القواعد والفوائد - ج ٢

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٥
الجزء ١ الجزء ٢

وتلحق بذلك قواعد أربع

الأولى

لا يقرّ من الكفار على كفره غير أهل الكتاب بشرائط الذّمّة.

وللمرتد خصائص : المؤاخذة بأحكام المسلمين ، والأمر بقضاء فائت العبادة ، إذا قبلت منه التوبة. وعدم صحة نكاحه ابتداء ، وعدم إقراره على نكاحه المستدام ، إلا أن يعود في العدة. وعدم الإقرار على دينه ، إن قلنا بعدم الإمهال للتوبة ، وإلا أقرّ (١) بقدره لا غير. ودمه هدر بالنسبة إلى المسلم. وزوال ملكه بنفس الردة ، إن كان عن فطرة. والحجر على ماله مطلقا. ومنعه عن تزويج رقيقه ، وأولاده الأصاغر. وعدم صحة سببه ، وفدائه ، والمنّ عليه. وعدم إرثه قريبه لو مات وكان ارتداده عن فطرة ، وفي غيرها نظر ، والمراعاة محتملة. وعدم صحة تصرفاته بالبيع ، والهبة ، والعتق ، وشبهها ، فتكون باطلة في الفطري ، وموقوفة في الملي. وعدم إقرار ولد المرتدين على كفره. وعدم جواز استرقاق هذا الولد على قول (٢). وقسمة أموال الفطري في الحال؟

واعتداد أزواجه عدة الوفاة. وعدم قبول عوده إلى الإسلام :

__________________

(١) في (ك) : والإقرار.

(٢) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٧ ـ ٢٨٦ ، والعلامة الحلي ـ قواعد الأحكام : ٢٥٢.

٢١

الثانية

أموال الحربي في‌ء للمسلمين. ولا يجب أن يدفع الإمام إلى أهل الحرب مالا ، إلا في مواضع :

كافتكاك الأسرى من المسلمين إذا لم يمكن إلا به ، وكرد مهر الحربي عليه إذا هاجرت امرأته مسلمة ، وكدفع مال إليهم ليكفوا عند العجز عن مقاومتهم (١).

الثالثة

كل من وطئ حراما بعينه ، فعليه الحد مع العلم بالتحريم ، إلا في مواضع : كوطء الأب جارية ابنه ، أو الغانم جارية المغنم ، على قول (٢).

وقيد (٣) (بالعين) ليخرج نحو وطء الحائض ، والمحرمة ، والمولى منها ، والمظاهرة ، وزوجته المعتدة من وطء الشبهة.

الرابعة

كل أمر مجهول فيه القرعة ، بالنص (٤). ولها موارد (٥) :

__________________

(١) انظر هذه المواضع : في ـ الأشباه والنّظائر ، للسيوطي ، ٥١٩ (نقلا عن الشيخ أبي حامد وغيره).

(٢) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٢٤١ ، وابن قدامة ـ الكافي : ٣ ـ ٣٠٨.

(٣) في (ح) : وقيدنا :

(٤) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١٨ ـ ١٨٩ ، باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، حديث : ١١ ، ١٨.

(٥) ذكر ابن رجب في قواعده : ٣٧٧ ـ ٢٩٨ ، القاعدة الستون بعد المائة ، موارد كثيرة للقرعة ومن جملتها قسما مما ذكره المصنف.

٢٢

منها (١) : بين أئمة الصلاة عند الاستواء في المرجحات. وبين أولياء الميت في تجهيزه مع الاستواء. وبين الموتى في الصلاة والدفن مع الاستواء في الأفضلية ، أو عدمها. وبين المزدحمين في الصف الأول مع استوائهم في الورود ، وكذا في القعود في المسجد ، أو المباح ، وكذا في الحيازة ، وإحياء الموات. وفي الدعاوي ، والدروس ، إلا أن يكون منهم مضطرا لسفر ، أو امرأة. وبين الزوجات في الأسفار وفي الابتداء لو سيق إليه زوجتان (٢) دفعة. وبين الموصى بعتقهم ، أو المنجز من غير ترتيب. وعند تعارض البينتين ، أو تعارض الدعويين (٣).

ولا تستعمل في العبادات في غير ما ذكرنا ، ولا في الفتاوى ، والأحكام المشتبه ، إجماعا.

__________________

(١) في (أ) زيادة : ما.

(٢) في (ح) و (أ) : زوجات

(٣) انظر قسما من هذه الموارد في ـ الفروق : ٤ ـ ١١١.

٢٣

ثمَّ هنا قواعد

الأولى

الأحكام اللازمة باعتبار جماعة ، قد تكون موزعة على رءوسهم ، وقد تكون موزعة باعتبار تعلقهم. وكذا الحكم المعلق على عدد ، قد يوزع على ذلك العدد ، وقد يوزع على صنف ذلك العدد. ولا ضابط كليا هاهنا يشمل الجميع ، نعم قد يشترك بعضها في ذلك ، فكانت قاعدة في الجملة.

فالشفعاء والمتقاسمون ، تكون الأنصباء ، والمؤن ، تابعة إما للرءوس ، أو للأنصباء. وهو قوي. وأقوى في الشفعة ما إذا ورث جماعة شقصا عن واحد ، لأنهم يأخذون لمورثهم ثمَّ يتلقونه لأنفسهم.

ويحتمل أن يقال : يأخذون لأنفسهم ، لأن الميت لا يملك شيئا.

ويضعف : بأنهم يمنعون حينئذ ، لتأخر ملكهم عن الشراء ، إذ ملكهم بالإرث المتأخر عن الشراء ولا يحمل على حد القذف ، حيث هو ملكهم بالسوية ، لأن الحدود على غير مجاري المعاملات.

فالشركاء في عبد ، إذا أعتق جماعة منهم ، تقوم حصص الرق بينهم بالسوية. قاله بعض الأصحاب (١). ويحتمل على الحصص.

ولو استأجر دابة لقدر ، فزاد ، فتلفت ، ففي كيفية ضمانها ، الوجهان.

وكذا لو زاد الحداد (٢) ، أو ضرب جماعة واحدا ضربا متفاوتا

__________________

(١) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٦ ـ ٥٦.

(٢) في (ح) و (أ) : الجلاد.

٢٤

في العدد ، فمات (١) ، أو جرحوا ، فالمشهور بين الأصحاب (٢) التساوي هنا ، ولا اعتبار بعدد الضربات والجراحات.

ويمكن الفرق : بأن السياط مضبوطة ، باعتبار وقوعها على ظاهر البدن ، والجراحة غير مضبوطة ، لأنها ذات غور ونكاية في الباطن لا يعلم قدره.

تنبيه :

إذا تعذر كمال الإجارة ، وزع المسمى بنسبة المستوفى إلى الباقي بحسب القيمة.

وقد يشكل بعضها في صنعة الحساب ، كما لو استأجر لحفر بئر عشرة طولا ، ومثلها عرضا ، ومثلها عمقا ، فحفر خمس أذرع في خمس ، وتعذر إكمال العمل ، لموته مع تعيينه في العقد ، أو لصلابة الأرض ، فإن نسبة المحفور إلى المستأجر نسبة الثمن ؛ وذلك لأن مضروب الأولى ألف ذراع ، ومضروب الثانية مائة وخمسة وعشرون ذراعا.

هذا بحسب العدد ، فان فرض تساوي الأذرع في الأجرة ، كان الواجب ثمن الأجرة ، وإلا وجب التوزيع بحسب القيمة أيضا (٣).

__________________

(١) في (م) زيادة : فضمن.

(٢) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٧ ـ ١٣ ، والمحقق الحلي ـ شرائع الإسلام : ٤ ـ ٢٠٢ ، والعلامة الحلي ـ قواعد الأحكام : ٢٥٤.

(٣) انظر هذه المسألة مفصلة في ـ الفروق ، للقرافي : ٤ ـ ١٠ ـ ١١.

٢٥

الثانية

النكاح عصمة مستفادة من الشرع ، يقف زوالها على إذن الشرع ، كما استفيد حصولها منه. والمتفق عليه عند الأمة قوله : (طالق) ، فليقتصر عليها ، وقوفا على المتيقن ، وتمسكا بأصل الحل.

وللجمهور اختلاف عظيم ، واضطراب كثير ، فيما عدا هذه الصيغة ، حتى أن في قوله : (أنت حرام) أحد عشر قولا :

فقال ابن عباس ـ على ما نقل عنه (١) ـ : يمين مغلظة.

وابن جبير : (٢) (٣) عتق رقبة.

والشعبي (٤) (٥) : كتحريم المال ، لا شي‌ء فيه ، لقوله عزوجل :

__________________

(١) انظر : ابن رشد ـ بداية المجتهد : ٢ ـ ٧٨ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١.

(٢) هو سعيد بن جبير بن هشام الخزيمي الأسدي الكوفي : أحد أعلام التابعين ، أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. قتله الحجاج بن يوسف سنة ٩٥ ه‍ ـ وهو ابن تسع وأربعين سنة. (الخوانساري ـ روضات الجنات : ٣١٠ ، الطبعة الحجرية).

(٣) انظر : ابن قدامة ـ المغني : ٧ ـ ١٥٤ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١١.

(٤) هو أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي الشعبي يعد من كبار التابعين ، كان فقيها شاعرا. أدرك خمسمائة صحابي ، وكان قاضيا على الكوفة ، توفي سنة ١٠٤ ه‍ (القمي ـ الكنى والألقاب : ٢ ـ ٣٣٢).

(٥) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١ ، وابن رشد ـ بداية المجتهد : ٢ ـ ٧٨.

٢٦

(لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١).

وقال إسحاق (٢) (٣) : كفارة ظهار قبل الوطء.

والأوزاعي (٤) (٥) له ما نوى ، وإلا فيمين يكفر.

وسفيان (٦) (٧) : إن نوى واحدة ، فبائنة (٨) ، أو الثلاث ، فالثلاث ، أو اليمين ، فاليمين ، أو لا فرقة ولا يمينا ، فكذبة (٩) لا شي‌ء فيها.

__________________

(١) المائدة : ٨٧.

(٢) هو أبو يعقوب إسحاق بن أبي الحسن بن إبراهيم بن مخلد ابن راهويه المروزي. كان إماما في الفقه والحديث. ولد سنة ١٦١ ه‍ وتوفي بنيسابور سنة ٢٣٧ ه‍. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٨٥).

(٣) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١.

(٤) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو وبن يحمد الأوزاعي. إمام أهل الشام ، ولم يكن بها أعلم منه. كانت وفاته سنة ٥٧. ١ ه‍. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٢ ـ ٥٣).

(٥) انظر : الفروق : ١ ـ ٤١ ، وابن قدامة ـ المغني : ٧ ـ ١٥٦.

(٦) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الثوري. كان إماما في الفقه والحديث ، وكان في شرطة هشام بن عبد الملك. توفي بالبصرة سنة ١٦١ ه‍. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٢ ـ ١٢١).

(٧) انظر : ابن رشد ـ بداية المجتهد : ٢ ـ ٧٧ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١.

(٨) في (ح) : فثانية. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق.

(٩) في (ح) : فمكذبة ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق.

٢٧

وأبو حنيفة (١) : إن نوى الطلاق ، فواحدة ، وإن نوى اثنتين أو الثلاث ، فواحدة بائنة ، وإن لم ينو ، فكفارة يمين ، وهو مول.

ومالك (٢) : في المدخول بها ، ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها.

والشافعي (٣) : لا يلزمه شي‌ء حتى ينوي واحدة ، فتكون رجعية ، وإن نوى تحريمها بغير طلاق ، لزمته كفارة يمين ، ولا يكون موليا :

وقال بعض متأخري المالكية (٤) : معنى التحريم لغة : المنع ، وقوله : (أنت عليّ حرام) إخبار عن كونها ممنوعة ، فهو كذب لا يلزم فيه إلا التوبة في الباطن ، والتعزير في الظاهر ، كسائر أنواع الكذب ، ليس في مقتضاها لغة إلا ذلك. وكذلك (خلية) معناه لغة : الإخبار عن الخلإ وأنها فارغة ، وليس في اللفظ التعرض لما هي منه فارغة. وكذلك (بائن) معناه لغة : المفارقة في الزمان أو المكان ، وليس فيه تعرض لزوال العصمة. فهي إخبارات صرفة ، ليس فيها تعرض للطلاق البتة من جهة اللغة ، فهي إما كاذبة ، وهو الغالب ، أو صادقة إن كانت مفارقة له في المكان ، ولا يلزم بذلك طلاق ، كما لو صرح وقال : أنت في مكان غير مكاني. و (حبلك

__________________

(١) انظر : المرغيناني ـ الهداية : ٢ ـ ١٠ ـ ١١ ، ٥٦ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١.

(٢) انظر : ابن جزي ـ قوانين الأحكام : ٢٥٤ ، وابن رشد ـ بداية المجتهد : ٢ ـ ٧٧ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ٤١.

(٣) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٨٣ ، والنوويّ ـ منهاج الطالبين : ٨٨.

(٤) هو القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ٤٢.

٢٨

على غاربك) معناه : الإخبار بذلك ، وأصله في الراعي إذا قصد التوسعة على المرعية جعل حبلها على غاربها ، وهو الكتفان ، حتى تنتقل كيف شاءت. ثمَّ ذكر بعد ذلك : أنه راجع إلى النية والعرف ، بناء منهم على صحة الكنايات عن الطلاق.

وليس بشي‌ء ، لأن الكناية من باب المجاز ، واللفظ يحمل على حقيقته ، لا على مجازه ، والحمل على اليقين كذلك ، لعدم حقيقتها الشرعية ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الطلاق والعتاق أيمان الفساق) (١).

الثالثة

كل معلق على شرط ، فإنه يتوقف التأثير أو الوجود عليه ، كالظهار المعلق على الدخول ، (يشترط فيه) (٢) تقدم الدخول ليقع الظهار.

وقد يعلّق الشرط على شرط (٣) أيضا. إلى مراتب ، فيشترط وجود تلك الشرائط مترتبة ، كما في قوله تعالى (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) (٤) ، وقوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ، إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٧٦. وأورده ابن الحاج في ـ المدخل : ٤ ـ ٦٠ ، بلفظ : (لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق فإنها أيمان الفساق).

(٢) في (ك) و (م) : بشرط.

(٣) في (أ) زيادة : آخر.

(٤) الأحزاب : ٥٠.

٢٩

أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (١). ويسميه النحاة : اعتراض للشرط على الشرط. ومثل قول ابن دريد (٢) :

فان عثرت بعدها إن وألت (٣)

نفسي من هاتا فقولا لا لعا (٤)

وقول آخر ، أنشده بعض النحاة (٥) :

أن تستغيثوا بنا أن تذعروا تجدوا

منا معاقل عزّ زانها الكرم (٦)

والمشهور بين النحاة والفقهاء : أن كل شرط لا حق ، فإنه شرط في السابق ، فيجب تقدمه عليه ، والآيتان والشعر صريح في ذلك ، وإن كان في الآية الأولى يحتمل أن تكون الإرادة متأخرة ؛ لأنها كالقبول لهبتها ، والقبول متأخر عن الإيجاب. ويحتمل أن يقال : إن إرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلقت بإرادة الهبة منها ، لعلمه ذلك من قصدها (٧).

فلو قال : إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني ، فأنت عليّ (٨) كظهر أمي ، اشترط أن تبتدئ بالسؤال ، ثمَّ يعدها ، ثمَّ يعطيها ،

__________________

(١) هود : ٣٤.

(٢) المقصورة الدريدية : ٤.

(٣) وأل إليه يئل وألا ، أي لجأ. انظر : الجوهري ـ الصحاح : ٥ ـ ١٨٣٨ ، مادة (وأل).

(٤) يقال للعاثر : لعا لك ، دعاء له بأن ينتعش. الجوهري ـ الصحاح : ٦ ـ ٢٤٨٣ ، مادة (لعا).

(٥) هو ابن مالك النحوي. انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٨٣.

(٦) في الفروق : ١ ـ ٨٣ : كرم.

(٧) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٨٢.

(٨) زيادة من (ح) و (أ).

٣٠

كأنه قال : سألتني فوعدتك فأعطيتك.

فعلى هذا : لو تقدم الشرط الأول في الوقوع على الثاني لم تكن مظاهرة ، وعند بعضهم (١) : أنه لا يبالي بذلك ، إذا المقصود هو اجتماع الشرطين ، وحرف العطف مراد هنا ، كما هو مراد في (جاء زيد جاء عمرو) ، ولو أنه أنى (بالواو) كان الغرض مطلق الاجتماع.

ويرد : أن التقدير خلاف الأصل ، والشروط اللغوية أسباب يلزم من وجودها الوجود ، ومن عدمها العدم ، بخلاف الشروط العقلية ، كالحياة مع العلم ، والشرعية ، كالطهارة مع الصلاة ، والعادية ، كنصب السلم مع صعود السطح ، فإنه لا يلزم من وجودها وجود شي‌ء ، وإن كان التأثير موقوفا عليه ، فإنه (٢) لا يلزم من الحياة : العلم ، ولا من الطهارة : الصلاة ، ولا من نصب السلم : الصعود. نعم هي متلازمة في العدم. وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابا ، فمن ضرورتها التقدم على مسبباتها (٣). وظاهر أنه قد جعل الظهار معلقا على الإعطاء ، فيجب تقدم الإعطاء عليه ، وأنه قد جعل الإعطاء معلقا على الوعد ، فيجب تقدم الوعد عليه ، وجعل الوعد معلقا على السؤال ، فيجب (٤) تقدم السؤال عليه ، لأن شأن الأسباب ذلك ، كالدلوك في الصلاة.

__________________

(١) انظر : ابن قدامة ـ المغني : ٧ ـ ١٩٧ (نقلا عن القاضي أبي يعلى) ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ٨٢ (نقلا عن المالكية وإمام الحرمين الجويني من الشافعية).

(٢) في (ح) و (أ) : إذ.

(٣) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٨٢.

(٤) من هنا إلى الموضع الثاني من قاعدة ١٦٣ سقط من (م).

٣١

الرابعة

من تكميل ما سبق الفرق بين السبب والشرط ، مع توقف الحكم عليهما ـ كما في اعتبار النصاب والحول ، مع أن للنصاب يسمى سببا ، والحول شرطا ـ هو ، أن الشرع إذا رتب الحكم عقيب أوصاف ، فإن كانت كلها مناسبة في ذاتها ، قلنا الجميع علة ، فلا نجعل بعضها شرطا ، وبعضها في ذاته. وإن كان البعض مناسبا في ذاته ، والآخر مناسبا في غيره ، سمي الذاتي سببا ، والغيري شرطا ، كالنصاب ، فإنه مشتمل على الغنى ، ونعمة الملكية في نفسه ، والحول مكمل لنعمة الملكية ، بالتمكن من التنمية (١) طويلا.

الخامسة

الفرق بين أجزاء العلة والعلل المجتمعة : أن الحكم إذا ورد بعد أوصاف رتب على كل وصف منها بانفراده ، فهي علل ، كأسباب الوضوء ، وإجبار البكر الصغيرة ، فإن الصغر كاف إجماعا ، والبكارة

__________________

(١) في (ح) و (أ) : النعمة ، وفي (ك) القيمة ، وما أثبتناه من نسخة أخرى على هامش (ك) و (أ) ، لمطابقته لما في الفروق : ١ ـ ١٠٩ ، الّذي اعتمد عليه المصنف في هذه القاعدة.

٣٢

كافية على قول جماعة من الأصحاب (١). وإن كان ترتبه على الجميع ، لا على كل واحدة ، فالعلة واحدة مركبة ، وتلك أجزاؤها ، كما في القتل العمد العدوان مع التكافؤ.

والفرق بين جزء العلة وجزء الشرط : يعرف مما سبق ، كجزء النصاب وكجزء الحول (٢).

فائدة (٣)

فرض العين : شرعيته للحكمة في تكراره ، كالمكتوبة ، فان مصلحتها الخضوع لله عزوجل وتعظيمه ، ومناجاته ، والتذلل له ، والمثول بين يديه ، والتفهم (٤) لخطابه ، والتأدب بآدابه (٥) ، وكلما تكررت الصلاة تكررت هذه المصالح الحكمية.

أما فرض الكفاية : فالغرض إبراز الفعل إلى الوجود ، وما بعده

__________________

(١) انظر : الشيخ الطوسي ـ النهاية : ٤٦٤ ـ ٤٦٥ ، والعلامة الحلي ـ مختلف الشيعة : ٤ ـ ٨٦ (نقلا عن الشيخ الصدوق وابن أبي عقيل وابن البراج).

(٢) انظر في ذلك : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٠٩ ـ ١١٠.

(٣) في (ك) : قاعدة. وما أثبتناه هو الصواب على ما يبدو ، لأن المصنف سيذكر بعد ذلك القاعدة السادسة ، فيكون ذكر هذه الفائدة وما بعدها استطرادا.

(٤) في (ح) : والتوهم. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ١١٦.

(٥) في (ح) : بآياته. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ١١٦.

٣٣

خال عن الحكمة ، كإنقاذ الغير.

ولا ينتقض : بصلاة الجنازة ، لأن الغرض منها الدعاء له ، وبالمرة يحصل ظن الإجابة ، والقطع غير مراد ، فلا تبقى حكمة في الدعاء بعد تلك (١) لخصوصية هذا الميت. وإنما قيدنا بالخصوصية ، لأن الإحياء على الدوام يدعون للأموات لا على وجه الصلاة (٢).

فائدة

إنما جعل السجود للصنم كفرا ، ولم يجعل للأب ومن يراد تعظيمه من الآدميين كفرا ، لأن السجود للصنم يجعل على وجه العبادة له ، بخلاف الأب فإنه يراد به التعظيم.

فان قلت : فقد قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣) ، فهو كالتقرب إلى الله تعالى بتعظيم الأب (٤).

قلت : هذه حكاية عن قوم منهم ، فلعل بعضهم يعتقد غير هذا.

فان قلت : فهؤلاء كفار قطعا ، وهم قائلون بالتقرب إلى الله تعالى.

قلت : جاز أن يكونوا مقتصرين على عبادة الأصنام لهذه الغاية.

ولو أن عابدا جعل صلاته وصيامه لتعظيم آدمي كان مثلهم. ولأن التقرب إلى الله ينبغي أن يكون بالطريق الّذي نصبه الله تعالى

__________________

(١) في (ح) و (أ) : ذلك.

(٢) انظر في هذا : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١١٦ ـ ١١٨.

(٣) الزمر : ٣.

(٤) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٢٥.

٣٤

المتقرب (١) ، ولم ينصب الله عبادة الأصنام طريقا للتقرب ، وجعل تعظيم الأب والعالم طريقا للتقرب ، وإن كان غير جائز تعظيمه بهذا النوع من التعظيم ، إلا أنه لا يؤول إلى الكفر ، باعتبار أنه قد أمر بتعظيمه في الجملة.

السادسة

كل من اعتقد في الكواكب أنها مدبرة لهذا العالم ، وموجدة ما فيه ، فلا ريب أنه كافر ، وإن اعتقد أنها تفعل الآثار المنسوبة إليها ، والله سبحانه هو المؤثر الأعظم ، كما يقوله أهل العدل ، فهو مخطئ ، إذ لا حياة لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقلي ولا نقلي. وبعض الأشعرية (٢) يكفّرون هذا ، كما يكفرون الأول.

وأوردوا على أنفسهم (٣) : عدم إكفار المعتزلة ، وكل من قال بفعل العبد.

وفرّقوا (٤) : بأن الإنسان وغيره من الحيوان يوجد فعله ، مع أن التذلل والعبودية ظاهرة عليه ، فلا يحصل منه اهتضام لجانب الربوبية ، بخلاف الكواكب ، فإنها غائبة عنه ، فربما أدى ذلك إلى اعتقاد استقلالها وفتح باب الكفر.

أما ما يقال : بأن استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار وغيرها من العاديات ، بمعنى أن الله تعالى أجرى عادته أنها إذا كانت

__________________

(١) في (ح) : للتقرب.

(٢) نقله القرافي عن بعض الفقهاء المعاصرين للفقيه الشافعي الشيخ عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة ٦٦٠ ه‍. انظر : الفروق : ١ ـ ١٢٦.

(٣) انظر : نفس المصدر السابق.

(٤) انظر : نفس المصدر السابق.

٣٥

على شكل مخصوص ، أو وضع مخصوص ، تفعل ما ينسب إليها ، ويكون ربط المسببات بها كربط مسببات الأدوية والأغذية بها مجازا ، باعتبار الربط العادي ، لا الفعل الحقيقي. وهذا لا يكفر معتقده ، ولكنه مخطئ أيضا ، وإن كان أقل خطأ من الأول ، لأن وقوع هذه الآثار عندها (١) ليس بدائم ، ولا أكثري (٢).

قاعدة (٣) ـ ١٥٩

الفرق بين الماء المطلق ومطلق الماء ، والبيع المطلق ومطلق البيع : أن البيع المطلق هو : البيع العام ، قضية للام الجنسية ، فوصفه بالإطلاق ، يفيد أنه لم يقيد بما ينافي العموم من شرط أو صفة أو غير ذلك من لواحق العموم. ومطلق البيع هو : القدر المشترك بين أفراد البيع وهو مسمى البيع ، الصادق بفرد من أفراده ، ثمَّ أضيف إلى البيع ليتميز عن باقي المطلقات ، كمطلق الإجارة ، ومطلق النكاح ، ومطلق جميع الحقائق ، فالإضافة للتميز فقط.

فعلى هذا يصدق : أن مطلق البيع حلال إجماعا ، ولا يصدق : أن البيع المطلق حلال إجماعا ، لأن بعض أفراده حرام إجماعا. ويصدق : زيد له مطلق المال ، ولا يصدق : أن له المال المطلق (٤). وفي هذا نظر بيّن.

__________________

(١) في (ح) : عندنا ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٣) في (ح) و (أ) : فائدة.

(٤) ذكر هذا الفرق : القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٢٧ ـ ١٢٨.

٣٦

فائدة (١)

كل الأعمال الصالحة لله تعالى ، فلم جاء في الخبر : (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) (٢) مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أفضل أعمالكم الصلاة) (٣) ، وكتب عمر إلى عماله : (أن أهم أمور كم (٤) عندي الصلاة) (٥)؟

وأجيب بوجوه (٦) : منها : أنه اختص بترك الشهوات والملاذ في الفرج والبطن ، وذلك أمر عظيم يوجب التشريف.

وأجيب : بالمعارضة بالجهاد ، فان فيه ترك الحياة ، فضلا عن

__________________

(١) في (ح) : قاعدة.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٢. وأورده المتقي الهندي في ـ كنز العمال : ٤ ـ ٢٩٥ ، حديث : ٥٩٤٤ ، بلفظ : (إلا الصيام) ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ٧ ـ ٢٩٤ ، باب ١ من أبواب الصوم المندوب ، حديث : ٢٧ ، بلفظ : (كل عمل ابن آدم هو له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به)

(٣) انظر : سنن ابن ماجه : ١ ـ ١٠٢ ، باب ٤ من أبواب الطهارة ، حديث : ٢٧٨.

(٤) في (ح) : أمركم.

(٥) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٣. وأورده المتقي الهندي في ـ كنز العمال : ٤ ـ ١٨٠ ، حديث : ٣٩٩٢ ، بلفظ : (أمركم) ، وعليه فتكون (ح) مطابقة له.

(٦) ذكر هذه الأجوبة ومناقشتها القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٣٣.

٣٧

الشهوات ، وبالحج ، إذ فيه الإحرام ، ومتروكاته كثيرة.

ومنها : أنه أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه ، فلذلك شرف ، بخلاف الصلاة والجهاد وغيرهما.

وأجيب : بأن الإيمان والإخلاص وأفعال القلب الحسنة (١) خفية ، مع تناول الحديث إياها.

ومنها : أن خلاء الجوف تشبيه بصفة الصمدية.

وأجيب : بأن طلب العلم فيه تشبيه بأجل صفات الربوبية وهي العلم الذاتي ، وكذلك الإحسان إلى المؤمنين ، وتعظيم الأولياء والصالحين ، كل ذلك فيه التخلق تشبيها بصفات الله تعالى.

ومنها : أن جميع العبادات وقع للتقرب بها إلى غير الله تعالى إلا الصوم ، فإنه لم يتقرب به إلا إليه وحده.

وأجيب : بأن الصوم يفعله أصحاب استخدام الكواكب.

ومنها : أن الصوم يوجب صفاء العقل والفكر بواسطة ضعف القوى الشهوية بسبب الجوع ، ولذلك قال عليه‌السلام : (لا تدخل الحكمة جوفا (٢) ملي‌ء طعاما) (٣) وصفاء العقل والفكر يوجبان حصول المعارف الربانية ، التي هي أشرف أحوال النّفس الإنسانية.

وأجيب : بأن سائر العبادات إذا واظب عليها أورثت ذلك ، وخصوصا الصلاة (٤) ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ

__________________

(١) في (أ) : والخشية. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ١٣٣.

(٢) في (أ) : في جوف ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق الّذي اعتمد المصنف عليه في هذه الفائدة على ما يبدو.

(٣) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٣.

(٤) في (ح) : الجهاد. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ١٣٣.

٣٨

سُبُلَنا) (١) ، وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) في الظلمات (٢).

وقال بعضهم (٣) : لم أر فيه فرقا تقرّ به العين ، ويسكن إليه القلب.

ولقائل أن يقول : هب أن كل واحد من هذه الأجوبة مدخول (٤) بما ذكر ، فلم لا يكون مجموعها هو الفارق ، فإنه لا تجتمع هذه الأمور المذكورة لغير الصوم ، وهذا واضح؟

قاعدة ـ ١٦٠

اللفظ الدال على الكلي لا يدل على جزئي معين ، فيكفي في الخروج من العهدة الإتيان بجزئي منها في طرف الثبوت ، وفي طرف النفي لا بد من الامتناع الكلي (من جميع الجزئيات) (٥) : واللفظ الدال على الكل لا يكفي في طرف الثبوت الإتيان بجزء منه ، مثل (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٦) لا يكفيه بعضه ، بخلاف (فَتَحْرِيرُ

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) الحديد : ٢٨.

(٣) هو القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ١٣٤.

(٤) في (أ) زيادة : فيه.

(٥) زيادة من (ح).

(٦) البقرة : ١٨٥.

٣٩

رَقَبَةٍ) (١) فإن المحرر لأية رقبة كانت آت بالمأمور به.

ويتفرع على ذلك : جواز التيمم بالحجر والسبخة ، لقوله تعالى : (صَعِيداً طَيِّباً) (٢) ويصدق ذلك على أقل مراتبه.

وقصر الحضانة على (سنتين ، التي هي) (٣) سن الرضاع ، لأن قوله عليه‌السلام : (أنت أحق به ما لم تنكحي) (٤) يفيد مطلق الأحقية ، فيكفي أقل مراتبها ، ولا يحمل على الأعلى ، وهو البلوغ. ولا ينافي الإطلاق تقييد الحكم بعدم النكاح ، لأنه أشار بهذه الغاية إلى المانع ، أي أن نكاحها مانع من ترتب الحكم على سببه (٥) ، والمانع وعدمه لا مدخل لهما في ترتب الأحكام ، بل في عدم ترتبها ، لأن تأثير المانع منحصر في أن وجوده مؤثر في العدم ، لا عدمه في الوجود. فتبقى قضية لفظ الأحقية بحالها في اقتضائها أقل ما يطلق عليه.

وقصر تحريم الفرقة أيضا على سن الصبي ، لأن قوله عليه‌السلام : (لا توله والدة على ولدها) (٦) وإن كان عاما في الوالدات ، باعتبار

__________________

(١) المائدة : ٨٩ ، والمجادلة : ٣.

(٢) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.

(٣) في (ك) : سن المزيل.

(٤) انظر : سنن أبي داود : ١ ـ ٥٢٩ ، باب من أحق بالولد ، من كتاب الطلاق.

(٥) في (ك) : سنه ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ١٣٧.

(٦) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٣٨. وأخرجه ابن حجر العسقلاني في ـ تلخيص الحبير : ١٥٣ ، حديث : ١١٦٨ ، بلفظ :

٤٠