العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

باقر شريف القرشي

العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الوداع الأخير ، واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً : « يا أبةِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلىٰ شربة ماء من سبيل أتقوّىٰ بها على الأعداء ؟ » (١) .

والتاع الإمام أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت وعيناه تفيضان دموعاً : وَا غَوْثاهُ ، ما أَسْرَعَ الْمُلْتَقَىٰ بِجَدِّكَ ، فَيَسْقِيكَ بِكَأْسِهِ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً (٢) .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه ، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (٣) .

لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه ، قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد أشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء .

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :

يَشْكُو لِخَيرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَمَا اشْتَكَىٰ

ظَمَأَ الحَشَا إِلَّا إلَى الظَّامِي الصَّدِي

كُلٌّ حُشَاشَتُهُ كَصَالِيةِ الغَضَا

وَلِسَانُهُ ظَمِئٌ كَشِقَّةِ مِبْرَدِ (٤)

فَانْصَاعَ يُؤْثِرُهُ عَلَيهِ بِرِيقِهِ

لَو كَانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ (٥)

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٣ . الدمعة الساكبة : ٤ : ٣٣٠ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٢) اللهوف : ٦٧ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٤) الحشاشة : رُوح القلب ورمق الحياة . لسان العرب : ٣ : ١٨٨ ـ حشش .

(٥) رياض المدح والرثاء : ١٢٢ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٢٣ .

٢٠١
 &

وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف ، وفتّت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تُطاق ، وإنّما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد اُحيط به من كلّ جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطّشة إلى سفك دمه لتتقرّب به إلى ابن مرجانة ، وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :

الحَرْبُ قَدْ بَانَتْ لَهَا حَقَائِقْ

وَظَهَرَتْ مِن بَعْدِهَا مَصَادِقْ

وَاللهِ ربِّ العَرشِ لَا نُفَارِقْ

جُمُوعَكُم أَوْ تُغْمَدُ البَوارِقْ (١)

لقد تجلّت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين عليه‌السلام إنّما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي إنّما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للأمويّين ، يستغلّون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في رجزه أنّه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتّى تغمد البوارق .

وجعل نجل الحسين عليه‌السلام يقاتل أشدّ القتال وأعنفه حتّى قتل تمام المائتين (٢) .

وقد ضجّ العسكر من شدّة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرّة بن منقذ العبدي علَيَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (٣) .

وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطعنه بالرمح في ظهره ، وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته ، فاعتنق الفتى فرسه ظنّاً منه أنّه

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ١١٥ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٢٣ . مقاتل الطالبيّين : ١١٥ .

٢٠٢
 &

سيرجعه إلى أبيه ليودّعه الوداع الأخير إلّا أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً تشفّياً منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته : « عليك منّي السلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورة » (١) .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه فقطّعت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى ، مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خدّ ولده ، وهو جثّة هامدة ، قد قطعت جسمه السيوف ، فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق : قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلُوكَ ، يا بُنَي ، ما أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللهِ ، وَعَلَى انْتِهاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ ، عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا (٢) .

وكان العباس عليه‌السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه ، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ بهم من عظيم الكارثة ، وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم الرزيّة ، وما أجلّ مصابه !!

وهرعت الطاهرة حفيدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب عليها‌السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبّت عليه تضمّخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة : وا ابن أخاه . . وا ثمرة فؤاداه .

وأثّر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزّيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردّد بأسى : عَلَى الدُّنيا بَعْدَكَ العَفا .

لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتزّ من هولها الجبال ، لقد تجرّعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من

__________________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .

(٢) نسب قريش : ٥٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ .

٢٠٣
 &

الأمويّين وعملائهم .

مصارع آل عقيل

وهبّت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ساخرة من الحياة ، ومستهينة بالموت ، وقد نظر الإمام عليه‌السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذبّ عنه ، فقال : اللّهُمَّ اقْتُلْ قاتِلَ آلِ عَقِيلٍ .

وكان يقول : صَبْراً آلَ عَقِيلٍ إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ (١) .

وقد ألحقوا بالعدوّ خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالاُسود الضارية ، وعلوا بإرادتهم وعزمهم الجبّار على جميع فصائل ذلك الجيش ، وقد استشهد منهم تسعة من أطايب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الاُسرة النبويّة ، وفيهم يقول الشاعر :

عَينُ جُودِي بِعَبرَةٍ وَعَوِيلِ

وَانْدُبِي إِنْ نَدَبْتِ آلَ الرَّسُولِ

تِسْعَةً كُلَّهُم لِصُلْبِ عَليٍّ

قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ (٢)

__________________________

(١) بطل العلقمي : ١ : ٢٢٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٧٣ .

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٥ : ٢٣٦ .

وفي بحار الأنوار : ٤٥ : ٢٩١ ، وعوالم العلوم : ١٧ : ٥٨٨ ، هكذا :

وَاندُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَدْ أُصِيبُوا وَخَمْسَةً لِعَقيلِ

وهو الموافق لما ذكره الطبري . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦٦٢ .

وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٤٢٢ ، هكذا :

خَمْسَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ

وفي النزاع والتخاصم : ٢٩ ، هكذا :

تِسْعَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ

قَد أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ

وفي المعارف : ٢٠٤ ، هكذا :

سَبْعَةً كُلَّهُم لِصُلبِ عَلِيٍّ

قَدْ أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ

٢٠٤
 &

وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقرّ النبيّين والصدّيقين والصالحين وحسن اُولئك رفيقاً .

مصارع أبناء الحسن عليه‌السلام

وسارعت الفتية من أبناء الإمام الزكيّ أبي محمّد عليه‌السلام إلى نصرة عمّهم والذبّ عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حلّ به من عظيم الكوارث والخطوب ، وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه كالقمر في جمال طلعته وبهائه ، وقد غذّاه عمّه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعّة من روحه حتّى صار من أمثلة الكمال والآداب .

وكان القاسم وبقيّة إخوانه يتطلّعون إلى محنة عمّهم ، ويودّون أن يردّوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمّي وأنا أحمل السيف » (١) .

وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمّه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام وعيناه تفيضان دموعاً ، وأبى أن يأذن له ، إلّا أنّ الفتى ألحّ عليه ، وأخذ يقبّل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له .

وانطلق رائد الفتوّة الإسلاميّة إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لاُولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم ، كأنّ المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوّة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل ، فوقف يشدّه متحدّياً لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش ، وهو عمرو بن سعد الأزدي ، فقال : والله لأشدّنَّ عليه .

فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له : سبحان الله ! وما تريد بذلك ؟ يكفيك

__________________________

(١) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .

٢٠٥
 &

هؤلاء القوم الذين ما يبقون علىٰ أحد منهم .

فلم يعنَ الخبيث به ، وشدّ عليه فضربه بالسيف على رأسه الشريف ، فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعاً يتخبّط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته : « يا عمّاه » .

وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطّع قلبه ، وفاضت نفسه أسىً وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه ، فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضاً ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلّا أنّ الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلاً والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :

بُعْداً لِقَومٍ قَتَلوكَ ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيْكَ جَدُّكَ . عَزَّ وَاللهِ عَلَىٰ عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلَا يُجِيبُكَ ، أَوْ يُجِيبَكَ فَلَا يَنفَعُكَ ، صَوتٌ وَاللهِ كَثُرَ وَاتِرُهُ ، وَقَلَّ ناصِرُهُ (١) .

وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (٢) حتّى فاضت نفسه الزكيّة بين يديه .

وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجّدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدّع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرّيّة نبيّه ، قائلاً :

اللّٰهُمَ احْصِهِمْ عَدَداً ، وَلَا تُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَداً ، صَبْراً يا بَنِي عُمُومَتِي ، صَبْراً يا أَهْلَ بَيْتِي ، لَا رَأَيْتُمْ هَواناً بَعْدَ هٰذَا الْيَومِ أبَداً (٣) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٨ . تاريخ الاُمم الملوك : ٤ : ٤٣١ و ٣٤٢ . البداية والنهاية : ٨ : ١٨٨ .

(٢) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .

(٣) الدر النظيم : ٢٧١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٢٨ .

٢٠٦
 &

وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمّد بن عبد الله بن جعفر ، واُمّهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب الكبرى عليها‌السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبيّ وريحانته .

ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهم‌السلام ، إلّا اخوة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وكان إلى جانب أخيه كقوّة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .

٢٠٧
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

٢٠٨
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0209.png

٢٠٩
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

٢١٠
 &



وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أنّ المنيّة قد اختطفته ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كلّ كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحمّلها أي إنسان إلّا اُولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان واصطفاهم على عباده .

ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه‌السلام أنّه كان يستقبل في كلّ لحظة شابّاً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته ، قد مزّقت أجسامهم سيوف الأمويّين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة وعقائل النبوّة وهنّ يلطمن وجوههنّ ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة اُولئك البدور الذين تضمّخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن بين المحن الشاقّة التي عاناها أبو الفضل عليه‌السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الإمام الحسين عليه‌السلام قد أحاطت به أوغاد أهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الأدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ونعرض يإيجاز إلى شهادته ، وما رافق ذلك من أحداث .

العبّاس عليه‌السلام مع اخوته

وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال لهم :

٢١١
 &

« تقدّموا يا بني أُمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله فإنّه لا ولد لكم » (١) .

لقد طلب من إخوانه الممجّدين أن يقدّموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله ، فقال له : تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، وأحتسبك (٢) .

واستجابت الفتية إلى نداء الحقّ فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه‌السلام .

قول رخيص

ومن أهزل الأقوال ، وأبعدها عن الحقّ ما ذكره ابن الأثير أنّ العبّاس عليه‌السلام قال لاخوته : « تقدّموا حتّى أرثكم » ، فقال ما نصّه : « وقال العبّاس بن عليّ لاخوته من اُمّه : عبد الله وجعفر وعثمان ، تقدّموا حتّى أرثكم ، فإنّه لا ولد لكم ، ففعلوا ، فقتلوا » (٣) .

لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهميّة هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الإسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية الماديّة في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتّم منه كقاب قوسين أو أدنى .

مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الأمويّين ، وهو يستغيث فلا يُغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٨ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٤ .

٢١٢
 &

فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الأمويّين .

وبالإضافة لهذا كلّه فإنّ السيّدة اُمّ البنين اُمّ السادة الأماجد كانت حيّة ، فهي التي تحوز ميراث أبنائها لأنّها من الطبقة الاُولى لو كان لأبنائها أموال ، فإنّ أباهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الأموال .

ومن المحتمل قويّاً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه‌السلام : « حتّى أثأركم . . . » أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه .

مصارع اخوة العبّاس عليه‌السلام

واستجاب السادة اخوة العبّاس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد برز عبد الله ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام والتحم مع جيوش الأمويّين ، وهو يرتجز :

شَيخِي عَلِيٌّ ذُو الفَخَارِ الأَطْوَلِ

مِن هَاشِمِ الخَيْرِ الكَرِيمِ المُفْضِلِ

هَذَا حُسَينُ ابْـنُ النَبِيِّ المُرْسَلِ

عَنْهُ نُحَامِي بِالحُسَامِ المُصْقَلِ

تَفدِيهِ نَفْسِي مِن أَخٍ مُبَجَّلِ

يَا رَبِّ فَامْنَحنِي ثَوابَ المَنزِلِ (١)

لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيّه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد أعلن أنّه إنّما يدافع عنه لأنّه ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة .

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ١١٢ .

٢١٣
 &

ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتّى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة ، وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله (١) .

وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسع عشرة سنة ، فجعل يقاتل قتال الأبطال ، فبرز إليه قاتل أخيه فقتله (٢) .

وبرز من بعده أخوه عثمان ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن مرجانة (٣) .

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .

وفي الفتوح : ٥ : ١١٢ : « إنّ الذي قتله زحر بن بدر النخعي » .

وفي مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « بعد شهادة جعفر برز أخوه عبد الله قائلاً :

أَنَا ابْنُ ذِي النَّجْدَةِ وَالْإِفْضَالِ

ذَاكَ عَلِيُّ الخَيْرِ ذُو الفِعَالِ

سَيْفُ رَسُولِ اللهِ ذِي النَّكَالِ

فِي كُلِّ يَوْمٍ ظَاهرِ الأَهوَالِ

فقتله هانئ بن شبيب الحضرمي لعنه الله » . بحار الأنوار : ٤٥ : ٣٨ . مقتل الحسين عليه‌السلام : الخوارزمي : ٢ : ٢٩ .

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٣ .

وذكر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « ثمّ برز أخوه جعفر منشأً يقول :

إِنِّي أَنَا جَعفَرُ ذُو المَعَالِي

ابنُ عَلِيِّ الخَيْرِ ذِي النَّوالِ

ذَاكَ الوَصِيُّ ذُو السَّنَا وَالوَالِي

حَسْبِي بِعَمِّي شَرَفاً وَالخَالِ

فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه » .

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ . مقاتل الطالبيّين : ٨٩ .

٢١٤
 &

في العالم .

مصرع أبي الفضل عليه‌السلام

ولمّا رأى أبو الفضل عليه‌السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله ، انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الإمام ، وقال له بصوت حزين النبرات : أَنْتَ صاحِبُ لِوَائِي .

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل ، فهو كقوّة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين .

وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : « لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأُريد أن آخذ ثأري منهم » (١) .

لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من إخوته وأبناء عمومته صرعى مجزّرين على رمضاء كربلاء ، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم . وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانبرى الشهم النبيل نحو اُولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة ، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته .

ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد : « يا بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واخلي لكم الحجاز والعراق » .

وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أنّ الأرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً :

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ .

٢١٥
 &

يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد .

لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار .

وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال وهم يستغيثون وينادون : العطش . . العطش (١) .

ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاغاثتهم ، فركب فرسه وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلّا أنّه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والأطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال :

يَا نَفْسُ مِن بَعْدِ الحُسِينِ هُونِي

وَبَعْدَهُ لا كُنْتِ أن تَكُونِي

هَذا الحُسَينُ وَارِدَ المَنُونِ

وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ

تَاللهِ مَا هَذَا فِعَالُ دِينِي

وَلَا فِعَالُ صَادِقِ اليَقِينِ (٢)

إنّ الإنسانية بكل إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام ، وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية .

إنّ هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيّات في خُلق

__________________________

(١) معالي السبطين : ١ : ٤٤٤ و ٤٤٥ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / أبو مخنف : ٦١ . مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٣٦ .

٢١٦
 &

سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأيّ إيثار أنبل أو أصدق من هذا الايثار ؟

واتّجه فخر هاشم مزهوّاً نحو المخيّم بعدما ملأ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشريّة التحاماً رهيباً ، فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :

لَا أَرْهَـبُ المَوْتَ إِذَا المَـوتُ زَقا

حَتَّى أُوارَىٰ فِي المَصالِيتِ لِقا

نَفْسِي لِنَفْسِ المُصطَفَى الطُّهرِ وِقا

إنِّي أَنا العَبّاسُ أَغْـدُو بِالسِّقا

وَلَا أَخَافُ الشَّرَ يَومَ المُلتَقَىٰ (١)

لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وأنّه لا يخشى الموت ، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحقّ ، وفداءً لأخيه سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت .

وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلّا أنّ وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها .

لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز :

وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُـمُ يَمِينِي

إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . إبصار العين : ٤٤ .

٢١٧
 &

وَعَنْ إِمامٍ صادِقِ اليَقِينِ

نَجْلِ النَّبِيِّ الطّاهِرِ الأَمِينِ (١)

ودلّل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة ، والمُثل العليا التي يناضل من أجلها فهو إنّما يناضل دفاعاً عن الإسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة .

ولم يبعد العبّاس قليلاً حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرّية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء ، وألم الجراح ، وشدّة العطش (٢) ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة من الشرف والوفاء والرحمة .

وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى على الأرض وهو يؤدّي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً : « عليك منّي السلام أبا عبد الله » (٣) .

وحمل الأثير محنته إلى أخيه ، فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الأعداء فوقف على جثمان أخيه ، فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمّخه بدموع عينيه وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً : الْآن انْكَسَرَ ظَهْرِي ، وَقَلَّتْ حِيلَتِي ، وَشَمِتَ

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ و ٤٢ .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام / المقرّم : ٣٣٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .

٢١٨
 &

بي عَدُوّي (١) .

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه ، وتبدّدت جميع آماله ، وودّ أنّ الموت قد وافاه قبله .

وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله :

فَمَشىٰ لِمَصرَعِهِ الْحُسَيْنُ وَطَرفُهُ

بَينَ الْخِيامِ وَبَينَهُ مُتَقَسِّمُ

أَلْفـاهُ مَحْجوبَ الجَمالِ كَأَنَّهُ

بَدرٌ بِمُنحَطمِ الوَشيجِ مُلَثَّمُ

فَأَكَبَّ مُنحَنِياً عَلَيهِ وَدَمعُهُ

صَبَغَ البَسيطَ كَأَنَّما هُوَ عَنْدَمُ

قَدْ رامَ يَلثِمُهُ فَلَمْ يَرَ مَوضِعاً

لَمْ يُدْمِهِ عَـضُّ السِّلاحِ فَيُلثَمُ

نادىٰ وَقَدْ مَلَأَ البَوادِيَ صَيحَةً

صُمُّ الصُّخورِ لِهَولِها تَتَأَلَّمُ

أَأُخَي يُهنيكَ النَّعيمُ وَلَمْ أَخَلْ

تَرضىٰ بِأَنْ اُرْزىٰ وَأَنْتَ مُنَعَّمُ

أَأُخَي مَنْ يَحْمي بَناتَ مُحَمَّدٍ

إذْ صِرنَ يَسْتَرْحِمْنَ مَنْ لَا يَرحَمُ

ما خِلْتُ بَعدَكَ أَنْ تُشَلَّ سَواعِدي

وَتَكُفَّ باصِرَتي وَظَهرِيَ يُقصَمُ

لِسِواكَ يُلطَمُ بِالْأَكُفِّ وَهٰذِهِ

بيضُ الضُّبا لَكَ في جَبينِيَ تَلطُمُ

ما بَينَ مَصرَعِكَ الفَظيعِ وَمَصرَعي

إِلَّا كَما أَدعوكَ قَبلُ وَتَنعَمُ

هٰذا حُسامُكَ مَنْ يُذِلُّ بِهِ العِدا

وَلِواكَ هٰذا مَنْ بِهِ يَتَقَدَّمُ

هَوَّنتَ يا بن أَبي مَصارعَ فِتْيَتي

وَالْجُرحُ يُسْكِنُهُ الَّذي هُوَ آلَمُ (٢)

وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لأخيه .

ووصف شاعر آخر وهو الحاجّ محمّد رضا الاُزري وضع الإمام عليه‌السلام بقوله :

__________________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ . بجار الأنوار : ٤٥ : ٤٢ . العوالم : ٢٨٥ .

(٢) الدرّ النضيد : ٣١١ .

٢١٩
 &

وَهَوىٰ عَلَيهِ ما هُنالِكَ قائِلاً

اليَومَ بانَ عَنِ اليَمينِ حُسامُها

اليَومَ سارَ عَنِ الكَتائِبِ كَبشُها

اليَومَ بانَ عَنِ الهُداةِ إِمامُها

اليَومَ آلَ إِلى التَّفَرُّقِ جَمعُنا

اليَومَ حُلَّ عَنِ البُنودِ نِظامُها

اليَومَ نامَتْ أَعيْنٌ بِكَ لَمْ تَنَمْ

وَتَسَهَّدَتْ أُخْرىٰ فَعَزَّ مَنامُها

أَشَقيقُ روحِيَ هَلْ تَراكَ عَلِمْتَ أَنْ

غودِرتَ وَانْثالَتْ عَلَيكَ لِئامُها

قَدْ خِلْتُ أَطْبَقَتِ السَّماءُ عَلَى الثَّرىٰ

أَوْ دُكْدِكَتْ فَـوقَ الرُّبى أَعْلامُها

لكِنْ أَهانَ الخَطبُ عِندِيَ أَنَّني

بِكَ لاحِقٌ أَمْراً قَضىٰ عَلّامُها (١)

ومهما قال الشعراء والكتّاب فإنّهم لا يستطيعون أن يصفوا ما ألمّ بالإمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب .

ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لا يتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة : أين عمّي أبو الفضل ؟

فغرق بالبكاء ، وأخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته (٢) ، وذعرت سكينة وعلا صراخها ، ولمّا سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلّا قدّمه لها ، أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح : وا أخاه . . وا عبّاساه . . وا ضعيتنا بعدك .

يا لهول الفاجعة . .

يا لهول الكارثة . .

__________________________

(١) الدرّ النضيد : ٢٩٦ .

(٢) قمر بني هاشم / المقرّم : ١١٢ .

٢٢٠