باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لإمام الهدى وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التاريخ ، فما دامت القيم الإنسانيّة يخضع لها الإنسان ويمجّدها ، فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها .
٢ ـ الصلابة في الإيمان
والظاهرة الاُخرى من صفات أبي الفضل عليهالسلام هي الصلابة في الإيمان ، وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع الماديّة ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الأدلّة على إيمانه .
٣ ـ الجهاد مع الحسين عليهالسلام
وثمّة مكرمة وفضيلة اُخرى لبطل كربلاء العبّاس عليهالسلام أشاد بها الإمام الصادق عليهالسلام وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات .
٤ ـ زيارة الإمام الصادق عليهالسلام
وزار الإمام الصادق عليهالسلام أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الإمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته بقوله :
|
سَلَامُ اللهِ وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ
الْمُقَرَّبينَ ، وَأَنبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ ، |
|
|
وَعِبادِهِ الصّالِحينَ ، وَجَميعِ الشُّهداءِ وَالصِّدّيقينَ ، وَالزّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فيما تَغْتَدي وَتَرُوحُ ، عَلَيْكَ يا بن أَميرِ الْمُؤْمِنيِنَ . |
|
لقد استقبل الإمام الصادق عليهالسلام عمّه العبّاس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الإجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيّات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الإمام الصادق عليهالسلام في زيارته قائلاً :
|
أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْليمِ وَالتَّصْديقِ وَالْوَفاءِ وَالنَّصيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ ، وَالسِّبْطِ الْمُنْتَجَبِ ، وَالدَّليلِ الْعالِمِ ، وَالْوَصِيِّ الْمُبَلِّغِ ، وَالْمَظْلُومِ الْمُهْتَضَمِ . |
|
وأضفى الإمام الصادق عليهالسلام بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الأوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي :
» التسليم
وسلّم العباس عليهالسلام لأخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام جميع اُموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الإيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي ، وسلامة القصد ، والإخلاص في النيّة .
» التصديق
وصدّق العبّاس عليهالسلام أخاه ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله في جميع اتّجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وأنّه على الحقّ ، وأنّ من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين .
» الوفاء
من الصفات الكريمة التي أضافها الإمام الصادق عليهالسلام على عمّه أبي الفضل عليهالسلام : الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحقّ أخيه أبي عبد الله الحسين عليهالسلام ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتّى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله .
لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتيّاته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد .
» النصيحة
وشهد الإمام الصادق عليهالسلام بنصيحة عمّه العبّاس لأخيه سيّد الشهداء عليهالسلام ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ . . ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول عليهالسلام :
|
فَجَزاكَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ ، وَعَنْ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، بِما صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ وَأَعَنْتَ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ . |
|
وحوى هذا المقطع على
إكبار الإمام الصادق عليهالسلام لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله الإمام الحسين عليهالسلام ، فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله وعن باب مدينته الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ،
وعن الحسن والحسين عليهالسلام أفضل الجزاء على عظيم تضحياته .
ويستمرّ مجدّد الإسلام الإمام الصادق عليهالسلام في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه :
|
لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَهِلَ حَقَّكَ ، وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَتِكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ حالَ بَیْنَكَ وَبَیْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ . أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً ، وَأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَکُمْ مَا وَعَدَکُمْ . جِئْتُكَ یَابْنَ أَمیرِ الْمُؤْمِنینَ وافِداً إِلَیْکُمْ ، وَقَلْبي مُسَلِّمٌ لَکُمْ وَتَابِعٌ ، وَأَنَا لَکُمْ تَابعٌ ، وَنُصْرَتي لَکُمْ مُعَدَّةٌ ، حَتّىٰ یَحْکُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاکِمینَ . فَمَعَکُمْ مَعَکُمْ لَا مَعَ عَدُوِّکُمْ ، إِنّي بِکُمْ وَبِإِیابِکُمْ مِنَ الْمُؤْمِنینَ ، وَبِمَنْ خَالَفَکُمْ وَقَتَلَکُمْ مِنَ الْکَافِرینَ . قَتَلَ اللهُ اُمَّةً قَتَلَتْکُمْ بِالْأَیْدي وَالْأَلْسُنِ . السَّلَامُ عَلَیْكَ أَیُّهَا الْعَبْدُ الصّالِحُ ، الْمُطِیعُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَلأمِیرِ الْمُؤْمِنینَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَیْنِ ، صَلَّى اللهُ عَلَیْهِمْ وَسَلَّمَ . السَّلَامُ عَلَیْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَکاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوانُهُ ، وَعَلىٰ رُوحِكَ وَبَدَنِكَ . أَشْهَدُ وَاُشْهِدُ اللهَ أَنَّكَ
مَضَیْتَ عَلىٰ ما مَضىٰ عَلَيْهِ الْبَدْرِیُّونَ ، وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبیلِ اللهِ ،
الْمُناصِحُونَ لَهُ في |
|
|
جِهادِ أَعْدَائِهِ ، الْمُبالِغُونَ في نُصْرَةِ أَوْلِیائِهِ ، الذّابُّونَ عَنْ أَحِبّائِهِ . فَجَزاكَ اللهُ أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، وَأَکْثَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفىٰ جَزاءِ أَحَدٍ مِمَّنْ وَفَىٰ بِبَیْعَتِهِ ، وَاسْتَجابَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَأَطاعَ وُلَاةَ أَمْرِهِ . |
|
لقد شهد الإمام الصادق عليهالسلام العقل المفكّر والمبدع في الإسلام ، وأشهد الله تعالى على ما يقول من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس عليهالسلام قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين عليهالسلام ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله ، فهم الذين كتبوا النصر للإسلام ، وبدمائهم الزكيّة ارتفعت كلمة الله عالية في الأرض ، وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم .
وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لإنقاذ الإسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني اُميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلفّ لواء الإسلام ، ويعيد الناس لجاهليّتهم الاُولى ، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الأحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحقّقت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الإسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه .
ويستمرّ الإمام الصادق عليهالسلام في زيارته لعمّه العبّاس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول عليهالسلام :
|
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ في
النَّصیحَةِ ، وَأَعطَیْتَ غَایَةَ الْمَجْهُودِ ، فَبَعَثَكَ اللهُ في الشُّهَداءِ ، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ أَرْواحِ
|
|
|
السُّعَداءِ ، وَأَعْطاكَ مِنْ جِنانِهِ أَفْسَحَها مَنْزِلاً ، وَأَفْضَلَها غُرَفاً ، وَرَفَعَ ذِکْرَكَ في عِلِّیّینَ ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِیّینَ وَالصِّدّیقینَ ، وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحینَ ، وَحَسُنَ اُولٰئِكَ رَفیقاً . أَشْهَدُ أَنَّکَ لَمْ تَهِنْ وَلَمْ تَنْکُلْ ، وَأَنَّكَ مَضَیْتَ عَلىٰ بَصیرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ ، مُقْتَدِیاً بِالصّالِحینَ ، وَمُتَّبِعاً لِلْنَّبِیّینَ . فَجَمَعَ اللهُ بَیْنَنا وَبَیْنَكَ وَبَیْنَ رَسُولِهِ وَأَوْلِیائِهِ في مَنازِلِ الْمُخْبِتینَ ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ الرّاحِمینَ (١) . |
|
ويلمس في هذه البنود الأخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدى الإمام الصادق عليهالسلام ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيه لريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله الإمام الحسين عليهالسلام ، كما دعا الإمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلّا الأنبياء وأوصيائهم عليهمالسلام ، ومن امتحن الله قلبه للإيمان .
ثالثاً : الإمام الحجّة عليهالسلام
وأدلى الإمام المصلح العظيم بقيّة الله في الأرض قائم آل محمد صلىاللهعليهوآله بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس عليهالسلام جاء فيها :
__________________________
(١) كامل الزيارات : ٤٤٠ ، باب ٨٥ ، الحديث ١ . تهذيب الأحكام : ٦ : ٦٥ ـ ٧٠ . مصباح المتهجّد : ٧٢٤ ـ ٧٢٦ . المزار الكبير : ٣٨٨ ـ ٣٩٢ . مصباح الزائر : ٢١٥ . مزار الشهيد : ١٣١ ـ ١٣٤ و ١٦٥ . بحار الأنوار : ٩٨ : ٢١٧ و : ٢٧٧ ، الحديث ١ و : ٢٧٨ ، الحديث ٢ .
|
السَّلَامُ عَلَى أَبي الْفَضْلِ الْعَبّاسِ ابْنِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، الْمُواسي أَخاهُ بِنَفْسِهِ ، الْآخِذِ لِغَدِهِ مِنْ أَمْسِهِ ، الْفادي لَهُ ، الْواقي ، السّاعي إِلَيْهِ بِمائِهِ ، الْمَقْطوعَةِ يَداهُ . لَعَنَ اللهُ قَاتِلَيْهِ يَزيدَ (١) بْنَ الرّقادِ (٢) الْجنبي وَحُكَيْمَ بْنَ الطُّفَيْلِ الطّائي (٣) . |
|
وأشاد بقيّة الله في الأرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي :
١ ـ مواساته لأخيه سيّد الشهداء عليهالسلام ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ .
٢ ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لإمام الهدى .
٣ ـ تقديم نفسه وإخوته وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليهالسلام .
٤ ـ وقايته لأخيه المظلوم بمهجته .
٥ ـ سعيه لأخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ صلىاللهعليهوآله .
رابعاً : الشعراء
وهام الأحرار من شعراء أهل البيت عليهمالسلام بشخصيّة أبي الفضل التي بلغت قمّة
__________________________
(١) كذا ، وفي كتب السير : « زيد » .
(٢) كذا في المصادر ، وفي بحار الأنوار : « وقاد » .
(٣) إقبال الأعمال : ٣ : ٧٣ . مصباح الزائر : ٤٢٥ . المزار الكبير : ٤٨٥ . بحار الأنوار : ٤٥ : ٦٤ .
الشرف والمجد ، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الاُمّة الإسلاميّة ، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة ، فيما يلي بعضهم :
١ ـ الكميت
أمّا شاعر الإسلام الأكبر الكميت الأسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه ، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشميّاته الخالدة قال :
وَأَبو الفَضْلِ إِنَّ ذِكْرَهُمُ الحُلْوَ |
|
شِفاءُ النُّفوسِ مِنْ أَسْقامِ (١) |
إنّ ذكر أبي الفضل العبّاس عليهالسلام ، وسائر أهل البيت عليهمالسلام حلو عند كلّ شريف لأنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق ، كما إنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور ، وسائر الأمراض النفسيّة .
٢ ـ الفضل بن محمّد
من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصيّة أبي الفضل عليهالسلام هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله (٢)بن العبّاس فقد قال :
إِنّي لَأَذْكُرُ لِلعَبّاسِ مَوْقِفَهُ |
|
بِكَرْبلاءَ وَهامُ القُومِ يُخْتَطَفُ |
يَحمي الحُسَينَ وَيَحميهِ عَلىٰ ظَمَأٍ |
|
وَلَا يُوَلّي وَلا يَثْني فَيَختَلِفُ |
وَلا أَرىٰ مَشْهَداً يَوْماً كَمَشْهَدِهِ |
|
مَعَ الْحُسَينِ عَلَيهِ الفَضلُ وَالشَّرَفُ |
__________________________
(١) الهاشميّات : ٢٥ ، ومن الغريب أنّ الشارح لهذا الديوان قال : « إنّ المراد بأبي الفضل هو العبّاس بن عبد المطّلب » .
(٢) هو أبو العبّاس بن محمّد ، كان يوصف بالكمال والمروّة والجمال ، والورع والشجاعة ، أمير المدينة أيّام بني العبّاس ، مات وله ٥٥ سنة . سرّ السلسلة العلوية : ٨٩ ، المجدي في أنساب الطالبيّين : ٢٣١ ، لباب الأنساب ١ : ٣٥٧ ، الشجرة المباركة : ١٨٤ .
أَكْرِمْ بِهِ مَشْهَداً بانَتْ فَضيلَتُهُ |
|
وَما أَضاعَ لَهُ أَفْعالَهُ خَلَفُ (١) |
وصوّرت هذه الأبيات شجاعة أبي الفضل عليهالسلام ، وما مقام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الأحرار ، ووقايته له بمهجته ، وسقايته له ولأفراد عائلته وأطفاله بالماء ، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبد الله عليهالسلام . . . وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه ، وكان من رثائه له هذه الأبيات الرقيقة :
أَحَقُّ النّاسِ أَنْ يُبْكىٰ عَلَيهِ |
|
فَتىً أَبْكى الحُسَينَ بِكَربلاءِ |
أَخوهُ وَابْنُ والدِهِ عَلِيٍّ |
|
أَبو الفَضْلِ المُضَرَّجِ بِالدِّماءِ |
وَمَنْ واساهُ لَا يَثْنيهِ شَيْءٌ |
|
وَجادَ لَهُ عَلىٰ عَطَشٍ بِماءِ (٢) |
نعم إنّ أحقّ الناس أن يمجّد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبو الفضل رمز الإباء والفضيلة ، فقد رزئ الإمام الحسين عليهالسلام بمصرعه ، وبكاه أمرّ البكاء لأنّه فقد بمصرعه أبرّ الإخوان ، وأعطفهم عليه .
٣ ـ السيّد راضي القزويني
وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصيّة أبي الفضل عليهالسلام قال :
أَبا الفَضلِ يا مَنْ أَسَّسَ الفَضْلَ وَالإِبا |
|
أَبى الفَضْلُ إِلّا أَنْ تَكونَ لَهُ أَبا |
__________________________
(١) المجدي في أنساب الطالبيّين : ٢٣٢ .
(٢) هذه الأبيات للفضل بن محمّد بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن عليّ عليهماالسلام . انظر : مقاتل الطالبيّين : ٨٤ . شرح الأخبار : ٣ : ١٩٣ . اللهوف : ٧٠ . لواعج الأشجان : ١٨٠ . الغدير ٣ :٥ .
تَطَلَّبُ أَسبابَ العُلىٰ فَبَلَغْتَها |
|
وَما كانَ ساعٍ بالِغٌ ما تَطَلَّبا |
وَدونَ احتِمالِ الضَّيمِ عِزٌّ وَمَنعَةٌ |
|
تَخَيَّرتَ أَطْرافَ الأَسِنَّةِ مَركَبا (١) |
إنّ أبا الفضل من المؤسّسين للفضل والإباء في دنيا العرب والإسلام ، فقد سما إلى طرق المجد ، وأسباب العلى ، فبلغ قمّتها ، وقد تخيّر أطراف الأسنّة والرماح حتّى لا يناله ذلّ ولا ضيم .
٤ ـ محمّد رضا الأزري
وأشاد الشاعر الكبير الحاجّ محمّد رضا الأزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم ، والتي احتلّت عواطف الأحرار ومشاعرهم يقول :
فَانْهَضْ إِلى الذِّكْرِ الجَميلِ مُشَمِّراً |
|
فَالذِّكْرُ أَبْقى ما اقْتَنَتهُ كِرامُها |
أَوَ ما أَتاكَ حَديثُ وَقْعَةِ كَربَلا |
|
أَنّىٰ وَقَدْ بَلَغَ السَّماءَ قَتامُها |
يَومٌ أَبو الفَضلِ اسْتَجارَ بِهِ الهُدىٰ |
|
وَالشَّمْسُ مِنْ كَدَرِ العَجاجِ لِثامُها |
ودعا الأزري بالبيت الأوّل من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الإنسان ، فإنّه أبقى وأخلد له ، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس عليهالسلام الذي استجار به سبط النبيّ صلىاللهعليهوآله وريحانته ، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لأخيه ، يقول الأزري :
فَحَمىٰ عَرينَتَهُ وَدَمدَمَ دونَها |
|
وَيَذُبُّ مِنْ دونِ الشَّرىٰ ضِرغامُها |
__________________________
(١) أعيان الشيعة : ٦ : ٤٤٣ .
وَالبِيضُ فَوقَ البِيضِ تَحسَبُ وَقعَها |
|
زَجَلُ الرُّعودِ إِذا اكْفَهَرَّ غِمامُها |
مِنْ باسِلٍ يَلقى الكَتيبَةَ باسِماً |
|
وَالشّوسُ يَرشَحُ بِالمَنيَّةِ هامُها |
وَأَشَمَّ لَا يَحتَلُّ دارَ هَضيمَةٍ |
|
أَوْ يَستَقِلَّ عَلى النُّجومِ رَغامُها |
أوَ لَمْ تَكُنْ تَدْري قُرَيشٌ أَنَّهُ |
|
طَلّاعُ كُلَّ ثَنِيَّةٍ مِقْدامُها (١) |
وهذه الأبيات منسجمة كلّ الانسجام مع بطولات أبي الفضل ، فقد صوّرت بسالته ، وما قام به من دور مشرّف في حماية أخيه أبي الأحرار ، فقد انبرى كالأسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملأت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشريّة ، وقد انطلق أبو الفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم اُنوف اُولئك الأوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه ، وقد استبان للقبائل القرشيّة في هذه المعركة أنّ أبا الفضل طلّاع كل ثنية ، وأنّه ابن من أرغمها على الإسلام ، وحطّم جاهليّتها وأوثانها .
٥ ـ إبراهيم حسين الطباطبائي
هو السيّد إبراهيم ابن السيّد حسين ابن السيّد رضا ابن السيّد مهدي بحر العلوم (٢) ( المتوّلد سنة ١٢٤٨ هـ ، والمتوفّي سنة ١٣١٩ هـ ) .
قِفْ بِالطُّفوفِ وَسَلْ بِها أَفْواجَها |
|
وَأَثِرْ أَبا الفَضلِ المُثيرَ عَجاجَها |
إِنْ اُرتِجَتْ بابٌ تَلاحَكَ بِالقَنا |
|
بِالسَّيفِ دونَ أَخيهِ فَكَّ رِتاجَها |
جَلّىٰ لَها قَمَراً لِهاشِمَ سافِراً |
|
رَدَّ الْكَتائِبَ كاشِفاً أَرْهاجَها |
__________________________
(١) رياض المدح والرثاء : ٨٢ .
(٢) بحر العلوم : لقب السيّد مهدي جدّ الاُسرة المعروفة اليوم في النجف بـ ( آل بحر العلوم ) وهي الاُسرة العلمية الشهيرة خرج منها العدد الكبير من العلماء وأعيان الفضلاء والشعراء .
وَمَشىٰ لَها مَشْيَ السَّبَنْتَىٰ (١) مُخْدِداً |
|
قَدْ هاجَ مِنْ بَعدِ الطَّوىٰ فَأَهاجَها |
أَبْكيكَ مُنْجَدِلاً بِأَرضٍ قَفْرَةٍ |
|
بِكَ قَدْ رَفَعتَ عَلى السَّماءِ فِجاجَها |
أَبْكيكَ مَبْكى الفاقِداتِ جَنينَها |
|
ذَكَرَتْ فَهاجَ رَنينَها مَنْ هاجَها |
أَبْكيكَ مَقطوعَ اليَدَيْنِ بِعَلْقَمٍ |
|
أَجْرَتْ يَداكَ بِعَذْبِهِ أَمْواجَها |
وَبِرَغْمِ أَنفِ الدِّين مِنكَ بِمَوكبٍ |
|
تَقْضي سُيوفُ بَني اُمَيَّةَ حاجَها |
إِنْ زِغْتَ يا عَصَبَ الضَّلالِ فَإِنَّما |
|
أَطْفَأْتَ مِنْ سُرُجِ الهُدىٰ وَهّاجَها |
بَهجَتْ بِكَ الدُّنْيا وعادَكَ عيدُها |
|
وَبِوُدِّها لَوْ أَنْ تُعِدْ إِبْهاجَها |
قَدْ كُنتَ دُرَّتَها عَلى إِكْليلِها |
|
قَدْ زَيَّنَتْ بِكَ في المفارِقِ تاجَها (٢) |
__________________________
(١) السّبنتي ـ جمعه سبانت وسباتٍ ـ : الجريء المُقدِم ، ويطلق على النمر لجرأته . المنجمد في اللّغة .
(٢) ديوان الشاعر : ٥٧ .
كان سيّدنا العباس عليهالسلام دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلّا وهي من عناصره وذاتيّاته ، وحسبه فخراً أنّه نجل الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتّى صار عند المسلمين رمزاً لكلّ فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح بإيجاز لبعض صفاته :
١ ـ الشجاعة
أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لأنّها تنمّ عن قوّة الشخصيّة وصلابتها ، وتماسكها أمام الأحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ، وعرفوا بها من بين سائر الأحياء العربيّة .
لقد كان أبو الفضل
دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه ، كما يقول بعض المؤرّخين ، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطفّ ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الإسلام ، وقد برز فيه أبو الفضل أمام تلك القوى التي ملأت البيداء ، فجبّن الشجعان ، وأرعب قلوب عامّة الجيش ، فزلزلت الأرض تحت
أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامّة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه .
إنّ شجاعة أبي الفضل عليهالسلام ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم ماديّ من هذه الحياة ، وإنّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الأوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين .
مع الشعراء
وبهر شعراء الإسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه ، وما ألحقه بالجيش الأموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيّته :
١ ـ السيّد جعفر الحلّي
ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الأموي من الرعب والفزع من أبي الفضل عليهالسلام يقول :
وَقَعَ العَذابُ عَلىٰ جُيوشِ اُمَيَّةٍ |
|
مِنْ باسِلٍ هُوَ في الوَقائِعِ مُعْلِمُ |
ما راعَهُمْ إِلّا تَقَحُّمُ ضَيغَمٍ |
|
غَيرانَ يُعجِمُ لَفظَهُ وَيُدَمْدِمُ |
عَبَسَتْ وجوهُ القَومِ خَوفَ المَوتِ |
|
وَالعَبّاسُ فيهِمْ ضاحِكُ مُتَبَسِّمُ |
قَلَبَ اليمينَ عَلى الشِّمالِ وَغاصَ في |
|
الأَوْساطِ يَحصِدُ للرُّؤوسِ وَيَحْطِمُ |
ما كَرَّ ذو بَأسٍ لَهُ مُتَقَدِّماً |
|
إِلّا وَفَرَّ وَرَأْسُهُ المُتَقَدِّمُ |
صَبَغَ الخُيولَ بِرُمْحِهِ حَتّىٰ غَدا |
|
سَيّانَ أَشقَرُ لَونِها وَالأَدْهَمُ |
ما شَدَّ غَضْباناً عَلىٰ مَلْمومَةٍ |
|
إِلّا وَحَلَّ بِها البَـلاءُ المُبرَمُ |
وَلَهُ إِلى الإِقْدامِ سرعَةُ هارِبٍ |
|
فَكَأَنَّما هُوَ بِالتَّقَدُّمِ يَسلَمُ |
بَطَلٌ تَوَرَّثَ مِنْ أَبيهِ شَجاعَةً |
|
فيها اُنوفُ بَني الضَّلالَةِ تُرغَمُ |
أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته النادرة !
أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الأموي من الجبن الشامل ، والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الإسلام ، فأنزل بهم العذاب الأليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العبّاس متبسّماً مثلوج الفؤاد ممّا ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملأ ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العبّاس عليهالسلام بأهل الكوفة من الخسائر الجسيمة .
ويستمرّ السيّد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل ، فيقول :
بَطَلٌ إِذا رَكِبَ المُطَهَّمَ خِلْتَهُ |
|
جَبَلاً أَشَمَّ يَخفُّ فيهِ مُطَهَّمُ |
قَسَماً بِصارِمِهِ الصَّقيلِ وَإِنَّني |
|
في غَيرِ صاعِقَةِ السَّماء لَا اُقْسِمُ |
لَوْلا القَضا لَمَحا الوجودَ بِسَيفِهِ |
|
وَاللهُ يَقْضي ما يَشاءُ وَيَحكُمُ (١) |
لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ، ولولا قضاء الله لأتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود .
٢ ـ الإمام كاشف الغطاء
وبهر الإمام محمّد الحسين كاشف الغطاء رحمهالله بشجاعة أبي الفضل ، فقال في قصيدته العصماء :
وَتَعْبسُ مِنْ خَوفٍ وُجوهُ اُمَيَّةٍ |
|
إِذا كَرَّ عَبّاسُ الوَغىٰ يَتَبَسَّمُ |
__________________________
(١) سحر بابل وسجع البلابل / السيّد جعفر الحلّي : ٤٣٠ و ٤٣١ ، تحقيق : الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء .
عَليمٌ بِتَأويلِ المَنيَّةِ سَيفُهُ |
|
تَزولُ عَلىٰ مَنْ بِالكَريهَةِ مُعلِمُ |
لقد عبست وجوه الجيش الأموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنويّاتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الأليم .
٣ ـ الفرطوسي
وعرض شاعر أهل البيت عليهمالسلام الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب قال :
عَلَمٌ لِلجِهادِ في كُلِّ زَحفٍ |
|
عَلَمٌ في الثَّباتِ عِندَ اللِّقاءِ |
قَدْ نَما فيهِ كُلُّ بَأْسٍ وَعِزٍّ |
|
مِنْ عَلِيٍّ بِنَجْدَةٍ وَإِباءِ |
هُوَ ثَبتُ الجَنانِ في كُلِّ رَوْعٍ |
|
وَهوَ رَوعُ الْجِنانِ مِنْ كُلِّ راءِ |
وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة في جيوش الأمويّين قال :
فارْتَقىٰ صَهوَةَ الجَوادِ مُطِلّاً |
|
عَلَماً فَوقَ قَلعَةٍ شَمّاءِ |
وَتَجَلّىٰ وَالْحَربُ لَيلٌ قَثامٌ |
|
قَمَراً في غَياهِبِ الظَّلْماءِ |
فَاسْتَطارَتْ مِنَ الكُماةِ قُلوبٌ |
|
اُفْرِغَتْ مِنْ ضُلوعِها كَالهَواءِ |
وَهوَ يَرمي الكَتائِبَ السُّودَ رَجْماً |
|
بِالْمَنايا مِنَ اليَدِ الْبَيْضاءِ (١) |
٤ ـ ابن نما الحلّي
حَقيقاً بالبكاءِ عَليهِ حُزناً |
|
أبو الفضلِ الذي ولسي أخاهُ |
__________________________
(١) ملحمة أهل البيت : ٣ : ٣٢٩ و ٣٣٠ .
وجاهدَ كُلَّ كَفّارٍ ظَلومٍ |
|
وقابَلَ مِن ضَلالِهِمْ هُداهُ |
فَداهُ بنفسِهِ للهِ حَتّى |
|
تَفَرَّقَ من شَجاعَتِهِ عِداهُ |
وجادَ لَهُ عَلىٰ ظَمَأٍ بماءٍ |
|
وكان رِضا أخيهِ مُبْتَغاهُ (١) |
إنّ شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب المثل على امتداد التأريخ ، وممّا زاد في أهمّيتها أنّها كانت لنصرة الحقّ والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الإسلام ، وأنّها لم تكن بأيّ حال من أجل مغنم ماديّ دنيوي .
٢ ـ الإيمان بالله تعالى
أمّا قوّة الإيمان بالله ، وصلابته فإنّها من أبرز العناصر في شخصيّة أبي الفضل عليهالسلام ، ومن أوّليّات صفاته ، فقد تربّى في حجور الإيمان ، ومراكز العلم (٢) والتقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ، وسيّد المتّقين بجوهر الإيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالإيمان الناشىٔ عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الإيمان الذي أعلنه الإمام عليهالسلام بقوله : « لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتَ يَقيناً » (٣) .
وقد تفاعل هذا الإيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتّى صار من عمالقة المتّقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحدّ أنّه قدّم نفسه وإخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى .
__________________________
(١) مثير الأحزان : ٥٤ .
(٢) وعدّه العلّامة المامقاني من فقهاء الهاشميّين قائلاً : « وقد كان من فقهاء أولاد الأئمّة عليهمالسلام ، وكان عدلاً ثقةً تقيّاً نقيّاً » : ٢ : ١٢٨ .
(٣) بحار الأنوار : ٤٠ : ١٥٣ ، باب ٩٣ ـ علمه ، وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله علّمه ألف باب ، وأنّه كان محدثاً ، الحديث ٥٤ . غرر الحكم : ١١٩ ، الباب الخامس في الإمامة ، الفصل الثاني في عليّ عليهالسلام ، فضائله ، الحديث ٢٠٨٦ .
لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن الدين ، وحماية لمبادئ الإسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الأموي ، ولم يبغ بذلك إلّا وجه الله والدار الآخرة .
٣ ـ الإباء
وصفة اُخرى من أسمى صفات أبي الفضل عليهالسلام ، وهي الإباء وعزّة النفس ، فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الأموي الذي اتّخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الأحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أنّ الموت تحت ظلال الأسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً .
لقد مثّل أبو الفضل عليهالسلام يوم الطفّ الإباء بجميع رحابه ومفاهيمه ، فقد منّاه الأمويّون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامّة له إن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم ، وجعل إمارة جيشهم تحت قدمه ، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الأبطال ، ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيّته ودينه وكرامته .
٤ ـ الصبر
ومن خصائص أبي الفضل عليهالسلام ومميّزاته : الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطفّ من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وإنّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء عليهالسلام الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها .
لقد رأى أبو الفضل
الكواكب المشرقة ، والممجّدين الأوفياء من أصحابه وهم مجّزرون كالأضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الأطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي وهنّ يندبن الشهداء ، ورأى وحدة أخيه الحسين عليهالسلام ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون
قتله تقرّباً