الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

الرابعة : أن النهي للتحريم. وهذه المقدمات بثلاثتها مقررة في الأصول.

الخامسة : أن المراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وهو انما يتمشى على تقدير كون « من » مزيدة كما جوزه الأخفش ، وهو الاولى بحسب المعنى ، إذ كونها هاهنا للتبعيض على ما ذهب اليه صاحب الكشاف ومن تبعه يفيد تحريم غض بعض البصر دون البعض لا بعض المبصر ، وهو المطلوب والمعقول كما أومأنا إليه ، فتأمل.

السادسة : ان وجه الأجنبية من المبصرات التي وجب غض البصر عنها ، ولا يجوز النظر إليها ، كما يظهر من الرواية التي وردت في سبب نزول تلك الآية وقد سبقت ، وسيجي‌ء في كلام صاحب الكشاف في ذيل تفسيرها ما يؤيد ذلك إن شاء الله تعالى. وهذه المقدمة يمكن المناقشة فيها فتأمل.

ولنا أيضاً قوله تعالى ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) (١).

ففي الكافي عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) قال : الزينة الظاهر الكحل والخاتم (٢).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) قال : الخاتم والمسكة وهي القلب (٣).

وفي جوامع الجامع : فالظاهرة لا تجب سترها وهي الثياب الى قوله وعنهم عليهم‌السلام : الكفان والأصابع (٤).

__________________

(١) سورة النور : ٣١.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٥٢١ ، ح ٣.

(٣) فروع الكافي ٥ / ٥٢١ ، ح ٤.

(٤) جوامع الجامع ص ٣١٤ ـ ٣١٥ الطبعة الحجرية.

٤١

وفي مجمع البيان : وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفان والأصابع (١).

وفي تفسير علي بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله « وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها » فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار ، والزينة ثلاث : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأما زينة الناس فقد ذكرناها ، وأما زينة المحرم فوضع القلادة فما فوقها والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه ، وأما زينة الزوج فالجسد كله (٢).

ويؤيد ذلك ما في الفقيه عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن (٣).

فإذا لم يجز الانكشاف بين أيديهن للعلة المذكورة ، فعدم جوازه بين أيدي الأجانب من الرجال أولى ، ولاشتراك العلة وهي تهييج الميل وتحريك الشهوة وثوران الفتنة.

وفي علل الشرائع عن محمد بن سنان أن الرضا عليه‌السلام كتب فيما كتب من جواب مسائله حرم النظر الى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وغيرهن من النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو التهييج الى الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يحمد وكذلك ما أشبه الشعور إلا الذي قال الله عزوجل ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ) (٤) غير الجلباب ، ولا بأس

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ١٣٨.

(٢) تفسير القمي ٢ / ١٠١.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٥٦١.

(٤) سورة النور : ٦٠.

٤٢

بالنظر الى شعور مثلهن (١).

وفي تفسير البيضاوي ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) فلا ينظرن الى ما لا يحل لهن النظر اليه من الرجال « وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ » بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لان النظر يربد الزنا « وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ » كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له « إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها » عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم ، فان في سترها حرجاً.

وقيل : المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف ، أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان ، لأنها ليست بعورة ، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر ، فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج ، والمحرم النظر إلى شي‌ء منها الا لضرورة ، كالمعالجة وتحمل الشهادة (٢) انتهى كلامه.

وهو حق كله لا شبهة فيه ولا مرية تعتريه الا قوله « وتحمل الشهادة » إذ لا ضرورة فيه الى النظر كما عرفت ، وستعرف إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكره في الكشاف في تفسير هذه الآية بقوله : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة وهي الحلقة من فضة لا فص لها ، والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب.

ثم قال : ان المراد من الزينة مواقعها ، والصحيح أن العضو كله لا المقدار الذي تلابسه الزينة منه ، كما فسرت مواقع الزينة الخفية (٣) وكذلك مواقع الزينة

__________________

(١) علل الشرائع ص ٥٦٥.

(٢) أنوار التنزيل للبيضاوي ٢ / ١٣٨.

(٣) المراد بالزينة الخفية السواد للزند ، والخلخال للساق ، والدملج للعضد ، والقلادة للعنق ، والوشاح للرأس ، والقرط للأذن ، ومذهب صاحب الكشاف أن المراد بمواقعها جميع العضو لا خصوص المقدار الذي يلامسه الزينة منه ، ويحتمل اختصاص محلها فقط ،

٤٣

الظاهرة ، الوجه موقع الكحل في عينيه ، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه والغمرة في خديه والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء.

وانما تسومح في هذه المواضع لان سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا تجد بداً في مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة الى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها وخصوصاً الفقيرات منهن ، وهذا معنى قوله « إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها » يعني إلا ما جرت العادة على ظهوره والأصل فيه الظهور (١).

ففي أكثره بعد منع ، إذ لا ضرورة داعية الى كشف وجهها في الشهادة والنكاح أما في الشهادة فلما عرفت.

وأما في النكاح ، فلما رواه في الكافي عن سعيدة قالت : بعثني أبو الحسن عليه‌السلام الى امرأة من آل زبير لأنظر إليها أراد أن يتزوجها ، فلما دخلت عليها حدثتني هنيئة ثم قالت : أدني الصباح فأدنيته لها.

قالت سعيدة : فنظرت إليها وكان مع سعيدة غيرها ، فقالت : أرضيتن ، قال : فتزوجها أبو الحسن عليه‌السلام وكانت عنده حتى مات عنها ، فلما بلغ ذلك جواريه جعلن يأخذن بلحيته وثيابه وهو ساكت يضحك لا يقول لهن شيئاً ، فذكر أنه قال : ما شي‌ء مثل الحرائر (٢).

ولان المدار بالعلم ، وهو قد يحصل بدون ذلك ، نعم ما ذكره صحيح على مذهبهم ، لما عرفت من قول أبي الحسن الأول عليه‌السلام حيث قال : ولا يجوز عندهم

__________________

فلا يتعدى الى غيرها ، خصوصاً المواضع الخفية في أكثر الحالات والقريبة من العورة ، فتأمل « منه ».

(١) تفسير الكشاف ٣ / ٦١.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٥٥٥ ، ح ٤.

٤٤

أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر فينظر إليها (١).

وأيضاً لا شبهة بعد كون الوجه موقع الكحل والوسمة وكونها في شاربيها مع أنا نقول في حالة الضرورة والحاجة يجوز إبداء الزينة الباطنة فضلا عن الزينة الظاهرة ، كالعلاج للطبيب والمحاكمة وغير ذلك مما سيجي‌ء ، فان الضرورات تبيح المحذورات ، وانما كلامنا في حالة الاختيار دون الاضطرار.

وأيضاً ان نظر الى العادة والظاهر خصوصاً الفقيرات فالعادة ظهور الرقبة بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك ، فكلامه كما ترى في أكثر هذه المواضع خارج عن محل النزاع ، فتأمل.

وبالجملة يظهر منه أن الأجنبية وان كانت شابة جميلة عيناه صبيحة الوجه ، يسوغ لها أن تكتحل في عينيها وتتوسم في حاجبيها وشاربيها ، كما هو عادة نساء العرب ، وتغتمر في خديها ووجنتيها ، وتتخضب في يديها ورجليها ، وتتختم في اصبعيها وتنفتخ بفتخة لابسة الثياب الفاخرة ، ثم تبرز مع هذه الهيئات والحالات المشوقة والمعشقة للأجانب ، كاشفة الوجه واليدين بارزة الثياب والرجلين ، كأنها تساق من بيت الى بيت بعلها ليبني عليها.

ان هذا لشي‌ء عجيب ، وصدور مثله عن مثله أمر غريب ، فان العقل السليم يأباه ، والطبع المستقيم لا يرضاه ، فأين غيرة الله مع كونه أغير من رسوله ، ومن غيرته حرم المحرمات ، كما ورد في الخبر (٢).

وقد روي أن طلحة بن عبد الله قال : أنهى أن نتكلم بنات عمنا الا من وراء الحجاب لئن مات محمد لا تزوجن عائشة ، فنزلت « وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٦٧.

(٢) في الكافي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها « منه »

٤٥

اللهِ » (١) الآية (٢).

مع أن صاحب الكشاف قد ذكر في تفسير كريمة « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ » ان الأجنبية ينظر الى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين (٣) وهو كما ترى ينادي بأعلى صوته أن في طريقهم أيضاً رواية تدل على عدم جواز النظر الى وجهها ، الا أن الجواز فيما بينهم أكثر وأشهر ، وميلهم إليه أشد وأظهر كما يظهر بالتتبع. وهذا أيضاً مما استظهر به على صحة دعوانا ، كما ستطلع عليه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وقال شيخنا المقداد في كنز العرفان : وانما قدم غض الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدماً عليه وداعياً الى الجماع. وأما إبداء الزينة ، فقيل : المراد مواقعها على حذف المضاف لا نفس الزينة ، لأن ذلك يحل النظر إليه ، كالحلي والثياب والأصباغ.

وقيل : المراد نفسها ، وانما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر الى مواضعها. وأما ما ظهر منها فليس بمحرم للزوم الحرج المنفي في الدين.

ثم قال وقيل : المراد بالظاهرة الثياب فقط. وهو الأصح عندي ، لإطباق الفقهاء على أن بدن المرأة كله عورة الا على الزوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.

وأما باقي الأقوال في ذلك ، فهي أنه الوجه والكفان والكحل والخضاب والخاتم ، وانما سومح فيها للحاجة إلى كشفها. فضعيفة لا تحقق لها ، فإنه ان

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٣٦٦.

(٣) الكشاف ٣ / ٦٠.

٤٦

حصل ضرورة لزم حرج ، فذلك هو المبيح لا الآية ، والا فلا وجه لذلك (١) انتهى كلامه زيد إكرامه.

والأصح عندي أيضاً ما هو الأصح عنده وعند القاضي البيضاوي وقد عرفته ويؤيده ما رواه في جامع الاخبار عن النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله الأخيار أنه قال : من اطلع في بيت جاره ، فنظر الى عورة رجل ، أو شعر امرأة ، أو شيئاً من جسدها ، كان حقيقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتجسسون عورات المسلمين في الدنيا ، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله ، ويبدي عوراته للناظرين في الآخرة (٢).

اعلم أن أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم قد استثنوا من هذه القاعدة مواضع وعللوها بأن الحاجة قد تقوم سبباً مبيحاً في المحرم لولاها كالمشقة.

منها : النظر إلى المخطوبة ، ومحله : الوجه والكفان والجسد من وراء الثياب.

ومنها النظر إلى الإماء ، فينظر الى ما يرى من العبيد. وقيل : ينظر الى ما يبدئ حال الغيبة. وقيل : يقتصر على الوجه والكفين كالحرة.

ومنها : النظر إلى المرأة للشهادة عليها والمعاملة إذا احتاج الى معرفتها ، ويقتصر الى الوجه ، قالوا : والفرق بينه وبين النظر المباح على الإطلاق من وجهين ، أحدهما : تحريم التكرار في ذلك بخلافه هنا ، فإنه ينظر حتى عرفت ويحرم الزائد. والثاني : أن ذلك قد يصدر من غير قصد ، حتى قيل بتحريمه مع القصد بخلافه هنا ، فلو خاف الفتنة حرم مطلقاً.

ومنها : نظر الطبيب والفاصد الى ما يحتاج اليه ، بحيث لا يعد المنكشف

__________________

(١) كنز العرفان ٢ / ٢٢٢.

(٢) جامع الاخبار ص ٩٣.

٤٧

فيه هتكا للحرمة ويعذر فيه لأجل هذا السبب عادة ، وهو مطرد في جميع الأعضاء نعم في السوأتين مزيد تأكيد في مراعاة الضرورة.

والظاهر جواز نظر الشهود الى العورتين ليتحملوا الشهادة على الزنا ، والى فرج المرأة لتحمل الولادة ، والى الندى لتحمل الإرضاع.

قال في اللمعة الدمشقية : لا ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا مرة من غير معاودة إلا لضرورة ، كالمعاملة والعلاج والشهادة عليها إذا دعي إليها ، أو لتحقيق الوطء في الزنا وان لم يدع (١).

ثم اعلم أنه يشترط في جواز النظر إلى المخطوبة العلم بصلاحيتها للتزويج بخلوها من البعل والعدة والتحريم ، وتجويز إجابتها ومباشرة المريد بنفسه ، فلا نجوز الاستنابة وان كان أعمى ، وأن لا يكون بريبة ولا تلذذ ، والأحوط أن يبعث إليها امرأة لتنظر إليها ثم تخبر بما رآه منها ، كما فعل أبو الحسن عليه‌السلام ، وقد سبق في حديث سعيدة (٢) فتذكر.

وشرط بعضهم أن يستفيد بالنظر فائدة ، فلو كان عالماً بحالها قبله لم يصح ، وهو حسن لكن النص مطلق. وأن يكون الباعث على النظر ارادة التزويج دون العكس ، بأن يكون النظر باعثاً لإرادة التزويج. وليس بجيد لان المعتبر قصد التزويج قبل النظر كيف كان الباعث ، وكأننا قدمنا ما يدل على الموضع الأول من هذه المواضع ، ويزيده بياناً ما في التهذيب عن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة وأحب أن ينظر إليها قال : تحتجر ثم لتقعد وليدخل فلينظر قال قلت : تقوم حتى ينظر إليها؟ قال : نعم.

__________________

(١) شرح اللمعة ٥ / ٩٩.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٥٥٥ ، ح ٤.

٤٨

قلت : فتمشي بين يديه؟ قال : ما أحب أن تفعل (١).

وما في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم انما يشتريها بأغلى الثمن (٢).

وفيه عن ابن مسكان عن الحسن بن علي السري قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر الى خلفها والى وجهها ، قال : لا بأس بأن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر الى خلفها والى وجهها (٣). وسيجي‌ء ما يدل عليه أيضاً.

ويدل على الموضع الثاني منها ما روي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعترض الأمة ليشتريها ، قال : لا بأس أن ينظر الى محاسنها ويمسها ما لم ينظر الى ما لا ينبغي له النظر إليها (٤).

وأما الموضع الثالث منها ، فقد عرفت حاله.

وأما الرابع ، فالضرورات تبيح المحذورات كما سبق ، ويؤيده رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام المذكورة في الكافي في باب أن المرأة يصيبها البلاء في جسدها فيعالجها الرجال ، حيث قال : ويكون الرجال أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له أن ينظر إليها؟ قال : إذا اضطرت اليه فليعالجها ان شاءت (٥).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٤٤٨ ، ح ٢.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٦٥ ، ح ١.

(٣) فروع الكافي ٥ / ٣٦٥ ، ح ٣.

(٤) تهذيب الاحكام ٧ / ٧٥ ، ح ٣٥.

(٥) فروع الكافي ٥ / ٥٣٤ ، ح ١.

٤٩

تأييد فيه تأكيد

روي أبو بصير عن الصادق عليه‌السلام الرجل تمر به المرأة فينظر الى خلفها ، قال : أيسر أحدكم أن ينظر إلى أهله وذات قرابته؟ قلت : لا. قال : فارض للناس ما ترضاه لنفسك (١).

وروى حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن ينظر (٢) بذلك في نسائهم. هذا ما رواه الصدوق في الفقيه (٣).

وروي في الكافي في باب ان من عف عن حرم الناس عف حرمه ، في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم (٤).

وروي صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله عزوجل ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) (٥) قال قال لها شعيب : يا بنية هذا قوي قد عرفتيه بدفع الصخرة ، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت : يا أبت إني مشيت قدامه ، فقال : امشي من خلفي ، فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق ، فانا قوم لا ننظر في أدبار النساء (٦).

وفي هذا دلالة على أن استماع صوت الأجنبيات في حالة الضرورة والحاجة

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ١٩ ، ح ٤٩٧٢.

(٢) في الفقيه : يبتلوا.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ١٩ ، ح ٤٩٧٣.

(٤) فروع الكافي ٥ / ٥٥٣ ، ح ٢.

(٥) سورة القصص : ٢٦.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٤ / ١٩ ، ح ٤٩٧٤.

٥٠

أقرب الى الاحتياط من النظر في أدبارهن ، فإذا كان النظر في أدبارهن مكروهة أو محرمة مع كونها مستورة بأستار وجلابيب شي‌ء ، على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للزوج ما تحت الدرع ، وللابن والأخ ما فوق الدرع ، ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع ، وخمار ، وجلباب ، وإزار.

ويدل عليه أيضاً قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) (١).

مع ما روي في وجه نزوله أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من عند أهله فإذا جارية عليها ثياب وهيئة فجلس عندها فقامت فأهوى بيده الى عارضها فمضت ، فاتبعها بصره ومضى خلفه فلقيه حائط فخمش وجهه ، فعلم أنه أصيب بذنبه.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر له ذلك ، فقال : أنت رجل عجل الله عقوبة ذنبك في الدنيا ، ان الله تعالى إذا أراد بعبد شراً أمسك عنه عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، وإذا أراد به خيراً عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا ونزلت آية الحجاب.

فكيف يجوز النظر الى وجوههن حال كونها مكشوفة؟ مع ان العرف والعادة شاهدا عدل على ان الشهوة والرغبة والميل انما تحدث في أغلب أفراد الناس بمجرد النظر الى وجوه الأجنبيات ، كما دلت عليه بعض الأقوال والاخبار السالفة أيضاً ، وخصوص المبيحات والوجيهات فيهن ، بل بمحض استماع الصوت.

كما روي أن علياً عليه‌السلام كان يكره أن يسلم على الشابة منهن وكان يقول : أتخوف أن تعجبني صوتها ، فيدخل من الإثم علي أكثر مما أطلب من الأجر. ولا شك

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٥٩.

٥١

ان مراده عليه‌السلام غيره وان أسند إلى نفسه.

ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم لها أكثر من خمس كلمات مما لا بد لها. وعنهم عليهم‌السلام : النساء عي وعورة ، فاستروا العورة بالبيوت واستروا العي بالسكوت.

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : للمرأة عشر عورات ، إذا تزوجت استترت عورة وإذا ماتت استترت عوراتها كلها.

وحكي أن أعرابياً ماتت ابنته فدفنها ، وقال : الحمد لله الذي سترك بجلوسي على قبرك ، ولم يهتك سترك بجلوسك على قبري.

فهذه جملة تأييدية ان نظرت إليها بعين بصيرة وأخذتها بيد غير قصيرة توصلك الى المراد ، ومن الله التوفيق وبه السداد.

فصل

[ المناقشة في الاخبار الدالة على جواز النظر ]

وأما الاخبار الواردة في طريقنا الدالة على جواز النظر الى وجه الأجنبية ، فجلها بل كلها مقدوح سنداً بل بعضها متناً.

مثل ما روي في كتاب الخصال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له : ما للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن له بمحرم؟ قال : الوجه والكفين والقدمين (١).

وما روي في الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن مروك بن عبيد ، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له :

__________________

(١) الخصال ص ٣٠٢

٥٢

ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم تكن محرماً؟ قال : الوجه والكفان والقدمان (١).

فهذان الخبران كما ترى مرسلان ، ولا اعتبار بالمراسيل مطلقاً حتى بمراسيل محمد بن أبي عمير ، وذلك ثابت في محله من كتب الأصول.

ومثل ما في قرب الاسناد للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل أيحل له أن ينظر الى شعر أخت امرأته؟ فقال : لا ، الا أن يكون من القواعد. قلت له : أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال : نعم قلت : فما لي النظر اليه منها ، فقال : شعرها وذراعها.

وقال : ان أبا جعفر مر بامرأة محرمة وقد سترت بمروحة على وجهها ، فأماط المروحة بقضيبه عن وجهها (٢).

قول الراوي « منها » أي : من المرأة الغريبة.

وقوله عليه‌السلام « شعرها » هكذا كان في نسخة عندنا ، والظاهر أنه غلط من قلم الناسخ ، والأمثل « سوارها » والا كان منافياً لما سبق منه عليه‌السلام حيث قال : لا ، الا أن تكون من القواعد ، فتدبر.

ومع ذلك فهذا الحديث لا يخلو من اشكال ، لمنافاته ما رواه في الكافي عن جميل عن الفضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله عزوجل ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) قال : نعم وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين (٣) فتأمل.

ثم اعلم ان اماطته عليه‌السلام المروحة بقضيبه عن وجهها لا تدل على جواز النظر

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٥٢١ ، ح ٢.

(٢) قرب الاسناد ص ١٦٠.

(٣) فروع الكافي ٥ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.

٥٣

إليه ، لأن استتار المرأة وجهها في الإحرام حرام.

قال شيخنا البهائي في رسالته الاثنا عشرية المعمولة لبيان مناسك الحج في فصل يعد محرمات الإحرام : الرابع ما يتعلق باللباس والزينة ، وساق الكلام الى أن قال : ولبس المرأة ما لم تعتد من الحلي ومطلقا للزينة ، وإظهار معتادها للزوج أو المحارم ، وتغطيتها الوجه ولو بعضه بنقاب ونحوه ، والحناء للزينة ، والاكتحال بالسواد ، وكذا الرجل فيهما (١) انتهى.

وبالجملة فهو شي‌ء مخصوص بحالة الإحرام وقد حرم فيها كثير من المباحات وحلل فيها كثير من المكروهات والمحرمات ، فهو نوع آخر من التكليف ، فتأمل وما فيه أيضاً بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر اليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال : الوجه والكف وموضع السوار (٢). مع أن تلك الاخبار يمكن أن تكون واردة مورد التقية ، لموافقتها لفرقة من العامة ، كما سبق.

قال في المعالم : إذا كان أحد الخبرين مخالفاً للعامة والأخر موافقاً ، يرجح المخالف لاحتمال التقية في الموافق ، ونقل عن الشيخ أنه إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة (٣).

وفي مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ، قال : ينظر فيما وافق حكمه حكم

__________________

(١) الاثنا عشرية مخطوط لكن في الاستبصار [ ٢ / ١٨٤ ] عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام الرجل المحرم يريد أن ينام يغطى وجهه من الذباب؟ قال : نعم ولا يخمر رأسه ، والمرأة المحرمة لا بأس أن تغطى وجهها كله. الا أن يخصص ذلك بحالة النوم والاضطرار الذي يخاف فيها من كشف الوجه ، فتدبر « منه ».

(٢) قرب الاسناد ص ١٠٢.

(٣) المعالم ص ٣٩٥.

٥٤

الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به قال : جعلت فداك وجدت أحد الخبرين موافقاً للعامة والأخر مخالفاً لها بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : يؤخذ بما يخالف العامة فإن فيه الرشاد. قلت : جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعاً؟ قال : ينظر الى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر (١).

ولا شك أن ميل هؤلاء العامة إلى جواز النظر الى وجه الأجنبية أشد منه الى عدمه. فهذا وجه يمكن أن يجمع بين الاخبار الواردة في هذا الباب.

على أنا نقول : على تقدير التنزل وتسليم صحة بعض الاخبار الدالة على جواز النظر وعدم كونه وارداً مورد التقية ، نقول : فالأمر دائر بين الإباحة والحرمة ، لتعارض الاخبار بعضها بعضاً ، فيرجح جانب الحرمة احتياطاً وخروجاً عن عهدة التكليف يقيناً ، وذلك ظاهر ومبين في محله.

وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : دع ما يريبك الى ما لا يريبك (٢). وليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط. وأمثال ذلك لا يحصى ، وقد أجمع العلماء كلهم على أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك أيضاً.

وأيضاً يحتمل أن يكون المراد بجواز النظر في هذه الاخبار النظر الأول لا التكرار ، كما قال به بعض الأخيار ، ويدل عليه أيضاً بعض الاخبار ، وقد مر الإشارة إليهما جميعاً.

وقيل : لا يحرم النظر الى الوجه وغيره الا مع اللذة أو الفتنة أو الريبة ، ويدل عليه ما في الكافي في مرسلة عبد الله بن الفضل عن أبيه عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له : أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر الى شعرها ومحاسنها؟

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) عوالي اللئالي ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.

٥٥

قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذاً (١).

وهي مردودة بالإرسال وغيره.

وما روى فيه أيضاً في صحيحة علي بن سويد قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام اني مبتلى بالنظر الى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال لي : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيتك الصدق ، وإياك والزنا فإنه يمحق البركة ويهلك الدين (٢).

ولكنها ليست بصريحة في جواز النظر الى وجهها وقائله للتأويل على تقديرها وقد مر تأويل نظائرها ، فتذكر.

وما روى فيه أيضاً عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : كان بالمدينة رجلان يسمى أحدهما هيت ، والأخر مانع ، فقالا لرجل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمع : إذا افتتحتم الطائف إن شاء الله فعليكم (٣) بابنة غيلان الثقفية ، فإنها شموع بخلاء مبتلة هيفاء شنباء ، إذا جلست تثنت ، وإذا تكلمت غنت ، تقبل بأربع ، وتدبر بثمان بين رجليها مثل القدح.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أريكما من أولي الإربة من الرجال ، فأمر بهما رسول الله فغرب بهما الى مكان يقال له : العرايا وكانا يتسوقان في كل جمعة (٤).

وقيل : يحتمل جواز تكرار النظر للعموم لو لا خلاف الإجماع للصدق عرفاً فتأمل ، وعندي الاجتناب مطلقاً أولى وأحوط الا من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً وهن اللاتي بلغن أسناناً آيسن من الجماع وآيس الناس أيضاً عنهن ، بمعنى أن لا يكون لهم مطمعاً ولا يكون لهن مطمعاً أيضاً عادة وعرفاً.

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٦٥ ، ح ٥.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٥٤٢ ، ح ٦.

(٣) في الكافي : فعليك.

(٤) فروع الكافي ٥ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

٥٦

لكن العلم بذلك مشكل ، فان الرجال والنساء يتفاوتون في ذلك تفاوتاً كثيراً جداً ، فان بعض الناس يفعلون بأيديهم بل بالأرض والخشب وأيّة نقبة كانت فليست لقاعد أقل من ذلك. وعلى كل فلا شك ان الستر والعفاف لهن خير أيضاً لاحتمال ذلك ، وهو ظاهر غير خفي.

وفي مجمع البيان : هن الشيبات (١) من النساء اللاتي قعدن من التزويج ، لانه لا يرغب في تزويجهن. وقيل : هن اللاتي ارتفع حيضهن ولا يطمع نكاحهن « فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ » يعني الجلباب فوق الخمار. وقيل : الخمار والرداء. وقيل : ما فوق الخمار من المقانع وغيرها أبيح لهن القعود بين يدي الأجانب مكشوفة اليد والوجه (٢).

هذا فأما ما رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله عن إسماعيل بن مهران ، عن عبيد بن معاوية بن شريح ، عن سيف بن عميرة ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد فاطمة عليها‌السلام وأنا معه ، فلما انتهينا الى الباب وضع يده عليه فدفعه ، ثم قال : السلام عليكم ، فقالت فاطمة : وعليك السلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت : أدخل يا رسول الله قال : أدخل أنا ومن معي؟ قالت يا رسول الله ليس علي قناع.

فقال : يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فاقنعي به رأسك ففعلت ، ثم قال : السلام عليكم ، فقالت : وعليك السلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت : نعم يا رسول الله. قال : أنا ومن معي؟ قالت : ومن معك.

قال جابر : فدخل رسول الله ودخلت فإذا وجه فاطمة أصفر كأنه بطن جرادة

__________________

(١) في المجمع : المسنات.

(٢) مجمع البيان ٤ / ١٥٥.

٥٧

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت : يا رسول الله الجوع. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمد.

قال جابر : فو الله لنظرت الى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم (١).

فهو ضعيف بعمرو بن شمر. قال مولانا ميرزا محمد رحمه‌الله في الأوسط : عمرو بن شمر ، قرين شمر بن يزيد ، أبو عبد الله الجعفي الكوفي ، يقال روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وعن جابر ضعيف جداً زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها اليه والأمر ملتبس « صه » « جش » فلا أعتمد على شي‌ء مما يرويه (٢) انتهى.

ومما يدل على ضعفه وسقوطه عن درجة الاعتبار انا نقول : على تقدير جواز نظر الأجنبي إلى وجه الأجنبية ، فليس لها أن ينظر إلى الأجانب بوجه لقوله تعالى ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) (٣) فكيف يجوز لفاطمة صلوات الله عليها أن تنظر الى جابر مع كونه أجنبياً وكونها معصومة وكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واسطة بينهما في هذا الأمر.

مع ما روى في الكافي عن أحمد بن أبي عبد الله قال : استأذن ابن أم مكتوم (٤) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده عائشة وحفصة ، فقال لهما : قوما فادخلا البيت ، فقالتا : إنه أعمى. فقال : ان لم يركما فإنكما تريانه (٥).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

(٢) الخلاصة ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٣) سورة النور : ٣١.

(٤) عبد الله أو عمرو بن قيس بن أم مكتوم المؤذن الأعمى صحابي « منه ».

(٥) فروع الكافي ٥ / ٥٣٤ ، ح ٢.

٥٨

وما روى عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها في جوامع الجامع وغيره انها قالت كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال : احتجبا ، فقلنا : يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ، فقال : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه (١).

قال في اللمعة : يحرم على المرأة أن تنظر إلى الأجنبي أو تسمع صوته إلا لضرورة وان كان الأجنبي أعمى ، لتناول النهي له ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأم سلمة وميمونة لما أمرهما بالاحتجاب من ابن أم مكتوم وقولهما انه أعمى : أعمياوان ألستما تبصرانه (٢).

الا أن يقال : ان قضية فاطمة عليها‌السلام كانت قبل نزول الحجاب ، وحينئذ فلا يمكن الاستدلال بهذا الخبر على ذلك المطلب أصلا فهو لا يضرنا.

وبما ذكرنا يظهر أن ما روي عن سلمان المحمدي (٣) رضي‌الله‌عنه وغيره أنهم كانوا يرونها صلوات الله عليها على أحوال مختلفة وأوضاع متشتتة ، ككونها مشغولة بأمر الاطحان والإرضاع وغيرهما ، كما هو المشهور بين الأصحاب والمسطور في الصحف والكتاب ، فاما : أن يكون محمولا على ما قبل الحجاب أو ضعف الأخبار الواردة في هذا الباب ، أو نسبة بينهما مصححة لذلك ، والله أعلم بالصواب.

فان قيل : هذا الخبر مجروح من وجه آخر أيضاً ، وهو أنه عليه‌السلام مع كونه

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ١٧٢ ، ح ٤.

(٢) شرح اللمعة ٥ / ٩٩.

(٣) روي في مجمع الرجال عن الحسين بن صهيب عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : ذكر عنده سلمان الفارسي قال فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تقولوا سلمان الفارسي ولكن قولوا سلمان المحمدي ، ذاك رجل منا أهل البيت « منه ».

٥٩

اماماً محدثاً عالماً بعلوم الأولين والآخرين خبيراً بأحوال الماضين والآتين ، كيف يسوغ له أن يروي عن جابر؟ مع أنه أعلم منه بما رواه عنه ، فهذا أيضاً مما يوهن به هذا الخبر من هذا الوجه أيضاً ، لأنه يشعر بصدوره عنه عليه‌السلام من باب التقية ، والا لكان الاستناد الى نفسه أو الى أحد من آبائه عليهم‌السلام أولى وأليق.

فالجواب عنه : أن روايته عليه‌السلام بعض الأحاديث عن جابر كان لمصلحة وتقية عن أهل المدينة.

لما روي في مجمع الرجال عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن حريز ، عن أبان بن تغلب ، قال : حدثني أبو عبد الله عليه‌السلام قال : ان جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رجلا منقطعاً إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معتم بعمامة سوداء ، وكان ينادي يا باقر العلم يا باقر العلم.

فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر. وكان يقول : لا والله ما أهجر ولكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : انك ستدرك رجل من أهل بيتي اسمه اسمي ، وشمائله شمائلي ، يبقر العلم بقراً ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول.

قال فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ هو بطريق في ذلك الطريق كتاب فيه محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، فلما نظر اليه قال : يا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال : أدبر فأدبر ، فقال : شمائل رسول الله والذي نفس جابر بيده ، يا غلام ما اسمك؟ فقال : اسمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فأقبل عليه يقبل رأسه وقال : بأبي أنت وأمي رسول الله يقرئك السلام ويقول لك ويقول لك.

قال : فرجع محمد بن علي عليهما‌السلام الى أبيه علي بن الحسين عليهما‌السلام وهو ذعر فأخبره الخبر ، فقال له : يا بني قد فعلها جابر؟ قال : نعم. قال : يا بني ألزم بيتك

٦٠