باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
وما يكنّه من حقد وعداء للإسلام وللمسلمين ، فإنّه حينما استتبّ له الأمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الإسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عديّ ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية .
وبعدما انتهى الإمام أبو محمّد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدّون السير لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الإمام في يثرب ، وقد التفّ حوله الفقهاء والعلماء ، فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحيّة للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام .
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليهالسلام ما جرى على أخيه الزكيّ أبو محمّد عليهالسلام من المحن الشاقّة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرّفته هذه الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّه حقيقة المجتمع ، وأنّ الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينيّة أي أثر في نفوسهم .
وبهذا نطوي الحديث عن بعض الأحداث المروّعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس عليهالسلام .
وتسلّم معاوية قيادة الدولة الإسلاميّة بعد صلحه مع الإمام الحسن عليهالسلام ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلويّة التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتيّاً لحكومة النبيّ صلىاللهعليهوآله وتجسيداً حيّاً لأهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الإنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الإسلاميّة صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والأخلاق التي ينشدها الإسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الإسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبوديّة والذلّ .
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والأعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته أنّ انتصاره إنّما هو انتصار الوثنيّة بجميع مساوئها .
يقول السيّد مير عليّ الهندي : « ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشيّة الوثنيّة السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطيّة الإسلام ، وانتعشت الوثنيّة بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكّام الأمويّين من قادة جند الشام » (١) .
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الأسود إلى أزمات شاقّة وعسيرة وامتحنوا
__________________________
(١) روح الاسلام : ٢٩٦ .
أشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض بإيجاز إلى بعض ما عانوه من الكوارث .
إبادة القوى الواعية
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الإسلام ، وتصفيتها جسديّاً ، فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الإعدام ، وفيما يلي بعضهم :
١ ـ حجر بن عدي
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الإسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ، ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاُمّة العربيّة والإسلاميّة ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله ، فثار في وجه الارهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسميّاً سبّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام مفجّر الفكر والنور في دنيا الإسلام ، والمؤسّس الثاني في بناء العقيدة الإسلاميّة بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عدي حينما جابهه بالانكار على سبّه للإمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الإسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن هند ، فصدرت الأوامر منه بإعدامهم في ( مرج عذراء ) ونفّذ الجلّادون فيهم حكم الإعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الأرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين .
٢ ـ عمرو بن الحمق
ومن شهداء الإسلام
الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ،
كان أثيراً عند النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه ، فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء (١) .
وقد وعى عمرو القيم الإسلاميّة وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها أعظم ما يكون الجهاد ، ولمّا ولي الجلّاد زياد بن أبيه على الكوفة من قِبل أخيه اللّاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لأنّه من أعلام شيعة الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص (٢) ، فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه ، فأمر أن يطاف به في دمشق ، وهو أوّل رأس طيف به في الإسلام .
ثمّ أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلّا ورأس زوجها في حجرها فذعرت وكادت أن تموت ، ثمّ حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الإنسانيّة ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا ( حياة الإمام الحسن عليهالسلام ) .
٣ ـ رُشيد الهجري
رُشيد الهجري علم من أعلام الإسلام ، وقطب من أقطاب الإيمان ، وقد أخلص أشدّ ما يكون الإخلاص إلى وصيّ رسول الله صلىاللهعليهوآله وباب مدينة علمه الإمام أمير
__________________________
(١) الإصابة ٢ : ٥٢٦ .
(٢) المشاقص ـ جمع مفرده مشقص ـ : النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض .
المؤمنين عليهالسلام ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلمّا مثل عنده صاح به الباغي الأثيم : ما قال لك خليلك ـ يعني الإمام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك ؟
فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به : تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني .
فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الإمام ، فقال : أما والله لاُكذّبنّ حديثه ، خلّوا سبيله .
فخلّت الجلاوزة سبيله ، لكنّه لم يلبث إلّا قليلاً حتّى ندم على ذلك ، فأمر ، بإحضاره ، فلمّا مثل عنده صاح به : لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك ، إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه .
وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوئ بني اُميّة وجورهم ، ويحفّز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالأمر ، فأمر بقطع لسانه ، فقطع وتوفّي في الحال هذا المجاهد العظيم (١) الذي نافح عن عقيدته وولائه لأهل البيت حتّى النفس الأخير من حياته .
هؤلاء بعض أعلام الإسلام الذين صفّاهم ابن هند جسديّاً لأنّهم كانوا ينشرون القيم الإسلاميّة ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت عليهمالسلام الذين هم مصدر الوعي والفكر في الإسلام .
مناهضة أهل البيت عليهمالسلام
ولمّا استتبّ الأمر إلى معاوية سخّر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله صلىاللهعليهوآله في اُمّته ، والعصب الحسّاس في هذه
__________________________
(١) سفينة البحار : ١ : ٥٢٢ .
الاُمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به :
١ ـ افتعال الأخبار ضدّهم
وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الأخبار وافتعالها على لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الأخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الإمام الأعظم محمّد الباقر عليهالسلام أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض ، كما افتعلوا طائفة من الأخبار في ذمّ أهل البيت عليهمالسلام ، كما وضعوا أحاديث اُخرى في مدح الأمويّين ، وخلق الفضائل لهم ، وهم الذين ناجزوا الإسلام في جميع مراحل تاريخهم .
ولم تقتصر الشبكة التخريبيّة على ذلك ، وإنّما عمدت لافتعال الأخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلاميّة ، ومن المؤسف جدّاً أنّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الإسلاميّة ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها .
وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الأخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير ( اللئالي المصنوعة في الأخبار الموضوعة ) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات .
وقد سجّل المحقّق الأميني في ( الغدير ) أرقاماً لبعض الأخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث .
وعلى أي حال فإنّ من أعظم ما مُني به الإسلام من الكوارث هي الأخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للإسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام وما اُثر عنهم من الأخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الإسلام .
٢ ـ سبّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
وأعلن معاوية رسميّاً سبّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسيّاً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الأذناب والعملاء ووعّاظ السلاطين يصعّدون سبّ الإمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصّة والعامّة فحسب ، وإنّما في خطب صلاة الجمعة وسائر المناسبات الدينيّة ، معتقدين أنّ ذلك ممّا يوجب القضاء على شخصيّة الإمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبّت أيديهم .
فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولّاهم ومكّنهم من رقاب المسلمين ، فقد برز الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام على مسرح التاريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعيّة ، وأقام أركان الحقّ في الأرض .
لقد عاد الإمام في جميع الأعراف الدوليّة والسياسيّة أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأوّل حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الإنسان ، وأمّا خصومه الحقراء فهم أقزام البشريّة ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الإنسانيّة جناية لا تعدلها أيّة جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الإنسانيّة ، وتطوير الحياة العامّة في جميع مجالاتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة .
٣ ـ استخدام معاهد التعليم
واستخدم معاوية معاهد
التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهمالسلام الذين هم المركز الحسّاس في الإسلام ، وغذّت
هذه الأجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ صلىاللهعليهوآله وذرّيّته ، ولم يكن ذلك إلّا إجراء
مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ملء فم الدنيا ،
قد استوعب ذكره المعطّر جميع لغات الأرض ، وهو اُنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان ، والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو اُميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الأرض ، ولا يذكرون إلّا مع الخسران وسوء المصير .
لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخطّطاته السياسيّة المناهضة لأهل البيت عليهمالسلام واقعه السياسي الملوّث بالجرائم والآثام ، واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والإسلامي .
إشاعة الظلم
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيّين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم ، فأسرفوا باقتراف الجرائم والإساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الارهابي زياد بن أبيه ، فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الأليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والإعدام من دون إجراء أي تحقيق معهم .
فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك في بعض خطبه ، ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللّاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله .
لقد عجّت البلاد الإسلاميّة من الظلم والجور ، حتّى قال القائل : إن نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهمالسلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم ، فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسملت منهم الأعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وإنّما لولائهم لأهل البيت عليهمالسلام .
وقد شاهد أبو الفضل عليهالسلام الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت
بشيعة أهل البيت عليهمالسلام ، ممّا زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الأمويّة ، لإنقاذ الاُمّة من محنتها ، وإعادة الحياة الإسلاميّة بين المسلمين .
منح الخلافة ليزيد
واقترف معاوية أخطر جريمة في الإسلام ، فقد منح الخلافة الإسلاميّة إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرّداً من جميع القيم الإنسانيّة ، وغارقاً في الآثام والجرائم ، وكان جاهليّاً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، كما أعلن ذلك فيما اُثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ صلىاللهعليهوآله على دمشق :
لَسْتُ مِن خِندِفَ إِنْ لَمْ أَنتَقِمْ |
|
مِنْ بَنِي أَحْمَدَ مَا كَانَ فَعَلْ (١) |
هذا هو يزيد في إلحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهليّة ، وإزالة الإسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وسبيه لذراريه .
اغتيال الشخصيّات الإسلاميّة
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيّات الإسلاميّة التي لها مكانة مرموقة في العالم الإسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتّجه إليهم الأنظار ، وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم :
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ١٢٩ . مقاتل الطالبيين : ١١٩ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٥٩ . البداية والنهاية : ٨ : ١٩٤ ، ٢٠٦ ، ٢٢٧ . شذرات الذهب : ١ : ٦٩ .
١ ـ سعد بن أبي وقّاص
أمّا سعد بن أبي وقّاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشّحهم عمر إلى الخلافة الإسلاميّة ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله (١) .
٢ ـ عبد الرحمن بن خالد
أمّا عبد الرحمن بن خالد ، فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام ، وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته ، فأشاروا عليه بعبد الرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ ، فمات على أثر ذلك (٢) .
٣ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، واُشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدّم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم ، فأبى أن يقبلها ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أنّ معاوية دسّ له سمّاً فقتله (٣) .
__________________________
(١) مقاتل الطالبيّين : ٢٩ .
(٢) الاستيعاب : ٢ : ٨٣٠ . المنتظم : ٥ ٢١٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٢٥ . الأغاني : ١٦ : ٤١٧ ـ ٤١٨ ، وفيه : أنّ خالد بن المهاجر ابن أخي عبد الرحمن قد قتل الطبيب ، فأُخذ وأُتي به معاوية .
فقال له : لا جزاك الله من زائر خيراً ، قتلت طبيبي .
قال : قتلت المأمور وبقي الآمر .
(٣) الاستيعاب : ٢ : ٨٢٥ و ٨٢٦ .
٤ ـ الإمام الحسن عليهالسلام
وأقضّ الإمام الحسن عليهالسلام مضجع ابن هند ، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه ، لأنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه ، واستعرض معاوية حاشية الإمام وخاصّته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الإمام ، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام ، فهي من اُسرة لم تنجب شريفاً قطّ ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الإنسانيّة ، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها ، وقدّم لها الأموال ، ومنّاها بزواج يزيد ، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة ، فناولها سمّاً فاتكاً ، فأخذته ودسّته للإمام ، وكان صائماً ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت إلى الخبيثة ، فقال لها : قَتَلْتيني قَتَلَكِ اللهُ ، وَاللهِ لَا تُصِيبينَ مِنّي خَلَفاً ، لَقَدْ غَرَّكَ ـ يعني معاوية ـ وَسَخِرَ مِنْكِ ، يُخْزيكِ اللهُ وَيُخْزيهِ » .
وأخذ سبط النبيّ صلىاللهعليهوآله وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السمّ ، فقد تفاعل مع أجزاء بدنه ، وقد ذبلت نضارته ، واصفّر لونه ، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه ، حتّى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الأنبياء .
لقد وافاه الأجل المحتوم ، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث ، فسلب منه الخلافة ، وتتبّع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، وأسمعه سبّه وسبّ أبيه ، وأخيراً سقاه السمّ فقطّع أحشاءه .
تجهيزه عليهالسلام
وقام سيّد الشهداء عليهالسلام بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويّون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم
العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبويّ ليواروه بجواره .
فتنة الأمويّين
ولمّا جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول صلىاللهعليهوآله ليوارى إلى جنبه ثار الأمويّون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين : « أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة ، لا كان ذلك أبداً » .
واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت ، فأثاروا حفيظتها قائلين : « لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك وصاحبه » .
فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة : « لئن دفن الحسن بجوار جدّه لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها ـ » .
والتفتت إلى المشيّعين قائلة : لا تدخلوا بيتي مَن لا اُحبّ .
وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت عليهمالسلام ، ويتساءل السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ أبوها عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » ، فبيت النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وإنّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لأبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية ، وأن النبيّ صلىاللهعليهوآله كبقيّة الأنبياء يرثه ذرّيّته ، فالإمام الحسن عليهالسلام هو الذي يرثه لأنّه سبطه ، أمّا أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله فلا يرثن من البيت ، وإنّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء .
وعلى أيّ حال فقد
تمادى الأمويّون بالشرّ ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت ، فقد أوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الإمام ، فرموها
بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميّين والأمويّين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس عليهالسلام إلى مناجزة الأمويّين وتمزيقهم ، فمنعه
أخوه الإمام
الحسين عليهالسلام من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم .
وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوّة والإمامة .
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليهالسلام الأحداث المروّعة التي حلّت بأخيه الإمام أبي محمّد عليهالسلام ، فزهّدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحبّبت له الثورة والجهاد في سبيل الله .
معارضة الإمام الحسين عليهالسلام لمعاوية
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين والمعادية لأهدافهم ، قام أبو الأحرار الإمام الحسين عليهالسلام بالإنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثّف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت أجهزة الأمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسيّة المناهضة لحكومته ، ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتّخاذ الاجراءات القاسية ضدّه إن لم يستجب له .
فأجابه أبو الأحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الأحرار والمصلحين ، أمثال حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورُشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الإسلامي .
إنّ جواب الإمام أبي
الشهداء من ألمع الوثائق السياسيّة ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الأحداث الرهيبة التي جرت أيّام
حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية (١) .
مؤتمر الإمام الحسين عليهالسلام
وعقد الإمام أبو عبد الله الحسين عليهالسلام مؤتمراً سياسيّاً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والأنصار والتابعين ممّن شهدوا موسم الحجّ ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس قطعة من خطابه ، جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه :
« أَمّا بَعْدُ ، فَإِنَّ هٰذَا الطّاغِيَةَ ـ يعني معاوية ـ قَدْ فَعَلَ بِنا وَبِشِيعَتِنا ما عَلِمْتُم وَرَأَيْتُمْ وَشَهِدْتُمْ ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسأَلَكُمْ عَن شَيْءٍ فَإِنْ صَدَقتُ فَصَدِّقُونِي ، وَإنْ كَذِبتُ فَكَذِّبوُنِي ، وَاسمَعُوا مَقالَتي ، وَاكْتُبُوا قَوْلي ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَمْصارِكُمْ وَقَبائِلِكُمْ ، وَمَن ائْتَمَنْتُمُوهُ مِنَ النّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ فَادْعُوهُ إِلىٰ ما تَعْلَمُونَ مِن حَقِّنا ، فَإِنّا نَخافُ أَنْ يُدْرَسَ هٰذَا الْحَقُّ ، وَيَذْهَبَ وَيُغْلَبَ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ » .
ويقول سُليم بن قيس : وما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلّا تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته إلّا رواه ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللّهمّ قد حدّثني به من اُصدقه ، وائتمنه من الصحابة .
فقال عليهالسلام : « أُنْشِدُكُمُ اللهَ إِلَّا حَدَّثْتُمْ بِهِ مَنْ تَثِقُونِ بِهِ وَبِدِينِهِ » (٢) .
وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه
__________________________
(١) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١ : ١٨٩ .
(٢) كتاب سُليم بن قيس : ٣٢٠ . الاحتجاج : ٢ : ٨٧ و ٨٨ .
الإمام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت عليهمالسلام وستر فضائلهم ، وقد دعا الإمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ صلىاللهعليهوآله ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبيّتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاُمّة الإسلاميّة .
هلاك معاوية
واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة ممّا اقترفه من الأحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً : « ويلي من ابن الأدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ إنّ يومي منه لطويل » .
نعم ، إنّ يومه لطويل ، وإنّ حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وإنّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحِداد ، وهو الذي حارب دولة الإسلام ، وأقام الدولة الأمويّة التي اتّخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله ، أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتّجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله وسبطه الإمام الزكيّ أبي محمّد عليهالسلام ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت عليهمالسلام على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائديّة ، إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقّاً وعسيراً أمام الله .
وعلى أي حال ، فقد
هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً ، فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أمّا خليفته ووليّ عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنّما
كان
مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان .
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الإسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس عليهالسلام المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم .