريد منه أن يكون قويّاً هذه المرّة ... وقد غاب « محمّد » فليندفع ليهزم « عليّاً » أمام عيني

٢٠٢

« فاطمة » ، لشدّ ما يسعدهما أن ترى فاطمة كسيرة مغلوبة تندب المجد الذي ولّى والعزّ الذي مضى.

ـ لا لا يا عائشة لا تكوني قاسية إلى هذا الحدّ ..

أرجوك إذا مررت بشجرة محطّمة فلا تدوسي ثمارها .. أو حمامة مهيضة الجناح فلا تستلّي السكين لتذبحيها ... أليس هناك مكان للحبّ .. لله؟

ـ أتريدني اشفق على فاطمة .. فاطمة التي استحوذت على قلب زوجي ... لا لا لن أغفر لها ذلك .. وعليّ الذي ودّ طلاقي .. كلّا لن أغفر لهما أبداً.

تلاشى الدويّ وخفتت نداءات الانسان .. وانتصر النمر المتوثّب في الأعماق ليطلّ من عينين يكاد بريقهما ينفذ في الظلوع.

٢٠٣
٢٠٤

٣٥

فاطمة حزينة .. وحيدة في هذه الدنيا الغادرة .. غيّب التراب جهاً كان يضيء دنياها وتوقف قلب كان يملأ حياتها أملاً ...

رحلت امّها وهي بعد صبيّة .. وهاهي بفقد أباها وهي في عمر الربيع ..

فقدت الاشياء شفافيتها وبدت عارية مقرفة. كانت تنظر الى الجزيرة فتراها حضراء .. حضراء. تنظر بعيني محمّد فترى البراعم تتفتح والرياحين تفوح بالعطر .. والسماء تزخر باجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع وكلمات جبريل تملأ الفضاء. ولمّا أغمض الاب عينيه انطفأت كلّ الشموع .. انكفأت فوق صحون الحنّاء .. ذبلت الرياحين وغادر الربيع الجزيرة ... واستيقظت الاصنام .. فتحت عيونها الحجرية ... وانبعث خوار « عجل » في « فدك ».

العاصفة تهبّ عنيفة تدمّر كلّ شيء .. ولو مرّت على النجوم

٢٠٥

لأطفأتها أو على شجرة زيتون لا جتثتها من فوق الأرض ... وفاطمة وحيدة .. ليس معها أحد سوى رجلها وقد أغمد « ذا الفقار » بعد ان وضعت الحرب أوزارها .. وسيّد الرجال يأبى أن تكون له في الفتنة سيف .. سلاحه الصبر؛ والصبر سلاح الأنبياء.

ليس في منزل فاطمة سوى صبيين ينتظران عودة جدّهما .. ليس في منزل فاطمة سوى بنت صغيرة غارقة في حزن سرمدي ... بنت اسمها « زينب »؛ ليس في منزل فاطمة أحد إلاّ المستضعفون فبدا كقلعة مهجورة تحمل آثاراً لجبريل. ستهبّ العاصفة اعصاراً فيه نار وقد لاذ الخائفون فئراناً مذعورة في جحورها .. وليس هناك من سلاح إلاّ الصبر ... والصبر له طعم كالحنظل لا يعرفه إلاّ المظلومون.

بدا عليّ ذلك اليوم كأسد جريح .. أسد مثقل بالقيود والسلاسل .. وأصعب ما يواجه الرجل من ضيم أن يرى امرأته مقهورة وحيدة وهو موثق الأيدي ... كان عليّ يدرك ما يدور في الخفاء ... شمّ منذ أمد بعيد رائحة المؤامرة ولم يكن في مقدوره أن يفعل شيئاً ... كانت العناكب تحوك شباكها ليل نهار. والسماء تكتظّ بقطع السحب السوداء ، والقمر في المحاق ..

هبّت العاصفة ، وهتف ابن صهاك ، وقنفذ ينظر بعينينن فيهما بريق شيطاني :

٢٠٦

ـ يا علي اخرج وبايع كما بايع الناس.

لاذ الاسد بالصمت ، ورفع ابن صهاك صوته بعصبية :

ـ لتخرجّن أو لاحرقن الدار.

هتف رجل مستنكراً :

ـ إن فيها فاطمة.

أجاب ابن صهاك.

ـ وإن!.

هتفت فاطمة بغضب :

ـ سرعان ما أغرتم على أهل البيت.

ركل قنفذ الباب بوحشية ... وظهرت بنت محمّد في قبضتها لواء المقاومة .. وجهها الازهر مضمخ بعبير النبوّات وكان حسين وحسين ينظران بدهشة الى رجال كانوا بالامس يبتسمون لهما وقد جاءوا اليوم يكشّرون عن أنياب كالذئاب.

ـ أين أنت يا جدّاه .. هلمّ لترى ما يفعل أصحابك.

هتف فاطمة بغضب الأنبياء :

ـ اخلوا الدار .. وخلّوا عن ابن عمي ..

ثم أردفت وهي تستنجد بالسماء :

ـ لئن لم تخلّوا عنه لانشرن شعري ولأصرخن الى الله.

٢٠٧

هتف سلمان وقد رأى العذاب قاب قوسين أو أدنى :

ـ يا سيدتي! إن الله بعث أباك رحمة. والتفت الى عمر :

ـ خلّوا عن عليّ فقد أقسم ألا يخرج حتى يجمع القرآن.

انسحب الرجال أمام فتاة نحيلة الجسم كنخلة متواضعة .. لكنّها عميقة الجذور.

ما تزال راية المقاومة ترفرف فوق منزل فاطمة كطيف من رؤى النبوات.

وقف التاريخ مشدوهاً قبالة منزل صغير يضمّ فتاة نحيلة القوام.

وقف التاريخ خاشعاً أمام « فاطمة » .. أمام فتاة عجيبة لم ير مثلها صفاءً لكأنها تنتمي الى عالم آخر لا يمت الى عالم التراب بوشيجة قبس من نور يكاد ينفذ من أهاب جسد نحيل لكأن الملاك يوم ولدت تضرّع الى ربّه :

ـ يا ربّ اجعلها ثابتة كالجبل ، مباركة كالنخيل ، طاهرة كقطرات الندى ، سيّدة كحورية.

وقف التاريخ مذهولاً أمام فاطمة .. غيمة بيضاء تختزن الرعود ... فهذه الفتاة التي تقف في محرابها تتبتل الى السماء حتى تكاد تفتت التراب لتصبح كوكباً درّيا .. تتسرب من بين الطين عائدة الى عالم النور.

٢٠٨

وقف التاريخ خاشعاً أمام فتاة تقضي جلّ وقتها تتأمّل ملكوت السماء .. ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ... فتاة تنطوي ضلوعها على قلب تضيع فيه الصحارى.

وقف التاريخ امام سيّدة عظيمة هبّت بوجه العاصفة؛ ولتكن « فدك » أرضاً للصراع.

٢٠٩
٢١٠

٣٦

ما أصغر فدكاً فوق الأرض ... وفي الجغرافيا. وما أوسعها في خارطة التاريخ.

هبّ السامريّ ليجثو أمام « العجل » وفتحت الأوثان العربية عيوناً حجرية تحدّق ببلاهة ... وبرقت عينا « الاسخر يوطي » بالغدر وهو يدّل على ابن مريم ... وهمّ بنو اسرائيل بهارون ، وفرّت الفراشات الى مخابئها وقد عوت ريح الزمهرير كذئاب مجنونة.

نهضت فاطمة بوجه العاصفة تقول لا :

ـ لا تقتلوا يوسف .. ولا تلقوه في غيابت الجبّ.

ـ لا تغدروا بابن العذراء .. لا تعبدوا العجل من دون الرحمن .. لا تقتلوا هارون.

ـ دعوا الفراشات تسبح في غمرة النور .. لا تطفئوا الشموع .. لا تثقلوا الأرض بالآثام .. دعوا هابيل يرعى ماشيته بسلام.

٢١١

وقفت فاطمة تنظر إلى الأفق البعيد المدلهمّ بالخطوب والحوادث وراحت تسرج الشموع في مهب العواصف علّها تضيء الصحراء والتاريخ.

معركة وشيكة ستندلع .. تدمّر كلّ شيء ... معركة عجيبة اسلحتها الصبر ... الصمت الرفض ... كان على عليّ أن يرمي « ذا الفقار » جانباً .. أن يصرخ بالصمت .. الصمت المدوّي وكان على فاطمة أن تتكلّم بعد أن طوت الماضي متبتلة في المحراب.

نهضت فاطمة. غادرت محمراب الصمت لتقول كلمتها في الذين يسرقون « فدك » في غمرة الليل حتى لا يسرقوا التاريخ والمستقبل في وضح النهار ...

جاءت فاطمة تطالب بالميراث وكانت جذوع « فدك » سلاحها الوحيد :

ـ اعطني ميراثي من أبي رسول الله.

قال أبي بكر :

ـ سمعت أباك يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.

ـ كيف وقد ورث سليمان داود .. وقال زكريا : يرثني ويرث من آل يعقوب؟!!

ـ أنا سمعت رسول الله يقول نحن الأنبياء لا نورّث وهاهي

٢١٢

عائشة وحفصة تشهدان على ذلك.

ـ سبحان الله ما كان أبي عن كتاب الله صادفاً .. ولا لأحكامه مخالفاً ...

اشتعلت ثورة في قلب ابن فاطمة وكان صبيّاً جذب رداء رجل ينازع امّه الميراث.

هتف السبط :

ـ انزل عن منبر أبي واذهب الى منبر أبيك.

سأل الرجل بدهاء :

ـ من علّمك أن تقول هذا؟

لاذ الصبي بالصمت.

فعاد الرجل يكرّر مقالة ما أنزل الله بها من سلطان.

قالت فاطمة وهي تضمّ ريحانة الرسول وتحدّق في الذين اغتصبوا ميراث الأنبياء :

ـ كلّا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

غادرت فاطمة المكان .. وتناثرت أسئلة .. علامات استفهام ، فتمتم الخليفة بأسىً أمام صاحبه :

٢١٣

ـ أما كان الأحرى أن نهبها فدكاً ... أنا أخشى ابنة محمّد.

أجاب أبو حفص مشجّعاً :

ـ لا تخف يا صاحبي ... غبرة وتنجلي وماهي إلّا جولة وينتهي كلّ شيء...وكأن شيئاً لم يكن ... وربت على كتفه وقد عرف كيف يتغلغل الى قلبه :

ـ أقم الصلاة ... وآت الزكاة .. ان الحسنات يذهبن السيئات .. وما يفعل ذنب واحد في حسنات كثيرة.

أضاءت الابتسامة وجهه ، فقال :

ـ كربة فرجّتها ياعمر.

هتف الخليفة وقد شحذ العزم كلمات تدعو بالويل والثبور ...

ـ ألا لو شئت أن أقول لقلت ، ولو تكلمت لبحت واني ساكت ما تركت ... يستعينون بالصبية ويستنهضون النساء .. واني لست كاشفاً قناعاً ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً ، إلاّ من استحق ذلك.

استنكرت ام سلمة وكانت امرأة على خير :

ـ أمثل هذا يقال لفاطمة!! وهي الحوراء وعديلة مريم .. ربيت في أحضان الأنبياء وتداولتها أيدي الملائكة .. أتزعم ان رسول الله حرّم عليها ميراثه؟!

عادت فاطمة الى منزلها .. وقد جثم الحزن على بيوت المدينة

٢١٤

كطائر مخيض الجناح.

أوت فاطمة إلى المحراب تستمد من السماء الروح .. الحياة .. النور؛ تريد أن تتخفف من عناصر الأرض .. الأرض المثقلة بالدماء الآدمية ... تريد أن تنتمي الى عالم خر لا نكد فيه ولا عناء ... تنشد بيتاً من قصب لا تعب فيه ولا نصب .. ما تزال تبحث عن امّها .. أوت فاطمة تلك الليلة الى المحراب وقالت :

ـ ربّ إبن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني.

هوّمت عيناها .. فانبثق شلّال من نور النبوّات.

هتف بشوق :

ـ يا أبتاه ، يا رسول الله انقطعت عنّا السماء.

خفقت أجنحة الملائكة .. رفرفرت كفراشات من نورسماويّ .. ولجت فاطمة الملكوت راحت تخطر في عوالم النور .. الملائكة صفوف والحدائق غنّاء ... والأنهار تجري متدفقة تدفّق الحياة .. وحوريات يخطرن بين الأشجار الخالدة.

قالت إحداهنّ لفاطمة :

ـ مرحباً بحورية الأرض ...

فاطمة تخطر في عالم شفّاف .. عالم ملوّن. أشارت فاطمة الى نهر يطّرد .. تتدافع أمواجه البيضاء .. تدور حول قصر تحفّه الأشجار

٢١٥

ويغمره النور من كلّ مكان. قالت حورية :

ـ هذا الفردوس .. وهنا يسكن سيّد ولد آدم محمّد.

ـ أين أبي؟

انبثق شلّال من نور محمّد ... كان يرتدي ثياباً من سندس بلون الربيع ..

ركضت فاطمة .. ضاعت في صدره الرحب .. شعرت بأنها تعود الى أحضان أمّها .. الى عالم تنتمي اليه.

ـ انظري الى ما أعدّ الله لك .. لقد انتهت آلامك وآن لك أن تستريحي .. انظري الى زهدك كيف أصبح جنّة عرضها كعرض السماوات والى فراش الليف كيف صار سريراً من حرير ، وإلى جوعك وعريك كيف أضحى فاكهة وقطوفاً دانية واستبرق وحريرا .. وانظري الى دموعك اضحت أنهاراً من لبن .. وم عسل تجري ، وإلى حجرتك أمست قصراً ... والى ظلمات الأرض صارت شلالات من نور يتدفّق ..

انتبهت فاطمة .. عادت الى الأرض لتودّعها .. لتقول كلمتها قبل الرحيل الأبدي ... عادت لتبني بيت الأحزان .. تبكي الأرض المثقلة بالهم .. بالدموع وبالألم.

٢١٦

٣٧

لفّت فاطمة خمارها ، واشتملت بردائها والازار ونهضت بأمر الله.

مابين دار فاطمة والمسجد خطوات ، قطعتها ثابتة الخطى لكأنها محمّد وعاد يصحح مسار الانسان من جديد .. يقوده الى منابع النور والخلود.

جاءت فاطمة تحفها نسوة وبنات دخلت المسجد .. لتقول كلمتها للامّة والتاريخ.

وأنت من وراء حجاب ... انّة هي أنّة هابيل

قيل ان يموت ... فيها عذابات « آسية » ... وحزن « مريم ».

ولوعة « يوكابد » ...

بكى المهاجرون وبكى الأنصار واهتزّ قلب كالصخر ولان.

قالت بنت آخر الانبياء وقرينة مؤسس البلاغة في العرب :

ـ الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم واثناء بما قدّم

٢١٧

من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها ، جمّ عن الاحصاء عددها ، ونأى من الجزاء أمدها وتفاوت عن الادراك أبدها. وأشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وانار في التفكير معقولها ، الممتنع عن الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قلبها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته وذرأها بمشيئته.

وأشهد ان أبي محمّداً عبده ورسوله ، اختاره قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة.

ابتعثه الله اتماماً لأمره وعزيمة على امضاء حكمه وانفاذاً لمقادير حتمه ، فرأى الامم فرقاً في أيانها عكفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فانار الله بأبي محمّد ظلمتها وكشف عن القلوب بهمها جلّى عن الابصار غممها ... ثم قبضه الله اليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار.

محمّد من تعب هذه الدار في راحة ، قد خصّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

٢١٨

وقف التاريخ مذهولاً لكلمات سماوية لكأنّها حورية هبطت الأرض تحمل لها قبساً من نجوم السماء.

سكتت فاطمة هنيهةً واستجمعت قوّتها لتهزّ النخلة علّها تساقط رطباً جنيا :

أيّها الناس ، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد أقول عوداً وبدواً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي من دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزّى إليه ، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ماثلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بأكظامهم داعياً الى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة يجفّ الأصنام وينكث الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين.

وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، موطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتفتاتون القدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا والتي.

ودوّت صرختها توقظ الضمير الذي أخلد الى الأرض :

٢١٩

أيّها المسلمون : أأغلب على إرثي! يا ابن ابي قحافة ، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فريّاً ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول : (وورث سليمان داوود).

وقال في ما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب).

وقال : (وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).

وقال : (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الانثيين).

وقال : (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين).

وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟! أم هل تقولون : إنّا أهل ملّتين لا يتوارثان أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي.

فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون.

ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقر ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم.

٢٢٠