العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

باقر شريف القرشي

العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagespage0121.png

١٢١
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMawsouah-Syrah-Ahl-Bayt-part37imagesrafed.jpg

١٢٢
 &



ورافق أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام الثورة الإسلاميّة الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالميّة ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الأرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الإنسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبيّة من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان .

وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابيّة وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً .

لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لأمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدّقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثمّ إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كلّ موقف من ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام ، كان العبّاس معه وشريكاً له .

ونتحدّث عن بعض الفصول التاريخيّة لهذه الثورة العظمى التي كان العبّاس العلم البارز فيها .

رفض الإمام الحسين عليه‌السلام لبيعة يزيد

وأعلن الإمام الحسين عليه‌السلام رسميّاً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه

١٢٣
 &

حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الإمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس خارج الدار ، فإذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لإنقاذه ، ودخل الإمام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثمّ نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامّة ، ومن الحسين خاصّة ، فاستمهله الإمام حتّى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد : لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإن بايع ، وإلّا ضربت عنقه .

ووثب أبيّ الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له : « يا بن الزَّرْقاءِ ، أَأَنْتَ تَقْتُلَنِي أَمْ هُوَ ؟ كَذِبْتَ وَاللهِ وَلَؤُمْتَ » (١) .

ثمّ التفت أبو الأحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً :

« أَیُّهَا الْأَمِیرُ ، إِنّا أَهْلُ بَیْتِ النُّبُوَّةِ ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ ، وَمُخْتَلَفُ المَلَائِکَةِ ، وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ ، وَبِنا فَتَحَ اللهُ وَبِنَا خَتَمَ ، وَیَزِیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ فاجِرٌ ، شَارِبُ خَمْرٍ ، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ ، مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ ، وَمِثْلِي لَا یُبایعُ مِثْلَهُ ، وَلَکِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَیُّنا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ وَالْبَیْعَةِ » (٢) .

__________________________

(١) الإرشاد / المفيد :٢: ٣٣ . وقعة الطفّ / أبو مِخنف : ٨١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٥١ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٦٤ .

(٢) اللهوف : ١٠ . مثير الأحزان : ٢٣ و ٢٤ . عوالم العلوم : ١٧ : ١٧٤ . الفتوح : ٥ : ١٤ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ١٨٤ .

١٢٤
 &

لقد أعلن الإمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الإمارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم ارهابي عنيف يستهدف إذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون .

لقد كان أبو الأحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبوديّة ، وعصف بالعقيدة الإسلاميّة في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الأعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الإسلام عالية في الأرض .

إلى مكّة المكرّمة

وصمّم أبو الأحرار على مغادرة يثرب والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الأموي الذي يمثّل الجاهليّة بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ، حزين قد أحاطت به الأزمات ، فشكا إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى .

ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء اُمّه الزكيّة ، فألقى عليها نظرات الوداع الأخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمّد عليه‌السلام .

ثمّ توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الأمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه .

وسلك أبو الأحرار في مسيره الطريق العامّ ، فأشار عليه بعض مَن كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة ، فأجابه بكلّ

١٢٥
 &

شجاعة وثقة في النفس : « لَا وَاللهِ ، لَا فارَقْتُ هَذا الطَّرِيقَ أَبَداً ، أَوْ أَنْظُرُ إِلَى أَبْياتِ مَكَّةَ أَوْ يَقْضِيَ اللهُ فِي ذَلِكَ ما يُحِبُّ وَ يَرْضَى » (١) .

وانتهى ركب الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان ، وحطّ في دار العبّاس بن عبد المطّلب ، وقد احتفى به المكّيّون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّة ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم .

كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الإمام عليه‌السلام لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي السياسي والديني في نفوس زائريه من المكّيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الأموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديّتهم .

فزع السلطة بمكّة

وفزعت السلطة المحلّيّة بمكّة من قدوم الإمام إليها ، واتّخاذها مقرّاً لدعوته ، ومركزاً لإعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الإمام ، وسمع ما يقولونه إنّ الإمام أوْلى بالخلافة الإسلاميّة ، وأحقّ بها من آل أبي سفيان ، الذين لا يرجون لله وقاراً ، فخفّ مسرعاً نحو الإمام فقال له بغيظ : ما أقدمك إلى البيت الحرام ؟ وكأنّ بيت الله العظيم ملك لبني اُميّة ، وليس هو لجميع المسلمين .

فأجابه الإمام بثقة وهدوء : « عائِذاً بِاللهِ ، وَبِهٰذَا الْبَيْتِ » (٢) .

ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٢٢ . المنتظم : ٥ : ٣٢٧ . ينابيع المودّة : ٣ : ٥٥ .

(٢) تذكرة الخواص : ٢١٤ .

١٢٦
 &

‌حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الأشدق ، فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عبّاس يتهدّد فيها الحسين عليه‌السلام على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لإصلاح الأمر وحجب الحسين عليه‌السلام عن مناهضته .

فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين عليه‌السلام ، وأنّه إنّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّيّة في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه .

ومكث الإمام عليه‌السلام في مكّة والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الأمويّين ، وكانت مباحث الأمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسيّة ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه .

تحرّك الشيعة في الكوفة

وحينما اُشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته ، وعقدوا مؤتمراً شعبيّاً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسيّة فيها ، وقد عرضوا بصورة شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الإمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الإمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الأموي ، ويبسط في بلادهم الأمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الإسلاميّة كما كانت أيّام أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وكان من بين ذلك الوفد عبد الله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الإمام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم .

١٢٧
 &

رسائل الكوفة

ولم يكتف الكوفيّون بالوفد الذي بعثوه إلى الإمام ، وإنّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وأنّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والإسلام التي هي غاية آمالهم ، وحمّلوا الإمام المسؤوليّة أمام الله والتاريخ إن لم يستجب لدعوتهم .

ورأى الإمام عليه‌السلام أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعيّة ، وأنّ الواجب يحتّم عليه إجابتهم .

إيفاد مسلم إلى الكوفة

ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرّز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وكانت مهمّته خاصّة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيّين ، ومعرفة أمرهم ، فإن صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن .

ومضى مسلم يجدّ في السير لا يلوي على شيء ، حتّى انتهى إلى الكوفة ، فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسيّة واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامّة بالشؤون النفسيّة والاجتماعيّة ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة .

ولمّا علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدّمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفّوا حوله طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام

١٢٨
 &

الحسين عليه‌السلام ، واستجاب لهم مسلم ، ففتح سجلّاً للمبايعين ، وقد أحصي عددهم في الأيّام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كلّ يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاُمّة .

ومن الجدير بالذكر أنّ السلطة المحلّيّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتّخذ أي إجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار ، ومضافاً إلى ذلك فإنّ ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه .

ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويّين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتّصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكمٍ حازمٍ يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الأمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاصّ سرجون ، وكان دبلوماسيّاً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتوليه الارهابي عبيد الله بن زياد ، فإنّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانيّة ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة والقضاء على مسلم .

ابن زياد إلى الكوفة

وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الإمام الحسين عليه‌السلام ، وحينما

١٢٩
 &

أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانيّة ، وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيّين أنّه الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد اعتقدوا بذلك ، فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك أشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره فيُقتل .

ولمّا انتهى إلى قصر الإمارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه ، فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنّه الإمام الحسين عليه‌السلام ، فانبرى يخاطبه بلطف هاتفاً : « ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب » .

فصاح به ابن مرجانة : افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك .

وعرّفه بعض مَن كان خلفه فصاح بالجماهير : إنّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة .

وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم ، فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الأمويّين أمثال عمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمّد بن الأشعث ، وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدّثونه عن الثورة ، ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها .

ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الأعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصية بالعقاب الصارم ، ثمّ عمد إلى نشر الخوف والارهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملأ السجون بالمعتقلين ، واتّخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد .

ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الأعمال الارهابيّة تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ،

١٣٠
 &

ورحّب به أعظم ما يكون الترحيب ، وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتّخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها .

المخطّطات الرهيبة

واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخطّطات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسيّة والتغلّب على الأحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخطّطات التي تمّ تنفيذها ما يلي :

التجسّس على مسلم عليه‌السلام

وأوّل بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسّس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسيّة ، والإحاطة بنقاط الضعف والقوّة عنده ، والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث .

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكيّاً ، ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتّصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنّه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيت عليهم‌السلام ، وإنّه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أنّ داعية الإمام الحسين عليه‌السلام قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وإنّ عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .

ومضى معقل في مهمّته ، وجعل يفتّش عمّن له معرفة بسفير الحسين ، فاُرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيّين في الثورة ، فاتّصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت عليهم‌السلام ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين عليه‌السلام ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كلّ يوم ، فكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ،

١٣١
 &

وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها ، وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفيّاً إلى سيّده ابن مرجانة ، وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها .

اعتقال هانئ

وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخطّطاته ، فقد قام باعتقال هانئ بن عروة سيّد الكوفة ، والزعيم الأوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الأكثريّة الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والارهاب عند جميع الكوفيّين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة ، فقد استولى الرعب والفزع على أنصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسيّة ساحقة .

وعلى أي حال ، فإنّ هانئ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف ، وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده ، لأنّه أحاط أمره بكثير من السريّة والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل .

فلمّا حضر سقط ما في يد هانئ ، وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالأسد ساخراً من ابن زياد ، ومتمرّداً على سلطته ، فامتنع أشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه ، لأنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثمّ أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرّم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتّى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته ، حتّى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثمّ أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر .

انتفاضة مذحج

ولمّا شاع اعتقال هانئ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الإمارة ، وقد قاد جموعها

١٣٢
 &

الانتهازي القذر عمرو بن الحجّاج ، وهو من أذناب السلطة ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة .

وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لإنقاذ هانئ ، وإنّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعّاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الأموي ، فأمره أن يدخل على هانئ ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم ، وأنّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ ، فلمّا بصر به صاح مستجيراً : يا للمسلمين أهلكت عشيرتي ! أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر أيخلّوني وعدوّهم ؟

والتفت إلى شريح وقد سمع أصوات اُسرته قائلاً : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل علَيَّ عشرة نفر أنقذوني .

وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج : نظرت إلى صاحبكم ، إنّه حيّ لم يقتل .

وبادر ابن الحجّاج عميل الأمويّين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً : إذا لم يقتل فالحمد لله .

وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما اُتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أنّ هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتّفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانئ ، ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته .

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً إليها ، فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الارهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أنّ مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة .

١٣٣
 &

ثورة مسلم عليه‌السلام

ولمّا علم مسلم ما جرى على هانئ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى إعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبد الله ابن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ـ كما في رواية اُخرى ـ وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت » .

وقام مسلم بتنظيم جيشه ، فأسند القيادات العامّة إلى مَن عُرفوا بالولاء والإخلاص لأهل البيت عليهم‌السلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الإمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كلّ من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه ، فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فاُخبر أنّ مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف ، وضاقت عليه الدنيا ، إذ لم تكن عنده قوّة عسكريّة تحميه سوى ثلاثين شرطيّاً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للأمويّين .

وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الأعلام والسيوف ، ودقّت طبول الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك ، إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد .

حرب الأعصاب

وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل وأكثرها ضماناً لإنقاذه ، فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيّين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف

١٣٤
 &

جيش مسلم ، فيذيعون الارهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الأراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي :

١ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وأنّها سوف تنكّل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم .

٢ ـ إنّ الحكومة سوف تقطع مرتّباتهم ، وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصاديّة .

٣ ـ إنّ الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام .

٤ ـ إنّ الحكومة ستعلن فيهم الأحكام العرفيّة ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل إشارات الموت والدمار .

وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم ، واضطربت قلوبهم ، وجبنوا أبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم وهم يقولون : ما لنا والدخول بين السلاطين .

ولم يمض قليل من الوقت حتّى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة ، وقصد بهم نحو الجامع الأعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتّى انهزموا جميعاً ، ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيّون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أنّ ولاءهم لأهل البيت عليهم‌السلام كان عاطفيّاً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم ، وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم .

وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقيّة الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارّة ، كأنّما اُعلن فيها منع التجوّل ، فقد أغلق الكوفيّون عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم

١٣٥
 &

للتنكيل وسوء العذاب .

في ضيافة طوعة

وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى أين مأواه وملجأه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الألم العاصف ، واستبان له أنّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانتهى به السير إلى سيّدة كريمة يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانيّة وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الأحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه‌ السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة : ما حاجتك ؟

ـ اسقيني ماءاً .

وبادرت السيّدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثمّ جلس فارتابت منه ، فقالت له : ألم تشرب الماء ؟

ـ بلى .

ـ اذهب إلى أهلك إنّ مجلسك مجلس ريبة .

وسكت مسلم ، فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ، ومسلم ساكت ، فذعرت منه وصاحت به : سبحان الله ! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على بابي .

ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي اُكافئك بعد هذا اليوم .

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب ، وأنّه ذو شأن كبير ، ومكانة عظمى ،

١٣٦
 &

وأنّه سيقوم بمكافأتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً ، فبادرته قائلة : ما ذاك يا عبد الله ؟!

فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني القوم وغرّوني .

فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار : أنت مسلم بن عقيل ؟

ـ نعم .

وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها ، وقد حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم ، وسفير ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمّلت المسؤوليّة من السلطة بضيافتها له .

وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الأسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الأحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الإمام الحسين عليه‌السلام الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وأنّه سيلاقي ما لاقاه .

ولم يمض قليل من الوقت حتّى قدم بلال ابن السيّدة طوعة ، فرأى اُمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب ، فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه الأيمان والمواثيق بالكتمان .

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الأعراف ، والأخلاق العربيّة التي تلزم بقِرى الضيف ، وحمايته من كلّ مكروه ، وكانت هذه الظاهرة سائدة حتّى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ليس عنده فحسب ، وإنّما في أغلبيّة ذلك المجتمع الذي فقدَ جميع ما يسمو به

١٣٧
 &

الإنسان من القيم الكريمة .

وعلى أي حال ، فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أنّ تلك الليلة هي آخر أيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في منامه ، فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ الأجل المحتوم منه .

الإفشاء بمسلم عليه‌السلام

ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الإمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، وهو من الاُسرة الانتهازيّة الخبيثة التي طلّقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسرّه بالأمر ، فأمره بالسكوت لئلّا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد فأخبره بالأمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أنّ هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً : ما قال لك عبد الرحمن ؟

فقال ـ وقد ملأ الفرح إهابه ـ : أصلح الله الأمير ، البشارة العظمى .

ـ ما ذاك ؟ مثلك من بشّر بخير .

ـ إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلماً في دار طوعة .

وطار ابن زياد من الفرح والسرور ، فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لأمويّته اللصيقة ، وأخذ يمنّي ابن الأشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له : قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى .

وسال لعاب ابن الأشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لإلقاء القبض على مسلم .

١٣٨
 &

الهجوم على مسلم عليه‌السلام

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم عليه‌السلام ، محمّد بن الأشعث وعمرو بن حريث المخزومي ، وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحرّرهم من الذلّ والعبوديّة ، وينقذهم من ظلم الأمويّين وجورهم .

ولمّا قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم عليه‌السلام أنّها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ولبس درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة ، فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنّه إنّما اُتي إليه من قِبل ابنها الباغي اللئيم .

واقتحم الجيش الدار على مسلم عليه‌السلام فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه ، فحمل عليهم وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التاريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين (١) ، عدا الجرحى ، وكان من قوّته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر (٢) .

ومن المؤكّد أنّه ليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوّة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أشجع الناس ، وأقواهم بأساً ، وأشدّهم عزيمة .

وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح

__________________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٢ : ٢١٢ .

(٢) الدرّ النضيد : ١٦٤ . نفس المهموم : ٥٧ .

١٣٩
 &

بيوتهم ، وممّا لا ريب فيه أنّ الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم ، ولكنّها كانت في الأزقّة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندّد بقيادة ابن الأشعث قائلاً : سبحان الله ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به ، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة .

وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً :

أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ، وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام .

وأمدّه ابن زياد بقوّة مكثّفة من الجيش ، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز :

أَقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إلَّا حُرَّا

وَإِنْ رَأَيْتُ المَوتَ شَيئاً نُكْرَا

كُلُّ امرِئٍ يَومَاً مُلَاقٍ شَرَّا

أَو يُخلَطُ البَارِدُ سُخْنَاً مُرّا

رُدَّ شِعاعُ الشَّمسِ فاستَقَرّا

أَخافُ أَنْ أُكذَبَ أَوْ أُغَرَّا (١)

أمّا أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاُباة والأحرار ، فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحريّة ، وأمّا خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبوديّة والذلّ ، لقد أردت أن تحرّرهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيّتهم ، ومقوّمات حياتهم .

ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار

__________________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٢٨٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٧٣ .

١٤٠