باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
الوداع الأخير ، واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً : « يا أبةِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلىٰ شربة ماء من سبيل أتقوّىٰ بها على الأعداء ؟ » (١) .
والتاع الإمام أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت وعيناه تفيضان دموعاً : وَا غَوْثاهُ ، ما أَسْرَعَ الْمُلْتَقَىٰ بِجَدِّكَ ، فَيَسْقِيكَ بِكَأْسِهِ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً (٢) .
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه ، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (٣) .
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه ، قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد أشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء .
يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :
يَشْكُو لِخَيرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَمَا اشْتَكَىٰ |
|
ظَمَأَ الحَشَا إِلَّا إلَى الظَّامِي الصَّدِي |
كُلٌّ حُشَاشَتُهُ كَصَالِيةِ الغَضَا |
|
وَلِسَانُهُ ظَمِئٌ كَشِقَّةِ مِبْرَدِ (٤) |
فَانْصَاعَ يُؤْثِرُهُ عَلَيهِ بِرِيقِهِ |
|
لَو كَانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ (٥) |
__________________________
(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٣ . الدمعة الساكبة : ٤ : ٣٣٠ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٢) اللهوف : ٦٧ .
(٣) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٤) الحشاشة : رُوح القلب ورمق الحياة . لسان العرب : ٣ : ١٨٨ ـ حشش .
(٥) رياض المدح والرثاء : ١٢٢ . مقتل الحسين عليهالسلام / المقرّم : ٣٢٣ .
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف ، وفتّت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تُطاق ، وإنّما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد اُحيط به من كلّ جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطّشة إلى سفك دمه لتتقرّب به إلى ابن مرجانة ، وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحَرْبُ قَدْ بَانَتْ لَهَا حَقَائِقْ |
|
وَظَهَرَتْ مِن بَعْدِهَا مَصَادِقْ |
وَاللهِ ربِّ العَرشِ لَا نُفَارِقْ |
|
جُمُوعَكُم أَوْ تُغْمَدُ البَوارِقْ (١) |
لقد تجلّت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين عليهالسلام إنّما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي إنّما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للأمويّين ، يستغلّون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن عليّ بن الحسين عليهالسلام في رجزه أنّه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتّى تغمد البوارق .
وجعل نجل الحسين عليهالسلام يقاتل أشدّ القتال وأعنفه حتّى قتل تمام المائتين (٢) .
وقد ضجّ العسكر من شدّة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرّة بن منقذ العبدي علَيَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (٣) .
وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلىاللهعليهوآله فطعنه بالرمح في ظهره ، وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته ، فاعتنق الفتى فرسه ظنّاً منه أنّه
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ١١٥ .
(٢) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٣) مقتل الحسين عليهالسلام / المقرّم : ٣٢٣ . مقاتل الطالبيّين : ١١٥ .
سيرجعه إلى أبيه ليودّعه الوداع الأخير إلّا أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً تشفّياً منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته : « عليك منّي السلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورة » (١) .
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه فقطّعت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى ، مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خدّ ولده ، وهو جثّة هامدة ، قد قطعت جسمه السيوف ، فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق : قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلُوكَ ، يا بُنَي ، ما أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللهِ ، وَعَلَى انْتِهاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ ، عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا (٢) .
وكان العباس عليهالسلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه ، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ بهم من عظيم الكارثة ، وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم الرزيّة ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبيّ صلىاللهعليهوآله زينب عليهاالسلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبّت عليه تضمّخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة : وا ابن أخاه . . وا ثمرة فؤاداه .
وأثّر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزّيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردّد بأسى : عَلَى الدُّنيا بَعْدَكَ العَفا .
لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتزّ من هولها الجبال ، لقد تجرّعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من
__________________________
(١) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٢) نسب قريش : ٥٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ .
الأمويّين وعملائهم .
مصارع آل عقيل
وهبّت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله وهي ساخرة من الحياة ، ومستهينة بالموت ، وقد نظر الإمام عليهالسلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذبّ عنه ، فقال : اللّهُمَّ اقْتُلْ قاتِلَ آلِ عَقِيلٍ .
وكان يقول : صَبْراً آلَ عَقِيلٍ إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ (١) .
وقد ألحقوا بالعدوّ خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالاُسود الضارية ، وعلوا بإرادتهم وعزمهم الجبّار على جميع فصائل ذلك الجيش ، وقد استشهد منهم تسعة من أطايب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الاُسرة النبويّة ، وفيهم يقول الشاعر :
عَينُ جُودِي بِعَبرَةٍ وَعَوِيلِ |
|
وَانْدُبِي إِنْ نَدَبْتِ آلَ الرَّسُولِ |
تِسْعَةً كُلَّهُم لِصُلْبِ عَليٍّ |
|
قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ (٢) |
__________________________
(١) بطل العلقمي : ١ : ٢٢٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٧٣ .
(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٥ : ٢٣٦ .
وفي بحار الأنوار : ٤٥ : ٢٩١ ، وعوالم العلوم : ١٧ : ٥٨٨ ، هكذا :
وَاندُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ |
|
قَدْ أُصِيبُوا وَخَمْسَةً لِعَقيلِ |
وهو الموافق لما ذكره الطبري . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦٦٢ .
وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٤٢٢ ، هكذا :
خَمْسَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ |
|
قَد أُصيبُوا وَسَبْعَةً لِعَقِيلِ |
وفي النزاع والتخاصم : ٢٩ ، هكذا :
تِسْعَةً مِنْهُمُ لِصُلْبِ عَلِيٍّ |
|
قَد أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ |
وفي المعارف : ٢٠٤ ، هكذا :
سَبْعَةً كُلَّهُم لِصُلبِ عَلِيٍّ |
|
قَدْ أُصِيبُوا وَتِسْعَةً لِعَقِيلِ |
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقرّ النبيّين والصدّيقين والصالحين وحسن اُولئك رفيقاً .
مصارع أبناء الحسن عليهالسلام
وسارعت الفتية من أبناء الإمام الزكيّ أبي محمّد عليهالسلام إلى نصرة عمّهم والذبّ عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حلّ به من عظيم الكوارث والخطوب ، وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه كالقمر في جمال طلعته وبهائه ، وقد غذّاه عمّه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعّة من روحه حتّى صار من أمثلة الكمال والآداب .
وكان القاسم وبقيّة إخوانه يتطلّعون إلى محنة عمّهم ، ويودّون أن يردّوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمّي وأنا أحمل السيف » (١) .
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمّه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام وعيناه تفيضان دموعاً ، وأبى أن يأذن له ، إلّا أنّ الفتى ألحّ عليه ، وأخذ يقبّل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له .
وانطلق رائد الفتوّة الإسلاميّة إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لاُولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم ، كأنّ المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوّة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل ، فوقف يشدّه متحدّياً لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش ، وهو عمرو بن سعد الأزدي ، فقال : والله لأشدّنَّ عليه .
فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له : سبحان الله ! وما تريد بذلك ؟ يكفيك
__________________________
(١) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .
هؤلاء القوم الذين ما يبقون علىٰ أحد منهم .
فلم يعنَ الخبيث به ، وشدّ عليه فضربه بالسيف على رأسه الشريف ، فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعاً يتخبّط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته : « يا عمّاه » .
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطّع قلبه ، وفاضت نفسه أسىً وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه ، فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضاً ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلّا أنّ الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلاً والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
بُعْداً لِقَومٍ قَتَلوكَ ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيْكَ جَدُّكَ . عَزَّ وَاللهِ عَلَىٰ عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلَا يُجِيبُكَ ، أَوْ يُجِيبَكَ فَلَا يَنفَعُكَ ، صَوتٌ وَاللهِ كَثُرَ وَاتِرُهُ ، وَقَلَّ ناصِرُهُ (١) .
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (٢) حتّى فاضت نفسه الزكيّة بين يديه .
وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجّدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدّع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرّيّة نبيّه ، قائلاً :
اللّٰهُمَ احْصِهِمْ عَدَداً ، وَلَا تُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَداً ، صَبْراً يا بَنِي عُمُومَتِي ، صَبْراً يا أَهْلَ بَيْتِي ، لَا رَأَيْتُمْ هَواناً بَعْدَ هٰذَا الْيَومِ أبَداً (٣) .
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٨ . تاريخ الاُمم الملوك : ٤ : ٤٣١ و ٣٤٢ . البداية والنهاية : ٨ : ١٨٨ .
(٢) البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان : ٢٥ .
(٣) الدر النظيم : ٢٧١ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٢٨ .
وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمّد بن عبد الله بن جعفر ، واُمّهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلىاللهعليهوآله زينب الكبرى عليهاالسلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبيّ وريحانته .
ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهمالسلام ، إلّا اخوة الإمام الحسين عليهالسلام ، وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العبّاس عليهالسلام ، وكان إلى جانب أخيه كقوّة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .
وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أنّ المنيّة قد اختطفته ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كلّ كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحمّلها أي إنسان إلّا اُولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان واصطفاهم على عباده .
ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليهالسلام أنّه كان يستقبل في كلّ لحظة شابّاً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته ، قد مزّقت أجسامهم سيوف الأمويّين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة وعقائل النبوّة وهنّ يلطمن وجوههنّ ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة اُولئك البدور الذين تضمّخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله .
ومن بين المحن الشاقّة التي عاناها أبو الفضل عليهالسلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الإمام الحسين عليهالسلام قد أحاطت به أوغاد أهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الأدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلىاللهعليهوآله .
ونعرض يإيجاز إلى شهادته ، وما رافق ذلك من أحداث .
العبّاس عليهالسلام مع اخوته
وانبرى بطل كربلاء
إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهمالسلام ، فقال لهم :
« تقدّموا يا بني أُمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله فإنّه لا ولد لكم » (١) .
لقد طلب من إخوانه الممجّدين أن يقدّموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره .
والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله ، فقال له : تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، وأحتسبك (٢) .
واستجابت الفتية إلى نداء الحقّ فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليهالسلام .
قول رخيص
ومن أهزل الأقوال ، وأبعدها عن الحقّ ما ذكره ابن الأثير أنّ العبّاس عليهالسلام قال لاخوته : « تقدّموا حتّى أرثكم » ، فقال ما نصّه : « وقال العبّاس بن عليّ لاخوته من اُمّه : عبد الله وجعفر وعثمان ، تقدّموا حتّى أرثكم ، فإنّه لا ولد لكم ، ففعلوا ، فقتلوا » (٣) .
لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهميّة هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الإسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية الماديّة في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتّم منه كقاب قوسين أو أدنى .
مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الأمويّين ، وهو يستغيث فلا يُغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة ،
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .
(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٨ .
(٣) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٤ .
فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الأمويّين .
وبالإضافة لهذا كلّه فإنّ السيّدة اُمّ البنين اُمّ السادة الأماجد كانت حيّة ، فهي التي تحوز ميراث أبنائها لأنّها من الطبقة الاُولى لو كان لأبنائها أموال ، فإنّ أباهم الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الأموال .
ومن المحتمل قويّاً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليهالسلام : « حتّى أثأركم . . . » أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه .
مصارع اخوة العبّاس عليهالسلام
واستجاب السادة اخوة العبّاس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقد برز عبد الله ابن أمير المؤمنين عليهالسلام والتحم مع جيوش الأمويّين ، وهو يرتجز :
شَيخِي عَلِيٌّ ذُو الفَخَارِ الأَطْوَلِ |
|
مِن هَاشِمِ الخَيْرِ الكَرِيمِ المُفْضِلِ |
هَذَا حُسَينُ ابْـنُ النَبِيِّ المُرْسَلِ |
|
عَنْهُ نُحَامِي بِالحُسَامِ المُصْقَلِ |
تَفدِيهِ نَفْسِي مِن أَخٍ مُبَجَّلِ |
|
يَا رَبِّ فَامْنَحنِي ثَوابَ المَنزِلِ (١) |
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، باب مدينة علم النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ووصيّه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليهالسلام ، وقد أعلن أنّه إنّما يدافع عنه لأنّه ابن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة .
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ١١٢ .
ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتّى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة ، وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله (١) .
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسع عشرة سنة ، فجعل يقاتل قتال الأبطال ، فبرز إليه قاتل أخيه فقتله (٢) .
وبرز من بعده أخوه عثمان ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن مرجانة (٣) .
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ١٠٩ .
وفي الفتوح : ٥ : ١١٢ : « إنّ الذي قتله زحر بن بدر النخعي » .
وفي مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « بعد شهادة جعفر برز أخوه عبد الله قائلاً :
أَنَا ابْنُ ذِي النَّجْدَةِ وَالْإِفْضَالِ |
|
ذَاكَ عَلِيُّ الخَيْرِ ذُو الفِعَالِ |
سَيْفُ رَسُولِ اللهِ ذِي النَّكَالِ |
|
فِي كُلِّ يَوْمٍ ظَاهرِ الأَهوَالِ |
فقتله هانئ بن شبيب الحضرمي لعنه الله » . بحار الأنوار : ٤٥ : ٣٨ . مقتل الحسين عليهالسلام : الخوارزمي : ٢ : ٢٩ .
(٢) مقاتل الطالبيّين : ٨٣ .
وذكر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ : « ثمّ برز أخوه جعفر منشأً يقول :
إِنِّي أَنَا جَعفَرُ ذُو المَعَالِي |
|
ابنُ عَلِيِّ الخَيْرِ ذِي النَّوالِ |
ذَاكَ الوَصِيُّ ذُو السَّنَا وَالوَالِي |
|
حَسْبِي بِعَمِّي شَرَفاً وَالخَالِ |
فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه » .
(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٧ . مقاتل الطالبيّين : ٨٩ .
في العالم .
مصرع أبي الفضل عليهالسلام
ولمّا رأى أبو الفضل عليهالسلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله ، انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الإمام ، وقال له بصوت حزين النبرات : أَنْتَ صاحِبُ لِوَائِي .
لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل ، فهو كقوّة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين .
وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : « لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأُريد أن آخذ ثأري منهم » (١) .
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من إخوته وأبناء عمومته صرعى مجزّرين على رمضاء كربلاء ، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم . وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانبرى الشهم النبيل نحو اُولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة ، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته .
ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد : « يا بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واخلي لكم الحجاز والعراق » .
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أنّ الأرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً :
__________________________
(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ .
يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار .
وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال وهم يستغيثون وينادون : العطش . . العطش (١) .
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاغاثتهم ، فركب فرسه وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلّا أنّه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والأطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال :
يَا نَفْسُ مِن بَعْدِ الحُسِينِ هُونِي |
|
وَبَعْدَهُ لا كُنْتِ أن تَكُونِي |
هَذا الحُسَينُ وَارِدَ المَنُونِ |
|
وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ |
تَاللهِ مَا هَذَا فِعَالُ دِينِي |
|
وَلَا فِعَالُ صَادِقِ اليَقِينِ (٢) |
إنّ الإنسانية بكل إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام ، وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية .
إنّ هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيّات في خُلق
__________________________
(١) معالي السبطين : ١ : ٤٤٤ و ٤٤٥ .
(٢) مقتل الحسين عليهالسلام / أبو مخنف : ٦١ . مقتل الحسين عليهالسلام / المقرّم : ٣٣٦ .
سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأيّ إيثار أنبل أو أصدق من هذا الايثار ؟
واتّجه فخر هاشم مزهوّاً نحو المخيّم بعدما ملأ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشريّة التحاماً رهيباً ، فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :
لَا أَرْهَـبُ المَوْتَ إِذَا المَـوتُ زَقا |
|
حَتَّى أُوارَىٰ فِي المَصالِيتِ لِقا |
نَفْسِي لِنَفْسِ المُصطَفَى الطُّهرِ وِقا |
|
إنِّي أَنا العَبّاسُ أَغْـدُو بِالسِّقا |
|
وَلَا أَخَافُ الشَّرَ يَومَ المُلتَقَىٰ (١) |
|
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وأنّه لا يخشى الموت ، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحقّ ، وفداءً لأخيه سبط النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وأنّه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت .
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلّا أنّ وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها .
لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز :
وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُـمُ يَمِينِي |
|
إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي |
__________________________
(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . إبصار العين : ٤٤ .
وَعَنْ إِمامٍ صادِقِ اليَقِينِ |
|
نَجْلِ النَّبِيِّ الطّاهِرِ الأَمِينِ (١) |
ودلّل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة ، والمُثل العليا التي يناضل من أجلها فهو إنّما يناضل دفاعاً عن الإسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة .
ولم يبعد العبّاس قليلاً حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرّية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهمالسلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء ، وألم الجراح ، وشدّة العطش (٢) ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة من الشرف والوفاء والرحمة .
وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى على الأرض وهو يؤدّي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً : « عليك منّي السلام أبا عبد الله » (٣) .
وحمل الأثير محنته إلى أخيه ، فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الأعداء فوقف على جثمان أخيه ، فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمّخه بدموع عينيه وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً : الْآن انْكَسَرَ ظَهْرِي ، وَقَلَّتْ حِيلَتِي ، وَشَمِتَ
__________________________
(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .
(٢) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤١ و ٤٢ .
(٣) مقتل الحسين عليهالسلام / المقرّم : ٣٣٨ . ينابيع المودّة : ٣ : ٦٨ .
بي عَدُوّي (١) .
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه ، وتبدّدت جميع آماله ، وودّ أنّ الموت قد وافاه قبله .
وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله :
فَمَشىٰ لِمَصرَعِهِ الْحُسَيْنُ وَطَرفُهُ |
|
بَينَ الْخِيامِ وَبَينَهُ مُتَقَسِّمُ |
أَلْفـاهُ مَحْجوبَ الجَمالِ كَأَنَّهُ |
|
بَدرٌ بِمُنحَطمِ الوَشيجِ مُلَثَّمُ |
فَأَكَبَّ مُنحَنِياً عَلَيهِ وَدَمعُهُ |
|
صَبَغَ البَسيطَ كَأَنَّما هُوَ عَنْدَمُ |
قَدْ رامَ يَلثِمُهُ فَلَمْ يَرَ مَوضِعاً |
|
لَمْ يُدْمِهِ عَـضُّ السِّلاحِ فَيُلثَمُ |
نادىٰ وَقَدْ مَلَأَ البَوادِيَ صَيحَةً |
|
صُمُّ الصُّخورِ لِهَولِها تَتَأَلَّمُ |
أَأُخَي يُهنيكَ النَّعيمُ وَلَمْ أَخَلْ |
|
تَرضىٰ بِأَنْ اُرْزىٰ وَأَنْتَ مُنَعَّمُ |
أَأُخَي مَنْ يَحْمي بَناتَ مُحَمَّدٍ |
|
إذْ صِرنَ يَسْتَرْحِمْنَ مَنْ لَا يَرحَمُ |
ما خِلْتُ بَعدَكَ أَنْ تُشَلَّ سَواعِدي |
|
وَتَكُفَّ باصِرَتي وَظَهرِيَ يُقصَمُ |
لِسِواكَ يُلطَمُ بِالْأَكُفِّ وَهٰذِهِ |
|
بيضُ الضُّبا لَكَ في جَبينِيَ تَلطُمُ |
ما بَينَ مَصرَعِكَ الفَظيعِ وَمَصرَعي |
|
إِلَّا كَما أَدعوكَ قَبلُ وَتَنعَمُ |
هٰذا حُسامُكَ مَنْ يُذِلُّ بِهِ العِدا |
|
وَلِواكَ هٰذا مَنْ بِهِ يَتَقَدَّمُ |
هَوَّنتَ يا بن أَبي مَصارعَ فِتْيَتي |
|
وَالْجُرحُ يُسْكِنُهُ الَّذي هُوَ آلَمُ (٢) |
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لأخيه .
ووصف شاعر آخر وهو الحاجّ محمّد رضا الاُزري وضع الإمام عليهالسلام بقوله :
__________________________
(١) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣٠ . بجار الأنوار : ٤٥ : ٤٢ . العوالم : ٢٨٥ .
(٢) الدرّ النضيد : ٣١١ .
وَهَوىٰ عَلَيهِ ما هُنالِكَ قائِلاً |
|
اليَومَ بانَ عَنِ اليَمينِ حُسامُها |
اليَومَ سارَ عَنِ الكَتائِبِ كَبشُها |
|
اليَومَ بانَ عَنِ الهُداةِ إِمامُها |
اليَومَ آلَ إِلى التَّفَرُّقِ جَمعُنا |
|
اليَومَ حُلَّ عَنِ البُنودِ نِظامُها |
اليَومَ نامَتْ أَعيْنٌ بِكَ لَمْ تَنَمْ |
|
وَتَسَهَّدَتْ أُخْرىٰ فَعَزَّ مَنامُها |
أَشَقيقُ روحِيَ هَلْ تَراكَ عَلِمْتَ أَنْ |
|
غودِرتَ وَانْثالَتْ عَلَيكَ لِئامُها |
قَدْ خِلْتُ أَطْبَقَتِ السَّماءُ عَلَى الثَّرىٰ |
|
أَوْ دُكْدِكَتْ فَـوقَ الرُّبى أَعْلامُها |
لكِنْ أَهانَ الخَطبُ عِندِيَ أَنَّني |
|
بِكَ لاحِقٌ أَمْراً قَضىٰ عَلّامُها (١) |
ومهما قال الشعراء والكتّاب فإنّهم لا يستطيعون أن يصفوا ما ألمّ بالإمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب .
ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لا يتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة : أين عمّي أبو الفضل ؟
فغرق بالبكاء ، وأخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته (٢) ، وذعرت سكينة وعلا صراخها ، ولمّا سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلىاللهعليهوآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلّا قدّمه لها ، أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح : وا أخاه . . وا عبّاساه . . وا ضعيتنا بعدك .
يا لهول الفاجعة . .
يا لهول الكارثة . .
__________________________
(١) الدرّ النضيد : ٢٩٦ .
(٢) قمر بني هاشم / المقرّم : ١١٢ .