باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً : إنّك لا تكذب ، ولا تنخدع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضارّيك (١) .
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم : ويلكم ! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار وأنا من أهل بيت الأبرار ، ويلكم ! أما ترعون حقّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وذرّيّته .
إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله صلىاللهعليهوآله الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء ، وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاُمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذرّيّته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً .
وعلى أي حال ، فإنّ جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الأشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً : يا بن عقيل ، لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي .
ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من اُسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً : يا بن الأشعث ، لا اُعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي .
وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة .
__________________________
(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .
فحمل الأوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الأحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .
أسره عليهالسلام
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد اُثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الأقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحرّرهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة ، وحُمل مسلم أسيراً إلى عبد الأمويّين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته وأعطته العهود والمواثيق ببيعته ، إلّا أنّهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه .
وانتهي بمسلم إلى قصر الإمارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً ، فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله ، فقال لهم : اسقوني من هذا الماء .
فانبرى له اللئيم الدنس عميل الأمويّين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم .
ودلّت هذه البادرة وغيرها ممّا صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الإنسانيّة .
ومن المؤكّد أنّ هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الأنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الإنسان الممسوخ ، فقال له : مَن أنت ؟
فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً : أنا من عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الاُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي .
أي حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والأكثريّة الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه قد غرقوا في الباطل والمنكر .
إنّ غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التاريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمّك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أوْلى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي .
وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال : لو كان لي الرزق المقسوم لشربته (١) .
مع ابن مرجانة
وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً : هل تسلّم على الأمير ؟
فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولأميره قائلاً : اسكت لا اُمّ لك ، والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه .
وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول : لا عليك ، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول .
إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الأحرار أمثال مسلم ممّن صنعوا تاريخ هذه الاُمّة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري ، وجرت بين مسلم وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التاريخ .
__________________________
(١) الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .
إلى الرفيق الأعلى
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلّاد على موضع الحذّائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الأرض ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الإنسان وقضاياه المصيريّة ، وهو أوّل شهيد من الاُسره النبويّة يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبّوا لانقاذه والدفاع عنه .
إعدام هانئ رضياللهعنه
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانئ بن عروة ، فاُخرج من السجن وهو يصيح أمام اُسرته التي هي كالحشرات قائلاً : وا مذحجاه . . وا عشيرتاه .
ولو كان عند اُسرته صبابة من الغيرة والحميّة لهبّت لإنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالأب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنّها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة .
وجيء بهانئ إلى ساحة يباع فيها الأغنام ، فنفّذ الجلّادون فيه حكم الإعدام ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدم الشهادة . . لقد استشهد هانئ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الإسلام .
السحل في الشوارع
وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيّين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانئ في الشوارع والأزقّة ، وذلك لإخافة العامّة وشيوع الارهاب بين الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والأمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيّون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبوديّة ، وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الأحكام العرفيّة في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالأغنام لأفظع جريمة عرفها التاريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي صلىاللهعليهوآله الإمام الحسين عليهالسلام .
وغادر الإمام الحسين عليهالسلام مكّة ولم يمكث فيها ، فقد علم أنّ الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الارهابيّين لاغتياله ، وإن كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام .
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وأنّ أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدّمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علويّة في بلادهم .
وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهمالسلام الذين يمثّلون القوّة والعزم والإباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضل عليهالسلام ، فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف .
وواصل الإمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له : بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله صلىاللهعليهوآله ما أعجلك عن الحجّ ؟
فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً : لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ (١) .
وسارع الإمام قائلاً : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يا أَبا فِرَاسٍ ؟
ـ من الكوفة .
أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ خَلْفَكَ ؟
كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وأنّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً : على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . . وربّنا كلّ يوم هو في شأن .
واستصوب الإمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وأنّه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الإسلام ، فإن نال ما يرومه فذاك ، وإلّا فالشهادة في سبيل الله قائلاً له :
« صَدَقْتَ ، لِلهِ الْأَمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ، وكُلُّ يَوْمٍ رَبُّنا فِي شَأْنٍ ، إِنْ نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَنَحْمَدُ اللهَ عَلَىٰ نَعْمائِهِ ، وَهُوَ الْمُستَعانُ عَلَىٰ أَدَاءِ الشُّكْرِ ، وَإنْ حالَ القَضاءُ دُونَ الرَّجاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ مَنْ كانَ الْحَقُّ نِيَّتَهُ وَالتَّقْوَىٰ سَرِيرَتَهُ » (٢) .
وأنشأ الإمام هذه الأبيات :
لَئِنْ كانَتِ الدُّنْيا تُعَدُّ نَفِيسَةً |
|
فَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ أَعْلَىٰ وأنبَلُ |
وَإِنْ كانَتْ الأَبْدانُ لِلمَوْتِ أُنشِئَتْ |
|
فَقَتلُ امرئٍ بِالسَّيفِ فِي اللهِ أَفضَلُ |
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٦٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٩ .
(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٦ . البداية والنهاية : ٨ : ١٦٨ . الصواعق المحرقة : ١٩٦ .
وَإِنْ كانَتِ الأَرزَاقُ قِسْماً مُقَدَّراً |
|
فَقِلَّةُ حِرصِ المَرءِ فِي الرِّزْقِ أَجْمَلُ |
وَإِنْ كانَتِ الأَموالُ لِلتَّركِ جَمْعُها |
|
فَما بالُ مَترُوكٍ بِهِ المَرءُ يَبخَلُ (١) |
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وأنّه مصمّم أشدّ ما يكون التصميم على الجهاد والشهادة في سبيل الله .
إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحقّ ، فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعيّاً ، ووعياً ثقافيّاً متميّزاً رأى ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة ، قد تظافرت قوى الباطل على حربه ، فلم يندفع إلى نصرته والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فإذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم .
وصول النبأ بمقتل مسلم عليهالسلام
وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى ( زرود ) (٢) ، وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الإمام الحسين عليهالسلام عدل عن الطريق وقد وقف الإمام يريد مسألته ، فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديّان ، فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله ، فأدركاه وسألاه عن خبر الكوفة ، فقال لهما : إنّه لم يخرج حتّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتّى التحقا بالإمام ، فلمّا نزل
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ٧٢ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي :١ : ٢٢٣ . وسيلة المآل : ١٨٨ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ .
(٢) زَرُودُ : لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحاب ؛ لأنّها رمال بين الثعلبية والخُزَيمية بطريق الحاج من الكوفة . معجم البلدان : ٣ : ١٥٦ .
الثعلبيّة (١) قالا له : رحمك الله ، إنّ عندنا أخباراً ان شئت حدّثناك بها علانية ، وإن شئت سرّاً .
ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين ، فقال : ما دُونَ هَؤُلَاءِ سِرٌّ .
ـ أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟
ـ نَعَم ، وقَدْ أَرَدْتُ مَسأَلَتَهُ .
ـ قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي ، وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانئ ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما (٢) .
وتصدّعت قلوب العلويّين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتّى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل (٣) ، وشاركت السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام ، وأنّهم سيلاقون المصير الذي لاقاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل ، فقال لهم : ما تَرَوْنَ ، فَقَدْ قُتِلَ مُسْلِمٌ ؟
ووثبت الفتية ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريّتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين : لا والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .
وراح أبو الأحرار يقول بمقالتهم : لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هٰؤُلاءِ (٤) .
__________________________
(١) الثعلبية : من منازل طريق مكّة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية ، وهي ثلثا الطريق . معجم البلدان : ٢ : ٩١ .
(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٤ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ .
(٣) الدرّ المسلوك : ١ : ١١١ .
(٤) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٠ .
وقال متمثّلاً :
سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى |
|
إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا |
وَآسىٰ الرِّجالَ الصّالِحينَ بِنَفْسِهِ |
|
وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما |
فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ |
|
كَفَىٰ بِكَ عَاراً أَنْ تَذِلَّ وتُرْغَمَا (١) |
لقد مضيت يا أبا الأحرار قدماً إلى الموت بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ولم تلن لاُولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات .
النبأ المفجع بشهادة عبد الله
وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى ( زبالة ) (٢) ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر ، الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة .
فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس : اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الإمام الحسين عليهالسلام ـ ابن الكذّاب ، حتّى أرى رأيي فيك (٣) .
وظنّ ابن مرجانة أنّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلّاديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاُمّة .
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ ـ ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ . الدرّ النظيم : ٥٤٩ .
(٢) زُباله ـ بضمّ أوّله ـ : وهو منزل معروف بطريق مكة من الكوفة ، وهي قرية عامرة لها أسواق بين واقصة والثعلبية . معجم البلدان : ٣ : ١٤٥ .
(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٨ .
واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً : أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعي .
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم ، وسلب حريّته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة ، وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة (١) .
ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتّبعوه طلباً للعافية لا للحقّ ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني اُميّة قائلاً :
بِسْمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ
« أَمّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَانَا خَبَرٌ فَظِيعٌ قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ ، وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ ، وَعَبدُ اللهِ بْنُ يَقْطُرٍ ، وَقَدْ خَذَلَنا شِيعَتُنا ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ الْإِنْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ وَلَا ذِمامٌ » (٢) .
وتفرّق ذوو الأطماع الذين اتّبعوه من أجل الغنيمة والظفر ببعض مناصب الدولة ، وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجّدين الذين اتّبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أيّة أطماع .
لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٧١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٧٩ . تاريخ الاُمم والملوك ٤ : ٣٠١ .
(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٥ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠١ .
إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وأنّ من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الإمام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه .
لقد كان الإمام عليهالسلام ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلّي عنه في كلّ موقف ، والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر .
الالتقاء بالحرّ
وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتّى انتهى إلى ( شراف ) (١) وفيها عين ماء ، فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير ، فاستغرب الإمام منه ، وقال له : اللهُ أَكْبَرُ ، لِمَ كَبَّرْتَ ؟!
ـ رأيت النخل .
وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممّن عرف الطريق ، فقال له : ليس هاهنا نخل ، ولكنّها أسنة الرماح ، وآذان الخيل .
وتأملها الإمام فطفق يقول : وَأَنا أَرَىٰ ذَلِكَ ، أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ، وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه ، فقال لأصحابه : أَما لَنا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ فَنَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنا ، ونَستَقْبِلُ القَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق ، فقال له : بلى هذا ( ذو حُسَم ) (٢) إلى
__________________________
(١) شَرَاف ـ بفتح أوّله ـ : ماء بنجد بين واقصة والقرعاء . معجم البلدان : ٣ : ٣٧٥ .
(٢) حُسَم ـ بضمّ الحاء وفتح السين ـ : اسم موضع ، وقد ذكره لبيد في شعره :
لِيَبْكِ عَلَى النُّعْمَانِ شَرْبٌ وَقَينَةٌ |
|
وَمُخْبِطَاتٌ كَالسَّعَالِي أَرَامِلُ |
بِذِي حُسَمٍ قَدْ عُرِّيَتْ وَيَزِينُها |
|
دِمَاثُ فُلَيجٍ رَهْوها وَالمَحَافِلُ |
=
جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد (١) .
ومال موكب الإمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتّى أدركه جيش مكثّف بقيادة الحرّ ابن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الإمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس ، فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وسقى الآخر حتّى سقوها عن آخرها (٢) .
لقد تكرّم الإمام عليهالسلام على أُولئك الوحوش الأنذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الأريحيّة وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله ، حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ .
خطاب الامام عليهالسلام في الجيش
وخطب الإمام عليهالسلام خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وإنّما جاءهم محرّراً ومنقذاً لهم من جور الأمويّين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف :
__________________________
= معجم البلدان : ٢ : ٢٥٨ . وفي بعض المصادر : ( ذو جشم ) ، ( ذو حُسمَىٰ ) .
(١) الإرشاد : ٢ : ٧٦ و ٧٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ .
(٢) الإرشاد : ٢ : ٧٧ و ٧٨ . الأخبار الطوال : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٣ . الخطط المقريزية : ١ : ٤٢٩ .
أَيُّها النّاسُ ، إِنَّها مَعْذِرَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَيْكُمْ ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِها عَلَيَّ رُسُلُكُمْ أَنْ أقْدِمْ عَلَيْنا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدَىٰ ، فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْتُكُمْ ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنَّ بِهِ مِنْ عُهُودِكُمْ وِمِواثِيقِكُمْ أَقْدِمُ مِصْرَكُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كارِهِينَ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيكُمْ .
وأحجموا عن الجواب لأنّ أكثرهم ممّن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل .
وحضر وقت صلاة الظهر ، فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الإمام إلى الحرّ ، فقال له : أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحابِكَ ؟
فقال الحرّ بأدب : « بلى نصلّي بصلاتك .
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى أخبيتهم ، ولمّا حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالإمام في الصلاة ، وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسين عليهالسلام خطاباً رائعاً ، فقد قال ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ :
أَمّا بَعْدُ أَيُّها النَاسُ ، إِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ ، وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضَىٰ للهِ عَنْكُمْ ، ونَحنُ أَهْلُ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَأَوْلىٰ بِوِلَايَةِ هٰذَا الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هٰؤُلَاءِ الْمُدَّعينَ ما لَيْسَ لَهُمْ ، وَالسّائِرينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا كَراهِيَةً لَنا ، وَالْجَهْلَ بِحَقِّنا ، فَكانَ رَأْيُكُمُ الْآنَ عَلَىٰ غَيرِ ما أَتَتْنِي بِهِ كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَىَّ رُسُلُكُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ (١) .
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فإنّ في ذلك رضاً لله
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٧٩ و ٨٠ . اللهوف : ٤٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ .
ونجاة لأنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهمالسلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام ، وهم أوْلى وأحقّ بولاية اُمور المسلمين من بني اُميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم ، فإنّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه .
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام ، فقال له : ما هذه الكتب التي تذكرها ؟
فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها ، فأخرج خرجين مملوئين صحفاً ، فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للإمام : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك .
ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه ، فمنعه الحرّ ، وقال له : إنّي لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى اُقدمك الكوفة على ابن زياد .
ولذعت الإمام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به : الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِن ذَلِكَ .
وأمر الإمام أصحابه بالركوب ، فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجّه إلى يثرب ، فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين : ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ ما تُرِيدُ ؟
وأطرق الحرّ برأسه إلى الأرض وتأمّل ، ثمّ رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب : ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه .
وسكن غضب الإمام ، وأعاد عليه القول : ما تُرِيدُ مِنَّا ؟
ـ اُريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد .
ـ وَاللهِ لَا أَتَّبِعُكَ .
ـ إذن والله لا أدعك .
إنّي لم اُؤمر بقتالك ، وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك (١) .
واتّفقا على هذا الأمر ، فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسيّة ، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الإمام عن كثب ويراقبه أشدّ ما تكون المراقبة .
خطاب الإمام عليهالسلام
وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) (٢) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات :
أَيُّها النَاسُ ، إِنَّ رَسولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله قالَ : مَنْ رَأَىٰ سُلْطاناً جَائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرَمِ اللهِ ، ناكِثاً لعَهْدِ اللهِ ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلىاللهعليهوآله يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ كانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ .
أَلَا وَإِنَّ هٰؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ وتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمٰنِ ، وَأَظْهَرُوا الْفَسادَ ، وعَطَّلُوا الْحُدُودَ ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ ، وَأَحَلُّوا حَرامَ اللهِ ، وحَرَّمُوا حَلَالَهُ ، وَأَنا أَحَقُّ مِمَّنْ غَيَّرَ (٣) ، وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لَا تُسْلِمُونِي ،
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٠ و ٣٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الفتوح : ٥ : ٧٨ ـ ٧٩ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .
(٢) البيضة : ـ بكسر الباء ـ : موضع بين العذيب وواقصة في أرض الحزن من ديار بني يربوع ابن حنظلة . معجم البلدان : ١ : ٦٣١ ـ ٦٣٢ .
(٣) وفي الفتوح : ٥ : ٨١ : « وَأَنَا أَحَقُّ مِن غَيْرِي بِهٰذَا الْأَمْرِ ؛ لِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلىاللهعليهوآله » .
وَلَا تَخْذُلُونِي ، فَإِنْ أَقَمْتُمْ عَلَىٰ بَيْعَتِكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ وَأَنا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلىاللهعليهوآله ، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي ، فَلَعَمْرِي ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوها بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ ، فَالْمَغْرُورُ مَن اغْتَرَّ بِكُمْ ، فَحَظُّكُمْ أَخْطَأْتُمْ ، وَنَصِيبُكُمْ ضَيَّعْتُمْ ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ، وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ ، وَالسَّلامُ (١) .
وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وأنّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصيّة الخاصّة ، وإنّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأي حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإنّ من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فإنّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره .
كما ندّد عليهالسلام بالأمويّين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والإمام عليهالسلام أحقّ وأوْلى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلاميّة المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين .
وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون .
ولمّا أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ ، فقال له : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ .
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً : أَفَبِالْمَوتِ تُخَوِّفُنِي ؟! وَهَلْ يَعدُو بِكُمُ الْخَطْبُ أَنْ
__________________________
(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ و ٣٠٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٠ .