الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

فيه الظهور مع خفائه على مثله على غزارة علمه وثقوب فهمه ، فكيف ظنك بالغير؟! نعم الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو ، وحبك للشي‌ء يعمي ويصم.

ولكن (١) هذه العلاوة والتأييد وان كان يخرج الخبر عن التقييد ، الا أنه يفسده ويسقطه عن درجة الاعتبار عند أولي الألباب والابصار ، فان الروايات الخاصية مع كثرتها الغير المحصورة صحيحة المناطيق متفقة الدلالات على اعتبار العدالة في الامام مطلقا.

فاذا كان هذا الخبر بهذا الطريق منافياً لها ومناقضاً ، فهو غير معمول به عند الاصحاب وغير مقبول عندهم ، لتصادمه كثيراً من الاخبار الصحيحة المقبولة مع اتفاق كلمتهم على وجوب كون الامام عادلا مطلقا ، امام جماعة أو جمعة ، كما هو صريح الاخبار ، وسنتلو عليك طرفاً منها في رسالة مفردة معمولة فيه إن شاء الله.

والمستدل رام بذلك اصلاح ما ظن فساده « وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر » (٢) مع أن هذه الرواية العامية الواردة في طريق العامة مناقضة لما رووه بطريق جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجراً مؤمناً ، الا أن يقهره سلطان ، أو يخاف سيفه أو سوطه.

فلا يمكنهم أيضاً أن يعمموا في الامام ، بل لا بد لهم أن يعتبروا فيه العدالة مطلقا ، كما عليه اجماع الاصحاب هنا وفي الجماعة المطلقة ، لظاهر قوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٣).

__________________

(١) هذا استثناء واستدراك من قوله « فهو كذلك » « منه ».

(٢) مصراع من أبيات الثعالبي من قصيدة يهجو بها عجوزاً تزوجها لما رآها محلاة ثم انكشف سوآتها بعد التزويج ، أول القصيدة :

عجوز تمنت أن تكون نعية

وقد يئس الجنان واحدودب الظهر

تروح الى العطار ينقى شبابها

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر « منه »

(٣) سورة هود : ١١٣.

٥٠١

ولا شك أن الاقتداء ركون ، فتعميمهم يستلزم رد الكتاب والسنة ، وتعميمنا يستلزم مع ذلك رد الإجماع أيضاً.

وبعد اللتيا والتي كيف يستقيم عند الطبائع السليمة والعقول المستقيمة الاقتداء بالفاجر والاهتداء بالعاهر ، وتفويض الامور الدينية اليه ، ولا سيما أمر الصلاة التي هي معراج المؤمن ونور عينيه ، وهي من أكمل أركان الدين وأفضل أعمال المسلمين ، حتى أنها اذا قبلت قبل سائر الاعمال ، ولو ردت ردت بواقيها.

وقل لي لو حكمت نفسك وجعلتها قاضية في ذلك الامر الجسيم والخطر العظيم هل ترضى بذلك من شي‌ء؟! لا أظنك أن تكون ترضى عنه منه ، فكن الحاكم دوني.

على أن الإجماع منعقد على عدم وجوبها العيني ، كما نقله جماعة منهم الشهيد الثاني والعلامة الحلي ، بل قاطبة المتأخرين ، فانهم ذهبوا الى التخيير ، كما صرح به الشيخ الحسين بن عبد الصمد الحارثي في عقد الطهماسبي.

وأما قوله قدس‌سره « لو كان الوجوب تخييرياً لما كان كذا وكذا » فهو كلام قلد فيه زين المحققين ، والجواب عنه من قبل القائلين بالتخيير :

أما أولا ، فبأنه محمول على المبالغة ، ونظيره في الاخبار كثير ، مثل ما ورد أن من الملعونين من يأكل زاده وحده ، مع أن أكل الزاد وحده مكروه ، فذلك اللعن للمبالغة كالنائم وحده.

وأما ثانياً ، فبأنها لما كانت أفضل الواجبين ، وهو معنى الاستحباب ، بمعنى أنها واجبة تخييراً (١) أو مستحبة عيناً ، كما في جميع افراد الواجب المخير اذا

__________________

(١) يعني : ليس المراد باستحباب الجمعة كونها مستحبة في نفسها ، بل المراد استحباب فعلها عوضاً عن الظهر الواجبة ، وهي أيضاً واجبة لكن هي أفضل الواجبين كما في العتق وغيره من خصال الكفارة « منه ».

٥٠٢

كان بعضها راجحاً على الباقي وكان المكلف قد تركها تهاوناً واستخفافاً وجحوداً لفضلها ترتب على اعتقاده ، هذا ما ترتب من النفاق والطبع والختم ، فالسبب الاصلي فيه ذلك لا أصل الترك.

فان التهاون بالسنن والرغبة عنها تال للكفر ، كما يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني (١). ومما روي عن علي عليه‌السلام : الاغلف لا يؤم القوم وان كان أقرأهم ، لانه ضيع من السنن أعظمها ولا يقبل له شهادة ولا يصلى عليه ، الا أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه (٢).

حيث يظهر منه أن التهاون بها قادح في العدالة وموجب لعدم قبول الشهادة بل يدل على كفر المتهاون بها ، لقوله عليه‌السلام « ولا يصلى عليه ».

ولعل الوجه فيه أن الايمان هو التصديق بكل ما جاء به النبي وهذا منه ، ولذلك نفى صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته المذكورة عنه الصلاة والزكاة والحج والصوم والبر والدين ، كما هو الموجود في رواية الشهيد في الذكرى ، لان من شرائط قبول العبادات الايمان بالله وبجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا المستخف الجاحد مرتد كافر غير مؤمن به ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يتوب. وفيه دلالة على قبول توبة المرتد بينه وبين الله ، كما هو الصحيح.

وأما ثالثاً ، فبأن هؤلاء لا ينكرون دلالتها على الوجوب العيني ، بل يقرون بها ويذكرونها في كتبهم الاستدلالية في هذا المقام ، كما في الذكرى وغيرها ، لكنهم يخصونها بزمن حضور الامام العادل ، كما هو منطوق هذه الرواية وغيرها ، كما مر وسيأتي.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ / ٢٦١.

(٢) وسائل الشيعة ٥ / ٣٩٦ ، ح ١.

٥٠٣

ومن العجب أنهم يستدلون بهذه الرواية (١) على وجوبها التخييري في هذه الزمان ، كما أومأ اليه الشهيد ، والمستدل جعلها دليلا على وجوبها العيني في هذا الزمان « وللناس فما يعشقون مذاهب » (٢).

وأما رابعاً ، فبأن لهم أن يقولوا وجوبها لو كان عينياً لوجب أن يصير بتركه جمعة واحدة متعمداً أو متهاوناً كافراً ، فما الوجه في توقفه على تركه ثلاث جمع وفي بعض الروايات متوالية كما سيأتي.

قال الصادق عليه‌السلام : كل من ترك الصلاة قاصداً لتركها ، فليس يكون قصده لتركها اللذة ، فاذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف ، واذا وقع الاستخفاف وقع الكفر (٣).

تنبيه :

الوجوب العيني في زمن الغيبة : اما أمر بين رشده ، وهو بعيد ، لخلاف جم غفير من السلف وجمع كثير من الخلف ، مع ثقوب فهمهم ووصوب علمهم ، وتصلبهم في الدين ، وتتبعهم لاثار أئمة المعصومين عليهم‌السلام. أو أمر بين غيه ، وهو أيضاً بعيد لمثل ما مر ، أو أمر مشتبهة ، فيجب تركه واجتنابه ورد علمه الى الله والى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الامر.

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لا يدفعه مخالف ولا مؤالف من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (٤).

__________________

(١) لانهم ينفون بها وجوبها العينى وليسوا قائلين بالحرمة فيلزم التخيير « منه ».

(٢) مصراع من بيت مجنون العامري ، أوله : ومن مذهب [ كذا ] حب الديار لاهلها وللناس الى آخره « منه ».

(٣) وسائل الشيعة ٣ / ٢٨ ، ح ٢.

(٤) عوالي اللئالي ١ / ٨٩.

٥٠٤

فعند تعادل الامارات على فرض التسليم وجب التوقف ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في المهلكات ، هذا ما عندنا والعلم عند الله وعند أهله.

هداية فيها دراية

القائلون بالوجوب العيني على الاطلاق قدحوا في رواية محمد بن مسلم السابقة ذكرها ، أولا بأن من رجالها الحكم بن مسكين ، وهو من المجاهيل ، فلا يسوغ العمل بروايته ، كذا قال المستدل في الباب السادس من رسالته هذه (١).

وهو كلام مأخوذ من كلام الفاضل الحلي رحمه‌الله في المختلف ، لكنه قال فيه في طريق رواية محمد بن مسلم الحكم بن مسكين ، ولا يحضرني الان حاله فنحن نمنع صحة السند (٢).

وأجاب عنه الشهيد في الذكرى ، بأن الحكم ذكره الكشي ولم يتعرض له بذم ، والرواية مشهورة جداً بين الاصحاب لا يطعن فيها كون الراوي مجهولا عند بعض الناس (٣) انتهى كلامه طاب منامه.

وتوضيحه : ان من المدح وكماله كون الرجل راوياً عن أحد من النبي أو الائمة عليهم‌السلام ، ومذكوراً في كتب جماعة من أصحابنا قدس الله أسرارهم ، لان الظاهر من الذكر وعدم التعرض له بأن مذهبه أو اعتقاده باطل أو أنه مجهول ، أنه من الامامية بدليل تصريحهم في من لا يكون كذلك بأحواله المذمومة واعتقاده الغير الصحيح ، كما لا يخفى مع أدنى تتبع.

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٦٦.

(٢) المختلف ص ١٠٣ ، كتاب الصلاة.

(٣) الذكرى ص ٢٣١.

٥٠٥

فان أئمة الرجال الامامية رضي‌الله‌عنهم وجزاهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء يذكرون في كتبهم الراوين بعد تفتيشهم عن أحوالهم ، بحيث يظهر ويعرف مالهم تمام المعرفة والظهور ، سواء كانوا امامياً أو غيره من الشيعة وغيرها ، وسواء كانوا من أصحاب الحجج عليهم‌السلام أو لا ، لكن اذا كانوا مخالفين أو مجهولين أو مذمومين اعتقاداً أو عملا بجهة من الجهات صرحوا به ، كما اذا كانوا ممدوحين أو موثقين.

فاذا لم يصرحوا بمدحهم ولا بذمهم ولا بجهالتهم ، فالظاهر عندهم أنه صحيح الاعتقاد امامي ، كما يظهر ذلك أيضاً من كتب أئمة الرجال من المخالفين فانهم اذا ذكروا مثله صرحوا بأنه رافضي أو شيعي أو خبيث أو ردي وأمثاله ، وأصحابنا رضي الله تعالى عنهم لا يحتاجون في بيان أصل اعتقاد كل رجل رجل من الامامية بارتكاب ذكر زيادة هذا المعنى فيه ، الا أن يكون ممن يتوهم خلافه فيه ، فيقولون فيه ما يرفع الوهم ، مثل أنه امامي متقدم ، أو له حظ في الامر ، أو قريب الامر ، كما اذا كان حاله ظاهراً في الذم ، مثل عبيد الله بن زياد وبسر بن أرطاة وأمثالهما.

والى ما ذكرناه مبسوطاً أشار بقوله « ذكره الكشي » ولم يتعرض له بذم ، وذلك ظاهر لمن له أدنى تتبع.

ثم انا نوضح المقام ونفصل الكلام ليظهر ما نحن فيه من المرام ، فنقول : وبالله التوفيق ، قال الكشي : حكم بن مسكين المكفوف مولى ثقيف ، وسيذكر إن شاء الله في خالد بن ماد القلانسي ، ثم قال فيه : ان الحكم هذا يروي عن خالد ذاك (١).

وقال الشيخ في الفهرست : حكم بن مسكين الاعمى ، له أصل رويناه عن

__________________

(١) راجع اختيار معرفة الرجال ١ / ٥٥.

٥٠٦

عدة من أصحابنا ، عن أبي المفضل ، عن ابن بطه ، عن الصفار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن محبوب ، عن حكم الاعمى (١).

وقال النجاشي : حكم بن مسكين أبو محمد كوفي ، مولى ثقيف المكفوف روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ذكره أبو العباس ، له كتاب الوصايا ، كتاب الطلاق كتاب الظهار ، أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، قال : حدثنا حميد بن زياد ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الخشاب عن الحكم بكتاب الطلاق والظهار (٢).

وسيذكر إن شاء الله في سعد بن عبد الله ثم قال فيه : ان عبد الله والد سعد ذاك روى عن الحكم هذا.

فهؤلاء الائمة رضوان الله عليهم ذكروه ولم يتعرضوا له بذم ، فهو أول دليل على وجاهته ومدحه وتوثيقه عندهم لما مر ، ولان من المدح أيضاً كون الرجل صاحب أصل من عبارات الحجج عليهم‌السلام ، أو صاحب كتاب في الامور الدينية وما قرب منها ، أو أنه تردد في جميع الروايات والاصول في دفتر ، مثل ابن الزبير والحسين بن الحسن بن أبان ، واسماعيل بن مرار وغيرهم.

فاذا كان الرجل الامامي اجتهد وبلغ مجهوده في الدهور والمتطاولة والازمان المتكاثرة ليلا ونهاراً في تصنيف ما ذكرنا أو تأليف ، أو اجتهد في أحاديث الائمة عليهم‌السلام وجمعها وجعلها أصلا محفوظاً عن الاندراس والغلط ، أو أخذ الروايات من العلماء الكبار ، أو روى عنه علماؤنا كذلك ، فلا ريب أنه ممدوح في الشرع وعند أهله ، ولا يخفى على أحد ، كما في زماننا أيضاً.

ولذلك ترى أئمة الرجال قدس الله ضرائحهم يذكر ممن الرجال ويعدون

__________________

(١) راجع الفهرست ص ٦٢ ، فتأمل جيداً.

(٢) رجال النجاشى ص ١٣٦.

٥٠٧

لهم كذا وكذا كتباً حتى يذكرون له كتاب المشيخة ، وان فلاناً بوبه كما في ترجمة بشير وداود بن كوره وغيرهما ، ويتطرقون اليهم والى كتبهم بطرق متعددة وغير متعددة ، وكانوا يتلذون عند الشيوخ المتفرقين في أقاصي البلاد وأدانيها شرقاً وغرباً ، ويحصلون ذلك العلم في الدهور المتطاولة والازمان الخالية مع تعب عظيم واملاق كثير ، وخوف زائد من المخالفين تقية.

وترى أيضاً أنهم يدققون ويفتشون في أن هذا الكتاب له أو الرواية ، كما في ترجمة محمد بن قيس البجلي وغيره ، ولو لم يكن كون الرجل صاحب أصل وكتاب وتأليف ورواية ، مع عدم التصريح بذم فيه مدحاً كلياً معتبراً شرعاً على ما ذكرنا ، لكان ذكر ما ذكر في محل العبث ، كما في كتاب رجال الشيخ رحمه‌الله كما لا يخفى.

وفي خطب كتاب رجال الشيخ وفهرسته وكتاب النجاشي رحمه‌الله تصريح بما ذكرنا ، حيث قال : اما بعد فإني وقفت على ما ذكره السيد الشريف أطال الله بقاءه وأدام توفيقه من تعيير قوم من مخالفينا أنه لا سلف لكم ولا مصنف ـ الخطبة (١).

ويظهر منها أن مدح الرجل بأن له مصنفاً وكتاباً أزيد وأكثر اعتباراً من مدحه بأن له أصلا ، اذ بالاول يدفع تعيير المخالفين علينا لا بالثاني ، فانه يتضمن العلو في العلم مع تعب صاحبه واجتهاده في الدين ، وتقضي عمره في تحصيل ما يعنيه ويجب عليه ، ويعتبر في الدنيا والآخرة.

والاصل على ما يظهر هو مجمع عبارات الحجة عليه‌السلام بعينها فقط ، من غير أن يكون معنا اجتهاد واستنباط وغير ذلك. والكتاب والمصنف يشتمل مع ما ذكر على الاستدلالات والاستنباطات وعقلا.

__________________

(١) رجال النجاشى ص ٣.

٥٠٨

فظهر مما تلونا عليك أن الرجل اذا صنف كتاباً ، أو ألفه ، أو يكون صاحب أصل ، أو يكون راوياً عن معتبر ، أو يروي عنه المعتبر أيضاً ولا يذكر ذمه ، فهو معتبر ممدوح.

ويوضح المطلوب أنه لو لم يكن كون الرجل كذلك مدحاً كلياً له ، لصار كتاب الرجال للشيخ قدس‌سره عبثاً ، وكذلك كثير من كتاب فهرسته وكتاب النجاشي ، بلا نفع وفائدة ، فانه لا يذكر في أكثر كتاب الرجال في أبواب من يروي عنهم عليهم‌السلام وفي أبواب من لم يرو الا الرجل ووالده وموضعه وصنعته فقط بلا اشارة الى توثيقه أو مدحه. وكذا الحال في الصور الأخر. ولا يخفى جميع ما ذكرنا على من له التتبع التام ، فعليك به حتى تذعن بما سمعت ، والحمد لله وحده.

فظهر وثبت أن الرجل ثقة جليل معتبر عظيم ، لكونه صاحب أصل وكتاب تصنيف ورواية ، وقد روي عنه جماعة من المعتبرين والموثقين ، كالحسن بن محبوب ، والحسن بن موسى الخشاب وعبد الله وغيرهم ، من غير أن يقدح فيه (١) أو في أصله وكتابه أو روايته أو تصنيفه وتأليفه أحد من السلف والخلف ، فهو موثوق به عندهم ، وهو أظهر من الشمس في رائعة النهار ، وان تقليد المستدل للفاضل مع أنه قال : ولا يحضرني الان حاله ولم يقدح فيه بذم لا ينفعه بل يضره.

ثم أقول : وهذه الرواية كما مرت رواها الصدوق في الفقيه ، وقد قال في صدر الكتاب : ولم أقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه ، بل قصدت

__________________

(١) قال ملا مراد التفرشى في بعض فوائده : من تحقق كونه من أهل المعرفة ولم يقدح فيه أحد ، وأكثر العلماء الرواية عنه ، يظن صدقه في الرواية ظناً غالباً ، وانه لا يكذب على الائمة عليهم‌السلام ، وهذا القدر كاف في وجوب العمل بروايته ، ولا يحتاج الى أن يظن عدالته ، بل يكفي أن لا يظن فسقه ، لاستلزامه ظن وجوب التثبت في خبره « منه ».

٥٠٩

الى ايراد ما أفتي به وأحكم بصحته ، واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته (١).

ومع ذلك فقد قال في رجال مشيخته : وما كان فيه عن محمد بن مسلم الثقفي فقد رويته عن علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن جده أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه محمد بن خالد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم (٢).

وهو كما ترى ليس فيه الحكم ، مجهولا كان أو معلوماً ومعلولا. نعم هو مذكور في طريق الشيخ في التهذيب ، حيث روي عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن الحكم بن مسكين ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم لكنك قد عرفت جلالة قدر الرجل وعظمته عندهم.

ومن العجب أن أكثر من تأخر عن العلامة قلدوه في حكمهم بمجهوليته ، مع أنه لم يحكم بها فيه ، بل قال : ولا يحضرني الان حاله. وهو لا يعطي كونه مجهولا عنده. وعلى تقديره فقول الشهيد : والرواية مشهورة جداً بين الاصحاب لا يطعن فيها كون الراوي مجهولا عند بعض الناس. متوجه متين ، لما عرفت.

واعلم أن لمحمد بن مسلم كتاباً سمي أربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام ، وكان ذلك الكتاب عند الصدوق رحمه‌الله ، كما يظهر مما ذكره في صدر الكتاب ، فلا يضر ضعف طريقه اليه ولا جهالته.

ومن الغريب أن الفاضل الملقب بالمجلسي رحمه‌الله بعد اعترافه بمثل ذلك في أوائل شرحه على الفقيه ، حيث قال : طريق الصدوق الى كتابه وان كان فيه جهالة ، لكنه لا يضر لما ذكر مراراً أنه من كتابه المعروف.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢ ـ ٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٢٤.

٥١٠

وهذا منه اشارة الى ما ذكره قبله بقوله : فان كان صاحب الكتاب ثقة بكون الخبر صحيحاً ، لان الظاهر من نقل السند الى الكتاب المشهور المتواتر مجرد التيمن والتبرك ، سيما اذا كان من الجماعة المشهورين ، كالفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ، فان الظاهر أنه لا يضر جهالة سنديهما.

وقال في موضع آخر : كان المتعارف بين قدمائنا اطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به والركون اليه وذلك بأمور وعدها ، الى أن قال : ومنها وجوده في أصل معروف الانتساب الى أحد من الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار.

قال (١) في باب وجوب الجمعة في مقام القدح في رواية محمد بن مسلم المذكورة : ان الخبر لا يخلو من ضعف سنداً.

أقول : هذا هو الحق ، لان طريق الصدوق الى محمد هذا ضعيف باصطلاح المتأخرين لا مجهول ، كما أفاده أولا. ولكنك قد عرفت أنه لا يضر ، فبين كلاميه قدس‌سره تناقض من الجهتين ، فتأمل ثم اذعن بما سمعت ، وكن من المحققين الذين يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، ولا تكن من المبتدئين الذين يعرفون حال الاقوال بمراتب الرجال. ونعم ما قال : لا تنظر الى من قال وانظر الى ما قال.

هذا وثانياً : بأنها متروكة الظاهر ، وقد قلدوا فيه ما قال المحقق في المعتبر من أن محمد بن مسلم في روايته أحصى السبعة بمن ليس حضورهم شرطاً ، فسقط اعتبارها. قالوا : وأيضاً فان العمل بظاهرها يقتضي أن نائبه عليه‌السلام يقوم مقامه ، وهو خلاف اجماع المسلمين.

__________________

(١) هذا خبر « ان » في قوله « من الغريب ان الفاضل الملقب » « منه ».

٥١١

أقول : ظاهر أن المراد منها بيان وجه الحكمة في الاحتياج الى السبعة ، كما ذكره غير واحد من الاصحاب ، منهم الشهيد في الذكرى ، حيث قال في مقام الرد على المحقق : وأما احصاء العدد بالسبعة ، فلبيان الحكمة في اعتبار الاستيطان في الجمعة ، لا لانه شرط في انعقادها. وتوضيحه : ان الاجتماع مظنة التنازع ، وكل اجتماع فيه تنازع لا بد فيه من المدعي والمدعى عليه ومن امام يرفع اليه ومن شاهدين على الحق ولو عرض للامام عذر ، فلا بد من نائبه. ولو تعدى أحد المدعيين على الآخر واستوجب الحد أو التعزير ، فلا بد ممن يضرب الحدود.

وثالثاً : بأنها معارضة بالاخبار الدالة على عدم اعتبار الامام عليه‌السلام ، كذا قال المستدل في الباب المذكور (١).

وأنت وكل من له أدنى دربة بالرواية والدراية خبيران بأنه لا تعارض بينها ولا بين أضرابها مما يدل صريحاً على اعتباره عليه‌السلام أو نائبه خاصاً ، كما مر وسيأتي. وبين شي‌ء من الاخبار الواردة في الباب ، فانها كما ستطلع على نبذ آخر منها إن شاء الله تعالى مطلقات عامات.

ولا تعارض بين العام والخاص ، ولا بين المطلق والمقيد ، لامكان تخصيص الاول بالثاني ، وتقييد الثالث بالرابع ، بل يجب ذلك بناءً على قواعدهم ، فان من المقررات عندهم أنه اذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر يجب بناء العام على الخاص مطلقا ، كما سيأتي تفصيله.

والعجب كل العجب من هؤلاء القوم كيف طعنوا على هذه الرواية بهذا الوجه ولم يتفطنوا بذلك ، فان احتمال تفطنهم واغماضهم عنه بعيد غير مناسب بحالهم.

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ٦٦.

٥١٢

هذا مع أن الرواية مؤيدة بأخبار أخر كما مر وسيأتي ، ومعتضدة بعمل الاصحاب ، ومشتهرة فيما بينهم غاية الاشتهار ، فلا وجه لعدم العمل بها وطرحها.

وكيف يمكن طرحها والقدح فيها؟ وقد صرح الشهيد في الذكرى بأنها مروية بعدة أسانيد ، وهو منه رحمه‌الله صريح في افاضتها.

هذا وتحقيق هذا المقام ثم تنقيح هذا الكلام على هذا الوجه مما تفطنت وتفردت به بعون الله الملك الجليل ، والله يهدي من يشاء الى سواء السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

[ المناقشة في الاخبار الدالة على وجوب الصلاة عينا ]

قال قدس‌سره : الباب الثالث ، في الدليل على عينية وجوب الجمعة من كلام أئمة الهدى من أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم أجمعين.

روى المحمدون الثلاثة المكنون بأبي جعفر ، أعني : ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، ورئيس المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي ، وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمهم‌الله ، عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما‌السلام أخباراً كثيرة معتبرة دالة على حتمية وجوب الجمعة بلا اشتراط حضور امام أو اذن منه أو فقيه ولا تجويز ترك ، كما ادعاه القوم ، بعضها صريح في ذلك ، وبعضها ظاهر.

منها : صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : فرض الله على الناس من الجمعة الى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة ، منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة وهي الجمعة ، ووضعها عن تسعة : عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والاعمى ومن كان على رأس فرسخين (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٢ ، ح ١.

٥١٣

ولا شبهة أن غير الجمعة من الفرائض وجوبه عيني ، فلو حمل وجوب الجمعة على التخيير على بعض الوجوه لزم تهافت الكلام ، واختلال حكم الفرائض بغير مائز ، كذا قال زين المحققين.

أقول : وأيضاً لو كان وجوبها تخييرياً على بعض الوجوه لاستثنى ذلك الوجه (١) ، كما استثنى المملوك والمسافر وغيرهما ، فان استثناء هؤلاء انما هو من الوجوب العيني لا مطلق الوجوب لوجوبها عليهم لو حضروا ، وانما لهم الخيرة في الحضور ، كما تقرر عندهم ، فالوجوب التخييري ثابت لهم ، فلا وجه لاستثنائهم دون شركائهم. وأما تخصيص الوجوب بزمان حضور الامام عليه‌السلام ، فغير جائز.

أما أولا ، فلانه خلاف الظاهر ، فيحتاج الى دليل ولا دليل يصلح لذلك ، فانك ستعلم أن الذين خصوا بأي متمسك يتمسكون.

وأما ثانياً ، فلانه ان أريد بزمان حضور الامام زمان ظهوره على وجه السلطنة والاستيلاء ، كما نقل من جماعة منهم التصريح ، فيستلزم خروج أكثر الجمعات وأكثر الناس عن الحكم ، لان أيام ظهور المعصوم عليه‌السلام على وجه السلطنة والاستيلاء قليلة جداً بالنسبة الى غيرها ، ويلزم منه خروج أكثر أفراد العام ، وهو غير جائز عند المحققين.

وهل يستقيم عند الطبائع المستقيمة تجويز أن يكون المعصوم عليه‌السلام في مقام بيان الحكم الشرعي وافادته ، ويبالغ في وجوب شي‌ء ويقول : انه واجب في كل أسبوع على كل مسلم الا جماعة خاصة ، ومع ذلك لا يثبت ذلك الحكم لاحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين ، بل انما ثبت لقليل مضوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وزمن خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسوف يثبت لجماعة آخر في آخر الزمان عند ظهور القائم عليه‌السلام ليس لا.

__________________

(١) في المصدر : تلك الوجوه.

٥١٤

وان أريد بزمان الحضور ما هو أعم من السلطنة والاستيلاء ، فلا وجه للتخصيص المذكور ، اذ لا فرق بين حضوره مع الخوف وبين غيبته في عدم تمكنه من الصلاة بنفسه ، ولا بتعين النائب الذي هو مناط الوجوب العيني عند من نفاه في زمن الغيبة (١).

أقول : وبالله التوفيق ، فيه أولا أن هذا الخبر غير معمول به عند جماعة منهم من رويته عنه ، وهو محمد بن بابويه ، حيث قال بعد نقله تتمة الخبر ، وهي قوله عليه‌السلام : والقراءة فيها بالجهر ، والغسل فيها واجب ، وعلى الامام فيها قنوتان (٢) قنوت في الركعة الاولى قبل الركوع ، وفي الركعة الثانية بعد الركوع ، ومن صلاها وحده فعليه قنوت واحد في الركعة الاولى قبل الركوع.

وتفرد بهذه الرواية حريز عن زرارة ، والذي استعمله وأفتي به ومضى عليه مشايخي رحمهم‌الله هو أن القنوت في جميع الصلوات في الجمعة وغيرها في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع. (٣).

والعجب أن المستدل قال في الباب الرابع من رسالته هذه : ان ذكر الصدوق هذه الرواية في كتابه من لا يحضره الفقيه دليل صريح على أن مذهبه وما كان يفتي به ويعمل عليه انما هو الوجوب العيني من دون شرط وتخيير (٤).

وهذا كلام يضحك الصبيان ويعجب المجانين ، فانه رحمه‌الله كما ترى صرح بأنه لا يعمل عليها ولا يفتي بها ، وكذلك جميع مشايخه ، فكيف يمكن

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ١٩ ـ ٢٠.

(٢) لعله سهو من قلمه او من النساخ ، وفي رواية عمر بن حنظلة قال قلت لابى عبد الله عليه‌السلام القنوت يوم الجمعة ، فقال : انت رسولى اليهم في هذا اذا حييتم في جماعة ففى الركعة الاولى ، واذا حييتم وحداناً ففى الركعة الثانية « منه ».

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤١١.

(٤) الشهاب الثاقب ص ٣٤.

٥١٥

جعلها دليلا صريحا على أن مذهبه الوجوب (١) العيني. وأما توهم كونه عاملا بأولها وتاركاً لاخرها فمردود ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.

واعلم أنه رام في الباب المذكور أن يدل على أن السلف كانوا قائلين بالوجوب العيني ، فذكر فيه ما حاصله أنهم ردوا في كتبهم روايات في هذا المعنى ولم يقدحوا فيها ، مع أن بعضهم ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه ويفتي به ويحكم بصحته ويعتقد فيه أنه حجة بينه وبين ربه.

وأنت خبير بأنهم كما رووا روايات في هذا المعنى من غير قدح فيها ، كذلك رووا روايات أخر في معنى آخر من غير طعن عليها. مثل ما رواه الصدوق في الفقيه عن محمد بن مسلم وقد سبق ، ومثل ما رواه في الامالي عن الصادق عليه‌السلام وسيأتي ، فمجرد ذلك لا يمكن دعوى الظهور في أحد الطرفين ، الا أن يظهر منهم التصريح به.

وأيضاً فانهم كثيرا ما يوردون في كتبهم الروايات المختلفة والاخبار المتعارضة والاحاديث المتضادة مع ضعف طريق بعضها ، فكيف يحكمون بصحتها؟ وكيف يكون كل واحد منها حجة؟ وكيف يفتون به؟ فعلى ما ذكره المستدل يلزم أن يكونوا معتقدين بالمتناقضين عاملين بالمتضادين ، فمعنى قولهم « انها حجة

__________________

(١) ظاهره الوجوب ويحتمل الاستحباب ، ومثله رواية الحلبى ، قال سئل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يصلى الجمعة أربع ركعات الجهر فيها بالقراءة ، قال : نعم والقنوت فى الثانية.

والحديث صحيح يدل على اطلاق الجمعة على الظهر ، كما تدل عليه أخبار كثيرة ، وعلى استحباب الجهر في سائر الاربع الا أن يجعل الجهر بالقراءة قرينة على ارادة الركعتين الاولتين لتعينهما للقراءة ، والصدوق رحمه‌الله على أن الجهر بالقراءة رخصة يجوز الاخذ بها اذا صلاها الانسان وحده ، وانما الجهر فيها اذا صلاها جماعة في ركعتين « منه ».

٥١٦

عندهم » ان من شأنها أن يفتي بها ، وهو لا ينافي ترك الاقطار (١) والعمل بها لوجود معارض مساو أو أقوى ، كما هو شأن الادلة الظنية ، وهذه جملة معترضة ذكرت بتقريب ما ذكر.

ولنرجع الى ما كنا فيه فنقول : وثانياً أن المثبت في قوله عليه‌السلام « فرض من الجمعة الى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة » مطلق الوجوب الذي هو الطبيعة من حيث هي أعم من العيني والتخييري ، ففي بعضها يتحقق الاول ، وفي بعض آخر الاخر ، وفي قوله « منها صلاة واحدة » الى قوله « وهي الجمعة » الوجوب التخييري ، كما سنقول نظير ذلك في توجيه رواية زرارة الاتية ، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابهم عن ذاك من غير فرق ، فاذن لا يلزم تهافت الكلام وتساقط ، ولا يتوجه عليهم الالزام والشناعة.

على أن لهم أن يقولوا : على تقدير التنزل والتسليم أن ما استدل به زين المحققين وأفاد ، فهو حق وصدق وهو المعلوم ، الا أنه لا بد في وجوبها من حضور المعصوم عليه‌السلام.

قولك وأما تخصيص الوجوب بزمان حضوره ، فخلاف الظاهر ، فيحتاج الى دليل يصلح لذلك ، فلهم أن يقولوا بل هو الظاهر ، وقد عرفت دليله ، وسيأتي له زيادة تأييد إن شاء الله تعالى.

ولذلك قال المحقق في المعتبر : السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوب الجمعة ، وهو قول علمائنا ، ومعتمدنا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فانه كان يعين لامامة الجمعة ، وكذا الخلفاء بعده ، فكما لا يصح أن ينصب الانسان نفسه قاضياً من دون اذن الامام ، فكذا امامة الجمعة ، وليس هذا قياساً بل استدلالا بالعمل المستمر في

__________________

(١) كذا.

٥١٧

الاعصار ، فمخالفته خرق الإجماع (١).

ثم أكده وأيده برواية محمد بن مسلم وقد سبق ذكرها ، مع أن في كون الجمعة واجبة تخييرية بالنسبة الى المريض الذي يتضرر بالحضور ، والشيخ الفاني الذي لا يستطيع الجلوس الا بمشقة شديدة ، والمسافر اذا تكلفوا الحضور خلاف ، وأكثر الاصحاب على عدم وجوبها عليهم ، وكذا القول في انعقادها بهم وكونهم من جملة العدد المعتبر.

وأما المرأة ومن خرج عن التكليف ، أعني : الصغير والمجنون ، فلا خلاف بينهم في عدم وجوبها عليهم وان حضروا. وأما العبد ، فانها لا تجب عليه اجماعاً كما تقرر والخنثى هاهنا كالمرأة. والعرج اذا كان بحيث يشق معه الحضور كان مسقطاً للوجوب ، فلاستثنائهم دون شركائهم وجه.

وثالثاً : أنا نختار أول شقي الترديد ونقول : لا بعد فيه أصلا ، نظيره جهاد المشركين ابتداءً لدعائهم الى الإسلام ، فانه قد ورد من الاوامر والتأكيدات والتحريصات في كلام الله تعالى ، حيث أوجبه أقل مرة في كل عام مرة في قوله ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٢) أوجب بعد انسلاخها الجهاد وجعله شرطاً ، فيجب كلما وجد الشرط.

وفي آية اخرى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) (٣) وفي اخرى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وفي أخرى ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) (٤) وفي

__________________

(١) المعتبر ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) سورة التوبة : ٥.

(٣) سورة البقرة : ٢١٦.

(٤) سورة البقرة : ١٩٣.

٥١٨

أخرى ( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) (١) وفي أخرى ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) (٢) وفي أخرى ( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٣) وقوله ( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٤) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ ) (٥) الاية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً ) (٦) ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ) (٧) وفي أخرى ( جاهِدِ الْكُفّارَ ) (٨) الى غير ذلك ، وهو أكثر من أن يحصى.

وكذا في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة المعصومين عليهم‌السلام حيث بالغوا فيه ما بالغوا ، ولا سيما أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فان نهج البلاغة وغيرها مشحونة بذلك.

وكفى فيه قوله عليه‌السلام : أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل ، وشمله البلاء ، وديث بالصغار ، وضرب على قلبه بالاسهاب ، وأديل الحف منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع النصف الخطبة (٩).

ومع ذلك فهو مشروط بحضور الامام العادل أو من نصبه للجهاد ، أو لما

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

(٢) سورة البقرة : ١٩١.

(٣) سورة النساء : ٧٥.

(٤) سورة النساء : ٧٤.

(٥) سورة التوبة : ١٢٣.

(٦) سورة الانفال : ٤٥.

(٧) سورة الانفال : ٦٥.

(٨) سورة التوبة : ٧٣ والتحريم : ٩.

(٩) نهج البلاغة ص ٦٩ ، رقم الخطبة : ٢٧.

٥١٩

هو الاعم. وأما الفقيه ، فلا يجوز له حال الغيبة اتفاقاً ، ومع ذلك لا يثبت لاحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين ، بل انما ثبت لقليل مضوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وزمن خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسوف يثبت بجماعة أخر في آخر الزمان عند ظهور القائم عليه‌السلام ليس الا ، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابهم عن ذاك (١) حرفاً بحرف وقذة بقذة.

والحل أن السبب في الحرمان عن هذا النصيب الاعلى ، والمانع عن الفوز بهذا القدح المعلى ، سوء منيعتنا ، وشناعة سيرتنا ، وقباحة سريرتنا ، ولذلك صرنا حائلين بيننا وبين صواحبنا صلوات الله عليهم ، فلم يظهروا لنا على وجه السلطنة والاستيلاء ، فصرنا خائبين عن أمثال هذه الآلاء ، فاذا رفعت الموانع من البين وطهرت الالسنة من المين ، وتخلصت القلوب عن الشين ، واتصفت الظواهر بالزين ، يظهر من الفيوضات ما يملا الخافقين.

ورابعاً : أنا نختار ثاني شقيه ونقول : الفرق ظاهر ، وهو أنه يمكن أن يعين عليه‌السلام نائباً من قبله في بعض البقاع والاصقاع التي ليست فريقته ولا خوف فيكون هو اماماً لصلاة الجمعة ، فيتحقق الشرط الذي هو مناط الوجوب العيني عند من نفاه في زمن الغيبة ، وقد فعلوا عليهم‌السلام أمثال ذلك كثيراً ، كما هو الموجود في كثير من التوقيعات ، وخصوصاً في عهد صاحب الامر عليه‌السلام في غيبته الصغرى التي كانت سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين.

فروي عن أبي محمد الحسن بن أحمد المكتب أنه قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي علي بن محمد السمري ، فحضرته قبل وفاته بأيام ، فأخرج الى الناس توقيعاً نسخته :

__________________

(١) فكما أن الجهاد كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واجباً ، وصار في هذا الزمان حراماً لفقد الشرط ، فليكن الحال في صلاة الجمعة وغيبتها كذلك « منه ».

٥٢٠