الرسائل الفقهيّة - ج ١

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

الرسائل الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيْمِ

الحمد لله الذي أباح لنا الوضوء مما غيرت النار ، والصلاة على رسوله محمد سيد الابرار ، وعلى عترته المعصومين أسانيد الاخيار.

وبعد : فهذا حديث اختلفوا في معناه ، فأردت نقل ما قالوه وتفصيل ما أجملوه ثم ترجيح ما هو أرجح عندي.

فأقول : وأنا العبد الانس بربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل عفي عنه ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : توضؤوا مما غيرت النار (١).

يمكن أن يكون هذا منه عليه‌السلام اباحة لهم في الوضوء من ماء سخنته النار وغيرت برودته ، فانه عليه‌السلام لما نهى عن استعمال ماء أسخن بالشمس ، وعلله بأنه يورث البرص.

كما في رواية ابراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال : يا حميراء ما هذا؟ فقالت : أغسل رأسي وجسدي ، فقال : لا تعودي فانه يورث البرص (٢).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ١٦٣ ، ح ٤٨٥.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٣٦٦ ، ح ٦.

٢٤١

أوهم ذلك أن كل ماء مسخن حكمه ذلك ، فدفعه باباحة الوضوء من ماء غيرته النار ، فالامر فيه للاباحة ، كقوله ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) (١) كأن المخاطبين توهموا أن ليس لهم أن يتوضؤوا من ماء سخنته النار فأباح لهم ذلك وقال : توضؤوا منه.

فالوضوء فيه بمعناه الشرعي ، كما هو المتبادر من الاطلاقات الشرعية ، والعائد الى الموصول محذوف.

وكلمة « من » فيه : اما مرادفة للباء ، نحو « يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ » (٢) على ما قاله يونس ، أو لبيان الجنس فانك اذا قلت توضأت ، يقال : من أي ماء؟ تقول من ماء حار ، تأمل في هذا تعرف.

وهذا لو لم يكن أجود مما حمله عليه السيد السند المرتضى فليس بأدون منه فان فيما حمله عليه تكلفات.

أما أولا ، فلانه حمل (٣) الوضوء فيه على معناه اللغوي ، وهو اذا كان الكلام من صاحب الشرع بعيد.

وأما ثانياً ، فلانه لا بد فيه من القول بحذف المضاف في قوله « مما » أي : توضؤوا من مس ما غيرته النار ، والحذف خلاف الاصل ، وانما يصار اليه اذا كانت هناك قرينة واضحة ، أو لم يصح الكلام بدونه ، وهما هنا ممنوعان. وأما حذف العائد ، فمشترك بين الوجهين ، وهو شائع.

وأما ثالثاً ، فلانه يلزم من حمله هذا رجحان غسل اليد بمجرد مس الخبز

__________________

(١) سورة البقرة : ٦٠.

(٢) سورة الشورى : ٤٥.

(٣) حمل الوضوء في عرف الشرع على الوضوء اللغوي الذي هو مجاز في هذا العرف بدون قرينة واضحة كما هنا بعيد جداً « منه ».

٢٤٢

ونحوه مما مسته النار ، وتخصيصه بماله زهومة وغمر كأنه غير سديد ، فتأمل.

قال قدس‌سره في الغرر والدرر : تأويل خبر ان سأل سائل عن الخبر الذي يروي عن زيد بن ثابت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : توضؤوا مما غيرت النار.

فقال : ما المراد بالوضوء ها هنا ومذهبكم أن مس ما غيرته النار لا يوجب وضوءاً؟ الجواب : أن معنى توضؤوا أي نظفوا أيديكم من الزهومة ، لانه روي أن جماعة من الاعراب كانوا لا يغسلون أيديهم من الزهومة ، فيقولون : فقدها أشد من ريحها ، فأمر عليه‌السلام بتنظيف الايدي لذلك.

فان قيل : كيف يصح أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوي؟ مع انتقاله بالعرف الشرعي الى الافعال المخصوصة ، بدلالة أن من غسل يده أو وجهه لا يقول بالاطلاق توضأت ، ومتى سلم لكم أن الوضوء أصله من النظافة ، لم ينفعكم مع الانتقال الذي ذكرناه ، وكلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخص بالعرف الشرعي ، وحمله عليه أولى من حمله على اللغة.

أقول : حاصل السؤال يرجع الى ما تقرر في أصول الاصحاب من أن الشارع اذا أمرنا بأمر أو حكم علينا حكماً وخاطبنا بلفظ.

فان كان له حقيقة شرعية حملناه عليها ، كما اذا قال : توضؤوا فان الوضوء في اللغة النظافة ، وفي الشرع الافعال المخصوصة ، فنحمله على حقيقته الشرعية وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك.

وان لم تكن له حقيقة شرعية ، وجب حمله على الحقيقة العرفية ان كان له في العرف حقيقة ، والا رجعنا فيه الى الحقيقة اللغوية ، فجعلوا الرجوع اليها بعد أن لم يكن له حقيقة في الشرع ولا في العرف ، وهنا له حقيقة شرعية ، فحمله عليها أولى من حمله على الحقيقة اللغوية.

فما أجاب عنه به السيد السند بقوله قلنا : ليس ننكر أن يكون اطلاق الوضوء

٢٤٣

هو المنتقل من اللغة الى عرف الشرع والمختص بالافعال المعينة ، وكذلك المضاف منه الى الحدث أو الصلاة وما أشبههما. فأما المضاف الى الطعام وما يجري مجراه فباق على أصله.

ألا ترى أنهم لو قالوا : توضأت من الطعام ومن الغمرة ، أو توضأت للطعام لم يفهم منه الا الغسل والتنظيف ، فاذا قال : توضأت اطلاقاً ، وتوضأت من الحدث أو للصلاة ، فهم منه الافعال الشرعية ، فليس ينكر ما ذكرنا من اختصاص النقل ، لانه كما يجوز انتقال اللفظة من فائدة في اللغة الى فائدة في الشرع على كل وجه ، فكذلك يجوز أن ينتقل على وجه ويبقى من الوجوه التي لم تنتقل منه على ما كان عليه في اللغة.

محل تأمل ، مع أن هذا الخبر ليس من قبيل قولهم « توضأت من الطعام » فان الوضوء فيه لم يضف الى الطعام وما يجري مجراه ، بل هو من قبيل قولهم « توضأت » اطلاقاً ، ولذلك ذهب قوم من الفقهاء الى أن المراد به وضوء الصلاة وذلك لان كلمة « ما » كما يصح حملها على الطعام ونحوه يصح حملها على الماء الحار ، بل حملها عليه أولى ليكون الوضوء على معناه الشرعي من غير مزاحمة شبهة ، مع غنائه عن الحذف كما سبق فتأمل.

ثم قال قدس‌سره متصلا بما نقلناه عنه آنفاً : وقد ذهب كثير من الناس الى أن اطلاق لفظة « مؤمن » منتقل من اللغة الى عرف الدين ومختص باستحقاق الثواب ، وان كان مقيدها باقياً على ما كان عليه في اللغة.

ويبين ذلك أيضاً ما روي عن الحسن أنه قال : الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم. وانما أراد غسل اليد بغير شك.

وروى عن قتادة أنه قال : غسل اليد وضوء. وروى عكرش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أكل وغسل يده ومسح ببل يده وجهه وذراعيه ورأسه وقال : هكذا الوضوء مما

٢٤٤

مست النار.

على أنه لو كانت هذه اللفظة منتقلة على كل حال الى الافعال الشرعية المخصوصة لصح أن نحملها في الخبر على خلاف ذلك ، ونردها الى أصلها بالادلة ، وان كان الاولى لو لا الادلة أن نحمل على مقتضى الشرع.

فمن الادلة ما رواه ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكل كتف شاة وقام وصلى ولم يتوضأ.

وروى عطاء عن أم سلمة قالت : قربت جنباً مشوياً الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأكل منه وصلى ولم يتوض.

وروى محمد بن المنكدر عن جابر أنه قال : كان آخر أمري من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك الوضوء مما مست النار.

وكل هذه الاخبار يوجب العدول عن ظاهر الخبر الاول لو كان له ظاهر ، فكيف وقد بينا أنه لا ظاهر له ، ثم طول الكلام في اشتقاق الوضوء بما لا طائل هنا تحته (١).

أقول : غاية ما دلت عليه هذه الادلة أن الوضوء في اللغة أو في عرف الشرع قد يطلق ويراد به النظافة وغسل اليد مع القرينة ، وهذا يؤذن بأن اطلاقه عليها مجاز في هذا العرف ، فيكون بدون القرينة كما فيما نحن فيه حقيقة في الافعال المخصوصة.

فهذه الادلة لنا لا علينا. فكيف توجب العدول عن ظاهر الخبر ، وقد عرفت أن له ظاهراً ، على أن خبر جابر ليس بنص فيما رامه ، بل لا دلالة لشي‌ء من هذه الاخبار عليه ، فان أكل الطعام كما يصح أن يكون قرينة على المعنى اللغوي ، كذلك القيام الى الصلاة يصح أن يكون قرينة على المعنى الشرعي ، والقرينتان متعارضتان

__________________

(١) أمالى السيد المرتضى ٢ / ٥٨ ـ ٥٩.

٢٤٥

متكافئتان ، فاذا تعارضتا تساقطنا.

فلا يصح الاستدلال بشي‌ء من هذه الاخبار ، على أن المراد بالوضوء المذكور فيها فضلا عن المذكور في غيرها هو المعنى اللغوي ، فما جعله دليلا على وجوب العدول عن ظاهر الخبر الاول غير صالح له ، بل هو باق على ظاهره ، كما ستطلع عليه إن شاء الله.

قال ابن الاثير في النهاية : الوضوء بالفتح الماء الذي يتوضأ به ، كالفطور والسحور لما يفطر عليه ويتسحر به ، والوضوء بالضم : التوضؤ والفعل نفسه ، يقال : توضأت أتوضأ توضؤاً ووضوءاً ، وقد أثبت سيبويه الوضوء والطهور والوقود بالفتح في المصادر ، فهي تقع على الاسم والمصدر ، وأصل الكلمة من الوضاءة وهي الحسن ، ووضوء الصلاة معروف ، وقد يراد به غسل بعض الاعضاء.

ومنه الحديث « توضؤوا مما غيرت النار » أراد به غسل الايدي والافواه من الزهومة. وقيل : أراد به وضوء الصلاة ، وقد ذهب اليه قوم من الفقهاء ، ومنه حديث الحسن « الوضوء بعد الطعام ينفي الفقر وقبله ينفي اللمم ».

كذا في نسخة عندنا ، والصواب ما نقله عنه السيد فيما مضى أنه قال : الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ، وقد ورد مثله في أخبارنا أيضاً.

ثم قال ابن الاثير : ومنه حديث قتادة « من غسل يده فقد توضأ » (١).

ويمكن أن يستفاد من تضاعيف البحث أن الخبر الاول كان محكماً في برهة من الزمان ، ثم نسخ بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واليه يشير خبر ابن عباس وأم سلمة وجابر ابن عبد الله الانصاري ، اذ الوضوء فيها محمول على معناه الشرعي ، ويدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوضأ وضوء الصلاة من مس ما غيرته النار ، ثم ترك الوضوء منه في أواخر عمره.

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ٥ / ١٩٥ ، وفيه الوضوء قبل الطعام الى آخره.

٢٤٦

فان من البعيد أن يأكل كتف شاة وجنباً مشوياً منها ولم يغسل يده منه ، مع نظافته ونزاهته المشهورة ومبالغته في غسل الايدي والافواه من الزهومة ، وسيما حال الصلاة ومناجاة رب العزة.

فقول بعض الفقهاء أنه أراد به وضوء الصلاة حق ، ولكن ذهابهم اليه بعد نسخه بفعله ، فانه كقوله حجة لقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي (١). وقد صلى بعد أكل ما غيرته النار من غير وضوء باطل ، ولعلهم عثروا على المنسوخ ولم يعثروا على الناسخ ، أو لم يتفطنوا أنه ناسخ له كغيرهم ، فأبقوه الان على ما عليه كان ، وهذا خطأ منهم ، وهم فيه معذورون لو كان الامر كما سبق ، فتأمل.

ومنه يعلم وجه قول السائل في مقام السؤال ، ومذهبكم أن مس ما غيرته النار لا يوجب وضوءاً ، فان الامامية وأكثر أهل السنة لا يوجبون ذلك مطلقاً لا وجوباً ولا استحباباً ، كما يفيده تنكير الوضوء الواقع في سياق النفي : اما لكونه منسوخاً ، أو لما ذكرناه ، أو ذكره السيد السند وابن الاثير ، مع أصالة عدم وجوب الوضوء بل استحبابه بذلك.

وهذا ـ أي : جواب من استدل به على وجوب وضوء الصلاة ، أو استحبابه مما غيرته النار بكونه منسوخاً ـ هو الاولى ، لا ما أجاب به عنه السيد تبعاً للاخرين فانه كما عرفته مشتمل على تكلفات مستغن عنها بما ذكرناه ، فتأمل.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٤) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليه‌السلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ١٩٨ ، ح ٨.

٢٤٧
٢٤٨

سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(١٩)

رسالة

في حكم الغسل في الارض الباردة ومع الماء الباردة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ هـ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي

٢٤٩
٢٥٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيْمِ

في التهذيب بثلاث طرق صحيحة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كان في أرض باردة ، فيتخوف ان هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال : يغتسل وان أصابه ما أصابه.

قال : وذكر أنه كان وجعا شديد الوجع ، فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح باردة ، فدعوت الغلمة فقلت لهم : احملوني فاغسلوني فقالوا : انا نخاف عليك ، فقلت : ليس بد ، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني (١).

وفيه عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى أن يكون الماء جامداً ، قال : يغتسل على ما كان ، حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهراً ، فقال : اغتسل على ما كان ، فانه لا بد من الغسل. وذكر أبو عبد الله عليه‌السلام أنه اضطر اليه وهو مريض فأتوا به متسخناً (٢) فاغتسل وقال : لا بد

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٩٨ ، ح ٤٩ وح ٥١.

(٢) في التهذيب : مسخناً.

٢٥١

من الغسل (١).

وحمل الشيخ في الاستبصار هذا الخبر على من تعمد الجنابة ، وقال : ان من فعل ذلك ففرضه الغسل على أي حال كان (٢).

أقول : هذا حمل بعيد لا يتمشى في الخبر المتقدم ، فان عاقلا لا يتعمد الجنابة وهو مريض مرضاً شديداً لا يقدر معه على حركة أصلا ، كما يصرح به قوله « فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا علي الماء ».

وخاصة اذا كان في أرض باردة وليلة شديدة الريح والبرد ، وكان يتخوف ان هو اغتسل أن يصيبه عنت ومشقة من الغسل أيضاً ، وهو يعلم أنه ليس له بد من الغسل على أي حال وان أصابه منه ما أصابه ، وكيف يتعمد الجنابة ويقصد الجماع وهو لشدة الوجع لا يقدر عليه؟

فحمل هذا الخبر وما شاكله على من تعمد الجنابة يأباه سوق الكلام.

وفي الخبر الثاني اشكال من وجه آخر ، وهو أنه لا سبيل للقول باحتلام المعصوم ليضطر الى الغسل وتعمد جنابته وهو مريض يعلم أنه لا بد له من الغسل بعيد ، وكيف يفعل المعصوم باختياره ما يصير به مضطراً.

الا أن يقال : ان تلك الجنابة كانت نافعة لدفع مرضه أو تخفيفه ، ففعل ذلك لذلك فاضطر اليه ، وهذا ينافي الغرض المسوق له الكلام ، اذ حينئذ يستفاد منه أن دفع الضرر البدني بما أمكن ومهما أمكن شرعاً ضروري ، فكيف يأمر بما يورث المرض المديد ويوجب الضرر الشديد.

هذا وأورد في التهذيب في الاستدلال على ما ذهب اليه المفيد من وجوب الغسل على متعمد الجنابة وان خاف على نفسه حديثين ضعيفين صريحين في ذلك

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) الاستبصار ١ / ١٦٢.

٢٥٢

وأورد بعدهما هذا الحديث وما قبله (١).

أقول : ويؤيده ما في الفقيه وسئل الصادق عليه‌السلام عن مجدور أصابته جنابة ، فقال : ان كان أجنب هو فليغتسل ، وان كان احتلم فليتيمم (٢).

فانه صريح في أن من تعمد الجنابة وجب عليه الغسل ، لايجاده السبب وان تضرر وخاف على نفسه.

والمتأخرون خالفوا في ذلك وأوجبوا عليه التيمم ، لعموم قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٤).

واستدل بعضهم على ذلك بأن دفع الضرر المظنون واجب عقلا ، وبأن الجماع جائز اجماعاً ، فلا يترتب على فاعله مثل هذه العقوبة.

وحمل بعضهم هذين الحديثين على ما اذا كان الضرر المتوقع يسيراً.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره : وللمنتصر للشيخين أن يقول : ان الحمل على الضرر اليسير يأباه سوق الكلام في الحديثين ، والتكليف بتحمل ضرر الغسل مع جواز الوطي غير مستبعد ، كتكليف المحرم بالكفارة عند تغطية رأسه لمرض ، على أن انعقاد الاجماع على اباحة الوطي مع العلم بعدم الماء محل كلام ، وسيما بعد دخول الوقت ، ووجوب الالقاء الى التهلكة بعد أمر الشارع غير قليل ، كوجوب تمكين القاتل ولي الدم من القود ، وتمكين المقذوف من استيفاء الحد ، والله أعلم (٥).

أقول : فرق بين الضرر المالي المقدور الممكن تحمله لدفع ضرر بدني

__________________

(١) التهذيب ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٠٧.

(٣) سورة الحج : ٧٨.

(٤) سورة البقرة : ١٩٥.

(٥) مشرق الشمسين ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

٢٥٣

والضرر البدني المظنون أنه يؤدي الى الهلاكة ، أو الوجع الشديد ، والمرض المديد المانع من كثير من الطاعات والعبادات وتحصيل الكمالات النفسانية والبدنية ، فان تحمله غير واجب ، بل الواجب عقلا ونقلا دفعه مهما أمكن.

ولذلك رخص الشارع تغطئة الرأس وأمر بالكفارة ، لان دفع الضرر البدني عنده أهم من دفع الضرر المالي ، فقياس أحدهما على الاخر قياس معه فارق. ثم من الظاهر أن أحداً من علماء الامة لم يقل بتحريم الوطي عند العلم بعدم الماء ، وخاصة اذا كان الوطي لدفع ضرر بدني ، أو غلبة شهوة مشوشة مخرجة عن حد الحضور في العبادات.

قال الصدوق في الفقيه : وأتى أبو ذر رحمه‌الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحمل فاستترنا به وبماء فاغتسلت أنا وهي ، ثم قال : يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين (١).

وهذا صريح في اباحة الوطي مع العلم بعدم الماء ، وفي الاكتفاء بالتيمم وان طال الزمان كما قال به المتأخرون.

وأما وجوب تمكين القاتل والقاذف ، فليس من باب الالقاء الى التهلكة بل هو من باب النجاة منها ، بخلاف ترك التيمم والاتيان بالغسل في الصورة المفروضة ، فانه القاء الى التهلكة المنهي عنه عقلا ونقلا ، ولا أقل من أن يكون داخلا في باب العسر المنفي بقوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢).

نمقه بيمناه الجانية الفانية العبد الجاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (٢٥) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليه‌السلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٠٨ ، برقم : ٢٢٢.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٢٥٤

سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(٢٠)

رسالة

في أفضلية التسبيح على القراءة في الركعتين الاخيرتين

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ هـ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي

٢٥٥
٢٥٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله الذي فضل التسبيح على فاتحة الكتاب ، والصلاة على نبيه الذي أوتي فصل الخطاب ، وعلى آله المعصومين وعترته الممتازين في كل باب.

وبعد : فان السبب المقدم لنا على تأليف هذه العجالة وترتيب هذه الرسالة أني كنت ليلة من شهر الله الاعظم في صحبة بعض الاصحاب في دار ضيافة.

فانجر كلامنا مع بعض الاحباب الى المفاضلة بين القراءة والتسبيح ، فقال : اني كنت منذ مدة كذا وكذا متحيراً فيه ومتردداً الى أن استخرت بالله ربنا في اختيار أحدهما ، فاستبان لي أن القراءة أفضل من التسبيح.

قلت : ان المراد بالافضل هنا الاكثر ثواباً ، وهذا أمر لا يحصل العلم به الا باخبار من أخبره الله ورسوله بذلك ، وحينئذ فلا بد في زماننا هذا من الرجوع الى الاخبار المنقولة عن الاخيار ، فما دلت عليه في باب المفاضلة فهو المتبع.

فشرعت في نقلها وترجيح بعضها على بعض سنداً ومتناً ، مستعيناً بالله ومتوكلا عليه ومفوضاً أموري كلها اليه.

فأقول وأنا العبد الضعيف النحيف الفاني الجاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني عفي الله عنهما : اختلف الاصحاب باختلاف الاخبار في أن القراءة في ثالثة المغرب والاخيرتين من الظهرين والعشاء الآخرة ، هل هي

٢٥٧

أفضل مطلقا من التسبيح ، أو التسبيح أفضل مطلقا منها ، أو هما متساويان في الفضيلة ، أو القراءة أفضل للامام وللمنفرد التسبيح؟ فذهب الى كل ذاهب منا.

فالاول ذهب اليه التقي (١) ، لرواية محمد بن حكيم ، وهو وان كان صاحب كتاب ومن متكلمي أصحابنا ، الا أنهم لم ينصوا فيه بتوثيق ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام أيما أفضل القراءة في الركعتين الاخيرتين أو التسبيح؟ فقال : القراءة أفضل (٢).

والثاني ذهب اليه ابن ادريس وابن بابويه ، لرواية محمد بن عمران ، قال التقي المتقي في شرحه على الفقيه : طريق الصدوق اليه حسن وكتابه معتمد (٣).

والظاهر أنه كان في نسخته قدس‌سره محمد بن حمران بالحاء المهملة ، فان للصدوق اليه ثلاث طرق كلها حسن ، وله كتاب معتمد ، ولكن المذكور في نسخ الفقيه هنا محمد بن عمران بالعين المهملة ، وطريق الصدوق اليه ضعيف ، وهو نفسه مجهول ، ولا كتاب له أصلا ، معتمداً أم غير معتمد.

قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت لاي علة صار التسبيح في الركعتين الاخيرتين أفضل من القراءة؟ فقال : لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما كان في الاخيرتين ذكر ما رأى من عظمة الله عزوجل فدهش ، فقال : سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ، فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة (٤).

وقال ابن أبي عقيل : التسبيح أفضل ولو نسي القراءة في الاولتين ، لرواية معاوية بن عمار عن الصادق عليه‌السلام في ناسي القراءة في الاولتين فيذكر في الاخيرتين ،

__________________

(١) المراد به أبو الصلاح « منه ».

(٢) تهذيب الاحكام ٢ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) روضة المتقين ١٤ / ٢٤٣.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٠٩.

٢٥٨

قال : اني أكره أن أجعل آخر صلاتى أولها (١).

وذهب الشيخ في الاستبصار الى أن الامام الافضل له القراءة (٢) ، وهذا هو القول بالتفصيل ، وهو أن القراءة أفضل للامام وللمنفرد التسبيح ، واستحسنه العلامة في التذكرة ولم يعلله بشي‌ء.

وفي صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا كنت اماماً فاقرأ في الركعتين الاخيرتين بفاتحة الكتاب ، وان كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل (٣).

وفي رواية جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما يقرأ الامام في الركعتين في آخر الصلاة ، فقال : بفاتحة الكتاب ولا يقرأ الذين خلفه ويقرأ الرجل فيهما اذا صلى وحده بفاتحة الكتاب (٤).

وقال ابن الجنيد : يستحب للامام التسبيح اذا تيقن أنه ليس معه مسبوق ، وان علم دخول المسبوق أو جوزه قرأ ليكون ابتداء الصلاة للداخل بقراءة والمأموم يقرأ فيهما ، والمنفرد يجزيه ما فعل.

وذهب الشيخ في أكثر كتبه الى أنهما متساويان في الفضيلة ، لموثقة علي ابن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الركعتين الاخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال : ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب ، وان شئت فاذكر الله فهو سواء ، قال قلت : فأي ذلك أفضل؟ فقال : هما والله سواء ان شئت سبحت وان شئت قرأت (٥).

أقول : علي بن حنظلة لا قدح فيه ولا مدح ، سوى أنه كان من رواة الباقرين

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ١٤٦ ، ح ٢٩.

(٢) الاستبصار ١ / ٣٢٢.

(٣) تهذيب الاحكام ٢ / ٩٩.

(٤) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٩٥ ، ح ٤٢.

(٥) تهذيب الاحكام ٢ / ٩٨ ، ح ١٣٧.

٢٥٩

عليهما‌السلام. ولا يخفى أن سؤاله عن أفضلية أحدهما على الاخر بعد حكمه عليه‌السلام بأنهما متساويان في الفضيلة مما لا محل له ، بل هو مما يدل على سوء فهمه ، أو عدم اذعانه بما قال الامام عليه‌السلام ، ولذلك أكده بالقسم في قوله « هما والله سواء » ومن هذا شأنه فالاعتماد على روايته مشكل ، فروايته هذه مما يقدح فيه ، فتأمل.

فصل

ظاهر الصدوق يفيد تعين التسبيح مطلقا للامام والمنفرد ، واستشهد عليه بما رواه باسناده المعتبر عن الفضل بن شاذان في جملة العلل التي ذكرها عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : انما جعل القراءة في الركعتين الاولتين والتسبيح في الاخيرتين للفرق بين ما فرض الله عزوجل من عنده وبين ما فرض الله من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١). قيل (٢) : ولما كانت الاخبار المتواترة مع الاجماع دالتين على التخيير بينهما ، فيحمل الخبر على أنه يتعين الحمد فيما فرضه الله ويجوز التسبيح فيما فرضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا القدر كاف للفرق (٣).

أقول : وفيه تكلف ، لان صريح الخبر كما يدل على تعين الحمد فيما فرضه الله يدل على تعين التسبيح فيما فرضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحمل أحدهما على الجواز والاخر على الوجوب لا يخلو من تعسف ، ودعوى التواتر والاجماع مع مخالفه مثل الصدوق غير مسموعة.

كيف؟ وقد قيل : لم يتحقق الى الان خبر خاص بلغ حد التواتر الا واحد

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٠٨.

(٢) المراد بهذا القائل مولانا التقى المتقى قدس‌سره « منه ».

(٣) روضة المتقين ٢ / ٣١١.

٢٦٠