الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

فان قرأت نصفها فتمم السورة واجعلها ركعتين نافلة وسلم فيهما وأعد صلاتك بسورة الجمعتين.

ثم قال : وما روي من الرخص في قراءة غيرهما في صلاة الظهر يوم الجمعة ، فهي للمريض والمستعجل والمسافر (١). وأكده بروايات ذكرها.

والمشهور استحباب قراءتهما فيها ، والاحوط اختيارهما في الظهر لرواية رواها الصدوق في ثواب الاعمال (٢) ونقلها في مجمع البيان (٣) ، وان كانت مجهولة بمحمد بن حسان ، وللخروج عن الخلاف.

قال قدس‌سره : وقال عزوجل ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (٤) خص الصلاة الوسطى بالامر بالمحافظة عليها من بين الصلوات بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، والذي عليه المحققون أنها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة ، وفيها هي الجمعة ، وقال جماعة من العلماء : انها هي الجمعة لا غير ، كذا قال زين المحققين طاب ثراه في بعض فوائده (٥).

أقول : وبالله التوفيق في الفقيه في رواية زرارة بن أعين الطويلة نأخذ منها موضع الحاجة ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عما فرض الله من الصلوات؟

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤١٥.

(٢) ثواب الاعمال ص ١٤٦. عن منصور بن حازم عن الصادق عليه‌السلام قال : من الواجب على كل مؤمن اذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك الاعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فاذا فعل ذلك فكأنما يعمل بعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنة. وظاهر قراءتهما في اولى المغرب والعشاء ، فتأمل « منه ».

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٨٣.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٥) الشهاب الثاقب ص ١٦.

٤٨١

فقال : خمس صلوات في الليل والنهار ، الى أن قال الامام عليه‌السلام وقال : « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر (١).

وفي آيات الاحكام للراوندي عن زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، فلا يكون وراءه الا الصف والصفان فقال : لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم فنزلت هذه الآية (٢).

وفيه دلالة ما على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر ، وقد اختلف فيها فذهب الى كل صلاة سوى صلاة العشاء طائفة ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء. وذكر بعض المتأخرين أنها هي لانها بين صلاتين لا تقصران ، كذا ذكره چلبي في حاشيته على المطول.

وقيل : هي احدى الخمس لا بعينها ، أبهمها الله تحريصاً للعباد على المحافظة على جميعها ، كما في ليلة القدر وساعة الجمعة.

وقال الصدوق في الفقيه : وقيل أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر فقنت فيها ، وتركها على حالها في السفر والحضر ، وأضاف للمقيم ركعتين ، وانما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام ، فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربعاً ، كصلاة الظهر في سائر الايام (٣).

وفي الكشاف : هي صلاة العصر. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال يوم الاحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملا الله بيوتهم ناراً. وقال عليه‌السلام : انها

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٤٢.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٩٦.

٤٨٢

الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب. وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف اذا بلغت هذه الآية ، فلا تكتبها حتى أمليها عليك ، كما سمعت رسول الله يقرؤها فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر. وعن عائشة وابن عباس والصلاة الوسطى وصلاة العصر بالواو.

فعلى هذه القراءة يكون التخصيص بصلاتين احداهما الصلاة الوسطى اما الظهر واما الفجر واما المغرب على اختلاف الروايات فيها والثانية العصر. وعن ابن عمر هي صلاة الظهر. وعن مجاهد هي الفجر ، وعن قبيصة هي المغرب (١).

ومشى على أثره البيضاوي.

وقال مولانا أحمد الاردبيلي رحمه‌الله في آيات أحكامه بعد ذكر الآية : كان الامر بمحافظة الصلوات بالاداء لوقتها ، والمداومة عليها ، بعد بيان أحكام الازواج والاولاد لئلا يليهم الاشتغال بهم عنها ، وخصها بعد العموم للاهتمام بحفظها لافضليتها.

ثم قال وقيل : هي مخفية كساعة الاجابة واسم الله الاعظم ، لان يهتموا بالكل غاية الاهتمام ، ويدركوا الفضيلة في الكل ، فهي تدل على جواز العمل المبين لوقت من غير جزم بوجوده ، مثل عمل ليلة القدر والعيد وأول رجب وغيرها مع عدم ثبوت الهلال ، وقد صرح بذلك في الاخبار.

ثم قال بعد كلام : فدلت الآية على وجوب محافظة الصلوات ، خرج ما ليس بواجبة منها اجماعاً ، بقي الباقي منها تحت العموم ، فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين والايات أيضاً (٢).

أقول : قوله « اجماعاً » قيد للسلب ، أي : خرج صلوات عدم وجوبها اجماعي

__________________

(١) الكشاف ١ / ٣٧٦.

(٢) زبدة البيان ص ٤٩ ـ ٥٠.

٤٨٣

من كونها داخلة في كونها مأمورة بالمحافظة ، وبقيت الصلوات المعلوم وجوبها ، ومشكوكة مندرجة في عموم الآية بعدم الدليل على التخصيص.

فحينئذ يمكن الاستدلال بالاية على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها ، بظهور الامر في الوجوب ، خصوصاً الاوامر القرآنية ، وخصوصاً عند ملاحظة وجوب محافظة الصلوات المعلوم وجوبها ، ومشاركة الصلوات المشكوك وجوبها معها في كونها متعلقة للامر بالمحافظة.

وفيه أن الآية ظاهرها وجوب محافظة الصلوات الثابت وجوبها ، فلو ثبت أن الجمعة وغيرها في هذا الزمان من تلك الصلوات وجبت محافظتها ، والا فلا.

فان ما ليس بثابت وجوبه من الصلوات لا يجب محافظتها ولا فعلها ، اذ الاصل عدم الوجوب وبراءة الذمة الى أن يقوم دليل يفيد اليقين أو الظن بخلافه ، ولم يقم بعد دليل كذائي على وجوب الجمعة في هذا الزمان ، والا لم تكن من الصلوات المشكوك وجوبها.

مع أن الآية على ما نقله الراوندي في آيات أحكامه عن زيد بن ثابت وقد مر ، انما نزلت في الامر بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، وكون الجمعة منها لم يثبت بعد.

وبالجملة اما أن يحمل الآية على الامر بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، أو مطلق الفريضة ، أو مطلق الصلاة اليومية ، فريضة كانت أو نافلة ، أو مطلق الصلاة المأمور بها ، يومية كانت أو غير يومية.

فعلى الاحتمالين الاولين لا وجه للاستدلال بها على وجوب ما لم يعلم وجوبه ، لان كونه مندرجاً في الامر بالمحافظة حينئذ غير ظاهر.

وعلى الاحتمالين الاخيرين أيضاً لا يصح الاستدلال بها على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها ، لكون المحافظة المأمور بها حينئذ مطلقة جارية في

٤٨٤

النوافل أيضاً. فظهر أن ظاهر الآية أحد الاحتمالين الاولين ، لكون ظاهرها وجوب المحافظة.

فان قلت : يمكن ترجيح الاحتمال الثاني ، بأن ما ذكرته انما يدل على تخصيص الصلوات بالفرائض ، وأما تخصيصها باليومية فلا دليل عليه ، فحينئذ نقول : الصلوات المشكوك وجوبها التي ثبت وجوبها في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل الجمعة والعيدين يمكن اثبات وجوبها في زمانها بما يدل على عموم الحكم الا زمان ، وان ادى بخطاب المشافهة ما لم يدل دليل على خصوصه.

قلت : يمكن الاستدلال على العموم ان دل ضرورة الدين أو المذهب أو الإجماع على حرف الخطاب عن ظاهره ، وهو فيما نحن فيه منتف.

ثم الكلام في الاستدلال بها على وجوب الجمعة على تقدير ترجيح الاحتمال الاول بالتبادر وكون الجمعة من اليومية وما عليه ، ظاهر بما ذكرته من غير حاجة الى التفصيل.

هذا وفي الفقيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب نفر من اليهود عن علة وجوب خمس صلوات وعن كونها في المواقيت المخصوصة ، قال : وأما صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم عليه‌السلام فيها من الشجرة فأخرجه الله من الجنة ، فأمر الله عزوجل ذريته بهذه الصلاة الى يوم القيامة واختارها لامتي ، فهي من أحب الصلوات الى الله عزوجل وأوصاني أن أحفظها من بين الصلوات (١).

وفي رواية أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال في بعض القراءات « حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » صلاة العصر « وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ » في صلاة الوسطى (٢).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٩٦.

٤٨٥

وفي جوامع الجامع : روى عنهم عليهم‌السلام أنها صلاة الظهر ، وقيل : هي صلاة العصر ، وروي ذلك أيضاً مرفوعاً ، وقيل : صلاة الفجر ، يدل عليه قوله « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » (١).

وفي مجمع البيان : قيل هي صلاة الظهر لتوسطه في النهار ، وقيل : العصر لتوسطه بين صلاة النهارية والليلية ، وقيل : هي المغرب لتوسطه في الطول والقصر ، وقيل : هي العشاء الآخرة لتوسطه بين صلاتين غير مقصورتين. وقيل : هي الصبح لتوسطه بين الضياء والظلام (٢).

وقال الراوندي في آيات أحكامه : هي العصر فيما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن علي عليه‌السلام وعن ابن عباس والحسين ، وقال الحسين بن علي المغربي : هي صلاة الجماعة ، لان الوسط العدل ، فلما كانت صلاة الجماعة أفضلها خصت بالذكر. ثم قال : وهذا وجه مليح ، غير أنه لم يذهب اليه غيره.

وقال في فصل آخر : وذكر أنها الجمعة يوم الجمعة والظهر سائر الايام ، ثم ذكر أقوالا كثيرة سبقت ووجوهاً عديدة سبق بعضها وسيأتي بعض آخر.

وفي القاموس : والصلاة الوسطى المذكورة في التنزيل الصبح ، أو الظهر ، أو العصر ، أو المغرب ، أو العشاء ، أو الوتر ، أو الفطر ، أو الاضحى ، أو الضحى ، أو الجماعة ، أو جميع الصلوات المفروضات ، أو الصبح والظهر (٣) معاً ، أو صلاة غير معينة ، أو العشاء والصبح معاً ، أو صلاة الخوف ، أو الجمعة في يومها وفي سائر الايام الظهر ، أو المتوسطة بين الطول والقصر ، أو كل من الخمس ، لان قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.

__________________

(١) جوامع الجامع ص ٤٤.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٤٣.

(٣) في المصدر : والعصر.

٤٨٦

ابن سيدة من قال : انها غير صلاة الجمعة فقد أخطأ ، الا أن يقوله برواية مستندة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل : لا يرد عليه شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر لانه ليس المراد بها في الحديث المذكور في التنزيل (١) الى هنا كلامه.

وجميع ما احتمله من الصلوات محتمل الا صلاة الضحى ، فانها بدعة عندنا فهذا ما وصل الينا من الاقوال في الصلاة الوسطى.

ثم العجب العجيب والامر الغريب من الفاضلين المشهورين المذكورين أنهما راما أن يستدلا بالاية على وجوب الجمعة وعينيتها في هذا الزمان ، ثم استندا في ذلك الى قول المحققين.

فيا ليت شعري منهم أولئك المحققين الذين تمسكا بقولهم على اثبات مرامهما فلعلهما تشبثا فيه بما نقله الصدوق بلفظ القيل وقد مر ، أو بما احتمله صاحب القاموس وأخذ منه غيره ، أو بما قاله ابن سيدة.

ولا بأس به ، اذا الغريق يتشبث بكل حشيش ، ولكنه مناف لقوله في المقدمة : والادلة الشرعية منحصرة عندنا في هذه الثلاثة ، فكيف يستدل بقول المحققين؟ مع عدم تحققه ومخالفته لكثير من الاخبار.

فانظروا يا أولي الابصار الى أولئك الاخيار ، كيف يموهون الاحكام على الابرار؟ ولا يبالون بما فيه من الاخطار والانذار ومن مؤاخذة الملك الجبار المدعو بالقهار ، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا (٢).

اعلم أن المستدل قدس‌سره نقل في آخر رسالته هذه عن زين المحققين أنه قال في آخر رسالته : قد وردت الاخبار بأن الصلاة اليومية من بين العبادات بعد

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ / ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(٢) ليس الغرض من هذا الكلام الطعن على أولئك الاعلام كلا وحاشا ثم كلا وحاشا بل الغرض أن لا يعتمد على استدلالهم بهذه الايات ، ولا سيما بالايتين منها بمخالفته كثيراً من الاقوال وجلها ومصادمته غفيراً من الاخبار بل كلها كما عرفت « منه ».

٤٨٧

الايمان أفضل مطلقا ، وورد أيضاً أفضل الصلوات اليومية الصلاة الوسطى التي خصها الله تعالى من بينها بالامر بالمحافظة عليها ، وأصح الاقوال أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر وصلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة على ما تحقق أو هي أفضل فرديها على ما تقرر (١).

أقول : هذا القول منه مناف لما نقله عنه المستدل في هذا الموضع لتصريحه بأن أصح الاقوال أنها صلاة الظهر ، الا أنه لما زعم أن صلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة يلزم منه بناءً عما زعمه هذا كون الصلاة الوسطى يوم الجمعة صلاة الجمعة ، لكنه لا يعطي أن الصلاة الوسطى عند المحققين هي صلاة الجمعة أو أنها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة وفيها هي الجمعة ، وذلك ظاهر.

ثم مما لا يقضي منه العجب أن المستدل كيف نقل عنه هذا في أول رسالته وذلك في آخرها من غير تعرض للجمع بينهما وأنى له ذلك؟ مع ما بينهما من التهافت والتساقط ، وهل هذا منه قدس‌سره الا خبط بعد خبط ، أعاذنا الله واياكم عنه وعن أمثاله.

[ المناقشة في الروايات النبوية الدالة على وجوب

صلاة الجمعة عيناً ]

قال قدس‌سره : الباب الثاني في الدليل على عينية وجوب الجمعة من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، روى العامة والخاصة في كتبهم الفقهية وغيرها أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعضها صريح في الوجوب العيني المستمر ، وبعضها ظاهر في ذلك حيث لا اشعار فيه بالتخيير بينها وبين غيرها ، ولا يتوقفها على شرط من اذن وغيره فمن ادعى شيئاً من ذلك فعليه الدليل.

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ١٠٠ ـ ١٠١.

٤٨٨

منها : قوله « الجمعة واجبة على كل مسلم الا أربعة عبد مملوك ، أو امرأة ، أو مريض ، أو صبي ».

ومنها : قوله في خطبة طويلة حث فيها على صلاة الجمعة « ان الله تعالى فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله امام عادل استخفافاً بها أو جحوداً لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حج له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا بر له حتى يتوب ».

وظاهر أن لفظ الامام في مثل هذا الموضع انما يطلق على امام الصلاة دون امام المعصوم أو المنصوب من قبله عليه‌السلام ، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معارفة بالاخبار ، مع أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « امام عادل » على أن في بعض الروايات ورواه العامة هكذا : وله امام عادل أو فاجر.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من ترك ثلاث جمع متعمداً من غير علة ختم الله على قلبه بخاتم النفاق ».

ومنها : قوله « لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين » ولو كان الوجوب تخييرياً لما توعد على تركها بالنفاق أو الطبع على القلب والختم عليه اللذين هما علامتا الكفر والعياذ بالله ، فان ترك أحد الواجبين التخيريين لا يوجب ذلك (١).

أقول : وبالله التوفيق ، الحديث الاول مجمل ، حيث سكت فيه عن بيان العدد المعتبر ، وعن ذكر الامام والخطبة ، والقعدة بين الخطبتين ، والجهر بالقراءة وجوباً أو استحباباً ، وعن ذكر القنوت وغيرها من الشروط المعتبرة اتفاقاً.

مع أن الاستثناء الواقع فيه بظاهره غير مستقيم ، اذ الجمعة موضوعة عن

__________________

(١) الشهاب الثاقب ص ١٧ ـ ١٨.

٤٨٩

تسعة : الصغير ، والكبير ، والمجنون ، والمسافر ، والعبد ، والمرأة ، والمريض ، والاعمى ومن كان على رأس فرسخين ، لا عن أربعة ، وسيأتي بهذا التفصيل في خبر زرارة. فان قلت : الجمعة فيه معرفة وهو للعهد ، فالمراد أنها واجبة بشروطها.

قلنا : ومن تلك الشروط الامام العادل ، فيرجع الى الثاني ، فنسوق الكلام اليه. فنقول : هو مفصل بالاضافة اليه ، فهو حاكم عليه ومفسر له ، وقد ذكر فيه الامام ووصف بالعدالة.

ومن المقرر في مقره أن تعليق الشي‌ء على الوصف دليل علية ذلك الوصف لذلك الشي‌ء ، مع ما اشتهر بين المحصلين من أن الحكم الواقع في كلام مقيد موجباً كان الكلام أو منفياً ، انما هو راجع الى القيد.

فعلى هذا لا بد في وجوبها من حضور امام عادل ، ولا أقل من حضور نائبه المنصوب من قبله لفعلها أو الاعم ، فهذا الحديث دليل تام على نقيض مدعاه ، فايراده له في هذا الباب من قبيل اهداء السلاح الى الخصم حال الجدال ، فهو لنا لا علينا ، وليس له بل عليه ، لانه قد انتصب لاثبات وجوبها العيني من غير توقفه على شرط ، وما سمعناه منه في هذا المقام دليلا على ذلك المرام الا قوله ، وظاهر (١) أن لفظ الامام في مثل هذا المقام انما يطلق على امام الصلاة دون المعصوم.

فيا ليت شعري بأي دليل عن له أن المراد به في هذا الاطلاق امام الصلاة دونه ، أهذا اطلاق لغوي أم عرفي عام أو خاص.

بل نقول : المتبادر من اطلاق الامام في عرف الشرع هو المعصوم عليه‌السلام ،

__________________

(١) هذا خلاف الظاهر ، لان اطلاق المطلق ينصرف الى الفرد الكامل منه ، لانه المتبادر منه الى الذهن ، وغيره يحتاج الى قرينة أو قيد زائد ، وانما ذكر الامام منكراً لتعدد امام الاصل بحسب الازمان ، فتجب الجمعة على كل أناس بامامهم « منه »

٤٩٠

كما يدل عليه من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ابني هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم. وقوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (١).

وفي صحيحة بريد عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن مؤمن قتل رجلا ناصبياً معروفاً بالنصب على دينه غضباً لله أيقتل به؟ فقال : أما هؤلاء فيقتلونه ولو رفع الى امام عادل ظاهر لم يقتله ، قلت : فيبطل دمه؟ قال : لا ، ولكن ان كان له ورثة فعلى الامام أن يعطيهم الدية من بيت المال (٢).

فهذا وأمثاله صريحة في أن المراد بامام عادل في الاخبار هو المعصوم من آل الرسول لا امام الصلاة ، الا أن تكون هناك قرينة مخصصة بغيره ، وأما بدونها فالتبادر منه هو امام الاصل.

ونقل في الكشاف عن بعضهم في قوله تعالى ( وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) (٣) ان الآية تدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها (٤) والتبادر من أقوى امارات الحقيقة ، فتكون حقيقة شرعية فيه.

وقد تقرر في الاصول أنه اذا صدر من الشارع ماله محمل لغوي ومحمل شرعي ، كالطواف بالبيت صلاة (٥) ، فمثل هذا لا يكون مجملا بل يحمل على المحمل الشرعي ، لان عرف الشارع أن يعرف الاحكام الشرعية ، ولذلك بعث ولم يبعث لتعريف الموضوعات اللغوية ، فكان ذلك قرينة موضحة للدلالة ، فلا اجمال.

__________________

(١) سورة الاسراء : ٧١.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) سورة الفرقان : ٧٤.

(٤) الكشاف ٣ / ١٠٢.

(٥) فانه يحتمل أن يسمى صلاة في اللغة وانه كالصلاة في اشتراط الطهارة فيه « منه »

٤٩١

ولذلك حمل المستدل قدس‌سره في الوافي في باب من يصلي على الميت الامام المطلق عليه ، حيث قال في بيان حديث رواه طلحة بن زيد عن الصادق عليه‌السلام قال : اذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة عليها (١). أن المراد بالامام المعصوم عليه‌السلام.

وكذا قال في بيان خبر آخر رواه النوفلي عن السكوني عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : اذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحق بالصلاة عليها ان قدمه الولي ، والا فهو غاصب (٢) ان المراد بسلطان الله الامام المعصوم ، فان سلطنته من قبل الله عزوجل على عباده سلطنة ذاتية حقيقية.

وقال في مجمع البيان في ذيل كريمة ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ) (٣) الامام المقتدى به في أفعاله وأقواله (٤).

وفي الكشاف : هو اسم من يؤتم به كالازار لما يؤتزر به ، يعني يأتمون بك في دينهم (٥).

فالمراد بالامام في هذا المقام من له رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتقييد بالعادل احتراز عن أئمة الجور ونوابهم ، نظير ذلك ما وقع في عبارات أصحابنا من أن الجمعة لا تنعقد أو لا تجب الا بالامام العادل أو نائبه ، وفي بعضها بالسلطان العادل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ / ٨٠١ ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢ / ٨٠١ ، ح ٤.

(٣) سورة البقرة : ١٢٤.

(٤) مجمع البيان ١ / ٢٠١.

(٥) الكشاف ١ / ٣٠٩.

٤٩٢

قال في مجمع البيان : فرض الجمعة لازم جميع المكلفين الا أصحاب الاعذار وعند الشرائط لا تجب الا عند حضور السلطان العادل ، أو من نصبه السلطان للصلاة (١).

وقال المرتضى علم الهدى في أجوبة المسائل الميافارقيات : لا جمعة الا مع امام عادل أو من نصبه الامام (٢) (٣). وفي كلام آخر له في الفقه الملكي والاحوط أن لا يصلي الجمعة الا باذن السلطان وامام الزمان.

وقال العلامة في التذكرة : ويشترط في وجوب الجمعة عدالة السلطان وهو الامام المعصوم ، أو من يأمره بذلك ، عند علمائنا أجمع.

وقال الراوندي في آيات أحكامه : وعند اجتماع شروطها لا تجب الا عند حضور سلطان عادل أو من نصبه ، على أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام الخطبة والموعظة والنصيحة لاصحابه أو بعد موتى وله امام عادل كالنص على المعصوم ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما كان عالماً بأن بعد انقضاء مدته الشريفة وأيامه المنيفة ، تظهر في أمر الدين والدنيا نزغات ، وتبدو بين أمته نزاعات في أمر الخلافة والامامة.

وبالاخرة ينجر المآل لما غلبته الرجال نبه في خطبه الشريفة وأومأ فيها ايماءً لطيفاً الى ما هو الحق من أمر الامامة ، وان الاقتداء بهؤلاء الكفرة الفجرة في صلاة الجمعة غير مسوغ ، فيجب ترك حضور جمعاتهم مهما أمكن ، وهو لا يوجب ما يوجبه مع امام عادل من الامور التي ذكرها ، وهذا أمر جلي لمن له أدنى فطانة وأخذها بيده وأنصف من نفسه. ولذلك ما حمله الزمخشري في هذا

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٨٨.

(٢) أجوبة المسائل الميافارقيات المطبوع في رسائل الشريف المرتضى ١ / ٢٧٢.

(٣) لا يذهب عليك أن هذا عبارة الحديث المذكور بعينها ، فهو صريح أيضاً في أنه حمله على المعصوم عليه‌السلام دون امام الصلاة ، فتنبه ولا تكن من الغافلين « منه ».

٤٩٣

الحديث على امام الصلاة ، بل حمله على ما حملناه عليه كما سيأتي.

وقال الشهيد في الذكرى في فصل صلاة الجمعة بعد نقل هذا الحديث : وشروطها سبعة : الاول السلطان العادل وهو الامام أو نائبه اجماعاً منا لما مر (١).

وأشار بقوله « لما مر » الى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « وله امام عادل » فجعل الحديث سند اجماع الطائفة الناجية ، وهو صريح في أنهم باجمعهم حملوا الامام المذكور فيه على المعصوم دون امام الصلاة ، فحمله عليه ودعوى الظهور فيه ثم القول بأن هذا مما لا يخفى على من له أدنى معارفة بالاخبار ، تعريضاً عليهم بأنهم غير عارفين بها سمج ركيك لا وقع له بل غير مسموع ولا يلتفت اليه.

كيف لا وقد بلغ الشهيد في تدربه بالاخبار ومعرفته بها الى أن صنف اللمعة في بلاد المخالف مدة سبعة أيام لا غير ، وهذا منه قدس‌سره كاد يكون من الكرامات ، فكيف يمكن القول بعدم معرفته بالاخبار والحال هذه؟

فالقول قوله اذا قالت حذام

فصدقوها فان القول ما قالت حذام

فهذا الحديث كما اعترف به المستدل وهو الحق حديث شائع ذائع مستفيض وارد في طرق الخاصة والعامة ، وقد فهم منه علماؤهما اشتراط الامام أو نائبه في وجوبها العيني ، فلو لم يكن في تلك المسألة خبر غيره لكان كافياً ، فما ظنك مع وجود غيره؟

فمنه ما رواه في الفقيه عن محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين ، ولا تجب على أقل منهم : الامام وقاضيه ، ومدعيا حق وشاهدان ، والذي يضرب الحدود بين يدي الامام (٢).

فهذا حديث مفصل مصرح فيه بأن المراد بالامام هو المعصوم عليه‌السلام وبقاضيه

__________________

(١) الذكرى ص ٢٣٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤١٣.

٤٩٤

نائبه المنصوب من قبله ، والحديث المجمل يحكم عليه المفصل ، مع ما فيه من الدلالة الصريحة الواضحة الغير الخفية المؤيد بالرواية الاتية وغيرها.

على أن الجمعة لا تجب الا حيث يقام فيه الحدود وتنفذ فيه الاحكام ، ومن شروطها الامام أو من يقوم مقامه عليه‌السلام ، وهو ظاهر غير خفي « الا على آكه لا يبصر القمر (١) ».

وقال في الذكرى بعد نقله : وفيه اشارة الى أن الاجتماع المدني لا يتم الا بهؤلاء ، والجمعة تتبع التمدن ، لانها انما تجب على المستوطنين (٢).

ومنه ما رواه في التهذيب في باب العمل في ليلة الجمعة ويومها عن علي عليه‌السلام قال : لا جمعة الا في مصر تقام فيه الحدود (٣).

وهو كما ترى كسابقه صريح في أن وجوبها بل صحتها منوطة بزمان حضور الامام المفترض الطاعة المبسوط اليد المتمكن القادر على اقامة الحدود بأسرها حتى ارش الخدش على وجه السلطنة والاستيلاء ، لان في غير هذا الزمان لا يمكن اقامتها كما ينبغي ، على ما يرشد اليه خبر : ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومنه ما في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام حيث قال : فان قال فلم جعلت الخطبة؟ قيل : لان الجمعة مشهد عام. فأراد أن يكون الامام سبباً لموعظتهم وترغيبهم في الطاعة ، وترهيبهم من المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ويخبرهم بما ورد عليه من الافاق ، ومن الاهوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة.

فان قال : فلم جعلت خطبتين؟ قيل : لان تكون واحدة للثناء والتحميد

__________________

(١) أوله : « لقد ظهرت فلا يخفى على أحد » « منه ».

(٢) الذكرى ص ٢٣١.

(٣) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٣٩ ، ح ٢١.

٤٩٥

والتقديس لله عزوجل ، والاخرى للحوائج والاعذار والانذار والدعاء ، وما يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه وما فيه الصلاح والفساد (١).

وهو أيضاً صريح في أن الامام لا بد وأن يكون مفترض الطاعة عالماً بجميع الاحكام والامور المتعلقة بانتظام المملكة والسلطنة وما فيه صلاح أحوال الرعية وفسادها ، خبيراً بما فيه مضارهم ومنافعهم في معاشهم ومعادهم ليأخذوا منه في كل أسبوع كل ما يحتاجون اليه من الاحكام الدينية والامور الدنيوية ، وهو ظاهر. فاما أن يجعله عليه‌السلام لنفسه ، أو يأذن فيه لمن يراه أهلا لذلك.

فبهذه الاخبار ونظائرها مثل ما سننقل من الصحيفة الكاملة ومن الأمالي وغيرهما يمكن تخصيص العمومات وتقييد الاطلاقات ، اذ الجمع بين الاخبار اذا تناقضت وتدافعت مهما أمكن خير من اطراح بعضها رأساً ، مع أن الخاص والمقيد مقدمان على العام والمطلق ، فالعمل بهما متعين.

وبذلك يظهر بطلان ما استدلوا به من الاستصحاب على وجوبها العيني على تقدير كونه حجة ، حيث قالوا : وجوبها حال حضور الامام أو نائبه ثابت ، فيستصحب الى أن يحصل الدليل الناقل ، مع أنا لا نسلم أن اللازم منه مطلق الوجوب ، بل الوجوب المقيد بحال الحضور ، فلا يتم استصحابه حال الغيبة.

وأما ما أجابوا به عن هذا المنع بأنا لا نسلم أن الوجوب الثابت حال الحضور مقيد به ، بل هو ثابت مطلقاً من غير أن يتقيد به ، ومن قال بالتقييد فعليه الدليل ، فهو خارج عن قانون المناظرة ، لكونه منعاً على منع ، فهو غير مسموع ، اذ المانع يكفيه الاحتمال ولا يطالب بالدليل ، مع أنه يستند في ذلك الى البراءة الاصلية الى أن يثبت خلافها ، ولم يثبت بعد.

وأيضاً فانهم في الحقيقة يقيمون وجوبها في هذا الزمان على وجوبها في الزمان

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ / ١١١.

٤٩٦

السابق ، فله أن يقول : لعل علة الحكم في الاصل الوصف الكذائي ، وهو كونها واقعة حال حضوره أو حضور نائبه ، فعليهم أن يبطلوا هذا الاحتمال ، فهو أحق أن يطالبهم بالدليل ، بل له أن يقول : جواز العمل بالاستصحاب انما هو عند فقد النص والدليل الشرعي لا مطلقا ، ولو مع دلالة دليل شرعي على خلافه كما هنا ، فالعمل بالاستصحاب هنا رد للنص والإجماع به ، ومثله غير جائز عند القائلين بجواز العمل به أيضاً.

وأما سائر الاستصحابات فان كان عليه دليل من اجماع أو نص يدل على بقاء ما كان على ما كان فهو حجة ، والا فلا.

وبذلك أيضاً يظهر بطلان ما استدلوا به من التأسي على وجوبها العيني ، لاحتمال أن يكون الوجوب مقيداً بشرط حاصل بالنسبة الى النبي ومن يقوم مقامه عليه‌السلام غير حاصل بالنسبة الينا ، ومجرد الاحتمال كاف لنا في هذا المقام ، ولا نحتاج الى اثباته ، مع أنا قد أثبتناه بالادلة السابقة ، فظهر بطلان كل ما ذكره المستدل في الباب الخامس من رسالته هذه الاشبهة زين المحققين وسيأتي بما يدفعها في آخر الرسالة ان شاء الله تعالى.

قال أستاد أستادنا المحقق المدقق رفع الله درجتهما في شرح الدروس : اعلم أن القوم ذكروا أن الاستصحاب اثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم الى قسمين باعتبار انقسام المأخوذ فيه الى شرعي وغيره ، فالاول مثل ما اذا ثبت الحكم الشرعي بنجاسة ثوب أو بدن مثلا في زمان ، فيقولون بعد ذلك الزمان أيضاً يجب الحكم بالنجاسة اذا لم يحصل اليقين بما يرفعها ، والثانى مثل ما اذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، فبعد ذلك الزمان أيضاً يحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف.

وذهب بعضهم الى حجيته بقسميه ، وبعضهم الى حجية القسم الاول ، واستدل

٤٩٧

كل من الفريقين بدلائل مذكورة في محلها ، كلها قاصرة عن افادة المرام ، كما يظهر عند التأمل فيها ، ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير الى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب.

فنقول : الظاهر أن الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلا بكلا قسميه ، اذ لا دليل عليه تاماً لا عقلا ولا نقلا. نعم الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعي على أن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت الى حدوث حال كذا ووقت كذا مثلا ، معين في الواقع بلا اشتراطه بشي‌ء أصلا.

فحينئذ اذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره الى أن يعلم وجود جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرد الشك في وجوده ، والدليل على حجيته أمران :

الاول : أن ذلك الحكم : اما وضعي ، أو اقتضائي ، أو تخييري ، ولما كان الاول أيضاً عند التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الاخيرين ، وعلى التقديرين يثبت ما ذكرنا.

أما على الاول ، فلأنه اذا كان أمر أو نهي بفعل الى غاية مثلا ، فعند الشك بحدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال ، فلا بد من بقاء ذلك التكليف عند الشك أيضاً وهو المطلوب.

وأما على الثاني ، فالامر كما لا يخفى.

والثاني ما ورد في الروايات من أن اليقين لا ينقض بالشك.

فان قلت : هذا كما يدل على حجية المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدل على حجية ما ذكره القوم ، لانه اذا حصل اليقين في زمان ، فينبغي أن لا ينقض في زمان آخر بالشك ، نظراً الى الرواية ، وهو بعينه ما ذكروه.

٤٩٨

قلت : الظاهر أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنه عند التعارض لا ينتقض به ، والمراد بالتعارض أن يكون شي‌ء يوجب اليقين لو لا الشك ، وفيما ذكروه ليس كذلك ، لان اليقين بحكم في زمان ليس مما يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشك ، وهو ظاهر انتهى كلامه طاب منامه.

وأنت خبير بأن الدليل الشرعي لم يدل على أن الجمعة الواجبة في الزمان السابق ثابت وجوبها بلا اشتراط بشي‌ء أصلا الى أن يثبت المزيل ، ومع ذلك فقد ثبت بدلالة اجماع الطائفة والاخبار السابقة وغيرها على أنها مشروطة بحضور الامام أو نائبه.

على أن المتحققة في الزمان السابق غير ممكن ان تحقق في هذا الزمان ، لان تحققها في ذلك الزمان كان بتحقيق الامام أو نائبه ، وهو غير ممكن في هذا الزمان ، فلا تكون هي هي ، فكيف يدل الدليل على بقاء ما كان على ما كان.

هذا ولنرجع الى ما كنا فيه ، فنقول : وأيضاً فان من المقررات والمسلمات في الاصول أن الخطابات العامة للمشافهة الواردة على لسان الرسول ليست بخطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص أو اجماع أو غيرهما.

وأما بمجرد الصيغة فلا ، لان الخطاب توجيه الكلام الى الغير لتفهيمه ، واذا امتنع توجيهه الى الجمادات بل الى المجانين والصبيان الغير القابلين للفهم ، فتوجيهه الى المعدوم أجدر بالامتناع لكونه من الفهم أبعد ، فقوله « فرض عليكم الجمعة » مختص بالموجودين في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعدية حكمه الى غيرهم محتاجة الى دليل آخر ، فأما بمجرده فلا.

فان قلت : فمن تركها في حياتي أو بعد موتى ، دليل على التعدية.

قلت : غير مسلم ، فان معناه فمن تركها منكم ، وهو الظاهر من السياق. نعم

٤٩٩

لو كان سياق الحديث هكذا : ان الله قد فرض على أمتي الجمعة لكان قوله « فمن تركها » الى آخره قرينة التعدية ، وعلى تقدير التسليم فهو مقيد بالامام العادل ، وليس فليس ، وبذلك ينكشف حكم تلك الاحاديث المطلقة العامة بثلاثتها ، فان ما من عام الاوقد خص ، جمعاً بين الاخبار.

مع أن المتبادر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات » الى آخره أنه تعريض لبعض السامعين التاركين وتهديد لهم ، أو تخويف للغائبين الموجودين في عهده التاركين لها ، وتحريص لهم على فعلها والحضور لها.

على أن في متنه شي‌ء يبعد صدوره عمن هو أفصح العرب ، وقد أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله « عن ودعهم » فانهم متفقون على أن يدع لم يسمع من العرب ماضيه ولا فاعله ولا مصدره ، ولذلك جعلوا حذف الفاء دليلا على أنه واو ، اذ لو كان واحد منها مسموعاً مستعملا عندهم لما كان لهذا الدليل وجه ولا وقع ، فتأمل وأما قوله « مع أن قوله امام عادل ليس في بعض الروايات العامية » فهو كذلك كما في الكشاف ، ولا يقام الجمعة عند أبي حنيفة الا في مصر جامع ، لقوله عليه‌السلام « لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى الا في مصر جامع » والمصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الاحكام ، ومن شروطها الامام ، أو من يقوم مقامه ، لقوله عليه‌السلام « فمن تركها وله امام عادل أو جائر » الحديث.

وقوله « أربع الى الولاة : الفي‌ء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات » فان أم رجل بغير اذن الامام ، أو من ولاه من قاض ، أو صاحب شرطة لم يجز (١).

وأنت وكل من هو قابل للخطاب خبيران بأنه حمل الامام في الحديث المذكور في الكتاب على من له رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا ، عادلا كان أو جائراً ، كما هو مذهبه ، لا على امام الصلاة كما فهمه المستدل قدس‌سره ، وادعى

__________________

(١) الكشاف ٤ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٥٠٠