رحلتي من الظلمات إلى النّور

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد

رحلتي من الظلمات إلى النّور

المؤلف:

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد


المترجم: علاء رضائي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المرتبطة بهذا الجزء » (١).

ويقول الفيلسوف اليوناني اشين (٢) :

« الآن قد بلغت الشيخوخة ، كنت اتصور انني تعلمت ما كان عليّ ان اتعلمه ، ولم يبق شيء مجهول بالنسبة لي ، لكني ارىٰ انني لا افهم شيئاً ، فأنا اعجز عن ادراك وفهم الذرّة ، لكنني عندما شابّاً ورغم ان معلوماتي كانت قليلة ، كنت اتصور انني اعلم كل شيء ».

ويقول العالم الانجليزي المعروف اسحاق نيوتن (٣) :

« كأنني طفل صغير يقف علىٰ ساحل بحر ، يرىٰ احياناً حجراً أو رملاً براقاً ، لكنَّ امامه بحراً عظيماً من المعرفة مجهولاً ».

ويقول احد فلاسفة بريطانيا المعروفين وهو ليدج (٤) :

« ان الذي نعلمه حالياً ضئيل جداً مقابل ما يجب علينا معرفته ، لربما يردد هذه الكلمات البعض دون الايمان بها ، لكني اقولها مؤمناً بها تام الايمان ، والذين يرون العلم في المعلومات الحالية فقط ، هم في الحقيقة خانوا اولئك الذين ناضلوا في سبيل المعرفة ».

________________

(١) تكامل علم الفيزياء ، ص ٢٦٦.

(٢) Echin.

(٣) Nivoton ، الدكتور اراني أيضاً قال بذلك ، لكنه أخذه من نيوتن.

(٤) Ledeg.

٢١

لا أعلم

يقول الدكتور الكسيس كارل (١) :

( لم تتطوّر العلوم التي تتحدث عن الكائن الحيّ بشكل عام وعن الانسان علىٰ نحو خاص كثيراً ، ولا زالت في مرحلة الوصف ).

ويضيف في بحث آخر :

( مع ان البشرية بذلت جهوداً كبيرة لنفسها ، ومع اننا اليوم نرث خزائن من دراسات العلماء والفلاسفة والعرفاء والشعراء ، لكن معلوماتنا لا تزال ضئيلة ووليدة الأساليب العلمية التي اخترعناها نحن انفسنا ، ولا زالت حقيقة وجودنا مجهولة بين الاشباح التي صنعتها ايدينا ، والحقيقة ان جهلنا بانفسنا كبير ولا زالت نواح كثيرة من عالمنا الداخلي غير معروفة بالنسبة لنا ، كما لازالت اكثر التساؤلات التي يطرحها الباحثون في حياة الانسان متروكة دون جواب ).

ثم يطرح الدكتور كارل بعد ذلك تساؤلات لم يستطيع العلم المعاصر الاجابة عليها رغم تقدمه ، يقول الدكتور كارل :

( لا نزال نجهل كيفية ارتباط الاعمال النفسية بالخلايا المخية ، بل ولا زلنا نجهل الفيزيولوجيا الحقيقية لخلايا المخِّ ، فما هي حدود سيطرة الارادة علىٰ الجسم ؟ لا نعلم.

كيف يؤثر وضع الاعضاء على حالتنا النفسية ؟ لا نعلم.

ما هي العلاقة بين نمو العظام والعضلات واجزاء الجسم الاُخرىٰ بالنشاط

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٢

النفسي والروحي ؟ لا نعلم.

وما هو العامل الذي يضمن توازن الجهاز العصبي ومقاومة الجسم امام الامراض والارهاق ؟

وما حجم الاهمية النسبية للنشاطات الفكرية والاخلاقية والجمالية والعرفانية في حياتنا ؟ لا نعلم ).

في النهاية وبعد طرحه للعديد من التساؤلات ، يقول :

( هذه والعديد من التساؤلات الاُخرىٰ التي يمكن طرحها علىٰ اساس القضايا التي تهتم بها الانسانية ولكن دون الاجابة عليها ).

بعد ذلك أيضاً يتحدّث الدكتور كارل في بحث آخر عن الفكر وتأثيره والعوامل المكونة له والقضايا المرتبطة به ويطرح تساؤلات اخرىٰ ، ثم يقول :

( هناك فلاسفة كبار في كل عصر وفي كل بلد ، صرفوا سنوات عمرهم لحلِّ هذه القضايا ، لكن أيّاً منهم لم يوفّق في حلِّ هذا اللغز ).

فيلسوف آخر من المعاصرين يقول في مقدمة كتاب له ، وبعد طرح سلسلة من التساؤلات الفلسفية المتنوعة :

( المسائل التي ذكرتها هي الموضوع في الفلسفة القديمة والجديدة ، الشرقية والغربية ، لقد ضلت هذه الافكار في مخيلة البشر منذ ظهورهم ، ومن اجل فهم هذا السرِّ استخدموا جميع الطرق من العقل والفكر والشعور والتجربة الىٰ الوهم والخيال في اليقظة والمنام ، لقد تجاوز عدد فلاسفة كل عصر عشرات بل مئات الآلاف اما وزن الكتب التي ألفوها فهو بالاطنان ، وقد بقيت منهم

٢٣

كلمات كثيرة ومتنوعة لا يمكن احصاؤها ، لكنهم يتفقون في واحدة ، وهي خلاصة وحصيلة جهودهم ، تلك الجملة هي : « لا نستطيع ان نفهم » (١) ).

أصدقائي الاعزاء !

اذا اردت ان انقل لكم نماذج من اعترافات اشهر العلماء فيما يتعلق بالمجهولات البشرية ، سوف احتاج الىٰ اطنان من الورق !

خلاصة الكلام ، فيما لو سألتم اعظم بروفسور أو فيلسوف أو افضل عالم في الكيمياء أو الفيزياء : هل هناك ما يجهله الانسان ولم يُحط به علماً ؟

بالتأكيد سوف يجيبكم مستهزئاً : ما هذا السؤال الساذج ؟ هذا سؤال الأطفال.

أيُّها السادة !

لكم الآن ان تحكموا : هذا العالم المليء بالالغاز والتعقيد ، العالم الذي يعترف كبار علمائه بالمجاهيل التي لا زال البشر لا يستطيع الوصول إليها ، كما انه لا يعرف متىٰ ستحلَّ بالنسبة له ، أليس بعيداً عن العقل والمنطق ، ان ننفي قانون مسلَّم جاء به الاسلام ، ذلك الدين المقدّس الذي لا يخفىٰ دوره في حياة الانسانية العلمي ، لمجرد إنّ أحد العلماء لم يستطيع فهمه أو انه لم يرَهُ مطابقاً

________________

(١) فيلسوفي الشرق والغرب.

٢٤

لبعض القواعد العلمية الناقصة أو بعض النظريات العلمية المعاصرة ؟!

رفيق السفر : من باب الانصاف ، الحق ما تقوله ، لكن ذلك بالنسبة للذين يمتلكون عقلاً سليماً ، وليس لمجموعات تتحرك عقولها الناقصة بصعوبة في ضجيج الحضارة المعاصرة.

تأييد الجميع : لا يحق لأي شخص التدخل في أي عمل.

الشيخ : لا شك ان بلدنا فيه الكثير من المتعلمين والفضلاء والمتخصصين في شتىٰ المجالات ، لكن الطامّة الكبرىٰ هي ان الشخص الذي يتخصّص في احد الفروع العلمية ، يتصوّر عقله معياراً لجميع حقائق العالم ، لذلك تراه يتدخل باستعجال خاص في كل موضوع ويسمح لنفسه بالحكم فيه ! فإذا تخصّص شخص في مجال الطب وحاز علىٰ شهادة دكتوراه في الطب بعد اتمامه فترة الدراسة ، فإن بعضهم يتصوّر انه سيكون بالاضافة الىٰ انه طبيب جيد ، مهندساً وتاجراً وقاضياً ومجتهداً وسياسياً ومزارعاً و ... الخ ، جيداً أيضاً ، لذلك فهو يحاول حل مشكلة كلّ تخصص بعقله هو ، وإذا ما لم يستطع عقله حل تلك المشكلة أو فهمها. سوف ينفيها ولن يقبل بها ، غافلاً عن ضرورة الرجوع في كل الىٰ المتخصص فيها ، وانه لا يحق لأي شخص التدخل في اي مسألة.

خطأ اديسون (١)

يقول الدكتور الكسيس كارل ضمن احد المواضيع :

________________

(١) Edison.

٢٥

« المتخصّص في مجال معين لا يحق له التدخل في مجال آخر لا يمت اليه بصلة ».

وفي موضع آخر يقول :

« العلماء الذين يمتازون علىٰ غيرهم بواسطة كشفياتهم واختراعاتهم ، يتصورون انهم متبحرون في سائر المجالات كما هو الحال في مجال تخصصهم ، علىٰ سبيل المثال ، « اديسون » احياناً كان يتحدث للناس عن الفلسفة والدين ويطرح نظريات في ذلك ، فكان الناس يستمعون باحترام الىٰ آرائه لاعتقادهم بتبحره في هذين المجالين ايضاً ، لانه كاشف ومخترع كبير.

وبهذا الشكل نرىٰ ان بعض العظماء الذين مهدوا السبيل لرقي وتقدم البشرية من خلال اختراعاتهم وعلومهم ، يصبحون من جهة اخرىٰ سداً امام ذلك التقدم عندما يتكلمون في مجالات ليست من اختصاصهم وليسوا ملمين بها جيداً » (١).

اصدقائي الاعزاء !

في ضوء ما قلته ، اليس من العجيب ان تنظروا الىٰ الدين الاسلامي المقدس والملتزمين به نظرة تشاؤمية بهذا الشكل ؟! في حين وعلىٰ حدّ قولكم انكم لم تطالعوا علىٰ مدىٰ حياتكم كتاباً في التعاليم الدينية وكذلك لم تلتقوا بعالم دين ولا اي مسلم واع يحملان معلومات وافرة عن الاسلام.

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٦

ورغم ذلك ، تنفرون من الاسلام وتحقدون عليه للحد الذي اغضبكم وجودي معكم لفترة يوم واحد في هذا القطار لأن مظهري يوحي بأني متدين ، بشكل اخذتم بالاستهزاء بي ، وعدم احترام شيبتي ، وصرتم تتهامسون وتتغامزون فيما بينكم ؟! فمرّة تشيرون الىٰ قبعة الصوف التي اضعها علىٰ رأسي ، واُخرىٰ تتضاحكون علىٰ لحيتي.

أيُّها السادة :

انا وكما تقولون رجعي ، أمّا أنتم المتربّون في أحضان الحضارة الغربية ، لماذا كل تلك التصرفات القبيحة وغير الصحيحة ، علىٰ رجل لم تكونوا تعرفونه ولا رأيتموه من قبل ولم يصدر منه ذنب أو خيانة ؟!

هل هذه الحضارة التي ابتلينا بها والتي لا تستطيع ان تربي ابناءها إلّا بهذا الشكل ؟!

رفاق السفر : كان لكلام الشيخ تأثير قوي في نفوسهم ، اخذ بعضهم ينظروا الىٰ بعض ويوافقون الشيخ كلامه ، واعتذر كل واحد منهم مباشرة من الشيخ بكلمات ودّ واحترام خجولة عمّا بدر منهم من قبل ، ثم قالوا : من دواعي سعادتنا ان نلتقي شخصاً عالماً مثلك ، نأمل ان نسعد ونستفيد من وجودك خلال هذه السفرة القصيرة ـ للأسف ...

ودار حديث بين رفقة السفر : قال أحد الرفاق :

اصدقائي ! أتصوّر انّنا اليوم اُتيحت لنا فرصة مناسبة ، بوجود هذا الشيخ

٢٧

العالم الذي يجب علينا احترامه ، للبحث والكلام الاسلام وقوانينه ، لكي نطلع علىٰ منطق الدين والمؤمنين به.

باقي الاصدقاء : أنّنا سعيدون باقتراحك هذا ، ونستقبله بكل شوق ، لان ما تحدث به الشيخ يظهر فضل هذا الرجل وسعة اطلاعه بالاسلام وغزارة علمه.

الشيخ : من دواعي الاعتزاز ان تحيطوني بكل هذا اللطف والود ، ولكن قبل البدء بالبحث ، ومن أجل تطبيق حكم الاسلام الاخلاقي في التعامل مع الاشخاص ، لابدّ من ان نتعرّف علىٰ بعضنا ، لكي نبدأ هذا البحث والمناظرة بجو من الود.

التعارف

في البداية ، اعرف لكم نفسي ، اسمي تقي رستگار من مدينة همدان ، مهني.

احد الحاحزين : انا رضا سخنوّر ، أحمل شهادة الدكتوراء في القانون.

الثاني : احمد تاجور ، ضابط برتبة عقيد.

الثالث : حسن سماوي ، طالب في كلية الطب.

الرابع : علي امامي ، موظف في دائرة المخازن ( السايلو ).

الخامس : عباس بيضاوي ، رئيس دائرة التربية والتعليم في بندر شاه.

٢٨

الشيخ : من دواعي السرور ان اكون برفقة مجموعة من المتعلمين والمطلعين علىٰ العصر ، خاصة سعادة السيد الدكتور رضا سخنور الذي يحمل شهادة في القانون والذي سنستفيد كثيراً من آرائه في بحثنا ( البحث في قوانين الدين الاسلامي المقدّس ). فهو يستطيع ، ومن خلال المامه الواسع بالقانون ، ادراك القيمة الحقيقية للقوانين الاسلامية ، من مقارنتها بقوانين الشعوب المتقدّمة في العالم.

الدكتور : يا عمّ ! أودُّ في البداية ان نتحدث حول الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضوع نبوته ورسالته ، لكي نتناول فيما بعد مسألة القوانين الاسلامية ، بعد ان ترتفع الشبهات العالقة في اذهاننا ( انا وسائر اصدقائي ) حول النبوة.

٢٩

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ

الشيخ : سعادة الدكتور ! من اجل توضيح الموضوع الذي سألتموه ، لا بدّ من بحث عدة نواحي ، لكي نصل الىٰ هذه النتيجة وهي إنَّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ في تاريخ الانسانية ، ورسول من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وإنّ القوانين التي جاء بها الىٰ البشرية ، جميعها اُوحيت إليه من قبل رب العالمين ، وهذه النواحي التي لابدّ من بحثها هي بالترتيب التالي (١) :

أ ـ وضع الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فترة الرسالة.

ب ـ البلاد التي ولد ونشأ فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الجغرافيا والسكان.

ج‍ ـ دراسة مختصرة في وضع القوم الذين نشأ وعاش رسول الاسلام بينهم.

الناحية الاُولىٰ : ولد محمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله من اسرة طاهرة وشريفة في مكّة ، ولأن اُمّه آمنة عليها‌السلام لم تستطع ارضاعه لشحة حليبها ، فقد اعطاه جدّه

________________

(١) في هذا الصدد يمكنكم الرجوع الىٰ كتابنا « القادة الصديقون » ( بالفارسية ) فقد بحثت هذه المسائل بالتفصيل هناك.

٣٠

عبد المطلب إلىٰ مرضعة تسمىٰ حليمة السعدية (١) حتىٰ ترضعه ، فأخذته الىٰ قومها وبقي مع تلك القبيلة حتىٰ بلغ الخامسة من العمر ، وبعد ذلك عاش مع جدّه عبدالمطلب ثلاثة سنوات ، ومنذ سن الثامنة حيث توفي جدّه عبد المطلب ، عاش في كنف عمّه أبي طالب حتىٰ بُعث بالرسالة وهو في سن الأربعين ، إلّا انّ ما يهمنا من ذلك هو أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرسل الىٰ مدرسة ، ولم يدرس عند أي استاذ إلى أن بُعث رسولاً ، وخلال تلك الاربعين سنة لم يقرأ ويكتب سطراً واحداً ولا كان يدعي ذلك ، وهذا ما يعترف به جميع المؤرخين واصحاب السير. وانما كانت له حياته العادية كسائر العرب ( سوىٰ انه لم يرَ منه ذنب أو خيانة في كل فترة حياته ) ، وهنا يكمن السرّ ، فلو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذهب الىٰ مدرسة أو تتلمذ علىٰ يد احد العلماء ، لربما شُكَّ في الأحكام التي جاء بها كنبي.

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢).

وهذه القضية من أهم القضايا التي احتارت الدنيا بتفسيرها وجعلت علماء العالم يستسلمون أمامها ، لأنه لم يسبق ان رأت البشرية شخصاً اُمّيّاً ينشأ في بيئة مثل الجزيرة العربية وبعد أربعين سنة من حياة عادية ، يأتي وكرجل إلهي ومرسل من قبل الله بأحكام وقوانين لسعادة الانسان ، وبعد اربعة عشر

________________

(١) حليمة ، امرأة من قبيلة بني ساعدة التي تسكن اطراف مكة المكرمة ، وكانت قد جاءت الىٰ مكة بعد القحط الذي أصاب قبيلتها ، لأخذ طفل ترضعه ، فتنال من عملها ذلك مالاً ترمّ به معاشها.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٨.

٣١

قرناً عجز البشر ان يأتي بمثلها وبعظمتها رغم جميع التطورات العلمية والفكرية التي حدثت.

أجل ، فهذا الأمر هو اكبر دليل علىٰ ان الرجل كان رسولاً من قبل ربّ العالمين ، وانه كان مرتبطاً بمبدأ الوحي.

٣٢

التشريع في عالمنا المعاصر

اصدقائي الاعزاء !

رغم اننا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، وقد وصل فيها البشر الىٰ كل هذا التطور العلمي ، إلّا انّ تدوين مادة قانونية في الدول المتقدّمة يحتاج الرجوع الىٰ أصحاب الاختصاص والعلماء الكبار واساتذة الجامعات ، وهؤلاء بعد مشاورات عديدة يقدمونها علىٰ شكل لائحة الىٰ البرلمان ، هناك ايضاً يطرحونها في لجانهم المختصّة (١) وبعد مداولات عديدة تطرح اللائحة في البرلمان للتصويت عليها ، فيتكلم العديد من النواب حولها (٢) ثم يصوت عليها بعد ان صرفت اموال طائلة من اجل وضعها ، هذه المادة وبعد فترة قد تكون شهراً أو بضع سنين وعندما تظهر نواقصها الواحدة بعد الاُخرىٰ ، يجبرون علىٰ الغاءها.

فهذا هو الاسلوب المتّبع في التشريع اليوم في العالم المتحضر الذي ينظر

________________

(١) Fraction.

(٢) هذا الكلام يصدق في الدول التي ينتخب فيها اعضاء البرلمان بشكل حرٍّ ومن قبل الشعب ، وأن يكون الانتخاب ايضاً علىٰ اساس العلم والكفاءة والاخلاص ، وليس في الدول التي تحكمها دكتاتوريات فردية تتسلط علىٰ مقدرات الشعوب ، والتي فيها الاجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية الّا ديكورات وكاريكاتورات ليس إلّا.

٣٣

الىٰ الاُمور من زاوية العلم.

نظرة الىٰ عالم الامس

مع الأخذ بأسلوب التشريع في عالمنا المعاصر ، ننظر الىٰ الوراء الىٰ عالم الظلمات قبل الف وأربعمائة سنة ، في ذلك العصر لم يكن هناك علم ومعرفة فاكثر البلدان تطوراً آنذاك ـ مثل ايران ـ كانوا بمستوىٰ من الانحطاط الفكري بحيث يعبدون النار ، وفي ذروة تطورهم أي العصر الساساني كان تحصيل العلم والمعرفة مقتصراً علىٰ أبناء الاُمراء وعلماء الدين المجوسي ، في حين انّ بعض البلدان الاُخرىٰ كانوا يعبدون البقر! فقد كانت آفاق افكارهم محصورة بشكل يصنعون من التمر آلهة يأكلونها إذا ما جاعوا ، فكانوا يحضرون تمراً من جديد ويصنعون آلهة أُخرىٰ للاستغفار أمامها علىٰ ما قاموا به.

وفي تلك الحقبة المظلمة ظهر رجل يسمىٰ محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك الماضي الذي ذكرناه عنه ، كرسول من قبل الله عزّ وجلّ ، وجاء بأحكام وقوانين للبشرية جعلت عصر الذرة الحالي يستسلم امام دقتها العلمية ، فإذا كنّا اليوم نشاهد في بعض الموارد قوانين مشابهة لقوانين الاسلام وذلك في اكثر الدول تقدّماً ، فهذا لا يبعث علىٰ العجب ، لانّنا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، في حين ان العصور الماضية كانت مظلمة مليئة بالجهل والخرافة.

فلو استطاع الشخاص اليوم التعليم وقضوا عمرهم في المدارس والجامعات وزوايا المكتبات ، فقرأوا لكبار العلماء ، ونشأوا في بيئة ساعدتهم

٣٤

في تنمية افكارهم ، هؤلاء الاشخاص لو تمكنوا من الوصول الىٰ حقائق في عالم الوجود ، او قاموا بوضع قانون ذا فائدة فهو ليس امراً مستغرباً وليس كما يسمىٰ « طفرة علمية » ، لأن عملهم ذلك يتناغم وينسجم مع المرحلة التاريخية والظروف البيئة والثقافية والاجتماعية التي يعيشونها.

لكن إذا ظهر شخص اُمّي في عصر مظلم قبل الف واربعمائة عام ومن بيئة متوحشة وملوّثة بمعنىٰ الكلمة ، وتمكن من ايجاد ذلك التغيير الفكري والعلمي في العالم الذي يتّسع شعاعه بمرور الأيام والقرون ، وكلّما اتّسعت دائرة العلم والمعرفة ، اتّضحت عظمة الاسلام العلمية مع تطور العلم في شتىٰ المجالات ، فهذا هو الذي يبعث علىٰ العجب والدهشة ، وهو الذي لم يسبق ان حدث مثله.

مثل هذه الحادثة ، ومع الأخذ بالحالة الثقافية ، والظروف التاريخية والاجتماعية لذلك العصر ، لهو دليل قاطع في ان الذي جاء بكل تلك القوانين مرسل من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وانه يوحىٰ اليه من مبدأ العلم المطلق ( الله ) ، لأن ذلك غير ممكناً بالحسابات المادية ، وهو كيف يمكن لرجل أُمّي أن يؤسس ديانة علمية تتعامل وواقع العالم والانسانية ، فهذا الامر حتىٰ في البيئة العلمية والثقافية تماماً غير ممكناً.

فلو كانت القضية « نبوغاً فكرياً » وتتعلّق بالظروف البيئية ، لحدث مثل ذلك ولو لمرة اُخرىٰ في تاريخ البشرية ، لكن هذا الامر لم يحدث في اكبر واهم المراكز العلمية وبين من لهم افضل الظروف العلمية والفكرية ، فضلاً عن ذلك العصر المظلم وتلك البيئة المتخلفة ، وهذا دليل قاطع علىٰ ارتباط الذي جاء

٣٥

بتلك القوانين والاحكام بمبدأ العلم ومصدره ، أي رب العالمين ، فهو نبي وما يقوله هو وحي إلهي :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١)

اعتراف الدكتور لورافاكسيا فاغليري

الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، البروفيسور الايطالي المعروف واستاذ جامعة نابل ، يقول في كتابه حول القرآن : ( نشاهد في هذا الكتاب خزائن وذخائر من المعرفة فوق قابليات واستعداد اذكىٰ الاشخاص واعظم الفلاسفة واقوىٰ رجال السياسة ، ولذلك لا يمكن ان يكون القرآن نتاج رجل متعلم ، افنىٰ عمره في مجتمع غير ديني ، لأن هذا الأمر لا يقوىٰ عليه رجال العلم والدين ، ذلك الرجل كان يؤكد علىٰ الدوام انه بشر مثل الآخرين ، لذا فبدون الله القادر لا يستطيع القيام بأية معجزة ، ومصدر القرآن ومنشأه لا يمكن ان يكون غير الله الذي احاط بعلمه السموات والارض وما بينهما ).

اصدقائي الاعزاء !

حقيقة الأمر هي كما قال الدكتور فاغليري ، لأنَّه إذا أراد شخص ان يصبح عالماً كبيراً ومعروفاً في عصرنا من خلال الانصراف بجميع سنوات عمره الىٰ كسب العلم ، فأن تخصصه في النهاية ايضاً سيكون في فرع معين ، فهو اما طبيب ـ مثلاً ـ أو خبير اقتصادي ، او عالم في القانون أو صاحب رتبة عالية في الجيش

________________

(١) سورة النجم : ٣.

٣٦

أو ... الخ ، فلا يمكن ان تجدوا اليوم في كل العالم شخصاً تخصص في مختلف الفروع والمجالات.

لكن رسول الاسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان فرداً بلا مستشار ، جاء من قبل الباري عزّ وجلّ تلك القوانين المتنوعة ، من المسائل العبادية حتىٰ المسائل القانونية ، ومن الاحكام الفردية حتىٰ المسائل الاقتصادية والاجتماعية ، وجميعها علىٰ اساس مسلَّمات حقائق عالم الوجود.

أليس ذلك دليل علىٰ ان محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول من قبل رب العالمين ، وليس عصارة ظروف تاريخية خاصة ؟!

الدكتور : النقطة التي اشرت اليها جديرة جداً بالالتفات ، لأننا نرىٰ في اكثر دول العالم تقدماً ، يوجهون كل فرد أو مجموعة الىٰ مجال معيَّن ، فالقضايا القانونية ـ علىٰ سبيل المثال ـ يوكلونها الىٰ اصحاب الاختصاص في القانون. ولم نشاهد الرجوع اليهم في قضايا الاقتصاد او الامور العسكرية. لأنهم لا يملكون معلومات فيها. اما فيما يتعلّق بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكما تفضلت ، لم يحدث ذلك من قبل وهو أن يأتي شخص ويقدم للبشرية قوانين محكمة وغير قابلة للأنكار في جميع المجالات.

الشيخ : أجل ، هكذا الدين الاسلامي ، له قوانين حيّة وغنية في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأقتصادية ، وهو ما يميّز ديننا عن سائر الأديان ، ويقدّمه عليها.

فالانجيل ـ مثلاً ـ الذي يعتبر الكتاب الديني المقدّس لجميع الدول الغربية ، اذا تصفحتموه بدقّة ستجدون اكثر احكامه اخلاقية ، ويحتوي

٣٧

علىٰ مباحث روحية ، بحيث لو تركت البلدان الغربية قوانينها الاجتماعية وارادت ان تعمل علىٰ ضوء تعاليم الانجيل ، ستشلّ وتقف عن الحركة جميع مؤسساتها ومرافقها الاجتماعية والاقتصادية ، وستسقط دفعة واحدة ، لانّه لا نجد في الانجيل كلّه حتىٰ خمسين مادة قانونية حول القضايا الاجتماعية (١).

في حين ان الدين الاسلامي المقدس ، ليس فقط يملك اسمىٰ التعاليم الاخلاقية والروحية ، بل ان قوانينه واحكامه تشمل جميع المجالات ، مثل : الزراعة والاقتصاد والسياسة والاُمور العسكرية والجيش والصحة والثقافة والتجارة والقضاء. وبشكل عام فهو يمتلك كل وافضل القوانين التي تحتاجها اُمة متحضرة ، حتىٰ في السباقات.

محطة بندرگز

في تلك اللحظة وصل القطار الىٰ محطة بندرگز ، كانت جماعة من الناس مستعدة للركوب ، ومجموعة من المسافرين أيضاً مستعدة للنزول ، ولذلك اختل النظام العادي في القطار.

شرطي المحطة واقف الىٰ جانب السلم ، ويصيح : أيُّها السادة أرجو منكم مراعاة النظام ، افسحوا المجال للمسافرين يخرجون من داخل القطار ، ومن ثم اصعدوا.

________________

(١) لدراسة محتويات التوراة والانجيل ومقارنتها بالقرآن ، يمكنكم الرجوع إلى كتاب « الانسان وسائر الكتب السماوية ». ( بالفارسية )

٣٨

ولكن لم يكن احد يستمع اليه في تلك اللحظات ، فكرر الشرطي : أيُّها السادة ارجو ان تراعوا القانون ، لماذا تصعدون ، فلا زالوا لم ينزلوا ؟!

اهانة عقيد لسائق سيارة اجرة

أحد المسافرين كان يحمل حقيبة بيده وهو مستعد مع أخيه للصعود ، قال : دعك من هذا غفر الله لك ، اين يُراعىٰ القانون في هذا البلد ، حتىٰ يُراعىٰ هنا بجنب سلّم القطار ، إذا كان حقيقاً ما تدّعي اذهب وقل لمرؤوسيك ان لا يتصرفوا خلاف القانون.

فقال الشرطي : ما هذا الذي تقوله ؟

المسافر : ليس قول وإنّما حقيقة.

في هذا العام كان أحد أصدقاءنا يقود سيارته في احد شوارع طهران وفجأة استدارت سيارة خاصة امامه ، لم يكن يبق شيئاً ان يتصادما ، فضغط صديقنا علىٰ الكابح وأوقف السيارة قبل ان تصطدم بتلك السيارة المخالفة ، ممّا ادىٰ الىٰ جرح احد الركاب الذين كانوا معه برأسه ، فنزل من سيارته واتّجه الىٰ سائق تلك السيارة فوجده يحمل علىٰ صدره واكتافه طناً من الميداليات والأوسمة وإلىٰ جانبه سيدة نصف عارية ، فقال له : أيُّها السيد المحترم ، ما هذا الذي عملته ، لماذا استدرت هنا ؟

صدقني أيُّها الشرطي ! ما ان أتم كلامه حتىٰ أتته صفعة قوية من ذلك

٣٩

الرجل ، فردّها صديقنا المسكين إليه بصفعة مماثلة.

عند ذلك قال له الرجل : يجب ان نذهب الىٰ مركز الشرطة ، فقبل صديقنا بذلك ، وذهبوا جميعاً الىٰ هناك ، وما أن وصلوا المركز حتىٰ رأىٰ صديقنا ان جميع الضباط والشرطة قد وقفوا احتراماً لذلك الرجل ، فتبيّن ان ذلك الرجل برتبة عقيد.

فأمر الشرطة ، الذين قاموا بضرب صديقنا للحد الذي لم يتمكن النهوض من فراشه ليومين ، ثم أمرهم بحلق رأسه وسجنوه ليلة عندهم ، مع ان ضابط المرور كان قد أشار بالتقصير الىٰ العقيد ، فما كان عليه ان يستدير في ذلك المكان ، لكن سيادة العقيد لا يهمه القانون ، لانه يعتبر نفسه فوق القانون ، القانون يجب ان يكون للجميع وليس لي ولأمثالي من المساكين.

هنا قال اخو المسافر : أخي ، ما هذا الذي تقوله ، لا حاجة لنا بوجع الرأس ، فلو القوا القبض عليك الآن بتهمة الاستهزاء بالمقدّسات الوطنية ! والتجاسر علىٰ .... ، من الذي سينجيك ؟!

وبعد دقائق من التوقّف ، تحرك القطار ثانية وعاد النظام الىٰ ما كان عليه.

٤٠