الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

في التهذيب عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلي لا أثق به ، فيبيعني على أنها ذكية ، أبيعها على ذلك ، فقال : ان كنت لا تثق به فلا تبعها على أنها ذكية ، الا أن تقول قد قيل لي انها ذكية (١).

أقول : هذا حديث صحيح صريح في أن الاصل عدم التذكية ، كما هو المشهور بين الاصحاب ، والا لكان جائزاً له أن يبيعها على أنها ذكية ، للاصل وسيما اذا انضم اليه اخبار البائع المسلم ، كما يشمله ترك الاستفصال فانه دليل عموم المقال بأنها ذكية وان كان ممن لا يثق به ، فانه مؤيد للاصل الذي هو دليل عقلي وحجة بالاجماع.

بل نقول : وفيه دليل على أن مجرد عدم العلم بعدم التذكية غير كاف في ذلك ، وان انضم اليه اخبار من لا وثوق به بالتذكية ، وان اخبار الموثوق به كاف في حصول العلم الشرعي بالتذكية وجواز الاخبار بها من نفسه وان لم يسنده الى غيره ، وذلك بحسب مفهوم الشرط ، وهو حجة كما ثبت في محله.

ومنه يستنبط أن خبر الواحد الثقة حجة ، وحينئذ فيجوز له أن يبيعها على

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ١٣٣ ، ح ٥٧.

٢٨١

أنها ذكية من غير أن يقول قد قيل لي انها ذكية. ويؤيد هذا المفهوم ما تقرر في الاصول أن خبر الواحد العدل حجة في النقليات ، وحينئذ فيجوز للمشتري أن يبيعها على أنها ذكية كما قلناه.

ولكنه يناقشه ما تقرر عندهم من أن الاصل في أفعال المسلمين الصحة ، قالوا : وهذه قاعدة ورد بها النص عن الائمة عليهم‌السلام وأجمع عليه العلماء الاعلام ، وعليها مدار تفاريع الاحكام.

منها : أن أحداً من المسلمين لو أخبر عن شي‌ء كان نجساً أنه طهره قبل قوله ، لان الاصل في أقواله الصحة ، اذ القول فعل لساني ، وقد سبق أن الاصل في أفعالهم الصحة.

فان على هذا الاصل كان ينبغي قبول قوله في اخباره بالتذكية ، ثقة كان أم غير ثقة ، لان ما تقرر عندهم من القاعدة الوارد بها النص لا اختصاص له بالثقة كما هو واضح ، ومع ذلك لا فرق بين الإخبارين ، فلم قبل منه الاول دون الثاني؟

لا يقال : لعل الفرق بينهما أن الاصل في الاشياء هو الطهارة ، فيقبل قوله في الاخبار عنها ، بخلاف التذكية ، فانها على خلاف الاصل ، فلا يقبل قوله في الاخبار عنها ، وان كان الاصل في قوله هو الصحة.

لانا نقول : ولا كذلك الامر ، لان هذا الشي‌ء لما فرض أنه كان نجساً فالاصل بحكم الاستصحاب بقاؤه على نجاسته حتى يعلم طهره ولم يعلم الا باخباره ، فكما يقبل قوله هنا في الاخبار عنه ، فليقبل قوله هناك في الاخبار عن التذكية من غير فرق فمن ادعاه فعليه البيان.

وما في (١) فروع الكافي في باب نوادر عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة

__________________

(١) عطف على قوله « ما تقرر عندهم من أن الاصل » « منه ».

٢٨٢

وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوم ما فيها ويؤكل لانه يفسد وليس له بقاء ، فان جاء طالبها أغرموا له الثمن. قيل : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو مجوسي ، فقال : هم في سعة حتى يعلموا (١).

أي : انها سفرة مجوسي ، فحينئذ يجب عليهم الكف عما فيها.

قال صاحب البحار قدس‌سره في حاشيته المعلقة عليه : انه يدل على أن الاصل التذكية فيما تشترط فيه ، وقد دلت عليه أخبار كثيرة ، والمشهور بين الاصحاب خلافه (٢).

أقول : هذا الخبر الضعيف دل على أن العلم بالتذكية والطهارة بل (٣) الحلية والاباحة في أمثال ذلك مما لا حاجة اليه ، بل يكفي فيه مجرد عدم العلم بعدم التذكية والنجاسة والحرمة حتى يعلم أنه غير مذك أو نجس أو حرام ، ويؤيده حديث : الناس في سعة ما لم يعلموا.

وأما أصالة التذكية فالاخبار فيها متعارضة ، فبعضها يدل عليها وبعضها على خلافها ، وهو صحيح كما عرفت ، فاذا تعارضت وتساقطت وجب الرجوع فيه الى ما يقال من أن الاصل في الحوادث العدم والتذكية منها ، فالاصل فيها العدم ، ولذا اشتهر فيهم مع كثرة الاخبار الدالة على أصالة التذكية خلافها.

ومنه يظهر أن الاصل والظاهر وهو ما يفيده اخبار المسلم بأنها ذكية اذا تعارضا قدم الاصل عليه ، لانه دليل وحجة بالاتفاق ، والظاهر كثيراً ما يخرج الامر بخلافه.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٢٩٧ ، ح ٢.

(٢) مرآة العقول ٢٢ / ١١٢.

(٣) هذا اعتراض على صاحب البحار فتأمل « منه ».

٢٨٣

نعم اذا أخذ ذلك من يد مسلم وغلب على ظنه التذكية جاز له استعمالها ، بناءً على غلبة الظن القائم مقام العلم في العبادات.

وعليه يحمل ما روي عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحم من السوق ولا ندري ما يصنع القصابون ، فقال : اذا كان في سوق المسلمين فكل ولا تسأل عنه (١).

وعن الحسن بن الجهم قال قلت لابي الحسن الرضا عليه‌السلام أعترض السوق فأشتري الخف لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال : صل فيه ، قلت : والنعل ، قال : مثل ذلك. قلت : اني أضيق من هذا ، قال : أترغب عنا كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله (٢).

وعن أحمد بن أبي نصر قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فرو لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم ان الدين أوسع من ذلك.

وذلك أن ما يشترى من أسواق المسلمين من اللحوم والجلود وغيرهما يغلب على الظن أنها ذكية. كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في حديث زرارة : اذا كان في سوق المسلمين فكل ولا تسأل عنه. لان غلبة الظن بكونها ذكية تقوم مقام العلم بها.

وحينئذ فلا حاجة الى البحث والفحص من أحوالها ، وتجوز الصلاة فيها واستعمالها ، لانا ما رأينا ولا سمعنا أن أحداً منهم يستعمل جلد ميتة وخاصة جلود الغنم ، فغلبة الظن هنا قائمة مقام العلم. نعم لو تجرد عن الظن لم يجز له بيعها على أنها ذكية ، بل ولا يجوز له استعمالها.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٢٣٧ ، ح ٢.

(٢) فروع الكافي ٣ / ٤٠٤ ، ح ٣١.

٢٨٤

ولذلك قال الشيخ زين الدين قدس‌سره في جواب من سأله بهذه العبارة : ما قوله في مثل القربة والركوة اذا وجد مطروحاً في بلاد المسلمين هل يحكم بطهارته أم يحكم بالنجاسة؟ : ما لم تثبت التذكية يحكم بنجاستهما ما لم يعلم التذكية.

وعلى هذا فاستعمال الجلود الجالبة من بلاد المشركين والمخالفين وسيما المستحلين جلود الميتة بعد دبغها وما يعمل منها من الفروة والفراش والسرج والدلو والقرابة والراوية والرسن والكتب المجلدة وغيرها مما لا يحصى اذا لم يغلب على ظنه التذكية مشكل.

وليس بناء هذه الاخبار على أصالة التذكية كما ظن ، ولا على أن مجرد عدم العلم بعدم التذكية يكفي في ذلك ، كما توهمه ظواهر هذه الاخبار ، بل هي مبنية على ما قدمناه من أن غلبة الظن بكونها ذكية تقوم مقام العلم بالتذكية ، فيجوز الاخذ بها في العبادات.

فما قيل من أنا نحكم بطهارة كل ما في أيدي المسلمين وان لم نسألهم ، لان الاصل الطهارة واستنده برواية زرارة ، ثم قال : وكذا ما في أيديهم من الجلود نحكم بأنها ذكية طاهرة وان لم نسألهم واستنده بروايتي ابن الجهم وابن أبي نصر محل تأمل ، اذ لا دلالة لهما على ما ادعاه.

أما الاولى فلان غاية ما دلت عليه هو أن ما يشترى من اللحم في سوق المسلمين فهو حلال مباح أكله ، ولا حاجة الى السؤال عن حاله هل هي ذكية أم لا؟ بناءاً على غلبة الظن بأنه ذكية.

وأما الثانية فالكلام فيها كالكلام في الاولى ، لان جواز الصلاة في مثل هذا الخف والفروة المشتراة من سوق المسلمين وعدم الحاجة الى المسألة عن حالها مبني على غلبة الظن بكونها ذكية لكونها مشتراة من سوق المسلمين ، فان أراد

٢٨٥

ذلك فهو كذلك ، وان أراد دلالتها على أن الاصل فيما يشترط فيه التذكية هو التذكية فهو ممنوع.

واعلم أن الظاهر من خبر السكوني عدم الحاجة الى تعريفها بعد تقويمها وأكل ما فيها ، بل غاية ما دل أن طالبها ان اتفق ان جاء أغرم له الثمن والا فلا ، وان التصرف في مال الغير بغير اذنه اذا كان في عرضة الفساد والتلف جائز.

والمشهور بين الاصحاب أن كل عين لا بقاء لها كالطعام ، فانه يتخير بين دفعها الى الحاكم وتقويمها على نفسه ثم تعريفها ، ويمكن حمل الخبر عليه ، فتأمل.

ثم اعلم أن الاصل يقال لكون الشي‌ء أولى ما لم يعارضه شي‌ء يقتضي العدول عنه ، ويعبر عنه بما لا يصار عنه الا بالدليل ، كذا ذكره المحقق في القديمة. وقد يقال على القاعدة والضابطة ، وعلى الكثير الراجح في نفسه في الاعتبار ، كما يقال الاصل في الكلام هو الحقيقة.

وعلى هذه المعاني فالاصل في بلاد الاسلام في الجلود واللحوم السوقية والمطروحة في الطريق هو التذكية ، الا أن يكون هناك صارف عنها ، كما اذا كان في بلد يستحل أهله جلود الميتة بعد دبغها ، وفي بلاد الكفر عدمها.

لان قاعدة أهل الاسلام وضابطتهم وكذا الكثير فيهم والاولى بهم هو التذكية ، لانها المعهود منهم ، فيغلب على الظن أنها ذكية ، فلا يصار عنه الا بدليل.

ولذا نظن بل نتيقن اذا رأينا دلواً أو قربة أو راوية أو رسناً ونحوها من الجلود مطروحة في الطريق أنها ذكية ، الا أن يصرف عنها صارف. وأما في بلاد الكفر وبلد يستحلون جلود الميتة بدبغها ، فالامر فيها بالعكس.

قال الفاضل العلامة في جواب من سأله بهذه العبارة : ما يقول سيدنا العلامة في أهل بلد يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغ هل يجوز شراء الجلود وما يعمل

٢٨٦

منها من أسواقهم والصلاة فيها اذا لم يعلم أنه جلد ميتة أم لا؟ : شرط جواز استعمال الجلد العلم بالتذكية أو أخذه ممن لا يستحل استعمال جلد الميتة بالدبغ وبغيره من المسلمين (١) انتهى كلامه طاب منامه.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في أول محرم سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليه‌السلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ٤٩.

٢٨٧
٢٨٨

سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(٢٣)

رسالة

في حكم لبس الحرير للرجال في الصلاة وغيرها

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ هـ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي

٢٨٩
٢٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أخرج من الزينة ، وأحلها لامائه وعباده (١) ، وشدد النكير على من حرمها عليهم في عتوه وعناده ، والصلاة على أشرف من نصبه حجة في أرضه وبلاده محمد وأوصيائه المرضيين من أحفاده وتلاده.

وبعد : فهذه جملة وافية فيما يتعلق بهذه المسألة التي اختلفت فيها آراء الاصحاب باختلاف ما نقل اليهم من الاخبار المروية عن ساداتهم المعصومين الاطياب ، حررتها اجابة لبعض اخواني في الدين ، وشركائي في طلب الحق واليقين ، فان أصبت فيها فمن الله ، وان أخطأت فمن عند نفسي ، عصمنا الله من الخطأ والزلل كائنا ما كان منهما في القول والعمل ، انه ملهم العقل وملقن الصواب ، ومنه المبدأ واليه المآب.

قال الحضرة العالمية العاملية صدر المحققين وبدر المدققين مولانا الفاضل آخوندنا أحمد الاردبيلي المجاور بالمشهد المقدس الغروي على مشرفه السلام ومجاوره رحمة الله وبركاته الى يوم القيام في شرحه على الارشاد ، بعد قول مصنفه العلامة قدس رمسه : « ويحرم الحرير المحض على الرجال الا التكة والقلنسوة » ثم قال :

__________________

(١) اشارة الى قوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ) « منه ».

٢٩١

« ويجوز الكف به ».

الظاهر أن عدم جواز الصلاة للرجال بل عدم اللبس الا في الحرب والضرورة مما لا خلاف فيه ، وعليه الاخبار أيضاً ، مثل صحيحة اسماعيل بن سعد الاشعري الثقة ، قال : سألته عن الثوب الابريسم هل يصلى فيه الرجال؟ قال : لا (١). ولا يضر الاضمار كما مر.

ومكاتبة محمد بن عبد الجبار الثقة في الصحيح قال : كتبت الى أبي محمد عليه‌السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة حرير محض وديباج ، فكتب : لا تحل الصلاة في حرير محض (٢). ولا تضر الكتابة لما مر ، وغيرهما من الاخبار.

فيحمل صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب ديباج ، فقال : ما لم تكن فيه التماثيل لا بأس (٣). على الممتزج أو الضرورة أو الحرب ، بحمل المطلق على المقيد الوارد في الاخبار والاجماع ، مع أنه قد يكون الديباج غير الحرير ، كما كان في الخبر السابق اشارة اليه من حيث العطف عليه.

وأما استثناء التكة والقلنسوة ونحوهما مما لا تتم الصلاة فيه ، فلا يظهر وجهه بل ظاهر الاخبار هو التحريم ، والمكاتبة صريحة في تحرم القلنسوة ، وهي العمدة في الاخبار في هذه المسألة.

وكذا صحيحة محمد بن عبد الجبار الثقة ، قال : كتبت الى أبي محمد عليه‌السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكة من حرير محض أو تكة من وبر الارانب. فكتب : لا تحل الصلاة في الحرير المحض ، وان كان

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٥ ، ح ٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٧ ، ح ١٨.

(٣) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٨ ، ح ٢٣.

٢٩٢

الوبر ذكياً حلت الصلاة فيه (١).

وفي هاتين المكاتبتين دلالة واضحة على عدم الجواز في مثل التكة والقلنسوة مما لا تتم الصلاة فيه.

فلا تعارضهما مشافهة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كلما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه ، مثل التكة الابريسم والقلنسوة والجورب والزنار يكون في السراويل يصلى فيه (٢).

لصحتهما ، وعموم صحيحة مشافهة اسماعيل المتقدمة ، وضعف سند هذه بأحمد ابن هلال ووحدتها ، واطلاقها فيحمل على المقيد بالممتزج أو الضرورة أو الحرب وما مر من الاصل وغيره لا ينفع ، فالتحريم أوضح ، وهو مذهب البعض (٣).

أقول : وبالله التوفيق ظاهر كلام المصنف العلامة يفيد حرمة الحرير المحض على الرجال مطلقاً من غير اعتبار حال دون حال ووقت دون وقت ، فيعم أوقات الصلاة وغيرها وحال الحرب والضرورة وغيرهما.

ولعله مقيد بقولنا « الا ما أخرجه الدليل » فلا ينافي جواز لبسه حال الحرب والضرورة ، لما روي أن رجلا من الصحابة يقال له عبد الرحمن بن عوف كان قملا فرخصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يلبسه (٤).

ولعله قدس‌سره أشار باستثناء ما استثناه الى أن النهي الوارد في الاخبار عن لبسه على الرجال انما هو محمول على الكراهة دون الحرمة لما ستعرفه ، وانما يدل على حرمة لبسه عليهم اجماع الاصحاب ، وهو لا يعم تلك المستثنيات ونحوها

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٧ ، ح ١٨.

(٢) تهذيب الاحكام ٢ / ٣٥٧ ، ح ١٠.

(٣) مجمع الفائدة ٢ / ٨٢ ـ ٨٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٥٣.

٢٩٣

مما لا تتم الصلاة فيه وحده ، فهو باق على اباحته الاصلية السالمة عن المعارض.

أو الى أن هاتين المكاتبتين وان دلا على حلية الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين ، والظاهر من نفي الحلية ثبوت الحرمة ، الا أنهم كثيراً ما يعبرون عن الكراهة بالحرمة كما سيأتي ، فلا تعارض بينهما وبين مشافهة الحلبي ، وقد صرح بذلك في التذكرة ، فانه بعد ذكر مشافهة الحلبي جمع بينها وبينهما بحملهما على الكراهة.

حيث قال : الاقوى جواز مثل التكة والقلنسوة من الحرير ، لقول الصادق عليه‌السلام : كل ما لا يجوز الصلاة فيه وحده لا بأس بالصلاة فيه ، مثل التكة والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه (١).

وفي رواية محمد بن عبد الجبار وقد كتب الى أبي محمد عليه‌السلام هل يصلى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج ، فكتب : لا تحل الصلاة في حرير محض (٢) يحمل على الكراهة انتهى كلامه رفع مقامه.

وفوق هذا كلام مسبوق بمقدمة هي أن اجتماع الضدين وان كان محال الا أن ارتفاعهما ليس بمحال.

وبعد تمهيدها نقول : ان الحلال والحرام لما كانا ضدين ، كما صرح به أهل اللغة ، كصاحب القاموس (٣) وصاحب النهاية (٤).

وهذا مما يساعده قانون العقل أيضاً ، اذ الخلاف الذي بين الحلال والحرام ليس فيما بين سائر الاقسام ، فان المكروه لا يعاند الحرام معاندة الحلال ، كما لا يعاند الحلال معاندة الحرام ، فنفي أحدهما لا يستلزم ثبوت الاخر ، لجواز الواسطة

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٣٥٧ ، ح ١٠.

(٢) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٧ ، ح ٢٠.

(٣) القاموس ٣ / ٣٦٠.

(٤) نهاية ابن الاثير ١ / ٤٢٨.

٢٩٤

بينهما ، فيجوز أن لا تكون الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين حلالا ولا حراماً بل تكون مكروهة لا بد لنفيه من دليل.

فقوله رحمه‌الله والمكاتبة صريحة في تحريم القلنسوة ، وكذا صحيحة محمد ابن عبد الجبار الثقة ممنوع ، وكذا قوله في هاتين المكاتبتين دلالة واضحة على عدم الجواز في مثل التكة والقلنسوة مما لا تجوز الصلاة فيه ممنوع ، والسند ما سبق.

وبهذا التوجيه أيضاً يرتفع التعارض بينهما وبين مشافهة الحلبي ، فهذا جملة من الكلام وافية في المرام ، وهو وجه استثناه ما استثناه فقهاؤنا الكرام رفع الله درجاتهم في دار المقام.

وان اشتهيت تفصيل هذه الجملة ، فاستمع ما ذا أقول لك أيها الاخ العلام : ان الذي يقتضيه قانون العمل بالاخبار والتوفيق بينها اذا تعارضت ، كما هو طريقة العلماء الاخيار ، اباحة لبس الحرير المحض مطلقاً ، والصلاة فيه كذلك على كراهة بحمل ما دل على النهي عنه ، وعدم حل الصلاة فيه عليها.

فان وروده بهذا المعنى كثير شائع ذائع في أخبار الصادقين سلام الله عليهم أجمعين ، حتى كأنه صار حقيقة عرفية فيه ، ومجازاً في الحرمة.

وانما وجب حمله عليه لانه معارض بأقوى منه ، فان صحيحة ابن بزيع المشافهة كما ترى قد دلت على اباحة الصلاة في ثوب ديباج على كراهة ، كما يشعر بها قوله عليه‌السلام « لا بأس » اذ المشهور أن نفي البأس يوهم البأس ، كما صرح به الشهيد الثاني رحمه‌الله في الدراية (١).

والديباج هو ثوب متخذ من الابريسم على ما في النهاية الاثيرية (٢).

__________________

(١) الرعاية ص ٢٠٥.

(٢) نهاية ابن الاثير ٢ / ٩٧.

٢٩٥

وفي شرح مولانا التقي النقي المجلسي على من لا يحضره الفقيه : الديباج معرب ديبا ، وهو الحرير الدقيق ويقال له : والا (١). انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.

وأما الذي دل على عدم الاباحة ظاهراً ، فهو وان كان صحيحاً أيضاً ، الا أنه بين مضمر ومكاتبة ، وحالهما عند المشافهة ظاهرة ، فان المكاتبة على تقدير حجيتها (٢) أنزل من المشافهة ، حتى أنهم يرجحون ما روي بالسماع على ما روي بالمكاتبة ، مع تساويهما في الصحة وغيرها من المرجحات ، فمقتضى قانون العمل بالاخبار أن يأول أضعف الخبرين المتنافيين في الدلالة الى ما يوافق الاقوى منهما ، لا أن يعكس الامر كما فعلوه.

فان قلت : لعل الباعث لهم على ذلك هو اجماع الطائفة الناجية.

قلنا : كلامنا الان في دلالة الاخبار ومقتضاها ، والتوفيق بينها على قواعدهم مع قطع النظر عن الاجماع ومقتضاه ، فانه على تقدير ثبوته انما انعقد على حرمة ما عدا تلك المستثنيات ، كما ستقف عليه إن شاء الله العزيز.

وانما قلنا ظاهراً لان دلالته عليه ليست بصريحة ، لما سبق أن نفي الحلية لا يستلزم ثبوت الحرمة ، بل غايته الكراهة.

ولئن سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم أن المراد بالحرام هنا ما يلزم فاعله ويعاقب كما هو المعروف بين الاصوليين ، بل المراد به المكروه.

__________________

(١) روضة المتقين ٢ / ١٥٧.

(٢) فيه اشارة الى أنها ليست بحجة عند بعضهم ، كالمحقق في المعتبر ، فانه بعد أن نقل فيه صحيحة الحسين بن سعيد قال : قرأت في كتاب محمد بن ابراهيم الى أبى الحسن الرضا عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب حشوه قز ، فكتب اليه وقرأته : لا بأس بالصلاة. ضعفها باستناد الراوى الى ما وجده في كتاب لا يسمعه من محدث « منه ».

٢٩٦

قال العالم الرباني مولانا أحمد الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد : بالغ ابن الجنيد وحرم في ظاهر كلامه الصلاة في ثوب علمه حرير ، بل حرم الدبج أيضاً ، ثم قال : الا أن يكون المراد الكراهة ، فانهم كثيراً يعبرون عنها بالتحريم (١).

أقول : فأي مانع أن يكون مراده بتحريم الصلاة في التكة الابريسم والقلنسوة والجورب ونحوها مما لا تتم الصلاة منفرداً أيضاً الكراهة ، فيكون موافقاً لسائر الاصحاب ونعم الوفاق.

والمفيد في المقنعة وان لم يستثن في ظاهر كلامه شيئاً مما استثناه غيره ، لكنه لم يصرح فيه بتحريم الصلاة في شي‌ء منه ، بل أبهم الامر وأجمله. فكلامه كما يحتمل هذا كذلك يحتمل ذاك ، بل ربما يشعر بتوقفه فيه.

فينحصر المخالف في هذه المسألة على الظاهر في محمد بن بابويه ، وهو قدس‌سره لكونه أخبارياً بل ظاهرياً قد يفرط في الحكم ، فتارة يحكم بوجوب ما ليس بواجب ، كما في القنوت وسورة الجمعة والمنافقين وما شاكلها ، واخرى يحكم بحرمة ما ليس حرام ، كما في مسألتنا هذه وفي ثوب محشو بالابريسم وما شابهها كما سيأتي هذه الجملة مفصلا بعون الله تعالى وحسن توفيقه.

ثم حمل صحيحة ابن بزيع على الضرورة أو الحرب ، كما حملها عليهما الشيخ في التهذيب (٢) ، وتبعه الفاضل الاردبيلي قدس أسرارهما وقال كما قال ونعم ما قال من قال : لم يبق للامامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك.

بعيد ، ينافره قوله « ما لم تكن فيه التماثيل » فان بالضرورة كالبرد الشديد المسقط للتكليف كما يباح الحرمة ، فبطريق أولى أن يباح به الكراهة ، والصلاة

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ / ٨٦.

(٢) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٨.

٢٩٧

في الثوب الذي فيه التماثيل مكروهة من غير فرق بين صورة الحيوان وغيره ، كصور الاشجار وغيرها.

والحرب على ما يفيده ظاهر المعتبر يجري مجرى الضرورة ، وأبعد منه حملها على الممتزج كما حملها عليه الشيخ في التهذيب أيضاً ، لان الديباج كما عرفته لا يطلق عليه ، وابن بزيع لا يسأل عنه ، لانه فاضل له كتب ، فكيف يكون هذا منه موضع سؤال ، وجواز الصلاة في الحرير الممتزج اجماعي.

وأيضاً فان نفي البأس عن الصلاة في ثوب ديباج مطلقا مع كونه مشروطاً بشرط لا يدل عليه اللفظ بعيد جداً ، بل ربما كان قبيحاً ، فيمتنع صدوره من الحكيم وكيف يصح منه تقييده بنفي ما لا مدخل له في صحة الصلاة ، بل غايته الكراهة وعدم تقييده بما له مدخل فيها ، وهو شرط لصحتها ، فان الامتزاج أو الضرورة أو الحرب على هذا الجمع والتوفيق شرط لصحة الصلاة في هذا الثوب ، واللفظ لا يدل عليه بوجه.

ونظير هذا يرد على ما حمل رحمه‌الله مشافهة الحلبي عليه ، فتأمل فيه تعرف.

وبوجه آخر : لو سلمنا أن الاضمار غير مضر ، بناءاً على أن اسماعيل بن سعد بن الاحوص الاشعري القمي الثقة من أصحاب سيدنا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فالظاهر أنه المسؤول لا غيره.

ولكن لا نسلم دلالته على عدم جواز صلاة الرجل في الثوب الابريسم ، بمعنى بطلانها فيه ، لان النهي في العبادات انما يفسدها اذا كان للتحريم ، والظاهر أن النهي هنا للتنزيه ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع : لا بأس بالصلاة في الثوب الديباج ما لم تكن فيه التماثيل (١).

وبذلك يحصل التلاؤم بين هاتين الصحيحتين المشافهتين كلتيهما من مولانا

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٠٨ ، ح ٢٣.

٢٩٨

أبي الحسن الرضا عليه‌السلام لا بما تكلفه رحمه‌الله تبعاً للاخرين.

وأما حديث المطلق والمقيد ، فنحن نقول به ونعمل بمقتضاه ، لانا نقول في صورة ثبوت هذا القيد ، وهو الضرورة ، أو الحرب ، أو الامتزاج ، تزول الكراهة بالكلية ، وفي صورة انتفائه تثبت.

ومما يؤيد جواز الصلاة في الحرير المحض ، اطلاق القول في قوله تعالى ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (١) وعدم الزينة المفهوم من قوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ) (٢).

والقول بتقييد اطلاق الاوامر وتخصيص الزينة بالاخبار المتقدمة ، مجاب بأن هذه الاخبار غير منافية له ، لكونها محمولة على الكراهة توفيقاً بينها وبين ما ينافيها. نعم لو ثبت الاجماع على منعه ، فهو المتبع ، وهو المقيد والمخصص ، لكنه لا يعم تلك المستثنيات كما ستعرفه.

وأما ما ذكره من مغايرة الديباج الحرير مستدلا عليه بأنها مما يقتضيه عطفه عليه في الخبر السابق ، ففيه ما عرفته ، أولا : أنه يجوز أن يكون ديباج عطفاً على قلنسوة لا على حرير ، فيكون المسؤول عنه أولا هو الصلاة في قلنسوة حرير محض.

وثانياً : هو الصلاة في ديباج أعم من أن يكون قلنسوة أو ثوباً أو غيرهما ، ولما سبق السؤال عن القلنسوة ، تعين أن يكون المراد هنا هو الثوب ونحوه ، فيندفع ما ذكره من دلالة العطف على مغايرة الديباج الحرير.

وثالثاً : أنه من باب عطف الخاص على العام يبثها على موضع الاهتمام ، يدل عليه ما قال آخوندنا الفاضل التقي رحمه‌الله في شرحه على الفقيه بعد قول مصنفه « وقال أبي في رسالته الي : ولا تصل في ديباج » : وهذا تعميم بعد

__________________

(١) سورة الاعراف : ٣١.

(٢) سورة الاعراف : ٣٢.

٢٩٩

التخصيص (١).

فانه صريح فيما قلناه ، ولكنه تخصيص بعد التعميم ، هذا شائع في محاورات الفصحاء ، ذائع في كلمات البلغاء ، مع أن مطلق العطف لا يدل على المغايرة ، فان من أقسامه عطف الشي‌ء على مرادفه ، كما في ( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (٢) و ( لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) (٣) وما شاكل ذلك.

ورابعاً : أن الديباج لو كان غير الحرير ، كما استفاده قدس‌سره من العطف لزم منه أن لا يكون قوله « لا نحل الصلاة في حرير محض » جواباً عنه ، فيكون هذا السؤال غير مجاب عنه من غير وجه ، وهو عليه‌السلام كان مسؤولا عنه.

وخامساً : أنه يلزم منه أن لا يكون لتخصيص السائل خصوص الديباج وهو غير حرير بالذكر وجه ظاهر ، وهو رجل فاضل معمر أدرك من الائمة ثلاثة أو ستة (٤) ، مع أنه لا يتصور لسؤاله عنه منشأ غير كونه حرير ، ولذلك أجاب عنه الامام عليه‌السلام بجواب واحد.

واعلم أن المكاتبة الاولى موجودة في نسخ شرحه بدون لفظة قلنسوة قبل

__________________

(١) روضة المتقين ٢ / ١٥٧.

(٢) سورة يوسف : ٨٦.

(٣) سورة طه : ١٠٧.

(٤) منشأ الترديد ما رواه الشيخ في التهذيب في باب ما يخرج من الزكاة وأقل ما يعطى عن أحمد بن عيسى عن محمد بن أبي الصهبان ، قال : كتبت الى الصادق عليه‌السلام الحديث ، والمراد بمحمد هذا هو محمد بن عبد الجبار ، فان أريد بالصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام وهو المتبادر يظهر منه أنه أدرك منهم ستة وان أول الى الامام الصادق وأريد به أبو محمد العسكري عليه‌السلام فباتفاق أرباب الرجال أنه أدرك ثلاثة ، منهم الجواد والهادي والعسكري عليهم‌السلام « منه ».

٣٠٠