رحلتي من الظلمات إلى النّور

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد

رحلتي من الظلمات إلى النّور

المؤلف:

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد


المترجم: علاء رضائي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كلام مفكر والعالم حول الاسلام

الدكتور لورافاكسيا فاغليري (١) استاد جامعة نابل ، يقول :

( ما هو سبب تقدّم الاسلام وانتشاره في آسيا وافريقيا مع وجود الحرية التي تعطى لغير المسلمين في البلدان الاسلامية ومع عدم وجود اي منظمة اعلامية اسلامية حقيقية.

فاليوم لا يمكن القول ان السيف يمهد الطريق لنشر الاسلام ، بل العكس ، ففي المناطق التي كانت يوماً تحكمها دولاً اسلامية نجد اليوم دول حديثة من سائر الاديان لها منظماتها الاعلامية القوية التي تنشط بين المسلمين ، لكنها مع ذلك لم تستطع فصل الاسلام عن حياة الناس.

فما هي القوة الاعجازية الموجودة في هذا الدين ، ما هي القوة الذاتية في الاقناع الممزوجة مع هذا الدين ، واي جزء من الروح والحقيقة البشرية تتفاعل مع ذلك النداء ، وتستجيب له ).

اصدقائي !

اتعلمون سبب تقدم الاسلام في العالم وانتشاره بسرعة رغم وجود عوامل سقوط الاسلام والحدّ من نموه والذي جعل شخصاً مثل الدكتور

________________

(١) Dr. LauravaccieaVaglieri.

٦١

فاغليري يعجب من ذلك !

بأعتقادي ان أهم أسباب ذلك هو كون القوانين والاحكام الاسلامية فطرية ، أي لأنّ الاسلام دين الفطرة وقوانينه جزء من ناموس العالم لذلك فكل فطرة نقية تدرك تلك القوانين ستجد في نفسها وبشكل طبيعي ميلاً نحو تلك القوانين ، وكذلك بسبب ان قوانين الاسلام المقدّسة طبيعية فهي باقية ولا تبالي بمرور الأيّام.

اعترافات السيد ويلز (١)

السيد ويلز ، كاتب بريطاني كبير ، يقول :

« الديانة الصحيحة التي وجدتها ملازمة ومجارية للحضارة هي الاسلام فقط ، وإذا اراد شخص ان يتعرّف علىٰ الاسلام ، عليه ان يقرأ القرآن ونظرياته العلمية وقوانينه وأنظمته الاجتماعية.

والقرآن كتاب ديني واجتماعي وعلمي وتهذيبي واخلاقي وتاريخي ، واكثر انظمته واحكامه تستخدم الىٰ يومنا هذا وستبقىٰ حتىٰ نهاية العالم.

وإذا سألني أحد عن حدود الاسلام ، سأجيبه : الاسلام يعني المدينة والحضارة ، فهل هناك من يستطيع القول ان الاسلام ، كان مخالفاً للمدينة والحضارة في دورة من أدوار التاريخ ، ولم يكن السباق الىٰ ذلك ، خلاصة الكلام هي ان القرآن طري وحي وجديد وجذاب في كل عصر

________________

(١) Mr. Wills.

٦٢

وزمان» (١).

أجل ، قوانين الاسلام هي القوانين السماوية الوحيدة التي توجّه وتقود الحياة الانسانية في جميع أدوار وهي دائماً جديدة وندية ، مع انه وبسبب الظلمة وشدة الجهل التي سبقت ظهوره فأن أوائل المؤمنين به اعتنقوه واستسلموا له من زاوية العقيدة والايمان ، في حين ان قيمة الاسلام العلمية بقيت مجهولة.

لكن كلّما تقدّم العلم في العالم وتنورت افكار البشرية أكثر ، ظهرت عظمة الاسلام ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر وأكثر ، للحدّ الذي لم يقتصر احترام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ستمائة مليون مسلم في العالم فقط ، بل ان زعيم المسلمين العظيم وقائدهم ( الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يعتبر أكمل انسان في تاريخ البشرية بنظر أكبر العلماء المعاصرين ، وقد اعطوه أرفع وأسمىٰ الالقاب العلمية.

________________

(١) أما السبب في طراوة القرآن دائماً وعدم الملل منه وانه كلما قرأه الانسان وجده جديداً ندّياً ، فقد روي عن الامام محمد الباقر عليه‌السلام ، انه قال : لأن القرآن لم ينزل لقوم أو زمن معين ، وانما لجميع الناس وعلىٰ مدىٰ الزمان.

٦٣

نفوذ رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي والحاضر (١)

اصدقائي الاعزاء !

الموضوع الذي ذكرته ، اي عظمة رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله عند المسلمين وغير المسلمين ، يستحق الالتفات والدقة ، فهل فكرتم في سبب نفوذ ومحبوبية رسول الاسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الناس ، خاصة المسلمين منهم ؟!

ألا يدل هذا النفوذ العميق والمتأصّل الذي يأتي من ايمان الناس المنطقي ، بحقّانية هذا الرجل العظيم ؟!

ذلك النفوذ الذي لا يقارن بقوة سلطة اخرىٰ ! في عصره ، بل وفي عالم

________________

(١) لا نهدف من هذا البحث ، الاستدلال علىٰ نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال نفوذه ( رغم عمقه ورسوخه ) ، لكي يسيء استخدامه جماعة من اغنام الله ! الذين سمّوا عقائدهم المزيفة ، مذهباً ، في حين انهم صنيعي الاستعمار ، مع عدم وجود مثل تلك الفرصة لسوء الفائدة بالنسبة لهم ، لأن قائدهم وزعيمهم الوليد غير الشرعي للمستعمر ، وليس له ذلك النفوذ بين اتباعه علىٰ اساس من الطهارة والايمان ، لكي يستطيعوا الاستناد الىٰ هذا الموضوع ( حتىٰ لو كان خطأً ) ، فنفوذ الصنم في الجاهليةً ، والبقرة بين اتباعها في الهند ، اكبر واعمق من نفوذ ذلك الرجل بين أغنام الله في الوقت الحاضر ، وعدد اضاحي الاصنام والبقر ، اكثر بكثير من الاضاحي التي تقدم الىٰ ذلك الرجل ، أجل ، نحن وبعد ان ادركنا نبوة النبي محمد وانه مرسل من قبل السماء علىٰ اساس حكم العقل والمنطق ، نعدّ نفوذه عل اساس الايمان والعقيدة المقدّسة فقط ، مؤيداً لنبوته ، وليس كل من كان له نفوذ ، حاز علىٰ مقام النبوة !

٦٤

اليوم ايضاً هناك ملايين المسلمين في العالم مستعدون لبذل الغالي والنفيس في سبيله.

فهل سحر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه القلوب بالاموال ؟!

وهل للقوىٰ المادية دخل في هذا الامر ؟! بالتأكيد لا ؛ لأنه لا يمكن تسخير قلوب الناس بالمال إلى هذا الحدّ.

( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) (١).

الدكتور : لقد كانت لي ابحاث في هذا الموضوع ، ما ادهشتني هو ليس احترام وخضوع عالم اليوم امام عظمة رسول الاسلام ، بل تسخيره لقلوب أهل الجزيرة في ذلك الزمن ، لانني بحثت كثيراً حول تعصب العرب وتمسكهم بما جرىٰ عليه آباءهم ، ووصلت الىٰ هذه النتيجة ، وهي أنَّ العرب لا يقبلون ترك ما كان آباءهم بأي ثمن كان ، وان يغيروا حياتهم القبلية ، فما الذي دعاهم لأن يطيعوا ذلك الرجل الذي أعلن الحرب علىٰ آلهتهم وعارض اساليبهم الوحشية بصراحة ، ومنعهم من العمل بأهواءهم وشهواتهم وجعلهم يتركون الزنا والقمار والخمر والسرقة والاعتداء علىٰ أموال واعراض الآخرين ، تلك الأعمال التي كانت جزءاً من ممارساتهم اليومية ، فأخرجهم بذلك من التوحش الىٰ الفضيلة وكما الانسانية ، وكيف اصبح اولئك الناس المتردين اوفياء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لم يبخلوا بكل ما لديهم ، بل وبأرواحهم من اجل اهدافه السامية !

________________

(١) سورة الأنفال : ٦٣.

٦٥

فمثل هذا التأثير في القلوب ، لا يكون الّا بقوة روحية والهية ، واتصور ان هذا النفوذ والتأثير هو دليل واضح وبيّن علىٰ حقّانية رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان هذا الرجل الفذ ، مرسل من قبل السماء ، وانه رجل الهي.

الشيخ : من سعادتي ان اقبل رجل مطلع مثلك.

الدكتور : شكراً لهذا الاطراء.

الشيخ : اصدقائي ! الموضوع الذي تطرق له الدكتور يستحق الاهتمام ، لأنه وعلىٰ مرّ التاريخ ، كانت بعض المناطق التي تعد اليوم جزءاً من البلاد العربية مناطق عامرة كثيرة الدخل ، مثل : اليمن والشام ، وكانت معرّضة علىٰ الدوام الىٰ غزو الدول القوية المجاورة مثل الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية ، فكانت جيوشهم تتّجه نحو تلك المناطق كالسيل العارم ، فيقتلون الرجال والشباب والاطفال ويأسرون النساء ، لكنهم لم يستطيعوا ان يوجدوا اقل تغير في برنامج ومسيرة حياتهم.

ينقل العالم الفرنسي المعروف ، الدكتور غوستاف لوبون (١) قصة تحكي تعصب العرب وصلابتهم وفضاضتهم ، يقول لوبون :

« عندما دخل ديموطريس (٢) البتراء (٣) ، قال له العرب : « أيُّها الملك ديموطريس ! لماذا تحاربنا ، فنحن نعيش في صحراء خالية من كل نعم الحياة

________________

(١) Dr. Gustave.Le.Bon.

(٢) Demetrius ، اسماء ثلاثة من الملوك السلوكيين ، والسلوكيون اسم سلسلة من أمراء آسياء الغربية ، وقد حكموا اجزاءً من آسيا الصغرىٰ وايران علىٰ مدىٰ قرنين ونصف القرن بعد الاسكندر الكبير.

(٣) Petra اسم لمكان تجاري قديم في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية.

٦٦

التي يتملكها اهل المدن والقصبات ، لقد اخترنا السكن هنا ، لاننا لا نريد أن نكون عبيداً لأحد ، فاقبل هدايانا وخذ جيشك من هنا ، واعلم ان النبط ( اسم القبيلة التي ينتسبون اليها ) سيكونون اصدقاءك ، أمّا اذا اردت الاستمرار في الحصار ، فلن يستمر طويلاً حتىٰ تنالك آلاف المشاكل والمصائب ، ولن تستطيع ابداً ان تغير ما درجنا عليه منذ صغرنا ، وحتىٰ لو أخذت منا رجالاً اسرىٰ ، فسيكونون عبيداً متمردين وعاصين ، لا يستطيعون تغيير عاداتهم واختيار اخرىٰ مكانها » (١)

أيُّها السادة !

تلاحظون في هذه القصة التاريخية ، كيف تقف قبيلة صغيرة امام رجل جبار مثل ديموطريس الذي جاء لحربهم مع آلاف الجنود المدججين بالسلاح ، وتخاطبه بقوة وصلابة وصراحة تامة : حتىٰ لو تسلطت علينا فلن تستطيع اجبارنا علىٰ تغيير ما نشأنا عليه منذ الصغر واختيار اسلوب في الحياة غيره.

والحقيقة هي ان ديموطريس لم يكن باستطاعته عمل ذلك ، لأنه كان بمعنىٰ قتل كل افراد القبيلة وكما لم يستطع الغزات الذين سبقوه ذلك.

أمّا رسول الاسلام العظيم ، فقد استطاع تسخير قلوب تلك القبائل وجعلها قاعدة لرسالته ومنطلقاً لتبليغ دعوته الىٰ العالم ، وهو وحيداً في اكثر

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٦٧

فترات الرسالة الّا من دعم الله ونصرته ، فكانوا يستجيبون حباً له واكراماً لشخصه.

اعتراف ابو سفيان :

ينقل لنا التاريخ ، عند فتح مكة وبعد ان جاء العباس عمّ الرسول بأبي سفيان الىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، امر ان يبقىٰ ابوسفيان في خيمة العباس تلك الليلة ، حتىٰ طلع الصبح فقام بلال ، مؤذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يؤذن بصوته الجهور : الله اكبر ، الله اكبر ... كان صوت الاذان غريباً علىٰ مسامع أبو سفيان ، للحد الذي خاف وارتعد منه ، علىٰ الرغم من كونه زعيم مكة وقائد المشركين فيها. فسأل العباس خائفاً : ما هذا الصوت ؟!

قال له العباس : هذا صوت الاذان ، الاعلان الاسلامي العام للأجتماع من اجل الصلاة ، انهض يا ابا سفيان ! توضأ واستعد للصلاة.

أمّا ابو سفيان الذي كان حتىٰ الامس يعبد الاصنام ويعادي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمع القبائل لقتاله ، أبو سفيان هذا وجد نفسه محاصراً بين جيش الاسلام ، فاضطر للنهوض من فراشه والتوضأ كما علّمه العباس ، ثم خرجا من الخيمة معاً.

وفجأة شاهد ابوسفيان مشهداً غريباً ، او شك ان يفقد صوابه !

فما الذي رآه أبو سفيان ؟

لقد رأىٰ ابو سفيان عشرة آلاف مقاتل يتأهبون بنداء من رجل اسود ، هو

٦٨

بلال مؤذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للصلاة خلف قائدهم المحبوب ، بعد ان نهضوا من النوم وتوضأوا ، وجميعهم مشدودة اعينهم الىٰ باب الخيمة كالعشاق الذي ينتظر لقاء معشوقته ، الجميع ينتظر اشراقة شمس قائدهم العظيم من افق الخيمة ، فهم ينظرون الىٰ الخيمة وكأن ارواحهم فيها.

أبو سفيان الذي شاهد ذلك ، يقول في نفسه : عجباً ! هذا النفوذ والسطوة جميعها لرجل كان بالامس مجرد محمد الامين ! أليس هو ذلك الرجل الذي ترك وطنه ليلاً خوفاً من تعرضنا له وقرارنا بحقّه ، وهاجر من مكة الىٰ المدينة ؟! فكيف صارت له هذه السيطرة وهذه القوة ؟!

كان أبو سفيان غارقاً في افكاره ، وفجأة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خيمته وشفتاه تلهجان بذكر الله ، فنظر الىٰ اصحابه بوجه ضحوك ملئه السرور ، والمسلمون ايضاً كانوا ينظرون اليه بفرحه ، لكن في تبادل النظرات تلك ، كانت هناك اسرار كثيرة لا يفهما الغير.

وفيما كان الرسول يحمل وعاءً من الماء لتجديد وضوءه وهو خارج من الخيمة ، هنا كانت شدة تعجب وحيرة ابوسفيان ، لقد كان يرىٰ مشهداً غريباً جداً وكانت عيناه وكأنما تريدان الخروج من حدقتيهما ، كان ابو سفيان يرى مشهداً لم يره عند أيٍّ من ملوك واباطرة العالم.

رأى أبو سفيان هجوم المسلمين على الرسول وهو يتوضأ ، لكن لماذا ؟ وما الذي حصل ؟! كان المسلمون يتسابقون علىٰ قطرات الماء التي تقطر من وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتوضأ ، فلم يكونوا يتركوا قطرة تصل الىٰ الارض فقط ، وانّما كان الذي يحصل منهم على قطرة من الماء الذي يتوضأ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٩

كأنما حصل على اثمن جوهرة علىٰ الارض ، ولهذا كانت حيرة ابو سفيان وشدة تعجبه.

لكن المسلمين الذين أرادوا ان يخرجوا أبا سفيان من تعجبه وحيرته ، قالوا له : لا تعجب يا أبا سفيان فهذا ماء توضأ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو اعزَّ علينا من ارواحنا.

اجل ، فهو النبي الذي نجّاهم من الشرك والضلالة واوصلهم الىٰ السعادة الحقيقية ، فقد تحرروا من السرقة والقمار والقتل والجريمة ووأد البنات.

أمّا أبو سفيان ، فلم يستطع كتمان ما كان يجول في خاطره من افكار كانت تعذبه ، فصاح : بالله لم أرَ كاليوم كسرىٰ ولا قيصر ، ما هذه القدرة ؟ ما هذا النفوذ ؟

نعم ، أبو سفيان محق في انه لم يرَ تلك القدرة في أيٍّ من بلاط الملوك والاباطرة ، لان قدرتهم سطحية تستند الىٰ حرابهم وظلمهم وتسلطهم علىٰ اجسام الناس. لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله احتل مكاناً لا تستطيع اي قوة احتلاله ، المكان الذي تعجز عن فتحه الحراب.

لقد احتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة في قلوب الناس ، فهم يحبونه ، بل يعشقونه ويفتدونه بأرواحهم ، ومثل هذا النفوذ لا يتسير لأحد إلَّا بالنبوة او القوة الالهية.

وبعد ان صلَّىٰ المسلمون الصبح ، استعد جيش المسلمين للتحرك ، واتّجهوا نحو مكآة ، ومع ان اباسفيان كان زعيم المشركين وعلىٰ رأس معاندي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ مدىٰ واحد وعشرين سنة ولم يترك شيئاً لم يستعمله ضد الرسول ، من التهم والشتائم والحرب وتحريض الناس والقبائل على حرب

٧٠

المسلمين ، واجباره علىٰ الهجرة من مسقط رأسه ، وذرّ الرماد علىٰ رأسه الشريف ، ورميه بالحجارة ، لكنه اليوم ورغم ذاك الماضي السيء نجده في محاصرة قوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سيوف اصحابه ، فلو اشار الرسول اشارة صغيرة لقطّعه المسلمون إرباً إربا ، لكن مع كل ذلك فقد اعطاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمان وأمر بالمسلمين بعد ايذائه ، بل كرَّمه وقال : من دخل بيت ابو سفيان ـ في مكة ـ فهو آمن.

كان ابو سفيان مسروراً لما وجده من تسامح عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فأراد ان يركب الىٰ مكة. حتىٰ يخبر اهلها بتحرك جيش المسلمين ، إلَّا ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله امر ان يقف ابو سفيان قبل ذهابه الىٰ مكة إلىٰ جانب العباس في محلّ مشرف لكي يشاهد جيش الاسلام وقوته الخارقة.

أخذ العباس عمَّ الرسول بيد ابو سفيان واوقفه في محلَّ مشرف علىٰ الجيش ، وبدأ جنود الاسلام بالتحرك فمرّت الكتيبة الاُولىٰ وهي تنادي الله اكبر ، ثم الكتيبة الثانية وهي تكبَّر ايضاً ، وهكذا مرَّت كتائب المسلمين من امام أبو سفيان ، وكلّما مرَّت كتيبة كان أبو سفيان يتصوّر انها الاخيرة ، إلّا انه كان يشاهد متعجباً كتيبة اخرى تتقدم ، فتعب ابو سفيان من طول وقوفه وازدحام الناس ، فقال للعباس : ألم يأت ابن اخيك بعد ؟

أجابه العباس : لو جاء ابن اخي ستعرفه انت دون أن اُشير اليك.

وهم على تلك الحالة من الكلام ، جاءت كتيبة اُخرىٰ من جنود الاسلام ، فقال العباس : والآن سيأتي ابن اخي وهو يتوسط جيشه.

كان ابو سفيان ينظر وكأنما ركَّز كل قواه في عينيه ، دقق النظر فإذا بما

٧١

يقرب خمسة آلاف من ابطال وصناديد المهاجرين والانصار والشباب المتحمّس الشجاع يحيطون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو علىٰ ناقته في وسطهم يتحرك بوقار ليس له مثيل ، كانوا يدورون حوله دوران الفراشة حول الشمعة ، كان بعضهم يمتطي خيلاً وآخرون علىٰ جمال حمراء ، سيوفهم مشهورة ودروعهم مستعدة للدفاع ، مدججون بالسلاح حتىٰ لا يرى منهم إلّا الاعين ، وكانت اجسادهم ترىٰ خضراء من كثرة السلاح الذي يحملونه.

أمّا أبو سفيان فلم يستطع الصبر ثانية ، فألتفت الىٰ العباس وقال له : ملك ابن اخيك عظيم.

فقال له العباس : الويل لك ، انها النبوة وليست الملك.

اجل ، مثل هذا النفوذ والقوة لا يوجد إلّا عند الربّانيّون والذين اخلصوا لله ، ولا يمكن مشاهدتها في بلاط وحكومات القوىٰ المادية والحكام غير الربانيين ، مهما اتسع ملكهم.

الدكتور : اؤيد ما تقوله تماماً ، لقد ضمّ العالم والتاريخ الكثير من كبار الملوك والمخترعين والفضلاء والعلماء والفلاسفة ، ومع أن بعضهم احدث ضجة سطحية لفترة قصيرة ، لكنهم اندثروا واندثرت اسماءهم معهم بعد فترة قصيرة من موتهم ، ولا تجدهم إلّا في طيّات كتب التاريخ ، لكن الانبياء عليه‌السلام والرجال الالهيون ، لم يكسبوا ودَّ الناس ويستميلوا قلوبهم في فترة حياتهم فقط ، بل يزداد محبوهم واتباعهم كلما مرّ يوم علىٰ هذا العالم القديم ، الىٰ مستوىٰ نشاهد اليوم ستمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم ، يفتخرون بأنهم اتباع رجل فذّ لامثيل له في تاريخ الانسانية ، هذا الرجل الذي عاش قبل الف واربعمائة عام

٧٢

في صحراء الحجاز ، والكثير من تلك الملايين يطبقون أوامره التي فيها سعادة الدنيا والآخرة بدقة في حياتهم اليومية ، ولا توجد اي قوة تستطيع الحدّ أو الاقلال من نفوذه الروحي ، في حين ان أقوىٰ ملوك الارض ، يجب ان يحمّل نظرياته ، وأراءه علىٰ الآخرين بالقوة ، ونجد الناس يكرهونهم في حياتهم ، بل يلعنونهم ويشتمونهم حتى وهم ينفذون اوامرهم !

النفوذ المعنوي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الدكتور لوبون (١)

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي المعروف ، حول نفوذ الاسلام بين المسلمين :

«لا يقل الاسلام في التأثير علىٰ اتباعه عن سائر المذاهب والديانات ، والاقوام التي نزلت تلك الاحكام لأرشادهم ـ ومع وجود الاختلاف بينهم ـ إلّا انهم متمسكون بالاحكام المستوىٰ من تمسكهم بها قبل الف وثلاثمائة عام.

فصوم شهر رمضان الذي هو أصعب من صيام الأربعين يوماً عند بعض فرق النصارىٰ ، نجد المسلمين في العالم يجرونه بمنتهىٰ الدقّة ، وهكذا الصلاة في جميع البلدان التي زرتها في آسيا وافريقيا واماكن اخرىٰ من العالم ، خاصة انني رأيت اهتمامهم بأداء هذا الركن الاسلامي العظيم في وقته.

وفي احدىٰ المرات كنت مسافراً بالمركب في نهر النيل وكان معنا

________________

(١) Gustave. Le.Bon.

٧٣

مجموعة من العرب ، وفيهم بعض المذنبين المقيدين بالسلاسل ، فعجبت كثيراً حيث رايت المذنبين يتعدّون علىٰ القانون المدني ولا يخافون عقاب الحكومة ، لكنهم لا يجرأون علىٰ مخالفة القانون الديني ( الشريعة ) ، فكان اذا صار وقت الصلاة اخرجوا قيودهم ووضعوها جانباً ، انشغلوا بأداء الصلاة والركوع السجود لله القهار » (١).

كلام الدكتور لورافاكسيا فاغليري

يقول استاذ جامعة نابل في ايطاليا ، الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، حول شدّة نفوذ رسول الاسلام بين اتباعه :

« كيف استطاع رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تقوية نفوس اتباعه والجمع بين المثل والغيرة والتعصّب في روحياتهم ، بشكل يحتفظون فيه بتلك الروح بعد عشرة قرون من رحليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو لا يرىٰ مثلها في سائر الاديان ، وقد رسخ عندهم ايمان قوي سهّل لديهم أي نوع من التضيحة ، فاحتفظوا بتلك القوة الروحية علىٰ مدىٰ اعصار وقرون تختلف كثيراً من الناحية الثقافية والعلمية مع عصر المسلمين الاوائل ( صدر الاسلام ).

الشيخ : سعادة الدكتور ، انا مسرور جداً حيث وجدتك من أهل القراءة والبحث ، الظاهر انك تمتلك معلومات حول الكتب التي كتبها علماء الغرب حول الاسلام.

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٧٤

الدكتور : نعم ، فأنا احب المطالعة كثيراً ، خاصة مؤلفات كبار العلماء والمنصفين.

الشيخ : لقد اشار الدكتور في كلامه الىٰ موضوعين ، يجدر الالتفات إليهما بدقة :

الأول : هو ان العديد من الملوك والحكام الاقوياء ، والفاتحين جاؤا الىٰ العالم ، لكن اسماءهم اليوم محصورة في زوايا وكتب التاريخ ، وفي بعض الاحيان تكون اسماءهم ملازمة للعار والجريمة.

الثاني : انه قال : كان هناك رجال اقوياء أو علماء امناء ، لم يطعهم حتىٰ اقرب الناس اليهم في تطبيق نظرياتهم وتنفيذ أوامرهم ، الاّ ان يلجئوا الىٰ القوة معهم.

وفي تأييد كلام الدكتور ، احكي لكم قصَّتين تاريخيتين ، لكي نعرف من خلال الامعان فيهما القيمة الحقيقة لنفوذ رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي وفي عالمنا اليوم.

الخليفة العباسي يزور سامراء

القصّة الاُولىٰ ، تعود لزيارة المستنصر بالله ، أحد خلفاء بني العباس الأقوياء الىٰ مدينة سامراء.

في أحد الايام تحرك المستنصر بالله من بغداد ، ومعه الوزراء ورجال الدولة نحو سامراء ، وبعد وصوله واتمام مراسيم التشريفات العادية ، توجه

٧٥

للقيام بمراسيم اخرىٰ ، لا يؤمن بها خلفاء بني العباس الىٰ حدّ ما ، وهي زيارة صحن الامامين العسكريين عليهما‌السلام (١) فرأىٰ صحناً مجللاً وكبيراً ، وافواج من الناس داخله اليه وخارجه منه ، في منتهىٰ الأدب والخضوع ، يزورون قبرا الامامين وعيونهم تذرف الدموع لصاحبي هذين القبرين ، وقلوبهم مفعمة بحبهما.

وبعد أن أتمَّ المستنصر مراسيم الزيارة ، ورأىٰ تلك المشاهد ، خرج من الصحن واتجه الىٰ قبور آبائه القريبة من الصحن الطاهر ، لكي يقرأ الفاتحة عليها !!! دخل المكان فوجد بناء القبر شبيه بالخربة ، وقبورها بمستوىٰ سطح الارض ، والغبار يعلوها ، فيما تكدّست عليها فضلات الطيور ولا أحد يأتي لقراءة الفاتحة ، فأخذ يقارن في نفسه بين حرم العسكريين وجلاله وقبور آبائه الخربة والتي تبعث الحزن في نفسه ، فالتفت إليه أحد المتملّقين من حاشيته ، وقال : يا خليفة المسلمين ، إلىٰ متىٰ تصبر علىٰ هذا العار والهوان ، هذه قبور آباءك الذين كانوا حكام البلدان الاسلامية في حياتهم ، وكانت خزائنهم مليئة

________________

(١) تجدر الاشارة الىٰ زيارة ائمة الشيعة عليهم‌السلام ، وبالاضافة الىٰ ابعادها التربوبية ، فيها أجر خاص طبقاً للروايات الواردة ، والهدف الاساس والحقيقي لزيارة قبور الائمة عليهم‌السلام ، لكي يتأمّل المسلم في الطريق الذي خطّه الامام عليه‌السلام في حياته والفضائل العلمية والانسانية التي كان يمتلكها ، ويتذكّر مواقفهم الخالدة والصريحة امام الظالمين ، فهم ائمة ويجب الاقتداء بهم.

كما ان معاني نصّ الزيارة ، جميعها دروس وعبر ( طبعاً تلك التي لها اساس حقيقي وليست موضوعة ) ، لكي يجدد الانسان الذي يقرأها ويفهم معانيها ، عهده مع الامام عليه‌السلام ويهيء نفسه للعمل بها ، لكن يجب الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة ، وهي ان الزيارة ومثل العديد من المسائل الاسلامية ، اضحت خالية من محتواها الحقيقي ، ولم يبق منها الّا الشكل ، كما ان بعض الظلمة استفادوا من المشاهد المقدّسة وسخروها لصالحهم من اجل كسب الشرعية عند الجماهير ، في حين انهم يختلفون اساساً ومنطقاً مع روح الاسلام والامام عليه‌السلام.

٧٦

بالثروات ، واليوم قبورهم شبه خربة ، لا يزورهم الناس ، قبورهم غير مفروشة وقد غطّاها الغبار وفضلات الطيور ، وانت ابنهم وخلفهم الصالح والقوي. فيما قبور العسكريين عليهما‌السلام مجلّلة ، يحترمها الناس ، ويلجئون اليها يتوسلون بها لحلِّ مشاكلهم ، مع انهم كانوا في حياتهم اما مسجونون أو مبعدون أو مراقبون ، وكانوا علىٰ الدوام من اخطر منافسي خلافتكم. فالىٰ متىٰ تصبر يا خليفة المسلمين علىٰ ذلك ؟!

انهىٰ الوزير كلامه المتملّق وانتظر الجواب من الخليفة.

أمّا المستنصر فقد طأطأ رأسه بعد ان سمع ذلك الكلام ، وغاص في افكاره ، أمّا الحاضرون فكانوا ينظرون مرّة الىٰ الوزير واخرىٰ الىٰ الخليفة فيما يفكر كل واحد منهم بردة الفعل المترتبة علىٰ كلام الوزير.

كان الصمت ممزوجاً بالرعب في فناء القبر ، وبعد ثوان رفع المستنصر رأسه ونظر الىٰ الوزير ( المحرك الرئيسي للموضوع ) وبصوت تنتابه رجفة خفيفة من الألم ، قال له : « هذا أمر سماوي » ـ بمعنىٰ ان الاختلاف في المشهدين تقدير سماوي ـ ولا نستطيع ان نغيّر منه شيئاً ، لقد فعلنا كلما استطعنا عليه من اجل قبور آباءنا ، لكننا لا نسيطر علىٰ قلوب الناس ، فحكمنا علىٰ الابدان وليس الارواح ، لقد أرسلنا اثمن المفروشات الىٰ قبور آباءنا وجلّلناها وصرفنا عليها الكثير من الاموال ، لكي تتساوىٰ وقبور ابناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الناس كانوا يأتون في منتصف الليل فيسرقون المفروشات والادوات من قبور آباءنا ، ولم يأت أو سيأتي احد لزيارتها ، في حين ان الناس تصرف آلاف الدراهم والدنانير علىٰ قبري العسكريين من جيوبها واتعابها ، فيشترون

٧٧

المفروشات ويعلقون الستائر ، فما هو الحلّ ؟ وقلوب الناس خارجة عن متناول قوتنا وسلطتنا.

اقتراح بهمنيار على ابن سينا

اما القضية التايخية الاُخرىٰ ، التي ترتبط بالقسم الثاني من كلامه ، فهو ما حدث بين الشيخ ابن سينا واحد تلامذه المقربين ، اي بهمنيار.

وبهمنيار من تلامذة ابن سينا الملازمين له ، وكان محباً لاستاذه بشكل لا يوصف ، وكان مقام ابن سينا العلمي ونبوغه الفكري وقابلياته وقدراته الجمّة ، جعلت منه نابغة في العلم ، فكان ابن بهمنيار متحيراً في ذلك ، مما دفعه لأن يقترح علىٰ استاذه اقتراحاً خطراً.

فقال في احد الايام : استاذ ! لماذا لا تدّعي النبوة ، وتعرّف نفسك بأنّك نبي من قبل الله ؟! لأن مثل ذلك الادّعاء يليق بك ، فلو ادعيت النبوة وانكرها البعض ، وأراد ان يعارضك في ذلك ، فسيتعرّف على عظمتك العلمية في أول كلام لك معه ، وسوف يطأطأ رأسه امامك اجلالاً لمنزلتك.

استاذي انت اُسوة أهل زمانك في جميع الفضائل ، فلا تتباطأ في هذا الامر ؟!

كان بهمنيار يلحّ علىٰ ابن سينا دائماً بذلك المقترح ، لكنه لم يسمع منه جواباً علىٰ ذلك ، حتىٰ جاء الشتاء ، وفي احدىٰ الليالي الباردة جداً ، حيث الوفر والجليد غطّىٰ الارض واغصان الاشجار ، كان ابن سينا مستلقياً في غرفة

٧٨

دافئة يستريح ، فيما ابن بهمنيار يغطُّ في نوم عميق في مكان آخر من الغرفة ، كانت الساعة تشير الىٰ نهاية الليل ، نهض ابن سينا من نومه عطشان جداً ، لكنه لم يجد ماءً بالقرب منه في الغرفة ، فوضع ابن سينا يده علىٰ كتف بهمنيار وقال له بصيغة الأمر الممزوج بالمحبة : بهمنيار ! بهمنيار ! ففتح بهمنيار عينيه ، ووجد يد استاذه علىٰ كتفه ، فسلم علىٰ ابن سينا ، ورد استاذه عليه‌السلام ، ثم قال : العطش اضناني ووعاء الماء خارج الغرفة ، انهض وأئتني به.

فنظر بهمنيار الىٰ خارج الغرفة بعينين نصف مفتوحين ، ورأىٰ البخار المنجمد علىٰ زجاج باب الغرفة ، فتذكّر شدّة البرد في الخارج ، وان عليه ان ينهض من فراشه الدافيء ويرتدي ملابسه لكي يأتي بالماء الىٰ استاذه ؟!

كانت هذه الأفكار تزعجه فقرر في الفور أن لا يؤدي ذلك العمل ، لكنّه ماذا عساه أن يجيب ابن سينا ؟ لم يكن باستطاعه أن يصرّح بعدم الاستجابة ، لأن ابن سينا استاذه ونابغة العصر ومعلمه وملك الاطباء ، فأضطر أن يدخل الموضوع من باب آخر ، فقال : استاذ ! الطقس بارد خارج الغرفة ، والماء ايضاً بارد جداً ، في حين ان صدرك حار ، فلو شربت الماء البارد بهذا الشكل ، ستتعرض الىٰ الخطر بالتأكيد.

قال ابن سينا : أنا اُستاذك في الطب ، وآمرك ان تأتي بالماء.

وللمرّة الثانية كرر بهمنيار كلامه ولكن بلحن عذب وجميل ، لكنه رأىٰ استاذه مصرّاً على الاتيان بالماء.

وفي النهاية قرر ان يتكلم بصراحة ، فقال : انا لا استطيع تحمل برد

٧٩

الخارج من أجل ان أتي لك بالماء ، وفيما كانوا يتكلمون في الأمر ، إذا بصوت جميل ينبض بالدف يصل من الخارج :

الهي لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلىٰ

تباركت تعطي من تشاءُ وتمنعُ

فمن أين كان هذا الصوت ؟ كان الصوت يأتي من مأذنه المسجد ، وكان هناك مسلماً منشغلاً في ذلك الطقس البارد بمناجاة الذات الالهية المقدّسة ، وبعد فترة من المناجاة طلع الصبح ، وارتفع صوت المسلم نفسه بالاذان : الله اكبر ... الله اكبر ...

مرّ ذلك الحادث ، وفي اليوم التالي كان بهمنيار يتأهب للدرس عند استاذه ، فألتفت ابن سينا الىٰ بهمنيار وقال : اقترحت علي مرات عديدة ان ادّعي النبوة ، فهل علمت سبب عدم قبولي بأقتراحك ؟

قال بهمنيار : لا.

فقال له ابن سينا : بهمنيار ! مع انك أنت الذي اقترحت ذلك ، وكنت تصرّ كثيراً علىٰ ذلك ، وأنا معك منذ فترة واستاذك ، مع ذلك لم تكن سلطتي نافذة فيك بحيث تنهض في الليلة الماضية وتأتي لي بالماء من خارج الغرفة ، لكن في تلك الساعة وفي ذلك الطقس البارد الذي وكأنه شلَّ قوة جميع الكائنات ، ينهض رجل مسلم من فراشه الدافىء ويصعد علىٰ ذلك المكان المرتفع ( المأذنة ) الذي تعصف به الرياح الباردة من كل حدب وصوب لكي يقوم بعمل مستحب ( ليس واجباً ) أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اربعمائة سنة ، دون ان ينظر الىٰ برودة الجو وبدون شعور بالألم لسبب البرد ، لكن نفوذ ذلك الانسان الرباني في اتباعه

٨٠