وكانت صدّيقة

كمال السيد

وكانت صدّيقة

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-438-161-0
الصفحات: ٢٣٥

١٨

كذئاب مجنونة راح المشركون يجوسون خلال الجثث الهامدة يمزّقون اكباداً وقلوباً كانت تنبض بالحياة؛ تحلم بعالم جميل؛ بدنيا آمنة مطمئنة.

جثمت « هند » على جسد كنسر متوحّش وبدا وجهها الحادّ كغراب شره .. كان صوتها يشبه فحيح الأفاعي :

ـ حمزة : صيّاد الاسود ... جثة هامدة .. انهض يا قاتل أبي وأخي :

استلت هند خنجراً وبقرت بطن أسد الله وأسد رسوله ثم انشبت يدها في بطنه. كانت المخالب تبحث عن كبد حرّى ولما عثرت عليها انتزعتها .. وحمزة ما يزال نائماً يعلو وجهه غبار خفيف.

مزّقت الذئبة كبد الانسان. تريد أن تلوكه .. أن تبتلعه.

وعلى تلال قريبة كانت نسوة في المدينة يرقبن المعركة ، وقد

١٠١

غاظهن فرار المسلمين ، صرخت « ام أيمن » وهي تحثو التراب في وجه « عثمان » :

ـ هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك.

أراد عثمان أن يخبرها بمقتل النبيّ وانّه سنع أحدهم يهتف وسط المعركة : قتلت محمّداً؛ ولكنه فضل الصمت فأمّ أيمن إمرأة في رجل. سوف تحثو في وجهه التراب مرّة اخرى.

لوى عثمان عنان فرسه وانطلق صوب جبل « الجلعب » في ناحية يثرب وتبعه المنهزمون فهو خبير في اكتشاف المخابئ وقد يجتاح أبو سفيان المدينة.

عاد النبيّ إلى المدينة ينوء بجراحاته ، واخفق عليّ وهو يغسل جراحه أن يوقف نزف الدماء؛ وكادت « فاطمة » أن تموت وهي ترى أباها والدماء تسيل من وجهه .. تدفقت الدموع غزيرة كسماء ممطرة واستيقظت في أعماقها كوامن الأمّ تحاول انقاذ وليدها بأي شيء؛ عمدت إلى حصير فاحرقته ، ولما صار رماداً لمّت الرماد وراحت ترش جراح النبي.

نجح الرماد في وقف اشتعال النار ، أطفأ الجراح بعد أن أخفق الماء.

كان عليّ يراقب زوجه تضمّد الجراح .. تمسّها ببلسم يوقف تدفق

١٠٢

الألم.

تأملت فاطمة سيف أبيها وسيف بعلها وقد جللتهما الدماء وأدركت هول الملحمة التي دارت في جبل احد.

قال علي وهو يناولها سيفه.

ـ خذيه فلقد صدقني اليوم.

فقال النبي :

ـ لقد أدّى بعلك ما عليه وقتل الله بسيفه صناديد قريش حتى نادى جبريل بين السماء والأرض : لا سيف إلا ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي.

نظرت فاطمة الى زوجها تشكره بعينين تشعان رحمة ... الله وحده يعرف الأعماق ... وحده الذي يعرف روح هذا الفتى الشجاع الذي حمل روحه على كفّه يفدي رسول الله وقد غدا كل شيء في دنياه ، انه لا يعرف للحياة معنى إلاّ بمحمّد ... محمّد الذي منحه في زمن الرعب الطمأنينة والسلام.

عاد عثمان ومن معه الى المدينة بعد أن مكث في الجبل ثلاثة أيام ... وقال النبيّ عندما وقعت عيناه عليهم :

ـ لقد ذهبتم فيها عريضة‍‍!! وتمرّ الأيّام وتندمل آلاف الجراح وعادت الى المدينة روح

١٠٣

الأمل ... وانطلق المجتمع الجديد يزرع ويبني ويعمل ويشحذ السيوف ... وقد أدرك الذين آمنوا ان طاعة الله والرسول هي الطريق الى النصر .. الى المجد وإلى جنّة عرضها السماوات والأرض.

عادت فاطمة تدير الرحى وتهزّ المهد وتدير منزلها الصغير وتضمّد جراح النبي .. تعرف مواقعها في روحه العميقة؛ وربّما انطلت الى أحد تبكي حمزة سيّد الشهداء .. تعرف عمق الجرح الذي أحدثه رحيله في قلب أبيها.

وأطلّ عام جديد يحمل معه أفراح النصر ويقدّم الى رسول الله ريحانة اخرى في حنايا فاطمة؛ فلقد ولد الحسين وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين.

وهمس النبيّ في اذنيه بكلمات السماء وسمعه الكثير وهو يقبّله قائلاً :

ـ حسين مني وأنا من حسين.

وكان الحسن قريباً فدبّ كنملة وراح يداعب شعر أخيه وقد غمره فرح طفولي ، وتدفق نبع جديد؛ نبع في اسرة صغيرة؛ اسرة أسسها النبيّ وباركتها السماء.

وتمرّ الأيام والنبيّ يشمر عن ساعديه ويبني الانسان .. انسان الصحراء .. يروّض في أعماقه الوحش ويضيء في ظلماته شمعة.

١٠٤

وبدت يثرب في أرض الله الواسعة سراجاً في مهب إعصار فيه نار أو قارباً صغيراً وسط الأمواج العاتية ، والنبيّ والذين آمنوا يقاومون المدّ الجاهلي ويحبطون مؤامرات يهودية ... واليهود عجنوا بالغدر وتشرّبوا تعاليم التلمود ... نبذوا التوراة بعيداً الاّ ما حرّفوه عن مواضعه ، يبنون حصونهم وقلاعهم ، وظنوا انهم مانعتهم حصونهم. يخفون وراءها حقداً دفيناً للانسان تناقلته أجيالهم منذ السبي البابلي وإلى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا. يباهون الامم بموسى بن عمران وقد عشعش قارون في نفوسهم. ترنّ في أعماقهم خشخشة الذهب والفضة ، فتوارثوا عجلاً صنعوه منذ أن سوّل لهم السامريّ ، وظلوا عاكفين عليه حتى اذا نصحهم هارون كادوا ان يفتكوا به ، أداروا ظهرهم للذي أنجاهم من البحر وعكفوا على عجل له خوار.

كان موسى غاضباً وهو يلقي الألواح .. ويأخذ بمخانق أخيه. هتف هارون :

ـ انّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني.

واتجهت الأبصار الى السامري. كاد موسى يبطش به :

ـ فما خطبك يا سامري؟

ـ لا شيء .. لقد رأيت أثر الملاك .. وكذلك سوّلت لي نفسي.

ومضى السامري في التيه ... يشدّ عباءته الى كتفيه يعتصر وجهه

١٠٥

المخادع بكفيه .. وعواء ذئب جائع يضجّ في صدره اللاهث .. ضاع السامريّ بين آثار الجمال والحمير لا يعرف له وطناً سوى تلك البقعة التي خسفت بقارون وخزائنه الزاخرة بالذهب الأصفر .. في أعماقه امنيات لعجل جديد يعبده من دون الله؛ لا تكفيه بقعة واحدة. يريد أن يبتلع سينا وأرض كنعان ، وبابل ورمال جزيرة العرب.

وحطّ السامري رحله هنا وهناك من أرض الجزيرة وراح يبني الحصون والقلاع وينهب الذهب ، القبائل العربية تعبد أصناماً من حجارة تنحتها بأيديها أو أشجاراً ذات رقاع ، وابناء السامريّ يعبدون عجلاً من ذهب يخطف الأبصار ، يظلّون عليه عاكفين حتى جاء محمّد.

توقّف التاريخ يحبس أنفاسه عند حصون بني النضير فقد جاء محمّد ومعه جمع من أصحابه يطالبهم بالوفاء وهم جبلوا على الغدر؛ يبتسمون لمن يدعوهم فيكشرون عن أنياب تنزّ صديداً.

قالوا وقد رأوا النبيّ عند الحصن في قلّة ودونما سلاح.

ـ نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.

وجلس النبيّ ينتظر الوفاء.

وخلف جدران الحصون والقلاع ولدت مؤامرة.

اجتمع ابناء السامريّ .. العيون تبرق بالغدر :

١٠٦

ـ هذه فرصتنا للقضاء على محمّد.

ـ أجلّ نتغدى به قبل أن يتعشى بنا.

ـ انطلق يا « عزوك » فتحدّث معه وأطل الكلام.

ـ وأنت يا « جحاش » اصعد فوق الحصن والق عليه( رحى الطاحون).

حاكت العناكب شباكها على عجل. غير أنّ النبيّ الأمّي الذي يجدون اسمه في التوراة يعرف ما يجول في خواطرهم فغادر الحصن وجاء المدينة يسعى.

وحوصرت حصون السامريّ عشرين يوماً حتى تهاوت جميعاً وقتل عليّ « عزوك » ولملم بنو النضير شباك العنكبوت ورحلوا .. رحلوا بعيداً وتنفس النبيّ والذين آمنوا الصعداء؛ وتمت كلمة ربّك بالحق وقيل بعداً للقوم الظالمين.

وعادت يثرب مدينة منوّرة يكاد سنا نورها يضيء التاريخ.

١٠٧
١٠٨

١٩

الحياة في يثرب ينابيع متدفقة ، والأمل ينمو .. يكبر .. غدا شجرة خضراء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، والذين نصروا النبيّ يعملون دائبين في زروعهم ، يرعون ماشيتهم. والذين هاجروا وجدوا لهم متّسعاً من مكان في الأرض وفي القلوب وغدا الجميع اخوة على دين واحد كلّهم من آدم وآدم من تراب ، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب .. يغسل عنها أدران الجاهلية.

عليّ يعمل .. يسقي الزرع أو يفجّر الأرض ينابيع ، فيحصل لقاء ذلك صاعاً من شعير أو تميرات من نخيل يثرب.

كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبيّ بأشعتها الذهبية ، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهب نثرت فوق عروس.

جلس النبيّ في قبلته بعد ان انفتل من الصلاة وقد تحلّق حوله

١٠٩

أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم ، والزمن نهر يتدفق .. تتدافع قطراته بانتظام .. أو وحى كبيرة تدور وتدور ، تهب السنين لمن يشاء ومن لا يشاء. تفتح عيون الاطفال وتغمض عيوناً متغضنة الأجفان ، تشدّ أعواد الشباب وتقوّس قامات الكهول ، فالجميع الى زوال ويبقى وجه الله .. الله وحده.

دخل المسجد شيخ عصف به الزمان. نحت وجهه ومزّق ثيابه ، يدبّ على الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يوم بارد.

هتف الشيخ وهو يتطلّع الى النبيّ كأنما يتطلّع إلى شمس تهب النور والدفء :

ـ يانبي الله أنا جائع .. عريان .. اشبعني واكسني.

أجاب النبيّ وقلبه يذوب تأثّراً :

ـ ما أجد لك شيئاً .. ولكن الدالّ على الخير كفاعله .. انطلق الى من يحب الله ورسوله ، ويحبّه الله رسوله ، يؤثر الله على نفسه .. انطلق الى فاطمة ..

التفت النبيّ الى بلال :

ـ قم يابلال .. فخذه الى منزل فاطمة.

وقف الشيخ عل باب يغضى الى عالم من أمل .. عالم يهب الخير للجياع.

١١٠

هتف الشيخ بصوت واهن ينوء بعبء السنين :

ـ شيخ عصف به الدهر وأضرّ به الفقر .. واسيني يا بنت محمّد.

نظرت فاطمة حواليها .. لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل.

كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ ، فطوته وناولته الشيخ :

ـ خذه ، فعسى الله أن يختار لك ماهو خير منه.

دقّق الشيخ النظر وتمتم :

ـ وما أصنع بجلد كبش يا بنت محمّد!

وأصعب شيء أن تهب المرأة زينتها .. اساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر ، ولكن هناك ما يضيء في نفس المرأة ويتألق في أعماقها تألق اللؤلؤ في الأصداف.

انتزعت فاطمة عقداً كان في عنقها وناولته الشيخ الملهوف :

ـ خذه يا شيخ .. عسى الله أن يعوضك به ماهو خير منه.

عاد الشيخ الهوينى الى المسجد ... كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه ، قال الشيخ :

ـ يا رسول الله أعطتني فاطمة هذا العقد وقالت بعه عسى الله أن يصنع لك به خيرا.

دمعت عينا النبيّ :

١١١

ـ كيف لا يصنع الله لك! وقد اعطتك ايّاه سيدة بنات آدم.

سأل عمّار وكان حاضراً :

ـ بكم تبيع العقد يا شيخ؟

ـ بشبعة من الخبز واللحم ، وبردة يمانية استر بها نفسي واصلّي بها لربي.

ملأ الشيخ كفيه دنانير من ذهب ودراهم من فضة فهتف جذلاً :

ـ ما أسخاك بالمال يا رجل!

غاب الشيخ برهة ثم عا وبريق أمل يشعّ من عينيه ، وكلمات الدعاء وتمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه فقد أغناه الله بعد فقر وأشبعه بعد فقر وأشبعه بعد جوع وكساه بعد عري.

انطلق عمّار الى منزله ... فكسب عطراً غالياً على العقد ثم لفّه ببردة يمانية وقال لفتاه وكان اسمه سهم :

ـ انطلق الى فاطمة وسلّمها العقد وأنت لها.

وانطلق سهم كسهم يجتاز البيوت حتى اذا وقف على باب فاطمة :

ـ السلام عليك يا بنت رسول الله ... العقد وأنا لك يا بنت محمّد.

ـ العقد لي وأنت حرّ لوجه الله.

كاد الفتى يطير فرحاً ... كان يفكّر بالحرية .. يحلم بها .. وهاهي

١١٢

اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً .. انه لن ينسى أبداً فاطمة ... السيّدة التي أعادت اليه شيئاً غالياً فقده منذ زمن.

عاد مهرو لاً والفرحة تطفو فوق وجهه جبينه مشرق وفمه كهلال عيد الفطر. وجد نفسه يعود إلى عمّار ، هتف عمّار :

ـ ما يضحكك يا سهم؟

ـ أضحك لبركة هذا العقد .. اشبع جائعاً وكسى عرياناً وأغنى فقيراً واعتق عبداً ثم عاد الى صاحبه.

وعندما أوت الطيور الى أعشاشها .. وعاد المزارعون الى بيوتهم وساق الرعاة غنيماتهم ... في طريق العودة وقد غابت الشمس ... لتتألّق النجوم في صفحة السماء ويشرق القمر ... كانت حكايات السمر تتحدّث بقصّة عقد مبارك وهبته بنت محمّد ثم عاد اليها بعد أن مست بركته جياعاً وعراة وعبيداً ... وهبتهم الخبز والكساء والحريّة.

١١٣
١١٤

٢٠

مضت خمسة أعوام على هجرة النبيّ ... والمدينة ما تزال تنعم ببركات السماء .. تبني وتزرع وتنتج وتقدّم الى العالم الكلمة الطيبة ولكنت قريشاً واليهود يفكّرون باجتثاث شجرة غرستها السماء ليعود الناس القهقرى الى زمان لا عودة اليه ..

دخل فصل الشتاء .. ورياح باردة تهبّ من ناحية الشمال ، الغيوم تتجمع في السماء .. ثم سرعان ما تتبدد .. تاركة الأرض عطشى والزروع أيدي متضرعة تنشد المطر. العواصف تشتدّ يوماً بعد آخر ولا قطرة مطر ..

وهناك رياح اخرى .. رياح جهلية تهبّ من ناحية الجنوب .. قريش تعدّ العدة لغزو المينة .. والسامريّ الذي حطّ رحله في خيبر يخطط لإطفاء النور في جزيرة العرب. اشتعلت في القبائل حمى السلب والنهب .. ويثرب لقمة دسمة .. وكذلك سوّل لهم السامريّ ..

١١٥

دقّت طبول الحرب بين مضارب القبائل وسيوف الغدر تشحذ ، تومض في بطون نجد وكنانة وقريش تطرب على رقصة الحرب وهند تلوك كبد حمزة ، وأبو سفيان يحلم بالمجد .. يهتف : اعل هبل.

رياح الشتاء ما تزال تعصف بالمدينة والغيوم تغبر السماء كسفن تائهة ، حلّ شهر رمضان ، القى رحله في الجزيرة غريباً لا يعرفه أحد إلا في أرض طيبة ...

صامت يثرب لله .. امتنع أهلها عن الأكل والشرب .. وصامت جوارحهم ... والمعدة توقفت عن الانبساط والتقلّص .. فانتفض القلب يخفق بقوّة .. واستيقظ العقل من سباته متوتراً .. يرى ما لا تراه العيون .. ويدرك ما لا تدركه الأبصار ..

جاء رمضان يعلّم الانسان كيف يجوع فينتصر. كيف يظمأ لتولد إرادته .. كيف يهزم الوحش القابع في داخله لينتصر الانسان المضطهد في الأعماق .. رمضان نهر يجري .. تتدافع أمواجه برفق. يغسل القلوب من الدرن .. يعيدها بيضاء بيضاء كحمائم بريّة تطير في الفضاء .. خفيفة حرّة تسبح في ملكوت الله.

الرياح الباردة ما تزال تهبّ من ناحية الشمال ... والغيوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب ... ولا قطرة مطر والعالم عام جفاف ... والرسول يشدّ على بطنه حجر المجاعة ، ويصغي الى انباء تأتي من

١١٦

ناحية الصحراء.

ـ انهم عشرة آلاف مقاتل .. قبائل غطفان وقريش وكنانة .. وقد نقض بنو قريظة العهد وهم داخل المدينة ... ألف خنجر في خاصرة يثرب.

ـ وهناك أعداء موجودون بيننا لا نعلمهم. الله يعلمهم.

ـ كفانا الله شرّ المنافقين.

ـ يثرب في خطر.

ـ انهم يزحفون باتجاه المدينة من فوقنا ومن أسفل منّا.

ـ لا تنسوا الله فينساكم .. واذكروه يذكر كم ويثبّت أقدامكم.

وفي المسجد كاد اليأس يعصف بالقلوب المؤمنة والقلق يزعزع شجرة غرسها النبيّ لتؤتي اكلها كل حين بإذن ربّها.

وبعد حيرة ووجوم نهض رجل من أهل فارس .. يلوّح بطوق نجاة ليثرب فالطوفان قادم :

ـ يا رسول الله إنّا كنّا بأرض فارس اذا خفنا العدوّ خندقنا.

فكرة لم تكن العرب لتعرفها. هتف الأنصار :

ـ سلمان منّا.

وردّد المهاجرون :

ـ سلمان منّا.

١١٧

وتنازع الفريقان رجلاً جاب الأرض بحثاً عن رجل يدعى محمّد.

هتف النبيّ وقد رنت اليه العيون :

ـ سلمان منا أهل البيت.

رياح الشتاء تعصف بعنف ... والعام جفاف والبطون خاوية .. ولكن الإرادة التي ايقظها رمضان تكاد تلوي التاريخ.

من الشمال ستهبّ عاصفة الأحزاب. ضرب النبي الأرض بمعول من حديد وببأس شديد؛ وهوت المعاول تفتت الأرض على طول خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع.

ومرّت الأيام والرياح ما تزال تهبّ شديدة البرودة والأجساد تذوي لاتجد ما يسدّ رمقها .. ولكن الإرادة كانت تشتدّ .. تفتت الصخور وتغوص في أعماق الأرض ، فأسراب الجراد قادمة .. تريد أن تحيل كل ماهو أخضر إلى يباب لاشيء فيه إلاّ سراب يحسبه الظمآن ماء.

جلس النبي ليستريح قليلاً .. جفّف حبّات رق كانت تتألّق فوق جبينه وبدا معوله قطعة نادرة أو كنزاً منحته الأرض ... شدّ حجر المجاعة إلى بطنه أكثر .. ثلاثة أيام تمرّ وهو لايجد شيئاً يطعمه.

لم يذكره أحد .. الجوع والبرد والاعياء وهواجس الصحراء تنسي المرء أقرب الأشياء اليه ولكن فاطمة لم تنس الرجل الذي

١١٨

اختارته السماء رسولاً الى الأرض المنكوبة.

الرجل الذي اكتسبت يثرب مجدها به جائع .. يشدّ حجر المجاعة الى بطنه لا يجد شيئاً يأكله حتى ذكرته فاطمة على حين غفلة من أهل يثرب.

غابت الشمس ، وفاحت رائحة الخبز في فضاء المدينة توهجت المواقد في البيوت تمنح الصائمين الدفء والشبع .. والنبيّ في خندقه يصلّي لله :

ـ ربّ اني لما أنزلت إليّ من خير فقير.

وجاءت فاطمة من بعيد تحمل اليه قلبها وخبزاً انضجته قبل قليل.

شاعت البهجة في وجه النبيّ .. بهجة تشبه بهجة الحواريين يوم نزلت اليهم مائدة من السماء.

وفاطمة حوراء أنسية جاءت تحمل له الخبز والدفء والشبع. تمتم النبيّ :

ـ والله ما دخل جوفي طعام من ثلاث.

عادت فاطمة الى منزلها .. تكفكف دموعها .. تبكي الرجل الذي حمل مشعل السماء الى الأرض يريد له أن يبقى مضيئاً بوجه العاصفة القادمة.

١١٩
١٢٠