الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي بن محمد السمري أعظم الله أمر اخوانك فيك ، فانك ميت فانبئك وهي ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص الى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور الا بعد اذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الارض جوراً ، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن يدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، كذا في مجمع الرجال (١) ناقلا عن ابن طاوس رحمه‌الله في ربيع الشيعة (٢).

واعلم أنهم اختلفوا في منتهى التخصيص ، فالاكثر على أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام. وقيل : يجوز الى ثلاثة. وقيل : الى اثنين. وقيل : الى واحد. والمختار عند المحققين أنه ان كان باستثناء ، أو بدل جاز الى واحد ، نحو عشرة الا تسعة ، واشتريت العشرة أحدها والا ، فان كان بمتصل غيرهما كالصفة والشرط جاز الى اثنين ، نحو أكرم الناس العلماء أو ان كانوا علماء. وان كان بمنفصل ، فان كان في غير محصور أو عدد كثير ، فالمذهب الاول ، لانك لو قلت أكلت كل رمانة في البستان ولم تأكل الا ثلاثة عدت لاغياً.

فنقول : حاصل الخبر أنه تعالى فرض الجمعة على الناس الا على ذوي الاعذار منهم ، وهذا المخصص يسمى بالاستثناء المتصل ، نحو أكرم الناس الا الجهال منهم ، وقد مر أنه جاز الى واحد ، هذا اذا كان مراده بالعام لفظ الناس.

وأما اذا أراد به الاوقات والجمعات ، فالتقدير كهذا : ان الله فرض الجمعة على الناس في كل أسبوع ان كانت بشرائطها ، وهذا يسمى التخصيص بالشرط ، وقد مر أنه جاز الى اثنين.

__________________

(١) مجمع الرجال ٧ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) وهو بعينه كتاب أعلام الشيعة للطبرسي

٥٢١

وعلى التقديرين يظهر فساد قوله وهو غير جائز عند المحققين ، مع أنه لو خص وجوبها بزمان حضور الامام عليه‌السلام لا يلزم منه خروج أكثر أفراد الناس ، بل لا يلزم منه الا خروج ما استثناه في الحديث.

وانما قال ما قال ، لانه اشتبه عليه عمومية العام في زمان معين بعموميته في جميع الازمنة ، وليس الامر كذلك ، فانك اذا قلت أكلت كل رمانة في البستان فانما تريد كل رمانة موجودة فيه في تلك السنة ، لا كل ما فيه فيها والتي ستوجد في السنوات.

فالناس يعم الافراد الموجودة في عصره عليه‌السلام ، بل الحاضرة في بلدة اقامته التي بينها وبين الموضع الذي يصلى فيه الجمعة أقل من فرسخين ، اذ لا شبهة في أن وجوبها انما يتحقق بالنسبة الى الذين تحققت لهم شرائطها ، وانما استثنى منه ما هو المذكور في الحديث ، وهو أقل قليل ، فمن أين يلزم خروج أكثر أفراد العام ، وكذا الكلام في الجمعة.

على أن الظاهر أن الناس هاهنا ليس بعام ، بل هو البعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني ، وهم الموجودون في عهده عليه‌السلام لانهم الذين يجب عليهم في كل أسبوع خمس وثلاثون صلاة منها الجمعة ، ولذلك ذهب المانعون من شرعيتها في هذا الزمان الى أن الاذن الموجود في عصر الائمة عليهم‌السلام على من سمع منهم ذلك الاذن وقالوا : وهو ليس حجة على من يأتي من المكلفين.

ونظير ما قلناه قولك أكلت الخبز وشربت الماء ، فانك تريد الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب وهو مقدار ما معلوم.

واذا كان كذلك فليس بعام خصص ولا تعلق له بمسألة الخصوص والعموم أصلا ، انما هو معهود يتناول عدة من المعينات قيد ببعض منها ، كالمطلق يقيد ببعض ما يوجد في ضمنه من غير صرف عن ظهور وعموم ، وذلك يظهر بعد

٥٢٢

التأمل ، فتأمل.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : ان الله تعالى فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها الا خمسة : المريض ، والمملوك ، والمسافر ، والمرأة ، والصبي (١).

وفي هذا الخبر مع ما فيه من المبالغة والتأكيد والاتيان بلفظ الفرض الدال على تأكد الوجوب كالخبر السابق التصريح بلفظ « كل » الذي هو أوضح الالفاظ في العموم في الموضعين مع الاستثناء الموجب لزيادة التأكيد في العموم والشمول لسائر الازمنة ، كالصلوات الاخر التي جمع بينها وبين الجمعة في الحكم (٢).

أقول : الوجوب الثبوت والسقوط اذا وجب المريض فلا يبكين باكية ، فاذا وجبت جنوبها فكلوا منها. وفي الاصطلاح : خطاب لطلب فعل غير كف ينتهض تركه في جميع وقته سبباً للعقاب ، ومن أسمائه الفرض ، وهما مترادفان عند الجمهور.

وقد يفرق بينهما بأن الواجب هو ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه لا من حيث شخص بعينه ، وتجوز النيابة فيه اختياراً كالزكاة ونحوها ، والفرض ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه عن شخص بعينه ولا تجوز فيه النيابة ، كالصلاة والصوم.

والمنقول عن المحقق الشيخ علي في بعض الحواشي في الفرق بينهما أن الواجب ما لا يسقط عن المكلف أصلا ، مثل معرفة الله تعالى ، والفرض ما يسقط مع العذر كالصلاة وباقي العبادات. فعلى صحة هذا النقل يكون الواجب آكد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٥ ، ح ١٤.

(٢) الشهاب الثاقب ص ٢٠ ـ ٢١.

٥٢٣

من الفرض ، على عكس ما قاله المستدل.

وفي النهاية الاثيرية : في حديث الزكاة « هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المسلمين » أي : أوجبها عليهم بأمر الله تعالى ، وأصل الفرض القطع وقد فرضه يفرضه فرضاً وافترضه افتراضاً ، وهو والواجب سيان عند الشافعي. والفرض آكد من الواجب عند أبي حنيفة. وقيل : الفرض هاهنا بمعنى التقدير ، أي : قدر صدقة كل شي‌ء وبينه عن أمر الله تعالى (١) انتهى.

وبالجملة الواجب يرادف اللازم والمحتوم والفرض خلافاً للحنفية ، فانهم خصوا الفرض بما يثبت بدليل قطعي ، والواجب بما يثبت بدليل ظني ، قالوا : لان الفرض التقدير ، قال الله تعالى ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) قدرتم ، والوجوب السقوط فخصصنا الفرض بما عرف وجوبه بدليل قطعي ، لانه الذي علم منه تعالى أنه قدره علينا.

وأما الذي عرف وجوبه بدليل ظني ، فانه الواجب الساقط علينا ولا نسميه فرضاً لعدم علمنا بأنه تعالى قدره علينا.

وهذا كلام لا يخفى ضعفه ، لان الفرض التقدير ، سواء كان طريق معرفته علماً أو ظناً ، كما أن الساقط الواجب من غير اعتبار طريق ثبوته ، لكن لا مشاحة في الاصطلاح ، وآثر المستدل مذهب الحنفية.

ويرد عليه مع كونه مخالفاً لما ذهب اليه الجمهور أن اطلاق الفرض على الجمعة لعله من باب التغليب ، لان أدلة وجوب سائر الصلوات لما كانت قطعية وقد ذكرت هي معها أطلق عليها الفرض.

أو يقال : هي أيضاً فريضة ، لكن اذا تحققت شرائطها ، مع أن الفرض وكذا الواجب كثيراً ما يطلق في الاخبار على ما ينبغي أن يهتم الانسان ويلازمه ،

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ٣ / ٤٣٢.

٥٢٤

وهو المعنى بتأكد الاستحباب.

كما في رواية الكرخي عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال قال الحسن ابن علي عليهما‌السلام : في المائدة اثنتا عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها : أربع منها فرض ، وأربع منها سنة ، وأربع منها تأديب. فأما الفرض : فالمعرفة ، والرضا ، والتسمية ، والشكر. وأما السنة : فالوضوء قبل الطعام ، والجلوس على الجانب الايسر ، والاكل بثلاث أصابع ، ولعق الاصابع. وأما التأديب : فالاكل مما يليك ، وتصغير اللقمة ، وتجويد المضغ ، وقلة النظر في وجوه الناس. كذا في الفقيه في باب الاكل والشرب (١).

وظاهر أن معرفة هذه الاشياء ليست بواجبة بالمعنى المصطلح المشهور المذكور ، وكذا التسمية والشكر وغيرها ليست بفرض بهذا المعنى. فلعل المراد بهما في الاخبار الواردة في هذا الباب هو هذا المعنى المذكور في هذا الخبر لا بد لنفيه من دليل.

ثم من المقررات عندهم أن الاستثناء الواقع في الكلام الموجب انما تفيد العموم اذا استقام المعنى ، بأن يكون الحكم مما يصح أن يثبت على العموم ، نحو كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ الا التمساح ، وهو هاهنا غير مستقيم ، وإلا لزم كونها واجبة في كل أسبوع على كل مسلم الا جماعة خاصة ، تحقق شرطها من العدد والخطبة وغيرهما أم لم يتحقق.

فالمعنى أنها واجبة ان تحقق شرائطها التي منها الامام أو من نصبه ، والتخصيص ان كان بالشرط جاز الى اثنين ، فمن أين يلزم شموله لسائر الازمنة والاوقات كسائر الصلوات؟

وأما وجه الجمع بينهما في الحكم ، فقد علم سابقاً ، وهو الفرق بين

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٥٩ ، برقم : ٤٢٧٠.

٥٢٥

الوجوبين في الموضعين ، فتذكر وتفكر ، مع أن لاحداهما شرائط ليست للاخرى ، فليس حكمها في العموم وغيره حكمها ، وذلك كما ان الصلوات الاخر اذا لم يتحقق شرطها بالنسبة الى بعض المكلفين يسقط وجوبها في حقه ، كالمسافر بالقياس الى الرباعيات مثلا.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة زرارة ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : على من تجب الجمعة؟ قال : على سبعة نفر من المسلمين ، ولا جمعة لاقل من خمسة أحدهم الامام ، فاذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم (١).

وهذا نص في عدم اشتراط الاذن الذي ادعوه ، وان مرادهم بالامام في مثل هذا الموضع امام الصلاة لا المعصوم. فان سموا مثل هذا اذناً من الامام واكتفوا به ، فهو ثابت الى يوم القيامة لكل من يصلح لان يخطب ويأم.

والمنفي في قوله « لا جمعة لاقل من خمسة » مطلق الوجوب ، والثابت مع السبعة الوجوب العيني ، كما يرشد اليه اتيانه باللام المستعملة في الاستحباب والتخيير في الخمسة وبعلى المستعملة في الوجوب والحتم في السبعة ، وبهذا يجمع بين الاخبار المختلفة في هذا المعنى ظاهراً (٢).

أقول : فيها دلالة على وجوب كون الخطيب هو الامام ، لوجوب اتحاد فاعل الفعلين (٣) ، ويدل عليه أيضاً ما روي عن علي عليه‌السلام : لا كلام والامام يخطب ولا التفات الا كما يحل في الصلاة ، وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين ، جعلتا مكان الركعتين الاخيرتين ، فهما صلاة حتى ينزل الامام (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٨ ، ح ٤.

(٢) الشهاب الثاقب ص ٢١.

(٣) أراد بهما قوله عليه‌السلام : أمهم بعضهم وخطبهم « منه ».

(٤) وسائل الشيعة ٥ / ٢٩ ، ح ٢.

٥٢٦

وقد عرفت أن خطبة الجمعة من وظائف الامام عليه‌السلام أو من يراه أهلا لذلك. وقد مر أيضاً في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين ، ولا تجب على أقل منهم : الامام ، وقاضيه ، والمدعي حق والمدعى عليه ، وشاهدان ، والذي يضرب الحدود بين الامام. (١).

وهذا حديث مفصل مصرح فيه بأن المراد بالامام هو المعصوم عليه‌السلام ، ورواية زرارة مجملة ، حيث ذكر فيها السبعة ولم يفصلهم ، والحديث المجمل يحكم عليه المفصل ، وبظهر منه أن العدد المعتبر في انعقاد الجمعة هو السبعة الموصوفة بالإيمان ، فالمراد بالمسلمين في رواية زرارة وغيرها هم المؤمنون ، وهم الاخصون منهم ، فهي مخصوصة بها من هذه الجهة أيضاً.

وهذا أيضاً مما يرجح العمل بها وتقديمها عليها مع ما فيها من التفصيل بعد الإجمال الدال على كونها أفصح منها متناً وأوضح ، وهذا كله من المرجحات والمقويات عندهم.

ثم الذي جمع به الاخبار ، فهو مأخوذ من كلام الشيخ في بعض فتاويه ، فأنه جمع بينهما بأن السبعة في الوجوب العيني والخمسة في الوجوب التخييري بين الظهر والجمعة. وأما ما أفاد بقوله « والمنفي مطلق الوجوب والثابت الوجوب العيني » فهو مأخوذ من كلام الشهيد في الذكرى.

وقال مولانا أحمد الاردبيلي في آيات أحكامه : أكثر الروايات الموجودة الآن في الكتب أصحاب وأصرحها أن العدد المشترط في وجوبها هو الخمسة ، وهو قول أكثر الفقهاء المعروفين الآن.

ثم قال وقال في مجمع البيان : والعدد يتكامل عند أهل البيت عليهم‌السلام بسبعة ، وهو في بعض الروايات وبعض الاقوال للشيخ ، مع أنه يقول بالوجوب التخييري

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٩ ، ح ٩.

٥٢٧

بالجمعة والحتمي بالسبعة جمعاً للاخبار وهو أعلم (١) انتهى كلامه طاب منامه.

هذا وأما ما جعله قدس‌سره مرشداً اليه ودليلا عليه من قوله باللام وبعلى ، فترده حسنة زرارة كما تأتي ، فتأمل.

ثم أقول : ويمكن أن يقال ان معنى الرواية الدالة على السبعة أن الجمعة انما تجب اذا حصل الاجتماع لا أي اجتماع اتفق ، بل الاجتماع الذي يحتاج فيه الى حاكم وأقل مراتبه حصول سبعة موصوفين بهذه الصفات التي ذكرها ، ولا يجب أن يكون هؤلاء السبعة مختلفين بالذات ، بل يجوز الاختلاف بالاعتبار فيكون الذي يضرب الحدود مثلا أحد الشاهدين أو المدعي أو المدعى عليه.

فاذن يصح تحقق هذه الصفات السبعة في أقل من سبعة أفراد ، وقد نصت الرواية الاخرى على أن أقل من الخمسة لا يجزي‌ء ولم يذكر فيها ما ذكر في هذه ، فيذكر فيها ما ذكر فيها ، وحينئذ فيحصل الجمع بهذا الطريق ، ويزول ما يتوهم من التنافي ، ولا يضر كون هذا المعنى خلاف الظاهر ، لانه كثيراً ما يصار الى غير الظاهر اذا دل الدليل عليه وقد دل هنا فلا ضير.

قال قدس‌سره : وفي حسنة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط : الامام وأربعة (٢).

أقول : لا دلالة فيها بزعمه على الوجوب العيني ، لكونه على اعتقاده مشروطاً بالسبعة كما مر ، فذكره في الباب لا يفيد الا تطويل الكتاب ، بل لا دلالة فيها على الوجوب مطلقا الا بطريق مفهوم المخالفة ، وهو دليل الخطاب ، وفي كونه دليلا خلاف كما مر ، مع ما عرفت في الباب الثاني من وجوب تخصيص العام وتقييد اطلاق لفظ الامام ، وانصرافه الى المعصوم عليه‌السلام.

__________________

(١) زبدة البيان ص ١١٧.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٧ ـ ٨ ، ح ٢.

٥٢٨

قال قدس‌سره : وفي موثقة أبي العباس ، عن الصادق عليه‌السلام : أدنى ما يجزئ في الجمعة سبعة أو خمسة أدناه (١).

أقول : طريقة الاستدلال بها على حقيقة مذهب من المذاهب الثلاثة المشهورة غير واضحة ، نعم يستفاد منها أن أقل عدد تنعقد به الجمعة سبعة ، وهو الافضل بمعنى أكثر ثواباً ، أو خمسة وهو المفضول. وأما أنها مستحبة أو واجبة وخصوصاً وعيناً ولا سيما في هذا الزمان ، أو متى تجب وبأي شرط يتحقق غير هذا ، فلا دلالة لها عليه أصلا.

فلو جعل اللام فيها للعهد ، فلكل ذي مذهب أن يجعل المعهود موافقاً لمذهبه ، ويحمله على ما يطابق رأيه ، فذكرها في الباب كذكر سابقتها في الكتاب ، بل هي أولى بأن لا يدخل في الحساب ، كما هو ظاهر على أولي الالباب.

وبالجملة من الاخبار الواردة في الباب الذي يدل بصريحه على وجوب الجمعة وبقائه الى هذا الزمان على ما فهم منه هؤلاء الاصحاب واعترفوا به حديثان ، وهما كما عرفت مجابان ومعارضان بما مر مراراً فتذكر.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة منصور بن حازم ، عن الصادق ، قال : يجمع القوم اذا كانوا خمسة فما زادوا ، وان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم ، والجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها الا خمسة : المرأة ، والمملوك ، والمسافر ، والمريض ، والصبي (٢). قوله « يجمع » بتشديد الميم ، أي : يصلون الجمعة (٣).

أقول : فيها أولا أنها غير دالة على عينية وجوب الجمعة على ما ذهب اليه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٧ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٨ ، ح ٧.

(٣) الشهاب الثاقب ص ٢١ ـ ٢٢.

٥٢٩

المستدل واعترف به في مقام الجمع بين الاخبار.

وثانياً : أن الحصر الواقع فيها غير مستقيم بظاهره بالاتفاق ، وهو ظاهر.

وثالثاً : أن اللام في « القوم » للعهد ، وهم الذين تحققت لهم شرائطها ، بأن كان فيهم من يصح معه التجمع ، فاذا كانوا خمسة فما زاد جمعوا ، لما مر من أن بأمثال هذه الاخبار المطلقة العامة لا يمكن الاستدلال على وجوبها عيناً في هذا الزمان.

بل يجب تخصيصها بمثل ما مر ، وبما في الصحيفة الكاملة من دعاء كان له عليه‌السلام ليوم الجمعة والاضحى : اللهم ان هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها.

فان هذا المقام اشارة الى مقام صلاة الجمعة أو العيد ، يعني : هم المستحقون لذلك المقام ، وهم المختصون بتلك الدرجة الرفيعة ، فاما يجعلونها لانفسهم كما في زمن حضورهم وشهادتهم وأمنهم من الضرر ، أو يأذنون لمن يرونه أهلا لذلك ، كما في زمن تقيتهم وفي غير بلدة حضورهم وشهادتهم.

ولا ريب أن تلك الاخبار الاحاد ظنية المتون ، ظنية الدلالات على تقدير التسليم ، والصحيفة الكاملة قطعية المتن اتفاقاً منا لتواترها ، حتى أنهم لقبوها بزبور آل محمد وانجيل أهل البيت ، وتلك الفقرات قطعية الدلالات على المراد ، فهي مقدمة عليها ومخصصة لها ، كما هو المقرر في الاصول ، وهو بنا حري أن نتلقاه بالقبول.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة عمر بن يزيد عنه عليه‌السلام قال : اذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة ، وليلبس البرد والعمامة ، وليتوكئوا على قوس أو عصى ، وليقعد قعدة بين الخطبتين ، ويجهر بالقراءة ، ويقنت في الركعة الاولى

٥٣٠

منها قبل الركوع (١).

أقول : الامر فيها للندب ، كما هو الشائع في أخبار أئمتنا عليهم‌السلام ، حتى ذهب جماعة من الاصحاب منهم الفاضل السبزواري في مواضع من ذخيرة المعاد في شرحه على الارشاد الى أنه حقيقة فيه في أخبارهم عليهم‌السلام ، ومجاز في الوجوب ويحتاج فيه الى القرينة ، ويدل على ذلك أيضاً أن كثيراً من الاوامر المذكورة في هذا الخبر محمول عليه بالاتفاق.

ومع هذا نقول : هذا بيان لما يجب أو يستحب أن يفعله الامام اذا كان صالحاً للامامة ، كما اذا كان منصوباً من قبله للصلاة. وقال المستدل في حاشيته المتعلقة بهذا الموضع : لعل سكوته عليه‌السلام عن القنوت الثاني للتقية.

فكيف يستدل بهذا الخبر الوارد على التقية على جواز الجمعة أو وجوبها ، ولا سيما على وجوبها العيني ، على أن كونه وارداً على التقية محل تأمل ، اذ اعتبار السبعة في تكامل العدد ليس مذهباً لاحد من المخالفين ، فان أبا حنيفة يكتفي في انعقادها اذا وقعت في مصر جامع يقام فيه الحدود وتنفذ فيه الاحكام بالامام عادلا أو جائراً أو باذنه ، أو اذن من ولاه من قاض ، أو صاحب شرطة بثلاثة سوى الامام. والشافعي بأربعين رجلا أحراراً بالغين مقيمين ، وأبا يوسف باثنين سوى الامام ، والحسن بواحد كسائر الجماعات ، فليتأمل.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة عبد الملك ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : اذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات ، فان كان لهم من يخطب جمعوا اذا كانوا خمسة نفر ، وانما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين (٢). وهذا أيضاً نص في عدم اشتراط حضور الامام أو اذنه الامثل هذا الاذن العام الثابت

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٩ ، ح ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٨ ، ح ٦.

٥٣١

الى يوم القيامة (١).

أقول : فيها أولا أنها لا تدل على وجوبها مطلقا فضلا على وجوبها عيناً ، بل غاية ما يفهم منها أن فعلها جائز اذا اجتمع هذا العدد وتحقق هذا الشرط وهو وجود من يخطب.

نعم يمكن جعلها دليلا على التخيير بانضمام مقدمة خارجية ، بأن يقال : دلالتها على جواز فعلها دليل على استحبابها ، فان الجواز بمعنى الاباحة المحضة غير ثابت في العبادات ، لانها لا تكون متساوية الطرفين ، بل لا بد فيها من الرجحان ، وهو معنى أفضل الفردين الواجبين ، فليتأمل. والمستدل في صدد اثبات وجوبها العيني ، فذكرها في الباب خارج عن وضع الكتاب.

وثانياً : ما قد ظهر مما نقلناه عن العيون ان خطبة الجمعة من وظائف الامام المفترض الطاعة ، العالم بجميع الامور المتعلقة بنظام أحوال الرعية في معاشهم ومعادهم وقد مر مشروطاً. فاما أن يجعله لنفسه ، أو باذن لمن يراه أهلا لذلك.

فهذا الخبر العام مخصوص به ، لانه اذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر ، فاما أن يعلم تاريخهما أولا ، والاول اما مقترنان أولا ، والثاني : اما يتقدم العام أو الخاص ، فهذه أقسام أربعة ، وفي الكل يجب بناء العام على الخاص ، كما هو المقرر عندهم ، فالمراد بمن يخطب هو الامام عليه‌السلام أو من يأذنه للخطبة ، مع أن اجتماع الخمسة غير مفيد للوجوب العيني على ما هو رأي المستدل ، فذكره في هذا الباب غير مناسب من هذا الوجه أيضاً.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهم‌السلام قال : سألته عن أناس في قرية هل يصلون جماعة؟ قال : نعم يصلون أربعاً اذا لم يكن لهم

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٢٢.

٥٣٢

من يخطب (١). وهذه مثل سابقتها في الدلالة (٢).

أقول : وقد سبق أيضاً ما فيه كفاية ، مع أنها لا تدل على المدعى الا بطريق مفهوم المخالفة ، وقد عرفت ما فيه.

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة زرارة قال قال أبو جعفر عليه‌السلام : الجمعة واجبة على من ان صلى الغداة في أهله أدرك الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انما كان يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الايام كي اذ قضوا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرجعوا الى رحالهم قبل الليل ، وذلك سنة الى يوم القيامة (٣).

أقول : هذا بيان لاكثر المسافة ، وفيها دلالة على وجه الحكمة في وقوع صلاة عصر يوم الجمعة وقت صلاة الظهر من سائر الايام. وقوله « ذلك » أي : وقوع صلاة العصر وقت الظهر في سائر الايام سنة الى يوم القيامة ، حيث يكون الوقوع صحيحاً ، كما أن الجهاد مع المشركين سنة الى يوم القيامة اذا تحققت شرائطه.

وشرح ذلك : أن وقت الظهر أول الزوال وتأخيره في سائر الايام لمكان النافلة قبله ، وهي في يوم الجمعة قبل الزوال ، فليخص الزوال للظهر ، ولما كان العصر بعد الظهر من دون أن يتقدم عليه نافلة أيضاً ، فلا جرم يصير وقت الظهر في سائر الايام.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : وقت صلاة الجمعة في يوم الجمعة ساعة تزول الشمس ، ووقتها في السفر والحضر واحد وهو من المضيق ، وصلاة العصر يوم الجمعة في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ١٠ ، ح ١.

(٢) الشهاب الثاقب ص ٢٢.

(٣) وسائل الشيعة ٥ / ١١ ، ح ١.

٥٣٣

وقت الاولى في سائر الايام (١).

قال قدس‌سره : ومنها صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : من ترك ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه (٢). وفي رواية اخرى عنه : فان ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة الا منافق (٣).

أقول : ما ذكر المستدل صدر هذا الحديث الشريف ، ولعله لكونه منافياً لما هو بصدد اثباته ، وهو مذكور في عقاب الاعمال لابن بابويه رحمه‌الله عليه ، قال عليه‌السلام : صلاة الجمعة فريضة ، والاجتماع اليها فريضة مع الامام ، فان تركه رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض الحديث (٤).

وهو كما ترى صريح في وجوبها مع الامام عليه‌السلام وقد دريت وجهها. ومع قطع النظر عن ذلك ، فقد عرفت وجه ما في صحيحة أبي بصير ومحمد في صدر الباب الثاني في ذيل الاخبار النبوية ، فتذكر وتفكر.

قال : ومنها صحيحة زرارة قال : حثنا أبو عبد الله عليه‌السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه ، فقلت : نغدو عليك ، فقال : لا انما عنيت عندكم (٥).

أقول : لا دلالة فيها على ما رامه المستدل من حتمية وجوبها بلا اشتراط حضور امام أو أذن منه أو فقيه ولا تجويز ترك ، فان هذا اذن منه عليه‌السلام لزرارة ورخصة له لفعلها ، وهو من أفقه فقهاء أصحابه عليه‌السلام.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ١٩ ، ح ١٢.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٥ ، ح ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ٥ / ٤ ، ح ٨.

(٤) عقاب الاعمال ص ٢٧٧ ، ح ٤.

(٥) وسائل الشيعة ٥ / ١٢ ، ح ١.

٥٣٤

وأما ما قيل : ان ظاهر هذا الخبر أنهم كانوا بحضرته عليه‌السلام جماعة ولم يعين أحداً منهم للامامة ولا خصه بالامر والحث. فمدفوع ، بأن الظاهر منه أن المخاطب بهذا الكلام انما كان زرارة ، لانه كان من أجلاء أصحابه عليه‌السلام وفقهائهم ، وهو الذي قال فيه عليه‌السلام : لو لا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب.

وانما أنى بصيغة الجمع وأشرك غيره في الحث ، لانهم أيضاً كانوا محثوثين بفعلها بأن يأتموا به ، لان فعلها لا يتم الا جماعة ، يدل على ذلك قوله « فقلت نغدو عليك » وهذا مثل ما اذا أراد واحد منا أن يحث جماعة على فعل ، فيحض واحداً منهم اذا كان له عنده قدر ومرتبة بالخطاب ، فيقول : افعلوا كذا وكذا ، وانما يريد أن يكون المخاطب باعثهم على ذلك واماماً لهم فيه ، ويكون غيره معيناً له عليه ومقتدياً به فيه ، وهذا أمر بين متداول معروف في المحاورات والمتعارفات.

سلمنا ذلك لكن أي مانع من كون كل واحد من المخاطبين صالحاً لان يكون نائباً من قبله عليه‌السلام ، ومنصوباً لان يكون اماماً لصلاة الجمعة ، فانهم كانوا صلحاء فقهاء فضلاء علماء حلماء أتقياء أصدقاء صواحب سره عليه‌السلام ، لا بد لنفيه من دليل ، مع أنه يحتمل أن يكون معنى قوله عليه‌السلام « انما عنيت عندكم » أنه أنا آتيكم غداً ، لانه بمعنى ما قصدت الا عندكم ، وهو كما يحتمل أن يكون المراد منه أنه عليه‌السلام قد فوض فعلها اليه ، كذلك يحتمل أن يكون المراد منه أنه عليه‌السلام يباشره بنفسه النفيسة ، لكن عندهم لعلة باعثة على ذلك ، وهو عليه‌السلام أعلم بما هو الاصلح بحاله وحال رعيته وشيعته ، فيفعل بهم ما يشاء ويأمرهم ما يريد.

على أنها بظاهرها تدل على جواز تركها أحياناً ، فان الظاهر من قوله « حثنا حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه » أنهم يأتونه عليه‌السلام لفعلها ولا يفعلونها فيما بينهم أيضاً ، فتدل على التخيير.

٥٣٥

الا أن يقال : انه كان للتقية ، وهو خلاف الظاهر ، كيف لا؟ وحثه عليه‌السلام اياهم على فعلها ينافي التقية ، لان الحث على ترك الواجب وهو التقية وفعل الحرام وهو الجمعة على هذا التقدير حرام قبيح ينافي منصب الامامة والعصمة ، والقول بأنه عليه‌السلام حثهم عليه مهما أمكن خلاف الظاهر ، بل ليس له عين ولا أثر في هذا الخبر.

وكيف يمكن القول بالتقية في موثقة عبد الملك الاتية ، فانها لو كانت محمولة عليها لكان له أن يقول في جواب عتابه (١) عليه‌السلام انما لم أصلها للتقية والخوف من المخالفين ، مع أن التقية غير مناسب لقوله عليه‌السلام في جوابه لما قال كيف أصنع؟ : صلوا جماعة ، وهو ظاهر.

وظاهر أن هذا اذن صريح منه عليه‌السلام لعبد الملك بخصوصه على فعلها اماماً ، حيث لم يكن له شريك في هذا العتاب ، بقرينة قوله « مثلك يهلك » وانما أتى بخطاب الجمع تغليباً للحاضر على الغائب ، وتصريحاً بأن فعلها انما يتم جماعة ، كما مر نظير ذلك في توجيه رواية زرارة.

وأما القول بأنه لا خلاف في وجوبها وقت حضوره عليه‌السلام ، فمدفوع بأن ذلك انما يكون اذا كان على وجه السلطنة والاستيلاء والا فلا.

وبالجملة الظاهر من الخبرين الاذن أو التخيير على الاحتمالين عند

__________________

(١) هذا معارضة معهم حيث قالوا : لو كان الاذن شرطاً فيها ، لكان لعبد الملك أن يقول في جواب عتاب الامام عليه‌السلام له مقتدراً : انما لم أصلها لانك لم تأذن لى ، مع أنه يمكن أن يقال أيضاً : انه عليه‌السلام كان قد أذن له في فعلها ، لكن على وجه التخيير لعدم الاستيلاء والسلطنة ، فلما تهاون فيه مع تمكنه عليه عاتبه عليه وحثه على فعلها ثانياً ، ولذلك لم يعتذر بعدم الاذن ، ويدل عليه أن العتاب بدون سابقة اذن ورخصة وأمر على فعلها مما لا وجه له ، فتأمل « منه ».

٥٣٦

الانصاف. وأما ما حملوهما عليه جبراً ، فأنت خبير بأنه لا يخلو من الاعتساف ، فتأمل.

واعلم أن مما هو كالنص في التخيير ما رواه الصدوق في أماليه باسناده عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : أحب للمؤمن أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع ولو مرة ، ويصلي الجمعة ولو مرة.

والعجب من المستدل أنه نقله في آخر رسالته هذه ، ثم قال : ولا دلالة فيه على التخيير ، لانهم كانوا في زمن التقية ولم يتيسر لهم المواظبة عليها ، فكانوا يغتنمون الفرصة في ادراكها اذا تيسرت ، فالتخيير عارض (١).

وغفل أن المؤمن مفرد محلى باللام ، فهو يفيد الاستغراق الحقيقي ، لكون المقام خطابياً على قياس قوله عليه‌السلام « المؤمن عز كريم والمنافق خب لئيم » فهو شامل بجميع أفراد المؤمنين الموجودين في عهده عليه‌السلام وغيرهم من الموجودين في سائر الازمنة ، فاذا خصصه بالموجودين في عصره عليه‌السلام فقد نقض بنيان كل ما بناه في هذه الابواب ، وصار كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.

وأيضاً فانه عليه‌السلام نظم المتعة والجمعة في سلك واحد ، ولا شبهة في أن استحباب المتعة ثابت لكل مؤمن يصلح لان يتمتع الى يوم القيامة ، فلو حمل استحباب الجمعة على بعض الوجوه لزم تهافت الكلام واختلاف حكم السنن بغير مائز ، الى غير ذلك مما قالوا نظيره سابقاً ، فما هو جوابهم عن هذا فهو جوابنا عن ذاك.

ثم لا يذهب عليك أن هذا الخبر وأمثاله صريح في أن وجوبها العيني انما يتعين في زمان حضور الامام عليه‌السلام اذا كان على وجه السلطنة والاستيلاء ، كما ذهب اليه جماعة من الاصحاب ، والحق معهم لما دريت في الابواب ، فتذكر وتأمل.

قال : ومنها موثقة عبد الملك عن الباقر عليه‌السلام قال : مثلك يهلك ولم يصل فريضة

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٩٧.

٥٣٧

فرضها الله ، قال قلت : كيف أصنع؟ قال : صلوا جماعة ، يعني صلاة الجمعة (١).

أقول : هذه مثل سابقتها في الدلالة وقد عرفتها ، والاولى تركهما وترك نظائرهما في هذا الباب ، فان في ذكرها ليس الا تطويل الكتاب.

قال : ومنها حسنة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : تجب الجمعة على من كان على رأس فرسخين ، فان زاد على ذلك فليس عليه شي‌ء (٢).

أقول : هذا تعيين منه عليه‌السلام لاكثر المسافة التي تجب معها الجمعة ، وأما أنها متى تجب وبأي شرط تحقق من العدد والخطبة والنيابة خاصاً أو عاماً أو غيرهما فلا دلالة لها عليه أصلا ، وهذا مثل أن يقول : يجب الجهاد على من كان قادراً عليه فان لم يكن قادراً على ذلك فليس عليه شي‌ء.

قال : ومنها حسنته عنه عليه‌السلام أيضاً قال : اذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء (٣) وفي رواية : بين القريتين.

أقول : بناؤها على تعدد الثواب للامام عليه‌السلام في بلدة واحدة أو بلدتين ، ويتصور ذلك أيضاً بالامام عليه‌السلام ونائبه.

قال : ومنها حسنة الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن لم يدرك الخطبة يوم الجمعة ، قال : يصلي ركعتين ، فان فاتته الصلاة فلم يدركها فليصل أربعاً وقال : اذا أدركت الامام قبل أن يركع الركعة الاخيرة فقد أدركت الصلاة ، فان أنت أدركته بعد ما ركع فهي الظهر أربع (٤).

أقول : فيها دلالة على ادراك الجمعة بادراك الركعة الاخيرة ، وعلى كونها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ١٢ ، ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ١٢ ، ح ٦.

(٣) وسائل الشيعة ٥ / ١٧ ، ح ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٥ / ٤١ ، ح ٣.

٥٣٨

أفضل الواجبين ظاهراً ، وعلى أنها الاصل ، لامره عليه‌السلام بالظهر على تقدير فواتها الا أن يقال : هذا فيما اذا كانت واجبة عينية ، كما في صورة حضوره عليه‌السلام أو من منصبه للصلاة.

قال : ومنها غير ذلك من الاخبار المستفيضة بل المتواترة معنى ، فانها كثيرة جداً ، وفيما ذكرنا من المعتبرة كفاية لمن تدبرها إن شاء الله تعالى (١).

أقول : هذه ونظائرها مما تركنا التعرض لها قد علم حكمها إن شاء الله تعالى مما أسلفنا ملخصاً ، وقد ظهر منه أن القول بوجوبها العيني في هذا الزمان غير ثابت ، بل الامر بين التخيير والحرمة ، فان قاطبة المتأخرين من زمان الشيخ الطوسي الى زمان الشيخ زين الدين نفوا عنها الوجوب العيني وصرحوا فيها بالتخيير ، وادعوا فيه الإجماع ، وأيدوه ببعض الروايات السالفة.

وأما القدماء منهم ، فبين تخيير وتحريم ، فمنهم من صرح بالحرمة كسلار وابن إدريس والسيد المرتضى ، كما صرح به الشهيد في الذكرى ، حيث قال : وبالغ بعضهم فنفى الشرعية أصلا ورأساً ، وهو ظاهر كلام المرتضى ، وصريح سلار وابن إدريس ، وهو القول الثاني من القولين ، بناءً على أن اذن الامام شرط في الصحة ، وهو مفقود ، ويحملون الاذن الموجود في عصر الائمة عليهم‌السلام على من سمع ذلك الاذن ، وليس حجة على من يأتي من المكلفين.

ثم قال : وهذا القول متوجه ، والا لزم الوجوب العيني ، وأصحاب القول الاول ـ يعني بهم القائلين بالتخيير ـ لا يقولون به (٢) انتهى.

وأما ما أجاب به المستدل عن هذا الدليل في الباب السادس من رسالته هذه بقوله : نمنع انتفاء الوجوب العيني ، فان الادلة قامت عليه ، وعبارات الاصحاب

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٢٣.

(٢) الذكرى ص ٢٣١.

٥٣٩

دلت عليه ، ولو سلم فالدلائل المذكورة انما دلت على الوجوب في الجملة ، أعني : الوجوب الكلي المحتمل للعيني والتخييري ، فاذا انتفى الاول لعدم القائل به على زعمكم بقي الآخر (١).

ففيه أن الادلة لم تقم عليه ، والعبارات لم تدل عليه كما عرفت ، ومنه يظهر أن دلالتها على الوجوب الكلي الشامل للعيني غير ثابت.

وعلى تقدير دلالتها عليه نقول : لما كان تحقق تلك الطبيعة الكلية في الخارج في ضمن أي فرد من فرديها مشروطاً بالشرط ، فاذا لم يتحقق لم تتحقق. فبعد تسليم الشرط وتوقف تحقق الطبيعة عليه مع انتفائه لا يتصور القول بتحققها ، والا يلزم تحقق الموقوف من غير تحقق الموقوف عليه ، وهو غير معقول ، والمجيب لم يمعن النظر في الدليل ، وهو متين.

وحاصله : أن اذن الامام لما كان شرطاً لصحتها ، فالحال لا يخلو من أن يكون متحققاً في هذا الزمان أولا ، فعلى الاول يلزم القول بالوجوب العيني وهم لا يقولون به. وعلى الثاني لا تقع صحيحة ، لانتفاء الشرط وهو ظاهر.

اللهم الا أن يقولوا بعدم اشتراط الاذن مطلقا ، أو يخصوه بزمان حضوره عليه‌السلام ، أو يقولوا : ان الاذن الحاصل عنهم عليهم‌السلام في الاخبار السابقة يجري مجراه ، أو أن الفقيه منصوب من قبلهم عليهم‌السلام فهو نائب على العموم ، ومع ذلك كله يتوجه عليهم الإلزام وهو القول بوجوبها العيني في هذا الزمان مع عدم قولهم به ، مستنداً فيه الى الإجماع والاخبار كما دريت.

فظهر منه أن احتجاج ابن إدريس بهذه الحجة على اشتراط الامام أو نائبه على الخصوص في صحتها في غاية القوة والمتانة ، وليس في غاية الضعف والوهانة كما يتوهم في بادي النظر ، لان كلامه مع القوم وهو متوجه عليهم.

وأما القول بأن الاذن شرط في الوجوب العيني دون التخييري ، والاعتماد

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٦٣.

٥٤٠