باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
ورافق أبو الفضل العبّاس عليهالسلام الثورة الإسلاميّة الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالميّة ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الأرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الإنسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبيّة من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان .
وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابيّة وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً .
لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لأمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدّقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثمّ إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كلّ موقف من ثورة الإمام الحسين عليهالسلام ، كان العبّاس معه وشريكاً له .
ونتحدّث عن بعض الفصول التاريخيّة لهذه الثورة العظمى التي كان العبّاس العلم البارز فيها .
رفض الإمام الحسين عليهالسلام لبيعة يزيد
وأعلن الإمام الحسين عليهالسلام رسميّاً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه
حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الإمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس خارج الدار ، فإذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لإنقاذه ، ودخل الإمام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثمّ نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامّة ، ومن الحسين خاصّة ، فاستمهله الإمام حتّى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد : لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإن بايع ، وإلّا ضربت عنقه .
ووثب أبيّ الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له : « يا بن الزَّرْقاءِ ، أَأَنْتَ تَقْتُلَنِي أَمْ هُوَ ؟ كَذِبْتَ وَاللهِ وَلَؤُمْتَ » (١) .
ثمّ التفت أبو الأحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً :
« أَیُّهَا الْأَمِیرُ ، إِنّا أَهْلُ بَیْتِ النُّبُوَّةِ ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ ، وَمُخْتَلَفُ المَلَائِکَةِ ، وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ ، وَبِنا فَتَحَ اللهُ وَبِنَا خَتَمَ ، وَیَزِیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ فاجِرٌ ، شَارِبُ خَمْرٍ ، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ ، مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ ، وَمِثْلِي لَا یُبایعُ مِثْلَهُ ، وَلَکِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَیُّنا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ وَالْبَیْعَةِ » (٢) .
__________________________
(١) الإرشاد / المفيد :٢: ٣٣ . وقعة الطفّ / أبو مِخنف : ٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٥١ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٦٤ .
(٢) اللهوف : ١٠ . مثير الأحزان : ٢٣ و ٢٤ . عوالم العلوم : ١٧ : ١٧٤ . الفتوح : ٥ : ١٤ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ١ : ١٨٤ .
لقد أعلن الإمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الإمارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم ارهابي عنيف يستهدف إذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون .
لقد كان أبو الأحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبوديّة ، وعصف بالعقيدة الإسلاميّة في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الأعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الإسلام عالية في الأرض .
إلى مكّة المكرّمة
وصمّم أبو الأحرار على مغادرة يثرب والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الأموي الذي يمثّل الجاهليّة بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه صلىاللهعليهوآله وهو ، حزين قد أحاطت به الأزمات ، فشكا إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى .
ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء اُمّه الزكيّة ، فألقى عليها نظرات الوداع الأخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمّد عليهالسلام .
ثمّ توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الأمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه .
وسلك أبو الأحرار في
مسيره الطريق العامّ ، فأشار عليه بعض مَن كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة ، فأجابه بكلّ
شجاعة وثقة في النفس : « لَا وَاللهِ ، لَا فارَقْتُ هَذا الطَّرِيقَ أَبَداً ، أَوْ أَنْظُرُ إِلَى أَبْياتِ مَكَّةَ أَوْ يَقْضِيَ اللهُ فِي ذَلِكَ ما يُحِبُّ وَ يَرْضَى » (١) .
وانتهى ركب الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان ، وحطّ في دار العبّاس بن عبد المطّلب ، وقد احتفى به المكّيّون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّة ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم .
كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الإمام عليهالسلام لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي السياسي والديني في نفوس زائريه من المكّيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الأموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديّتهم .
فزع السلطة بمكّة
وفزعت السلطة المحلّيّة بمكّة من قدوم الإمام إليها ، واتّخاذها مقرّاً لدعوته ، ومركزاً لإعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الإمام ، وسمع ما يقولونه إنّ الإمام أوْلى بالخلافة الإسلاميّة ، وأحقّ بها من آل أبي سفيان ، الذين لا يرجون لله وقاراً ، فخفّ مسرعاً نحو الإمام فقال له بغيظ : ما أقدمك إلى البيت الحرام ؟ وكأنّ بيت الله العظيم ملك لبني اُميّة ، وليس هو لجميع المسلمين .
فأجابه الإمام بثقة وهدوء : « عائِذاً بِاللهِ ، وَبِهٰذَا الْبَيْتِ » (٢) .
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ٢٢ . المنتظم : ٥ : ٣٢٧ . ينابيع المودّة : ٣ : ٥٥ .
(٢) تذكرة الخواص : ٢١٤ .
حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الأشدق ، فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عبّاس يتهدّد فيها الحسين عليهالسلام على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لإصلاح الأمر وحجب الحسين عليهالسلام عن مناهضته .
فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين عليهالسلام ، وأنّه إنّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّيّة في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه .
ومكث الإمام عليهالسلام في مكّة والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الأمويّين ، وكانت مباحث الأمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسيّة ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه .
تحرّك الشيعة في الكوفة
وحينما اُشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته ، وعقدوا مؤتمراً شعبيّاً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسيّة فيها ، وقد عرضوا بصورة شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الإمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الإمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الأموي ، ويبسط في بلادهم الأمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الإسلاميّة كما كانت أيّام أبيه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام .
وكان من بين ذلك الوفد عبد الله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الإمام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم .
رسائل الكوفة
ولم يكتف الكوفيّون بالوفد الذي بعثوه إلى الإمام ، وإنّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وأنّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والإسلام التي هي غاية آمالهم ، وحمّلوا الإمام المسؤوليّة أمام الله والتاريخ إن لم يستجب لدعوتهم .
ورأى الإمام عليهالسلام أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعيّة ، وأنّ الواجب يحتّم عليه إجابتهم .
إيفاد مسلم إلى الكوفة
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرّز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وكانت مهمّته خاصّة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيّين ، ومعرفة أمرهم ، فإن صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن .
ومضى مسلم يجدّ في السير لا يلوي على شيء ، حتّى انتهى إلى الكوفة ، فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسيّة واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامّة بالشؤون النفسيّة والاجتماعيّة ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة .
ولمّا علمت الشيعه
بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدّمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفّوا حوله طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام
الحسين عليهالسلام ، واستجاب لهم مسلم ، ففتح سجلّاً للمبايعين ، وقد أحصي عددهم في الأيّام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كلّ يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاُمّة .
ومن الجدير بالذكر أنّ السلطة المحلّيّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتّخذ أي إجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار ، ومضافاً إلى ذلك فإنّ ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه .
ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويّين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتّصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكمٍ حازمٍ يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الأمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاصّ سرجون ، وكان دبلوماسيّاً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتوليه الارهابي عبيد الله بن زياد ، فإنّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانيّة ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة والقضاء على مسلم .
ابن زياد إلى الكوفة
وحينما تسلّم ابن
زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الإمام الحسين عليهالسلام ، وحينما
أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانيّة ، وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيّين أنّه الإمام الحسين عليهالسلام ، وقد اعتقدوا بذلك ، فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك أشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره فيُقتل .
ولمّا انتهى إلى قصر الإمارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه ، فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنّه الإمام الحسين عليهالسلام ، فانبرى يخاطبه بلطف هاتفاً : « ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب » .
فصاح به ابن مرجانة : افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك .
وعرّفه بعض مَن كان خلفه فصاح بالجماهير : إنّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة .
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم ، فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الأمويّين أمثال عمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمّد بن الأشعث ، وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدّثونه عن الثورة ، ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها .
ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الأعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصية بالعقاب الصارم ، ثمّ عمد إلى نشر الخوف والارهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملأ السجون بالمعتقلين ، واتّخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد .
ولمّا علم مسلم بقدوم
ابن مرجانة ، وما قام به من الأعمال الارهابيّة تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ،
وقد عرف بالولاء والمودّة لأهل البيت عليهمالسلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ،
ورحّب به أعظم ما يكون الترحيب ، وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتّخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها .
المخطّطات الرهيبة
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخطّطات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسيّة والتغلّب على الأحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخطّطات التي تمّ تنفيذها ما يلي :
التجسّس على مسلم عليهالسلام
وأوّل بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسّس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسيّة ، والإحاطة بنقاط الضعف والقوّة عنده ، والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث .
وقد اختار للقيام بهذه المهمّة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكيّاً ، ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتّصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنّه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيت عليهمالسلام ، وإنّه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أنّ داعية الإمام الحسين عليهالسلام قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وإنّ عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .
ومضى معقل في مهمّته
، وجعل يفتّش عمّن له معرفة بسفير الحسين ، فاُرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيّين في الثورة ، فاتّصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت عليهمالسلام ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين عليهالسلام ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال
منه ، وجعل يتردّد عليه في كلّ يوم ، فكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ،
وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها ، وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفيّاً إلى سيّده ابن مرجانة ، وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها .
اعتقال هانئ
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخطّطاته ، فقد قام باعتقال هانئ بن عروة سيّد الكوفة ، والزعيم الأوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الأكثريّة الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والارهاب عند جميع الكوفيّين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة ، فقد استولى الرعب والفزع على أنصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسيّة ساحقة .
وعلى أي حال ، فإنّ هانئ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف ، وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده ، لأنّه أحاط أمره بكثير من السريّة والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل .
فلمّا حضر سقط ما في يد هانئ ، وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالأسد ساخراً من ابن زياد ، ومتمرّداً على سلطته ، فامتنع أشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه ، لأنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثمّ أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرّم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتّى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته ، حتّى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثمّ أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر .
انتفاضة مذحج
ولمّا شاع اعتقال
هانئ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الإمارة ، وقد قاد جموعها
الانتهازي القذر عمرو بن الحجّاج ، وهو من أذناب السلطة ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة .
وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لإنقاذ هانئ ، وإنّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعّاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الأموي ، فأمره أن يدخل على هانئ ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم ، وأنّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ ، فلمّا بصر به صاح مستجيراً : يا للمسلمين أهلكت عشيرتي ! أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر أيخلّوني وعدوّهم ؟
والتفت إلى شريح وقد سمع أصوات اُسرته قائلاً : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل علَيَّ عشرة نفر أنقذوني .
وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج : نظرت إلى صاحبكم ، إنّه حيّ لم يقتل .
وبادر ابن الحجّاج عميل الأمويّين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً : إذا لم يقتل فالحمد لله .
وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما اُتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أنّ هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتّفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانئ ، ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته .
لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً إليها ، فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الارهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أنّ مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة .
ثورة مسلم عليهالسلام
ولمّا علم مسلم ما جرى على هانئ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى إعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبد الله ابن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ـ كما في رواية اُخرى ـ وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت » .
وقام مسلم بتنظيم جيشه ، فأسند القيادات العامّة إلى مَن عُرفوا بالولاء والإخلاص لأهل البيت عليهمالسلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الإمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كلّ من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه ، فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فاُخبر أنّ مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف ، وضاقت عليه الدنيا ، إذ لم تكن عنده قوّة عسكريّة تحميه سوى ثلاثين شرطيّاً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للأمويّين .
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الأعلام والسيوف ، ودقّت طبول الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك ، إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد .
حرب الأعصاب
وأمعن الطاغية في
أقرب الوسائل وأكثرها ضماناً لإنقاذه ، فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيّين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف
جيش مسلم ، فيذيعون الارهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الأراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي :
١ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وأنّها سوف تنكّل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم .
٢ ـ إنّ الحكومة سوف تقطع مرتّباتهم ، وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصاديّة .
٣ ـ إنّ الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام .
٤ ـ إنّ الحكومة ستعلن فيهم الأحكام العرفيّة ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل إشارات الموت والدمار .
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم ، واضطربت قلوبهم ، وجبنوا أبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم وهم يقولون : ما لنا والدخول بين السلاطين .
ولم يمض قليل من الوقت حتّى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة ، وقصد بهم نحو الجامع الأعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتّى انهزموا جميعاً ، ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيّون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أنّ ولاءهم لأهل البيت عليهمالسلام كان عاطفيّاً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم ، وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم .
وسار مسلم فخر بني
هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقيّة الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارّة ،
كأنّما اُعلن فيها منع التجوّل ، فقد أغلق الكوفيّون عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث
الأمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم
للتنكيل وسوء العذاب .
في ضيافة طوعة
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى أين مأواه وملجأه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الألم العاصف ، واستبان له أنّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانتهى به السير إلى سيّدة كريمة يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانيّة وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الأحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة : ما حاجتك ؟
ـ اسقيني ماءاً .
وبادرت السيّدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثمّ جلس فارتابت منه ، فقالت له : ألم تشرب الماء ؟
ـ بلى .
ـ اذهب إلى أهلك إنّ مجلسك مجلس ريبة .
وسكت مسلم ، فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ، ومسلم ساكت ، فذعرت منه وصاحت به : سبحان الله ! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على بابي .
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي اُكافئك بعد هذا اليوم .
وشعرت المرأة بأنّ
الرجل غريب ، وأنّه ذو شأن كبير ، ومكانة عظمى ،
وأنّه سيقوم بمكافأتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً ، فبادرته قائلة : ما ذاك يا عبد الله ؟!
فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني القوم وغرّوني .
فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار : أنت مسلم بن عقيل ؟
ـ نعم .
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها ، وقد حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم ، وسفير ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وتحمّلت المسؤوليّة من السلطة بضيافتها له .
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الأسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الأحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الإمام الحسين عليهالسلام الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وأنّه سيلاقي ما لاقاه .
ولم يمض قليل من الوقت حتّى قدم بلال ابن السيّدة طوعة ، فرأى اُمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب ، فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه الأيمان والمواثيق بالكتمان .
وطارت نفس الخبيث
فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الأعراف ، والأخلاق العربيّة التي تلزم بقِرى الضيف ، وحمايته من كلّ مكروه ، وكانت هذه الظاهرة سائدة حتّى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ليس عنده فحسب ، وإنّما في أغلبيّة ذلك المجتمع الذي فقدَ جميع ما يسمو به
الإنسان من القيم الكريمة .
وعلى أي حال ، فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أنّ تلك الليلة هي آخر أيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام في منامه ، فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ الأجل المحتوم منه .
الإفشاء بمسلم عليهالسلام
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الإمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، وهو من الاُسرة الانتهازيّة الخبيثة التي طلّقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسرّه بالأمر ، فأمره بالسكوت لئلّا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد فأخبره بالأمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أنّ هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً : ما قال لك عبد الرحمن ؟
فقال ـ وقد ملأ الفرح إهابه ـ : أصلح الله الأمير ، البشارة العظمى .
ـ ما ذاك ؟ مثلك من بشّر بخير .
ـ إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلماً في دار طوعة .
وطار ابن زياد من الفرح والسرور ، فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لأمويّته اللصيقة ، وأخذ يمنّي ابن الأشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له : قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى .
وسال لعاب ابن الأشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لإلقاء القبض على مسلم .
الهجوم على مسلم عليهالسلام
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم عليهالسلام ، محمّد بن الأشعث وعمرو بن حريث المخزومي ، وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحرّرهم من الذلّ والعبوديّة ، وينقذهم من ظلم الأمويّين وجورهم .
ولمّا قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم عليهالسلام أنّها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ولبس درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة ، فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنّه إنّما اُتي إليه من قِبل ابنها الباغي اللئيم .
واقتحم الجيش الدار على مسلم عليهالسلام فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه ، فحمل عليهم وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التاريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين (١) ، عدا الجرحى ، وكان من قوّته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر (٢) .
ومن المؤكّد أنّه ليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوّة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أشجع الناس ، وأقواهم بأساً ، وأشدّهم عزيمة .
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح
__________________________
(١) مناقب آل أبي طالب : ٢ : ٢١٢ .
(٢) الدرّ النضيد : ١٦٤ . نفس المهموم : ٥٧ .
بيوتهم ، وممّا لا ريب فيه أنّ الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم ، ولكنّها كانت في الأزقّة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندّد بقيادة ابن الأشعث قائلاً : سبحان الله ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به ، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة .
وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً :
أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ، وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام .
وأمدّه ابن زياد بقوّة مكثّفة من الجيش ، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز :
أَقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إلَّا حُرَّا |
|
وَإِنْ رَأَيْتُ المَوتَ شَيئاً نُكْرَا |
كُلُّ امرِئٍ يَومَاً مُلَاقٍ شَرَّا |
|
أَو يُخلَطُ البَارِدُ سُخْنَاً مُرّا |
رُدَّ شِعاعُ الشَّمسِ فاستَقَرّا |
|
أَخافُ أَنْ أُكذَبَ أَوْ أُغَرَّا (١) |
أمّا أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاُباة والأحرار ، فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحريّة ، وأمّا خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبوديّة والذلّ ، لقد أردت أن تحرّرهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيّتهم ، ومقوّمات حياتهم .
ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار
__________________________
(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٨٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .