لماذا الاختلاف في الوضوء

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-77-x
الصفحات: ١٠٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حالة الوضوء (١) ، وقال هو عن نفسه بأنّه لم يمدّ يده اليُمنى إلى ذَكَره منذ بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وغيرها من حالاته التي تنمّ عن نفسية مهيّأة للتزيّد والمبالغة في التنظف.

٣ ـ استفادة عثمان من كون الوضوء نظافة وطهارة ، فلذلك يكون عنده تثليث الغسلات وغسل الممسوحات أكثر نظافة وطهارة ، ولا غضاضة في ذلك من وجهة نظره وإن خالفت السنّة النبوية.

٤ ـ وجود أحاديث نبويّة أمكنه الاستفادة منها في طرح وضوئه الغَسلي ، كاستفادته من إحسان الوضوء ، لأنّه كان قد قال بعد وضوئه الغسلي : « والله لأحدثنكم حديثاً ، والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ، ثمّ يصلي إلاّ غُفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها » (٣). واستُفيد من بعده من

______________________________

وفسروها بأنه كان يغتسل كل يوم ، قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ٣ : ١١٥ « ومراده لم يكن يمر عليه يوم إلا اغتسل فيه ، وكانت ملازمته للاغتسال محافظة على تكثير الطهر » فلو كان معنى صدر الحديث الاغتسال فان ذيل الحديث يؤكد تطهره. واغتساله خمس مرات لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلى هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات بينها ، إذ انهم وتوحيدا لصدر الرواية مع ذيلها كان عليهم أن يقولوا باغتساله خمس مرات في اليوم لكنهم حملوا ذيل الخبر على الوضوء وصدره على الغسل.

(١) سنن الدارقطني ١ : ٩٦ ، كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ٢٦٨٨٨.

(٢) قال : ما مستُ ذَكَري بيميني مذ بايعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !! سنن ابن ماجة ١ : ١١٣ ، المحلى ٢ : ٧٩ ، تاريخ دمشق ٣٩ : ٢٢٥.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٢٠٦ / ح ٦.

٦١

« أسبغوا الوضوء » ومن « ويل للأعقاب من النار » للتدليل على الغسل.

٥ ـ إنّه حين الثورة عليه كان يحاول تكثيف هالة القدسية حول نفسه ليدفع الثوار عن قتله ، فكان يذكّرهم مواقفه وشراءه بئر رومة وغير ذلك (١) ؛ ليثبّت بقاءه على الإيمان ، فكان الوضوءُ الجديدُ خطوةً في هذا الدرب ، إرادةً منه معالجة الموقف ، لكنه عالج الداء بالداء لا بالدواء.

٦ ـ كان يحاول إشغال الناس بالخلافات الفقهية ، والمناقشات فيها ، لدفعهم عن قتله وعن الخوض في مساوئ سياسته المالية والإدارية ، وذلك ما حصل بالفعل في كثير من آرائه ، آرائه أنّ النتيجة لم تكن محمودة العاقبة بالنسبة له ، ولذا قال الإمام علي بأنّ عمله هو الذي أجهز عليه (٢).

٧ ـ ومن أهم دوافع إبداعاته هو التفاف الأمويين حوله ، محاولين بناء مجد فقهي سياسي جديد ، وهذا هو الذي أبعد بعض كبار الصحابة كابن مسعود وابن عباس و ... من التعاون معه ، مما خلق عنده فراغاً فقهيا ملأه الدهاء الأمويّ المتنفّد في عهده.

٨ ـ وجود حالة الاستسلام عند كثير من الصحابة ، والتي جعلت الخليفة لا يتورّع عن طرح ما يرتأبه ، لأنّ غاية معارضتهم أن تنتهي

______________________________

(١) اُنظر : تاريخ الطبري ٣ : ٤١٥ و ٤٣٤ ، والبداية والنهاية ٧ : ١٩٨ و ٢٠٠.

(٢) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف حكومة عثمان : إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيلة ومعتلفة ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ... نهج البلاغة ١ : ٣٥ / الخطبة ٣.

٦٢

بمجرد قوله : « رأي رأيته » (١) ، أو بقولهم : « الخلاف شر » (٢) ، و « إنّ عثمان إمام فما أخالفه » (٣) ، ممّا يعني رسوخ ما يطرح الخليفة في نهاية المطاف.

٩ ـ تفشّي حالة الاجتهاد ، وتلقّيها بالقبول من قبل كثير من الصحابة ، مما أهّلهم لاستقبال ما يطرحه عثمان كرأي مقبول ، وقد تفشت هذه الحالة نتيجة اجتهادات وآراء عمر بن الخطّاب بشكل كبير جداً ، ومن قبله آراء أبي بكر.

فمن كل هذه الأمور ـ وأمور جزئية أخرى يتلمّسها الواقف على حياة عثمان بوضوح ـ وجدنا هذه المبررات هي التي دفعت عثمان لابتداع الوضوء الثلاثي الغسلي الجديد ، الذي يرتضه الصحابة المتعبدون !!

علي عليه‌السلام والوضوء

ولمّا تولّى الإمامُ عليّ الخلافة راح يبين الوضوء النبويّ للمسلمين ، ويعرِّض ويشير إلى إحداث عثمان في الوضوء النبوي ، ونستطيع أن ندرج خطواته في بيان الوضوء النبوي في المندرجات الآتية :

______________________________

(١) مرّ عليك أنّ الصحابة حينما ناقشوه في إبداعه إتمام الصلاة بمنى وسدّوا عليه أبواب الذرائع اكتفى بقوله لهم : « هذا رأي رأيته ».

(٢) قيل لعبدالله بن عمر بن الخطاب : عبتَ على عثمان [ صلاته أربعاً بمنى ] ثم صلَّيتَ أربعاً ؟! قال : الخلافُ شرّ !! سنن البيهقي ٣ : ١٤٤.

(٣) قيل لعبدالله بن مسعود : ألم تحدّثنا أنّ النبي صلى ركعتين ، وأبا بكر صلى ركعتين [ أي بمنى ] ؟ فقال : بلى ، وأنا أحدّثكموه الآن ، ولكن عثمان كان إماماً فما أخالفه ، والخلاف شرّ. سنن البيهقي ٣ : ١٤٤.

٦٣

١ ـ إنّ الثابت المحفوظ عن الإمام عليّ في كتب الفقه (١) والتفسير (٢) والحديث (٣) هو الوضوء الثنائي المسحي ، يتبعه في ذلك صحابة كُثر على رأسهم ابن عباس والطالبيون وأنس بن مالك.

٢ ـ كان الإمام علي يشير إلى الإحداث الذي طال الوضوءَ ، بمثل قوله بعد الوضوء المسحي وشربه من فضلته : « إن أناسا يكرهون هذا ، وقد رأيت رسول الله عليه‌السلام يفعله ، وهذا وضوء من لم يحدث » (٤) ، وقوله : « وهذا وضوء من لم يُحْدِث » ، و « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل هكذا » (٥) ، فهو يؤكّد وجود الُمحْدِثين في الوضوء ، ولم يكن قبله محدِثٌ في الوضوء إلاّ عثمان كما علمت.

٣ ـ قوله عليه‌السلام : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ... مغيّرين لسنته ... أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى أن يقول : ورددت الوضوء

______________________________

(١) انظر : فتح الباري لابن حجر ١ : ٢١٣ ، المحلى لابن حزم ١ ـ ٢ : ٥٦ / المسألة ٢٠٠ ، نيل الأوطار للشوكاني ١ : ٢٠٩ ، المغني لابن قدامة ١ : ١٥١ / المسألة ١٧٥ ، عمدة القاري للعيني ٢ : ٢١.

(٢) انظر : الطبري في تفسيره ٦ : ٨٦ والجصاص في احكامه ٢ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ و ابن كثير في تفسيره ٢ : ٤٥.

(٣) انظر : ما رواه عبد خير عنه في مسند الحميدي ١ : ٢٦ / ح ٤٧ ومسند احمد ١ : ٩٥ ، ١١٦ ، ١٢٤ ، ١٤٨ ومسند الدارمي ١ : ١٨١ ، وما رواه النزال بن سيرة عنه في مسند ابي داود الطياسي : ٢٢ / ح ١٤٨ وغيرها.

(٤) مسند أحمد ١ : ١٥٣ ، واُنظر : مسند أحمد ١ : ١٤٤ ، سنن البيهقي ١ : ٧٥.

(٥) مسند أحمد ١ : ١٢ ، ولا يخفى عليك أنّ المقصود بالإحداث هو الإحداث في الدين ؛ أي الإحداث في الوضوء النبوي.

٦٤

والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (١).

وهذا النص ـ بعد الفراغ عن عدم إبداع الشيخين في الوضوء ـ يكاد يكون صريحاً في إبداع عثمان للوضوء الثلاثي الغسلي ؛ لأنّه عليه‌السلام صرح بابتداع الولاة من قبله ، ولمّا كان الشيخان براء من بدعة الوضوء بقي عثمان هو المقصود في كلام الإمام لا محالة.

٤ ـ كتابة الإمام علي كيفية الوضوء لواليه محمد بن أبي بكر في جملة ما كتبه إليه ، وكان في كتابه عليه‌السلام « تمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثمّ يدك اليمنى ، ثمّ اليسرى ، ثمّ امسح رأسك ورجليك... فإني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع ذلك » (٢).

______________________________

(١) الكافي ٨ : ٥٩ ـ ٦٢.

(٢) اُنظر : أمالي المفيد المطبوع في جملة مصنفاته ١٣ : ٢٦٧ ، أمالي الطوسي : ٢٩ بإسناد في ضمنه الثقفي صاحب الغارات ، وقد حُرف النص المتقدم في كتاب الغارات المطبوع ( ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ ) وقد بيناه في مدخل الدراسة. ومما يجب الاشارة إليه هو وجود نص يؤكد على تحريف معاوية للنصوص ، مذكور في آخر النص الانف : في الغارات « ان معاوية كان ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ... فقال له الوليد : انه لا راى لك ، فامن الراى أن يعلم الناس أن احاديث ابي تراب عندك تتعلم منها وتقضى بقضاءه ؟ فعلام تقاتله ؟ ...

فقال معاوية : لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم افتانا لاخذنا عنه ثم سكت هنيه ثم نظر الى جلسائه فقال : إنا لا نقول ان هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكنا نقول ان هذه من كتب ابي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي ».

وفي شرح النهج ٦ : ٧٣ وبحار الأنوار : فلما بلغ علي بن ابي طالب ان ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزنا وتمثل باشعار ...

٦٥

٥ ـ تنبيه وإشارة الإمام علي ـ في جملة أحاديثه الوضوئية ـ إلى أن مبعث الإحداث في الوضوء هو الاجتهاد والرأي ، وأنّ الوضوء ـ بل الدِّين ـ لا يُدرك بالرأي ، فكان يقول : « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظاهرها » (١) ، ويقول : « كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتّى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح ظاهرهما » (٢).

فهو يقرر أنّ الدين ـ ومنه الوضوء ـ لا يدرك بالرأي كما يتصوره البعض ، وإلاّ لكان باطن أحقّ بالمسح ، فكيف يُعدَلُ عنه إلى غسل الظاهر والباطن بمحض الرأي والاجتهاد ؟!

٦ ـ كانت وضوءات الإمام عليّ البيانية ـ وكذلك ابن عباس وأنس بن مالك ـ تحمل في ثناياها أدلّة من الكتاب والسنة ، وليست ادعاءات محضة لرؤية الوضوء النبوي ، لأن قول علي : « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحق بالمسح من ظاهرها. لكن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح على أعلى قدميه » (٣) ، وما شاكله يتضمّن دلالة الكتاب على المسح ؛ لأنّه أرسله إرسال المسلمات طبق أصل تشريعه وهو آية الوضوء الظاهرة في مسح القدمين ، ثمّ دَحضَ الرأي الذي لو سُلّم لكان الباطن أحق بالمسح ، وعلى التقديرين فالمسح هو المشروع ، وبعد كلّ ذلك أكّد الإمام علي بن أبي طالب رؤيته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يمسح أعلى قدميه.

______________________________

(١) المصنف ١ : ٣٠ / ح ٦.

(٢) سنن أبي داود ٤٢ : ح ١٦٤.

(٣) تأويل مختلف الحديث ١ : ٥٦.

٦٦

وكذلك ابن عباس كان يقول : « لا أجد في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين » (١).

وكان أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعارض رأي الحجاج الذاهب إلى غسل القدمين ـ بحجة أنّه أقرب شيء للخبث ـ بقوله : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (٢).

والمقصود الأوّل هنا هو تدليلات الإمام علي بالكتاب والسنة ودحض الرأي ، وهذا بخلاف وضوءات عثمان المدعية لمحض الرؤية والمتشبّثة بما لا يمتّ إلى أصل أفعال الوضوء بصلة ، فكأنّ الإمام عليّاً أراد أن يشير إلى اجتهاد عثمان في الوضوء ودحضه.

٧ ـ وبعد هذا كله فإنّنا لا نرى في وضوءات الإمام علي ولا ابن عباس ولا أنس ولا غيرهم من الماسحين تلك الضحكات والتبسمات ، ولا إشهادات الخائف الطارح لفكر جديد ، ولا تبرّعات بالتعليم لمجرّد سماع مضمضة ، ولا غيرها مما ذكرناه في الوضوءات العثمانية ، بل نرى الحالة حالة طبيعية منسجمة مع سير الأمور في تعليم الوضوء النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________

(١) السنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٢ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨. وقال ابن عباس بسند صحيح على شرط البخاري : الوضوء غسلتان ومسحتان. انظره في مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ : ٨٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، تفسير القرطبي ٦ : ٩٢. وكان أنس بن مالك يقول : نزل القرآنُ بالمسح. انظر ذلك في تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، والدر المنثور ٢ : ٢٦٢.

٦٧

الصحيح ، ودحض الوضوء الجديد النابع من الرأي ؛ إذ كانت نصوصهم تحوي النفي والإثبات معاً.

الأمويون والوضوء

ولمّا استشهد الإمام علي وصالح الإمامُ الحسنُ معاويةَ ، تولّى الأخير السلطة ، فراح يترسّم خطى عثمان فقهياً ويدعمه عقائديّاً ، ويتبنّى آراء ابن عمه ، كما حدث ذلك عندما صلّى الظهر في مكّة ركعتين ، فنهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ممّا عبته به.

فقال لهما : أنّه صلاهما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر قَصْراً.

فقالا له : إنّ ابن عمك قد كان أتمّهما ، وإنّ خلافك إيّاه عيب ، فخرج معاوية إلى منى فصلاّها بنا أربعاً (١).

وكذلك تابع عثمانَ في تجويزه الجمع بين الأختين بمِلْك اليمين (٢) ، وكذلك ترك معاوية التكبير المسنون في الصلاة لترك عثمان إيّاه ، وترَكَه زيادُ بن أبيه لترك معاوية (٣).

ومثله فَعَل في تركه التلبية في الحج (٤) ؛ حيث نصّوا على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________

(١) اُنظر : مسند أحمد ٤ : ٩٤ ، فتح الباري ٢ : ٤٥٧ ، نيل الاوطار ٣ : ٢٥٩.

(٢) اُنظر : الدر المنثور ٢ : ١٣٧ ، والموطأ ٢ : ٥٣٨ / ح ٣٤.

(٣) اُنظر فتح الباري ٢ : ٢١٥.

(٤) سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ٢٥٣ ، سنن البيهقي ٥ : ١١٣.

٦٨

وأبا بكر وعمر أهلّوا ، ولم يذكروا عثمان (١) ، هذا إلى غيرها من المفردات الفقهية.

وكذلك كانت خطوات معاوية في تقرير قاعدة « من غلب » بعد أن كان يعتقدها عثمان (٢) ، مضافاً إلى مفاهيم عقائدية ركّزها معاوية يعود

______________________________

(١) اُنظر المحلى ٧ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، فتح الباري ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) ففي الإمامة والسياسة : ٥٨ قول عبدالله بن عمر بن الخطاب لعثمان لمّا ألهب الثوار النار في باب عثمان : يا أمير المؤمنين ، مع من تأمرني أن أكون إن غَلَبَ هؤلاء القوم عليك ؟ قال : عليك بلزوم الجماعة ، قلت [ القائل ابن عمر ] : فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك ؟ قال : عليك بلزوم الجماعة حيث كانت.

وسار معاوية على هذا النهج ، ففي تاريخ ابن خلدون ٢ : ١٧٠ إنّ عليّاً بعث رُسُلاً إلى معاوية فقال له أحدهم : فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله ، فأجابه معاوية وأقذع في سبه وقال : انصرفوا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف ...

وفي مصنف ابن أبي شيبة ٧ : ٢٥١ ، وتاريخ دمشق ٥٩ : ١٥٠ ، والبداية والنهاية ٨ : ١٤٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٤٥ ، وشرح النهج ١٦ : ٤٦ قول معاوية في خطبته بالنُخيلة يوم الجمعة : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكّوا ـ إنكم لتفعلون ذلك ـ وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم.

وسار عبدالله بن عمر على هذه القاعدة ، قال القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية : ٧ ـ ٨ « في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك ، فيكون مع هذا قوم و مع هذا قوم ، تكون الجماعة مع مَن غلب ، واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحَرّة [ وهي التي انتهك فيها جيش يزيد مدينة الرسول وهتك الأعراض ] وقال : نحن مع مَن غلب. انتهى.

وقال ابن عمر : لا أقاتلُ في الفتنة ، وأصلّي وراء مَن غلب. طبقات ابن سعد ٤ : ١٤٩.

٦٩

نفعها لتثبيت أركان الحكم الأموي وعلى رأسه أفكار عثمان ، والّذي يهمنا هو تبنّيه لفقه عثمان ، وتأثير ذلك على الوضوء.

لقد سار الفقه الأموي على خطى عثمان ، فراح يستفيد من « أسبغ الوضوء » و « ويل للأعقاب من النار » لترسيخ الوضوء العثماني.

١ ـ فقد دخل عبدالرحمن بن أبي بكر على عائشة يوم توفّي سعد بن أبي وقاص [ سنة ٥٥ ه‍ ] فتوضأ عندها ، فقالت له : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (١).

فلاحظ كيف عدلت عائشة عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أسبغوا الوضوء » ـ مع أنّ المقام يقتضي الاستدلال به (٢) إلى الاستدلال بـ « ويل للأعقاب من النار » ، وهذا العدول يكمن وراءه ادّعاء أم المؤمنين ـ ومن ورائها الأمويون ، وعثمان من قبل ـ دلالةَ « ويل للأعقاب » على الوضوء الغسلي ، كما ترسّخ ذلك الفهم حتّى اليوم عند أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي.

ومحصّل الكلام أنّ هذا النصّ يوقفنا على الاختلاف بين وضوء عبدالرحمن والوضوء الذي أرادته أم المؤمنين عائشة ، وحيث عرفنا أن عائشة بقولها السابق أرادت التدليل على الغسل ، عرفنا من مفهوم المخالفة أن عبدالرحمن كان يذهب إلى المسح على القدمين.

وجاء أبو هريرة ليصنع نفس صنيع أمِّ المؤمنين ، وذلك أنّه رأى قوماً

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢١٣ / ح ٢٥ ، الموطأ ١ : ١٩ / ح ٥ ، شرح معاني الآثار ١ : ٣٨ / ح ١٨٨.

(٢) لكونها قد قالت : يا عبدالرحمن أسبغِ الوضوء.

٧٠

يتوضؤون من المطهرة ، فقال : أسبغوا الوضوء ، فإنّي سمعت أبالقاسم يقول : « ويل للعراقيب من النار » (١).

وقد مثّل غير واحد من العلماء (٢) للإدراج بحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار » لكونهما لم يصدرا على هذا النسق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يدلنا على أنّ أبا هريرة كان يريد الاستفادة ـ كعائشة ـ من « الويل للأعقاب » أو ( العراقيب ) للتدليل على الوضوء الغسلي العثماني.

ويتضح ذلك بجلاء فيما اخرجه عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : لِمَ لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس ، وقد قالهما جميعاً ؟ (٣)

قال : لا أراه إلاّ مسح الرأس وغسل القدمين ، إنّي سمعت أبا هريرة يقول : ويل للأعقاب من النار.

قال عطاء : وإنّ أناساً ليقولون هو المسح ، وأمّا أنا فأغسلهما (٤).

فها هو يستدل على الغسل بقول أبي هريرة « ويل للأعقاب » ، وهذا

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ / ح ٢٩.

(٢) الحديث المُدْرَج هو ما كانت فيه زيادة ليست منه ، وهو نوعان : إدراج في الإسناد ، وإدراج في المتن ... وإدراج المتن يكون في أول الحديث مثل حديث أبي هريرة « أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار » ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقلهما معاً في آن واحد بهذا النسق ، بل كلٌّ منهما له مورده الخاص ، لكنّ أبا هريرة أدرج القسم الأوّل في الثاني. ولا يجوز تعمّد شيء من الإدراج. انظر مقدمة ابن الصلاح : ٧٦ ، وتديب الراوي : ٨٠ ، وأضواء على السنة المحمدية : ١٤٠.

(٣) يعني أن القرآن قالهما معاً.

(٤) المصنف لعبدالرزاق ١ : ٢٠ / ح ٥٨.

٧١

يبيّن لنا حلقات متواصلة في سبيل تثبيت الوضوء الغسلي ، فمن عدول عائشة ، وإدراج أبي هريرة ، واستدلال عطاء ، تتبيّن سلسلة التطورات التي استُفيد منها لتقرير وتدعيم الوضوء العثماني.

٢ ـ واستمر التدعيم الأمويّ للوضوء العثماني ، والإصرار من ( نهج التعبد المحض ) على بطلان ذلك ، لمخالفته للكتاب والسنة.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيع بنت معوّذ أنّها قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذركت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ وغسل رجليه ـ فقال ابن عباس : إنّ الناس أبوا إلاّ الغسل ! ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح (١).

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يتوضّأ عندها ، فأتيتها ، فأخرجَتْ إليّ إناءً ... فقالت : ... بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ، قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثاً ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، قالت : وقد جاءني ابن عمّ لك [ تعني ابن عباس ] فسألني عنه فأخبرته.

فقال : ما علمنا في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين ! (٢)

______________________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ح ٤٥٨.

(٢) مسند الحميدي ١ : ١٦٤ ، ومسند أحمد ٦ : ٣٥٨.

٧٢

وهنا نقف على صراع وضوءيين كانا في العصر الأموي.

أ ـ بين الربيع بنت معوَّذ وبين ابن عباس.

ب ـ بين الربيع وبين الإمام السجاد وعبدالله بن محمد بن عقيل.

فالربيع ـ وعلى ضوء النصين الآنفين ـ كانت قد تبنّت الوضوء الغسلي وأصرت عليه ، مع معرفتها بأنّ عترة الرسول لا يقبلون بنقلها للوضوء الغَسلي ، إذ أن ابن عباس قد استدل على سقم رأيها بالقرآن الكريم ، وفي اعتراضه إشارة إلى عدم قبول نسبة الغسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تراه رحمه الله ـ في نص آخر ـ يستدل على المسح بالرأي إلزاماً لهم بما ألزموا به أنفسهم ؛ لسقوط العضوين الممسوحين في التيمم (١).

وهذا يؤكد الدعم الأموي عبر أقطابه ومحدّثيه للوضوء العثماني الغسلي.

٣ ـ ووصل الأمر في الوضوء الغسلي إلى أن يتبناه الحجاج ـ وهو بعيد عن الدين بُعدَ الأرض عن السماء ـ ويعلن به من على المنبر.

فقد أخرج الطبري بسنده إلى حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أباحمزة ، إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبث من قدميه ، فاغسلوا

______________________________

(١) ففي مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤ بإسناده عن ابن عباس ، قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين ، وتَرَكَ المسحتين.

٧٣

بطونهما وظهورهما وعراقيبهما... فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (١).

وهذا ـ الإعلان و ـ الاستدلال من الحجّاج يدلّ على تبني الأمويين للوضوء العثماني من جهة ، كما يدلّ على تحكيم الاجتهاد والرأي في الوضوء في جهة مقابلة تماماً لوضوء النبي والإمام علي ، ففي حين يؤكد علي بن أبي طالب على أنّ الوضوء لو كان بالرأي لكان باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما ، لكنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ ظهورَهما ، يأتي الحجّاج فيعارضه ويعارض القرآن ، مصرّحاً بأنّه لابدّ من غسل باطنهما وظهورهما وعراقبيهما ، بحجّة كونهما أقرب للخبث !!

وبعد هذا لا يبقى مجال للشك في تبنّي الأمويين للوضوء العثماني ، وانتهاجهم نفس نهجه واستدلالهم بنفس استدلالاته ، مع تطويرها وإشاعتها بلآراء والتأويلات والاجتهادات والدلالات البعيدة ، وهذا ما يؤكّد عدم أصالة ذلك الوضوء وعدم تلقّيهم إياه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومبالغةً في تثبيت الوضوء المدّعى نسبوا إلى أعلام الماسحين كالإمام عليّ وابن عباس وأنس أنّهم كانوا يثلّثون الغسلات ، أو يغسلون الأرجل ، أو ... ليبعدوا عن أنفسهم شبهة الابتداع. وقاموا في هذا السبيل أيضاً بمنع التدوين ، حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز ليأمر بتدوين تلك الاحاديث وليعمِّم كتاباً إلى الآفاق يأمرهم فيه بالأخذ عن ابن شهاب الزهري ؛ معلّلاً

______________________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٨٢. وانظر : تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢ ، الدر المنثور ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الخازن ١ : ٤٣٥.

٧٤

ذلك بأنّهم لا يجدون أعلم منه (١) ، وقد سخّروا رجاء بن حيوة ـ المعدود من أفقه فقهاء الشام ـ ليرشد الناس ويفتيهم بآراء عبدالملك بن مروان (٢) ، ومثله جاء عن عبدالله بن عمر (٣) ودفعه الناس للأخذ عن عبد الملك.

وكان أبو هريرة من الداعين للسكوت عن ظلم الأمويين (٤) ، وكانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامّة (٥) ووو

كل هذا جاء لتضعيف معالم فقه التعبد المحض ، ولتحريف الوضوء النبوي ، من أجله رأينا ازدياد عدد المؤيّدين لوضوء الدولة في هذه الحقبة بعد أن كانت الكفّة في زمان عثمان وقبله راجحة للوضوء الثنائي المسحي ، ولكن بقي ـ رغم كل جهود الدولة الأموية ـ تابعون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلون بالوضوء المسحي ، من أمثال : عروة بن الزبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعكرمة ، وعلقمة بن قيس ، والإمام الباقر ،

______________________________

(١) ستقف في الاصدار الثاني من هذه السلسلة « وضوء عثمان بن عفان من النشأة الى الانتشار » على سبب ذلك.

(٢) اُنظر : تهذيب الكمال ٩ : ١٥٤. ففيه قول سعيد بن جبير : كان رجاء بن حيوة يُعَدّ من أفقه فقهاء الشام ، ولكن إذا حرّكته وجدته شاميّاً [ أي أمويّاً ] يقول : قضى عبدالملك بن مروان بكذا وكذا.

(٣) اُنظر : تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٢ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٤١٠ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٨٩ ، المنتظم ٦ : ٣٩. إذ قيل لعبدالله بن عمر : مَن نسأل بعدكم ؟ قال : إنّ لمروان ابناً فقيهاً فَسَلُوهُ.

(٤) اُنظر : كتاب الأموال : ٤١٢ ، والشعر والشعراء : ٣٩٢.

(٥) المستدرك على الصحيحين ٤ : ١٤ وقائل هذا القول هو عطاء بن أبي رباح ، الذي قطعت يده مع عبدالله بن الزبير ، وقد أمر بنو أميّة صائحاً يصيح : لا يفتي الناس إلاّ عطاء !! انظر : تهذيب التهذيب ٧ : ١٨١.

٧٥

والإمام الصادق ، وغيرهم ممن يعلمهم المتتبع.

فالأمويون لم يتمكنوا من مجابهة الوضوء المسحي ـ وإن كانوا هم دعاة للوضوء الغسلي ـ ولا نرى التقية تعمل في الوضوء عند أئمة أهل البيت حتى أواخر عهد الأمويين ، ومن يراجع مرويات الإمام الباقر في الكتب الحديثية الأربعة عند الشيعة ، يجد الإمام يصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو غير مكترث بما قيل أو يقال.

ويبدو أن الأمويين كانوا يجاملون بعض الصحابة والتابعين كأنس بن مالك وابن عباس وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وغيرهم في وضوئهم ، فلم يواجهوهم بالعنف ، وإن كانوا في ظروف أخرى يواجهون بعضاً آخر بالعنف ، كما في حديث أبي مالك الأشعري (١) ، وكيف كان خائفاً من بيان وضوء النبي أو صلاة النبيّ لقومه.

العباسيّون والوضوء

لقد قامت الدولة العباسية على أكتاف شعار « الرضا من آل محمد » ، وكان الناس قد التفّوا حولها وأيّدوها باعتبارها الدولة المنتصرة للحق ، وقد قضى أبو العباس السفاح فترة حكومته منشغلاً بتصفية الخصوم الأمويين وأذيالهم ، فكان في معزل عن الصراعات الفقهية وعن الكفة العلوية بالذات.

ولكن لما آل الأمر إلى أبي جعفر المنصور العباسي اختلفت الموازين ـ بعد أن ثبتت أركان الدولة ـ فقد راح يشتري الفقهاء بالصلات والهدايا

______________________________

(١) اُنظر : مسند أحمد ٥ : ٣٤٢.

٧٦

والمناصب وكراسي القضاء ووو... ولكنه وأتباعه عجزوا عن أبي حنيفة ، فضايقوه ونكّلوا به بلا جدوى ، إلاّ أنهم أفلحوا من بعد في استدراج تلميذه القاضي أبي يوسف.

وقد بقي الإمام جعفر بن محمد الصادق رائد مدرسة التعبد المحض آنذاك ، وصاحب الوضوء الثنائي المسحي ، سداً منيعاً في طريق غايات المنصور والعباسيين ، فراح المنصور يتّخذ شتى الأساليب محاولاً إفحامه.

فدعا المنصور أبا حنيفة لإعجاز الإمام بمسائل عويصة ولكنّه لم يفلح ، بل أذعن أبوحنيفة بأن الصادق عليه‌السلام أعلم الناس (١).

فأخذ المنصور يدعو إلى الأخذ بمذهب مالك ، فدعاه وأمره بتدوين العلم وجعله علماً واحداً يحمل الناسَ عليه (٢) ، راسماً له المنهج في أن لايقلّد عليّاً وابن عباس ، وأن يأخذ بأقوال ابن عمر وإن خالف علياً وابن عباس (٣) ، علماً بأنّ مالكاً كان ينفرد بتفضيل الخلفاء الثلاثة ـ دون علي عليه‌السلام ـ على سائر الصحابة ، والحكومة لا تعدّ عليّاً إلاّ كسائر الناس (٤).

______________________________

(١) اُنظر : مناقب أبي حنيفة للموفق الخوارزمي ١ : ٧٣ ، جامع أسانيد أبي حنيفة ١ : ٢٢٢. تذكرة الحفّاظ ١ : ١٦٦. أسنى المطالب ٥٥.

(٢) ترتيب المدارك ١ : ١٩٢. وفيه أيضا أنّ الموطّأ كُتب تحت ظل الدولة العباسية ، حيث روى أبو مصعب : أنّ أبا جعفر المنصور قال لمالك : ضع للناس كتاباً أحملهم عليه ... فوضع الموطّأ ...

(٣) الطبقات الكبرى ٤ : ١٤٧ ، واُنظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ٥٠٤.

(٤) موقف الخلفاء العباسيين : ١٧٠.

٧٧

وهذا المخطط الفقهي العقائدي المحموم من المنصور ، طال الوضوءَ النبويَّ أيضاً ، فالتزم المنصور بالوضوء العثماني الغَسلي الثلاثي ، وترك الوضوء النبوي المسحي الثنائي ، الذي صار من جملة الفروع الفقهية التي يعرف بها الشيعة.

المنصور والوضوء

عن داود الرقي ، قال : دخلت على أبي عبدالله ـ أي الصادق عليه‌السلام ـ فقلت له : جُعلت فداك ، كم عِدّة الطهارة ؟

فقال : « ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له ». [ قال ] : أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدّة الطهارة ؟ فقال له : « ثلاثاً ثلاثاً ، من نقص عنه فلا صلاة له » !!.

قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبدالله إليّ وقد تغيّر لوني ، فقال : « اسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق ».

قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد أُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنّه رافضيّ يختلف إلى جعفر بن محمد.

فقال أبو جعفر المنصور : إنّي مطّلع إلى طهارته ، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حقّقتُ عليه القول وقتلته.

فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي

٧٨

الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبوعبدالله ، فما تمّ وضوءه حتّى بعث إليه أبوجعفر المنصور فدعاه.

قال : فقال داود [ بن زربي ] : فلمّا أن دخلت عليه رجّب بي ، وقال : يا داود ، قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطّلعت على طهارتك وليس طهارتك الرافضة ، فاجعلني في حلٍّ ، وأمر له بمائة ألف درهم.

قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك ، حقنتَ دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن تدخل بيُمنك وبركتك الجنة.

فقال أبوعبدالله : فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين ، فقال أبوعبدالله لداود بن زربي : حدِّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتّى تسكن روعته.

فقال : فحدّثته بالأمر كلّه.

قال : فقال أبوعبدالله : « لهذا أفتيتُه ، لأنّه كان أشرَفَ على القتل من يد هذا العدو » ثمّ قال : يا داود بن زربي ، توضّأ مثنىً مثنىً ولا تزيدَنّ عليه ؛ فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك (١).

فالإمام الصادق عَلِم بالسياسة المنصورية التي تتحيّن الفرص ، وعلم أنّ داود زربي قد وُشِي به إلى السلطة عبر الوضوء الثنائي المسحي ،

______________________________

(١) رجال الكشي : ٣١٢ / الرقم ٥٦٤. وعنه في وسائل الشيعة ١ : ٤٤٣ / ح ١١٧٢.

٧٩

فعالج الموقف علاجاً حكيماً يُنجي صاحبَه من القتل !

والذي يتضح هنا هو اتخاذ المنصور هذه المفردة الوضوئية كرقم يدل على متابعة مدرسة التعبد المحض والتحديث ، وهي مدرسة جعفر بن محمد الصادق ، وكان هذا الرقم كافياً كاف لقتل من يؤمن به.

المهدي والوضوء

وكان نفس هذا المسلك عند المهدي العباسي ، فإنه كان يريد معرفة المخترقين لجدار سلطته عبر الوضوء النبوي الصحيح ، وكان داود بن زربي أيضاً محطَّ النظر في قضية الوضوء ، ممّا يعني أنّ الجواسيس كانوا يؤكّدون على مفردة الوضوة الثنائي المسحي أيضاً في معرفة المخالفين للسلطة العباسية ولمدرسة الاجتهاد والرأي.

فعن داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء ، فقال لي : « توضأ ثلاثاً ثلاثاً ».

ثمّ قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم ؟!

قلت : بلى.

قال داود : فكنت يوماً أتوضأ في دار المهدي ، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به ، فقال : كذب من زعم أنك راقضي وأنت تتوضأ هذا الوضوء.

قال : فقلت : لهذا والله أمرني (١).

وهذا النص يؤكد استمرار النزاع الوضوئي ، وتأكيد الحكّام على

______________________________

(١) التهذيب ١ : ٨٢ / ح ٢١٤ ، الاستبصار ١ : ٧١ / ٢١٩.

٨٠