القواعد والفوائد - ج ٢

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٥
الجزء ١ الجزء ٢

النكرة في سياق النفي ، وعاما في المولودين ، باعتبار إضافته على رأي القائل بعمومه (١) ، وعاما في الأزمنة ، لأن (لا) لنفي الاستقبال على طريق العموم كقوله تعالى (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٢) ، فهو بالنسبة إلى أحوال الولد مطلق ؛ لأن العام في الأشخاص والأزمان لا يلزم أن يكون عاما في الأحوال.

والاكتفاء في الرشد بإصلاح المال ، حملا على أقل مراتبه. وهذا أظهر في الدلالة مما قبله ، لاقتران تينك (٣) بما احتيج إلى الجواب عنه به.

واستدل بعض العامة (٤) على الاقتصار في حكاية الأذان ، على حكاية التشهد ، فان قوله عليه‌السلام : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) (٥) مطلق ، فحمل على مطلق المماثلة ، وهو صادق على التشهد ، فيكون كافيا.

قلت : هذا يناقضه قولكم بعموم المفرد المضاف ، و (مثل) مضاف.

__________________

(... بولدها) ، والسيوطي في ـ الجامع الصغير بشرح المناوي : ٢ ـ ٣٦٢ ، بلفظ : (.... عن ولدها).

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٨.

(٢) طه : ٧٤ ، والأعلى : ١٣.

(٣) في (ح) : ذينك.

(٤) انظر : مالك ـ المدونة الكبرى : ٠١ ـ ٦٠ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٩.

(٥) انظر : صحيح مسلم : ١ ـ ٢٨٨ ، باب ٧ من أبواب الصلاة ، حديث : ١١.

٤١

فائدة

استثني من هذه القاعدة (١) :

ما أجمع على اعتبار أعلى المراتب فيه ، وهو ما نسب إليه تعالى من التوحيد ، والتنزيه ، وصفات الكمال.

وما أجمع على الاكتفاء فيه بأقل المراتب ، كالإقرار بصيغة الجمع ، فإنه يحمل على أقل مراتبه.

والفرق : أن الأصل تعظيم جانب الربوبية بالقدر الممكن ، والأصل براءة ذمة المقر ، قال الله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا أحصي ثناء عليك) (٣) والباقي هو المحتاج إلى دليل.

ولك أن تقول : محل النزاع هو الجاري على الأصل ، وكذلك الإقرار ، وأما تعظيم الله تعالى فهو دليل من خارج اللفظ ، فلا يخرج القاعدة عن حقيقتها.

قاعدة ـ ١٦١

قد تقدم تقسيم الحقوق (٤) ، ويزيد هنا : أن المراد بحق الله تعالى ،

__________________

(١) ذكر هذا الاستثناء القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٠.

(٢) الأنعام : ٩١ ، والزمر : ٦٧.

(٣) انظر : صحيح مسلم : ١ ـ ٣٥٢ ، باب ٤٢ من كتاب الصلاة ، حديث : ٢٢٢.

(٤) راجع : ١ ـ ٣٢٤ ـ ٣٣١.

٤٢

إما أوامره الدالة على طاعته ، أو نفس طاعته ، بناء على أنه لو لا الأمر لما صدق على العبادة أنها حق الله ، أو بناء على أن الأمر إنما يتعلق بها لكونها في نفسها حق الله تعالى. وعليه نبه في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أهل البيت عليهم‌السلام : (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) (١).

ويتفرع على اعتبار أن الأمر هو حق الله : أن حقوق العباد المأمور بأدائها إليهم مشتملة على حق الله تعالى ، لأجل الأمر الوارد إليهم ، معاملة ، أو أمانة ، أو حدا ، أو قصاصا ، أو دية ، أو غير ذلك.

فعلى هذا ، يوجد حق الله تعالى بدون حق العبد ، كما في الأمر بالصلاة ، ولا يوجد حق العبد بدون حق الله تعالى.

والضابط فيه : أن كل ما للعبد إسقاطه ، فهو حق العبد ، وما لا ، فلا ، كتحريم الرّبا والغرر ، فإنه لو تراضى اثنان على ذلك لم يخرج عن الحرمة ، لتعلق حق الله تعالى به ؛ فان الله تعالى إنما حرمهما صونا لمال العباد عليهم ، وحفظا له عن الضياع ، فلا تحصل المصلحة بالمعقود

__________________

(١) أورده بهذا النص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٢. وأخرجه البخاري في صحيحة : ٤ ـ ٤٦ ، أواخر كتاب اللباس ، والصدوق في ـ التوحيد : ١١ ، عن معاذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظ : (حق الله عزوجل على العباد أن لا يشركوا به شيئا): وورد بمضمونه عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وعن الإمام الصادق عليه إسلام انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١١ ـ ١٣٢ ، باب ٣ من أبواب جهاد النّفس ، حديث : ١ ، والصدوق ـ التوحيد : ٤ (المطبعة الحيدرية بالنجف : ١٣٨٦).

٤٣

عليه ، أو تحصل مصلحة نزرة (١) وبإزائها مفسدة كبرى : ومن ثمَّ منع العبد من إتلاف نفسه وماله ، ولا اعتبار برضاه في ذلك. وكذلك حرمت السرقة ، والغصب ، صونا لماله ، والقذف ، صونا لعرضه ، والزنا ، صونا لنسبه ، والقتل ، والجرح ، صونا لنفسه ، (ولا يعتبر فيه) (٢) رضا العبد (٣).

فائدة (٤)

لو اجتمع مضطران فصاعدا إلى الإنفاق ، وليس هناك ما يفضل عن أحدهما ، قدم واجب النفقة ، فإن وجبت نفقة الكل ، قدم الأقرب فالأقرب ؛ فإن تساويا ، فلأقرب القسمة. ولو كان الكل غير واجبي النفقة في الأصل ، فالأقرب تقدم المخشي تلفه ، فان تساووا ، احتمل تقديم الأفضل. ولا يعارض الإمام غيره البتة.

ولو كان عنده ما لو أطعمه أحد المضطرين لعاش يوما ، ولو قسمه بينهما لعاش كل منهما نصف يوم ، فالظاهر القسمة ، لعموم قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٥). ولتوقع تتميم حياة كل منهما.

وهل القسمة في مواضعها على الرءوس ، أو على سد خلة الجوع؟

__________________

(١) في (ح) : نادرة.

(٢) في (ك) : ولا يغيرها.

(٣) انظر في هذه القاعدة : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٤) في (أ) : قاعدة.

(٥) النحل : ٩٠.

٤٤

احتمال. ويرجح الثاني أنه أدخل في العدل ، إذ يجب عليه مع القدرة إشباعهما مع اختلاف قدر أكلهما ، فليكن كذلك مع العجز. فعلى هذا ، لو كان عنده رغيف ، وله ولدان وثلثه نصف شبع أحدهما ، وثلثاه نصف شبع الآخر ، وزعه عليهما أثلاثا ، وعلى الرءوس نصفين.

ولو كان نصفه يشبع أحدهما ، ونصفه نصف شبع الآخر ، قسم أيضا أثلاثا.

والضابط : القسمة على الشبع ، ونعني به سد خلة الجوع الّذي لا يصبر عليه ، لا التملي. ونبه على ذلك قسمة الغنائم للفارس ضعف الراجل باعتبار حاجته وحاجة فرسه (١).

فائدة

أظهر القولين في نفقة الزوجة أنها غير مقدرة ؛ بل الواجب سد الخلة ، كالأقارب ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهند (٢) : (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (٣). ولم يقدر بالمدين أو بالمد.

والتقدير بالحب ، ومئونة الطحن والإصلاح ، رد إلى الجهالة ، لأن المئونة مجهولة ، فيصير الجميع مجهولا.

قالوا (٤) : النفقة بإزاء ملك البضع ، فتكون مقدرة ؛ لأصالة

__________________

(١) انظر هذه الفائدة أيضا في ـ قواعد الأحكام ، لا بن عبد السلام : ١ ـ ٦٩.

(٢) امرأة أبي سفيان.

(٣) انظر : البيهقي ـ السنن الكبرى : ٧ ـ ٤٦٦.

(٤) انظر : ابن عبد السلام ـ قواعد الأحكام : ١ ـ ٧٠ (تعليلا لقول الشافعي بالتقدير).

٤٥

التقدير في الأعواض.

قلنا : نمنع ذلك ، بل هي بإزاء التمكين ، ولهذا تسقط بعدمه ، وإنما قابل البضع المهر ، فالنفقة فيها كنفقة العبد المشتري ، إذ الثمن بإزاء رقبته ، والنفقة بسبب ملكه (١).

قال بعض العامة (٢) ، ردا على فريقه القائل بالتقدير : لم يعهد في السلف ولا في الخلف أن أحدا أنفق الحبّ على زوجته مع مئونة إصلاحه. فالقول به يؤدي إلى أن كل من مات يكون مشغول الذّمّة بنفقة الزوجة ؛ لأن المعاوضة على الحب الّذي أوجب مما تأكله الزوجة من الخبز واللحم وغيرهما ربا. ولو جاز كونه عوضا ، لم يبرأ من النفقة إلا بعقد (٣) صلح أو تراض من الجانبين ، وما بلغنا أن أحدا أطعم زوجته على العادة ، ثمَّ أوصى بإيفائها نفقتها حبا من ماله ، ولا حكم حاكم بذلك على أحد الأزواج.

قاعدة ـ ١٦٢

تتعلق بحقوق الوالدين لا ريب أن كل ما يحرم أو يجب للأجانب ، يحرم أو يجب للأبوين. وينفردان بأمور :

__________________

(١) رد بهذا ابن عبد السلام في قواعده : ١ ـ ٧١.

(٢) هو ابن عبد السلام في قواعده : ١ ـ ٧١.

(٣) في (ك) و (م) : بعد.

٤٦

الأول : تحريم السفر المباح بغير إذنهما ، وكذا السفر المندوب. وقيل (١) : بجواز سفر التجارة وطلب العلم ، إذا لم يمكن استيفاء التجارة والعلم في بلدهما ، كما ذكرناه فيما مرّ (٢).

الثاني : قال بعضهم (٣) : يجب عليه طاعتهما في كل فعل وان كان شبهة ، فلو أمراه بإلا كل معهما من مال يعتقد شبهته أكل ، لأن طاعتهما واجبة ، وترك الشبهة مستحب.

الثالث : لو دعواه إلى فعل ، وقد حضرت الصلاة ، فليؤخر الصلاة وليطعهما ، لما قلناه.

الرابع : هل لهما منعه من الصلاة جماعة؟ الأقرب أنه ليس لهما منعه مطلقا ، بل في بعض الأحيان بما يشق عليهما مخالفته ، كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء والصبح.

الخامس : لهما منعه من الجهاد مع عدم التعيين ، لما صح : (أن رجلا قال يا رسول الله : أبايعك على الهجرة والجهاد. فقال : هل من والديك أحد حي (٤)؟ قال : نعم ، كلاهما. قال : أفتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال : نعم. قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما (٥).

__________________

(١) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٢٢٩ ، والغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١١٣ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) راجع : ١ ـ ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٣) انظر : الغزالي ـ إحياء علوم الدين : ٢ ـ ٢١٨.

(٤) زيادة من (ح) ، وهي مطابقة لما في الفروق : ١ ـ ١٤٤

(٥) أورده بهذا النص القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٤. ورواه مسلم في صحيحة : ٤ ـ ١٩٧٥ ، باب ١ من كتاب البر والصلة ، حديث : ٦ (باختلاف بسيط في اللفظ).

٤٧

السادس : الأقرب أن لهما منعه من فرض (١) الكفاية ، إذا علم قيام الغير أو ظن ؛ لأنه يكون حينئذ كالجهاد الممنوع منه.

السابع : قال بعض العلماء (٢). لو دعواه في صلاة النافلة قطعها ، لما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أن امرأة نادت ابنها ، وهو في صومعته ، فقالت : يا جريج (٣). فقال : اللهم أمي وصلاتي. فقالت : يا جريج (٤). فقال : اللهم أمي وصلاتي. فقالت : لا تموت حتى تنظر في وجوه المومسات ...). الحديث (٥). وفي بعض الروايات : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (لو كان جريج (٦) فقيها لعلم أن أجابه أمه أفضل من صلاته) (٧). وهذا الحديث يدل على قطع النافلة لأجلها. ويدل بطريق الأولى على تحريم السفر ؛ لأن غيبة الوجه فيه أكثر وأعظم ، وهي كانت تريد منه النّظر إليها والإقبال عليها.

الثامن : كف الأذى عنهما ، وإن كان قليلا ، بحيث لا يوصله الولد إليهما ، ويمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.

__________________

(١) في (أ) : فروض.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٤.

(٣) في (ح) و (أ) : جريح ، وما أثبتناه مطابق لما في صحيح مسلم وكنز العمال ، والفروق.

(٤) في (ح) و (أ) : جريح ، وما أثبتناه مطابق لما في صحيح مسلم وكنز العمال ، والفروق.

(٥) انظر نصّ الحديث في ـ صحيح مسلم : ٤ ـ ١٩٧٦. باب ٢ من أبواب البر والصلة ، حديث : ٧ ، ٨ ، وكنز العمال : ٨ ـ ٢٨١ ، حديث : ٤٨١٠ ، وللفروق : ١ ـ ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٦) في (ح) و (أ) : جريح ، وما أثبتناه مطابق لما في صحيح مسلم وكنز العمال ، والفروق.

(٧) أورده بهذا النص القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٥. وأورده المتقي الهندي في ـ كنز العمال : ٨ ـ ٢٧٩ ، حديث : ٤٧٥٠ ، بلفظ : (لو كان جريج الراهب فقيها عالما لعلم أن إجابته دعاء أمه أولى من عبادة ربه).

٤٨

التاسع : ترك الصوم ندبا إلا بإذن الأب. ولم أقف على نصّ في الأم (١).

العاشر : ترك اليمين والعهد إلا بإذنه أيضا ، ما لم يكن في فعل واجب ، أو ترك محرم. ولم أقف في النذر على نصّ خاص. إلا أن يقال : هو يمين ، يدخل في النهي عن اليمين إلا بإذنه.

تنبيه :

بر الوالدين لا يتوقف على الإسلام ، لقوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (٢) (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٣) ، وهو نصّ.

وفيه دلالة على مخالفتهما في الأمر بالمعصية ، وهو كقوله عليه‌السلام : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (٤).

__________________

(١) هناك بعض النصوص الناهية عن صوم الولد تطوعا إلا بإذن والديه وأمرهما ، من غير فرق بين الأب والأم ؛ من ذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (... ومن برّ الولد بأبويه أن لا يصوم تطوعا إلا بإذن أبويه وأمرهما ، وإلا. كان الولد عاقا). الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ٧ ـ ٣٩٦ ، باب ١٠ من أبواب الصوم المحرم والمكروه ، حديث : ٢.

(٢) العنكبوت : ٨.

(٣) لقمان : ١٥.

(٤) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٣ ـ ٢٠١ ، حديث : ٣٠٦٦ ، والسيوطي ـ الجامع الصغير بشرح المناوي : ٢ ـ ٣٦٤. النفقات ، والمتقي النهدي ـ كنز العمال : ٢ ـ ٧٣ ـ ٧٦.

٤٩

الترغيب في صلة الأرحام. والكلام فيها في مواضع :

الأول : ما الرحم؟

الظاهر أن المعروف بنسبة وإن بعد ، وإن كان بعضه آكد من بعض ، ذكرا كان أو أنثى.

وقصره بعض العامة (١) على المحارم الذين يحرم التناكح بينهم إن كانوا ذكورا وإناثا ، وإن كانوا من قبيل ، يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى ، فإن حرم التناكح ، فهو الرحم.

واحتج (٢) : بأن تحريم الأختين إنما كان لما يتضمن من قطيعة الرحم. وكذا تحريم (٣) الجمع بين العمة والخالة وابنة الأخ والأخت مع عدم الرضا ، عندنا ، ومطلقا عندهم (٤).

وهذا بالإعراض عنه حقيق ، فإن الوضع اللغوي يقتضي ما قلناه (٥) ، والعرف أيضا ، والأخبار دلت عليه (٦) ، وفيها تباعد

__________________

(١) انظر : النوويّ ـ شرح صحيح مسلم : ١٦ ـ ١١٣ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٧ (نقلا عن بعض العلماء).

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٧.

(٣) في (ك) و (ح) زيادة : إيجاد.

(٤) أي عند غير الإمامية.

(٥) انظر : الراغب الأصفهاني ـ المفردات : ١٩١ ، كتاب الراء ، مادة (رحم) ، وابن منظور ـ لسان العرب : ١٢ ـ ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، مادة (رحم).

(٦) انظر : صحيح مسلم : ٤ ـ ١٩٨٢ ، باب ٦ من أبواب البر والصلة ، حديث : ٢٢ ، المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٢ ـ ٧٤.

٥٠

فان قلت : ما تصنع بقوله تعالى (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) (١) وهو يشمل الأب ، وهذا منع من (٢) المباح ، فلا تكون طاعته واجبة فيه ، أو منع من المستحب ، فلا تجب طاعته في ترك المستحب (٣)؟

قلت : الآية في الأزواج. ولو سلم الشمول ، أو التمسك في ذلك بتحريم العضل ، فالوجه فيه : أن للمرأة حقا في الإعفاف والتصون ، ودفع ضرر مدافعة الشهوة ، والخوف من الوقوع في الحرام ، وقطع وسيلة الشيطان عنهم بالنكاح ، وأداء الحقوق واجب على الآباء للأبناء ، كما وجب العكس (٤). وفي الجملة ، النكاح مستحب ، وفي تركه تعرض لضرر ديني أو دنيوي ، ومثل هذا لا يجب طاعة الأبوين فيه.

قاعدة ـ ١٦٣

كل رحم يوصل ، الكتاب (٥) ، والسنة (٦) ، والإجماع على

__________________

(١) البقرة : ٢٣٢.

(٢) في (أ) زيادة : النكاح.

(٣) هذا سؤال أورده القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٦.

(٤) انظر نفس المصدر السابق.

(٥) انظر : البقرة : ٨٣ ، ١٧٧ ، ٢١٥ ، والنساء : ٣٥ ، والنحل : ٩٠ ، والنور : ٢٢.

(٦) انظر : صحيح مسلم : ٤ ـ ١٩٨٠ ـ ١٩٨٢ ، باب ٦ من أبواب البر والصلة ، حديث : ١٦ ـ ٢٢ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١٥ ـ ٢٤٣ ـ ٢٤٨ ، باب ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، من أبواب حديث : ١٧٩٦ ، ١٨٠١ ، ١٨٠٦ ، ١٨٠٩ ، وج ٨ ـ ٣٠٩ ، حديث : ٥٢٤٥.

٥١

بآباء كثيرة ، وقوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (١) عن عليّ عليه‌السلام : أنها نزلت في بني أمية. أورده علي بن إبراهيم (٢) رحمه‌الله في تفسيره (٣).

وهو يدل على تسمية القرابة المتباعدة رحما.

الثاني : ما الصلة التي يخرج بها عن القطيعة؟

والجواب : المرجع في ذلك إلى العرف ، لأنه ليس له حقيقة شرعية ، ولا لغوية ، وهو يختلف باختلاف العادات ، وبعد المنازل وقربها.

الثالث : بم (٤) الصلة؟

والجواب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (بلّوا (٥)

__________________

(١) محمد : ٢٢.

(٢) هو أبو الحسن ، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي. من أجل رواه الإمامية وثقاتهم ، روى عنه مشايخ أهل الحديث. له عدة مؤلفات ، منها : كتاب التفسير ، وكتاب الناسخ والمنسوخ ، وكتاب قرب الإسناد. لم يعلم تاريخ وفاته ولكنه كان حيا سنة ٣٠٧ ه‍. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٣ ـ ٧٣).

(٣) ٢ ـ ٣٠٨.

(٤) في (أ) و (م) : بما.

(٥) في (ح) و (م) و (أ) : صلوا. وبهذا اللفظ رواه الطبرسي في ـ مشكاة الأنوار : ١٥١. ومعنى بلّوا : أي ندّوها بصلتها. قال ابن الأثير : (وهم يطلقون النداوة على الصلة ، كما

٥٢

أرحامكم ولو بالسلام) (١). وفيه تنبيه على أن السلام صلة.

ولا ريب أنه مع فقر بعض الأرحام ، وهم العمودان ، تجب الصلة بالمال. ويستحب لباقي الأقارب ، ويتأكد في الوارث ، وهو قدر النفقة. ومع الغنى فبالهدية في بعض الأحيان ، بنفسه أو رسوله.

وأعظم الصلة ما كان بالنفس ، وفيه أخبار كثيرة (٢) ، ثمَّ بدفع الضرر عنها ، ثمَّ بجلب النّفع إليها ، ثمَّ بصلة من يجب (٣) وإن لم يكن رحما للواصل ، كزوجة الأب والأخ ومولاه ، وأدناها السلام بنفسه ، ثمَّ برسوله ، والدعاء بظهر الغيب ، والثناء في المحضر.

الرابع : هل الصلة واجبة أو مستحبة؟

والجواب : أنها تنقسم إلى الواجب ، وهو ما يخرج به عن القطيعة ، فان قطيعة الرحم معصية ، بل قيل (٤) : هي من الكبائر.

__________________

يطلقون اليبس على القطيعة). النهاية : ١ ـ ٥٣ ، مادة (بلل).

(١) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٢ ـ ٧٣ ، حديث : ١٧٨٥ ، والسيوطي ـ الجامع الصغير بشرح المناوي : ١ ـ ٢١٧.

(٢) لم أعثر ـ في حدود تتبعي ـ إلا على حديث واحد في عظم الصلة بالنفس. انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ٦ ـ ٢٨٧ ، باب ٢٠ من أبواب الصدقة ، حديث : ٥ ، والمجلسي ـ البحار : ٧٦ ـ ٣٣٥ ، باب ٦٧ من كتاب الآداب (الطبعة الحديثة). نعم هناك أحاديث في الصدقة تشير إلى عظم دفع المتصدق للمسائل بيده ، وهذا ـ على ما يبدو ـ أجنبي عن المقام.

(٣) في (م) و (ح) : يجب. ولعل ما أثبتناه أصح.

(٤) انظر : النوويّ ـ شرح صحيح مسلم : ١٦ ـ ١١٣ ، وتاج الدين السبكي ـ جمع الجوامع ، طبع مع حاشية البناني على شرح المحلي :

٥٣

والمستحب ، ما زاد عن (١) ذلك.

وتظافرت الأخبار بأن صلة الأرحام تزيد في العمر (٢). فأشكل هذا على كثير من الناس ، باعتبار أن المقدرات في الأزل ، والمكتوبات في اللوح المحفوظ ، لا تتغير بالزيادة والنقصان ، لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى ، وقد سبق العلم بوجود كل ممكن أراد وجوده ، وبعدم كل ممكن أراد بقاءه على حالة العدم الأصلي ، أو إعدامه بعد إيجاده ، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر ونقصانه بسبب من الأسباب؟! واضطربوا في الجواب ، فتارة يقولون : هذا على سبيل الترغيب (٣).

وتارة : المراد به الثناء الجميل بعد الموت (٤) ، وقد قال الشاعر المتنبي (٥) (٦) :

__________________

٢ ـ ١٥٦.

(١) في (ح) و (أ) : على.

(٢) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٢ ـ ٧٣ ـ ٧٤ ، حديث : ١٧٨٠ ـ ١٧٨١ ، ١٧٩٠ ـ ١٧٩٢ ، ١٧٩٦ ، ١٧٩٨ ، ١٧٩٩ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١٥ ـ ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ، باب ١٧ من أبواب النفقات ، حديث : ٢ ـ ٤ ، ٨ ـ ١٠ ، ١٢ ـ ١٥.

(٣) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٤) انظر : ابن العربي ـ شرح صحيح الترمذي : ٨ ـ ١١١ ، والنوويّ ـ شرح صحيح مسلم : ١٦ ـ ١١٤ (نقلا عن القاضي عياض اليحصبي).

(٥) زيادة من (أ) و (م).

(٦) هو أبو الطيب ، أحمد بن الحسين بن الحسن ، الجعفي ، الكندي ، الكوفي ، الشهير بالمتنبي. ولد بالكوفة سنة ٣٠٣ ه‍ ، وقدم الشام

٥٤

ذكر الفتى عمرة الثاني وحاجته

ما قاته وفضول العيش أشغال

(١) وقال :

ماتوا فعاشوا بحسن الذّكر بعدهم

ونحن في صورة (٢) الأحياء أموات

(٣) وقيل (٤) : بل المراد زيادة البركة في الأجل أما في نفس الأجل فلا.

وهذا الإشكال ليس بشي‌ء ، أما أولا ، فلوروده في كل ترغيب مذكور في القرآن والسنة حتى الوعد بالجنة ، والنعيم على الإيمان ، وبجواز الصراط ، والحور والولدان ، وكذلك التوعدات بالنيران ، وكيفية العذاب ؛ لأنا نقول : إن الله تعالى على ارتباط الأسباب بالمسببات في الأزل ، وكتبه في اللوح المحفوظ ، فمن علمه مؤمنا فهو مؤمن ، أقر بالإيمان ، أو لا ، بعث إليه نبي ، أو لا ، ومن علمه كافرا فهو كافر ، على التقديرات وهذا لازم يبطل الحكمة في بعثة الأنبياء ، والأوامر الشرعية ، والمناهي ومتعلقاتها ، وفي ذلك هدم الأديان.

__________________

في صباه وتجول في أرجائها. واشتغل بفنون الأدب ، ومهر فيها ، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها. قتل سنة ٣٥٤ ه‍ ، على أثر معركة جرت بينه وبين فاتك بن أبي الجهل الأسدي بالقرب من النعمانيّة ، بالعراق. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٣ ـ ١٢١ ـ ١٢٤).

(١) ديوانه بشرح البرقوقي : ٣ ـ ٥٠٦. وقد اختلفت النسخ في ضبط هذا البيت ، فضبطته على ديوانه.

(٢) في (أ) و (م) : جملة.

(٣) لم أعثر على قائل هذا البيت.

(٤) انظر : النوويّ ـ شرح صحيح مسلم : ١٦ ـ ١١٤ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٧ (نقلا عن بعض العلماء).

٥٥

والجواب عن الجميع واحد ، وهو : أن الله تعالى كما علم كمية العمر ، علم ارتباطه بسببه المخصوص ، وكما علم من زيد دخول الجنة ، جعله مرتبطا بأسبابه المخصوصة ، من إيجاده ، وخلق العقل له ، وبعث الأنبياء ، ونصب الألطاف ، وحسن الاختيار ، والعمل بموجب الشرع.

فالواجب على كل مكلف الإتيان بما أمر فيه ، ولا يتكل على العلم ، فإنه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه. فإذا قال الصادق : إن زيدا إذا وصل رحمه زاد الله في عمره ثلاثين سنة ، ففعل ، كان ذلك أخبارا بأن الله تعالى علم أن زيدا يفعل ما يصير به عمره زائدا ثلاثين سنة.

كما أنه إذا أخبر : أن زيدا إذا قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة ، ففعل ، تبينا أن الله تعالى علم أنه يقول ويدخل الجنة بقوله.

وبالجملة : جميع ما يحدث في العالم معلوم لله تعالى على ما هو عليه واقع ، من شرط أو سبب ، وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلا كنصب الإيمان سببا في دخول الجنة ، والعمل بالصالحات في رفع للدرجة ، والدعوات في تحقق المدعوّ به ، وقد جاء في الحديث : (لا تملوا من الدعاء فإنكم لا تدرون متى يستجاب لكم) (١). وفي هذا سرّ لطيف ، وهو أن المكلف عليه الاجتهاد ، ففي كل ذرة من الاجتهاد إمكان سببية لخير علمه الله تعالى ، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢).

__________________

(١) لم أعثر ـ في حدود تتبعي ـ على هذا النص. نعم ورد بمضمونه عدة أحاديث. انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ٤ ـ ١٠٨٦ ـ ١٠٨٧ ، باب ٢ من أبواب الدعاء ، حديث : ١١ ، ١٥ ، وص ١١٢٩ ، باب ٣٢ من أبواب الدعاء ، حديث : ١.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

٥٦

والعجب كيف نصب الإشكال في صلة الرحم ، ولم يذكر في جميع التصرفات الحيوانية ، مع أنه وارد فيها عند من لا يتفطن للمخرج منه؟! فان قلت : هذا كله مسلم ولكن قد قال الله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١) ، وقال تعالى (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) (٢).

قلت : الأجل صادق على كل ما يسمي أجلا ، موهبيا كان (٣) أو أجلا مسببيا ، فيحمل ذلك على الموهبي ، ويكون وقته ، وفاء لحق اللفظ ، كما تقدم في قاعدة الجزئي والجزء (٤).

ويجاب أيضا : بأن الأجل عبارة : عما يحصل عنده الموت لا محالة ، سواء كان بعد العمر الموهبي أو المسببي. ونحن نقول كذلك ؛ لأنه عند حضور أجل الموت لا يقع التأخير. وليس المراد به العمر ، إذ الأجل مجرد الوقت.

وينبه على قبول العمر للزيادة والنقصان ـ بعد ما دلت عليه الأخبار الكثيرة ـ قوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلّا فِي كِتابٍ) (٥).

__________________

(١) الأعراف : ٣٤.

(٢) المنافقون : ١١.

(٣) زيادة من (ح).

(٤) راجع قاعدة (١٦٠) ص ٣٩.

(٥) فاطر : ١١.

٥٧

فائدة وسؤال

جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه (قال له رجل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك.

قال : ثمَّ من؟ قال : أمك. قال : ثمَّ من؟ قال : أبوك) (١) ذكر الأم مرتين ، وفي رواية أخرى (٢) ثلاثا. فقال بعض العلماء (٣) : هذا يدل على أن للأم إما ثلثي الأب (٤) ، على الرواية الأولى ، أو ثلاثة أرباعه ، على الرواية الثانية ، وللأب أما الثلث أو الربع.

فاعترض بعض المستضعفين (٥) بأن هنا سؤالات :

الأول : أن السؤال بـ (أحق) عن أعلى رتب (٦) البر ، فعرّف الرتبة العالية ، ثمَّ سأل عن الرتبة التي تليها بصيغة (ثمَّ) ، التي هي للتراخي ، الدالة على نقص رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول

__________________

(١) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٨ ـ ٣٠٩ ، حديث : ٥٢٤٧ (باختلاف بسيط).

(٢) انظر : صحيح مسلم : ٤ ـ ١٩٧٤ ، باب ١ من كتاب البر والصلة ، حديث : ١ ـ ٢.

(٣) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٤٩ (نسبة إلى جماعة من العلماء).

(٤) في الفروق : ١ ـ ١٤٩ : البر.

(٥) في (ك) : المستطيعين. والمعترض هو : القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٤٩.

(٦) في (ح) و (أ) : مراتب. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق.

٥٨

في البر ، فلا بدّ أن تكون الرتبة الثانية أخفض من الأولى ، وكذا الثالثة أخفض من الثانية. فلا تكون رتبة الأب مشتملة على ثلث البر ، وإلا لكانت الرتب مستوية ، وقد ثبت أنها مختلفة. فنصيب الأب أقل من الثلث قطعا ، أو أقل من الربع قطعا ، فلا يكون ذلك الحكم صوابا.

الثاني : أن حرف العطف يقتضي المغايرة ؛ لامتناع عطف الشي‌ء على نفسه ، وقد عطف الأم على الأم.

الثالث : أن السائل إنما سأل ثانيا عن غير الأم ، فكيف يجاب بالأم ، والجواب يشترط فيه المطابقة؟! وأجاب عن هذين (١) : بأن العطف هنا محمول على المعنى ، كأنه لما أجيب أولا بالأم ، قال : فلمن أتوجه ببرّي بعد فراغي منها؟

فقيل له : للأم. وهي مرتبة ثانية دون الأولى ، كما ذكر أولا.

فالأم المذكورة ثانيا هي المذكورة أولا بحسب الذات ، وإن كانت غيرها بحسب العرض ، وهو كونها في الرتبة الثانية من البر. وإذا تغايرت الاعتبارات جاز العطف ، مثل : (زيد أخوك وصاحبك ومعلمك).

وأعرض عن الأول ، كأنه يرى أن لا جواب عنه ، ثمَّ تبجح به (٢).

قلت : قوله : السؤال بـ (أحق) ليس عن أكثر الناس استحقاقا بحسن الصحابة بل عن أعلى رتب حسن الصحابة ، فالعلو منسوب إلى المبرور ، على تفسيره حسن الصحابة بالبرّ ، لا إلى نفس البر. مع أن قوله : نقص رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول ، مناف لكلامه

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٥٠.

(٢) المصدر السابق : ١ ـ ١٤٩ ـ ١٥٠.

٥٩

الأول إن أراد بالفريق المبرورين ، وإن أراد بالفريق من البر (١) ، ورد عليه الاعتراض الأول.

وقوله : الرتبة الثانية أخفض من الأولى ، مبني على أمرين ، فيهما منع :

أحدهما : أن (أحق) هنا للزيادة على من فضل عليه ، لا أنها للزيادة مطلقا ، كما تقرر في العربية من احتمال المعنيين.

والثاني : أن (ثمَّ) لما أتى بها السائل للتراخي ، كانت في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للتراخي ، ومن الجائز أن تكون للزيادة المطلقة ، بل هذا أرجح بحسب المقام ؛ لأنه لا يجب برّ الناس بأجمعهم ، بل لا يستحب ، لأن منهم البر والفاجر ، فكأنه سأل : عمن له حق بعدها؟ فأجيب بها ، منبها على أنه لم يفرغ من برها بعد ، لأن قوله : (ثمَّ من؟) صريح في أنه إذا فرغ من حقها في البر لمن يبر؟ فنبه على (أنك لم تفرغ من برها) (٢) بعد ، فإنها الحقيقة بالبر. فأفاده الكلام الثاني الأمر ببرها ، كما أفاده (٣) الكلام الأول ، وأنها حقيقة بالبر مرتين. ولا يلزم من إتيان السائل بـ (ثمَّ) الدالة على التراخي كون البر الثاني أقل من الأول ؛ لأنه بناه على معتقده من الفراغ من البر ، ثمَّ ظن الفراغ من البر ، فأجيب : بأنك لم تفرغ منه بعد بل عليك ببرها ، فإنها حقيقة به. وكأنه أمره ببرها مرتين ، وببر الأب مرة ، في الرواية الأولى ، وأمره ببرها ثلاثا ، وببر الأب مرة ، في الرواية الثانية ، وذلك يقتضي أن يكون للأب مرة من ثلاث ، أو مرة من

__________________

(١) في (م) : المبرور عليه.

(٢) في (ك) : إنه لن تفرغ برها.

(٣) في (ح) و (م) : في إفادة.

٦٠