لماذا الاختلاف في الوضوء

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-77-x
الصفحات: ١٠٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المقدس يوازن بين الفئتين ، ويبيّن الفرقة الحقّة ، والمسار الصحيح ، وأنّ التعبّد المحض هو سبيل النجاة ، وهو مراد الله سبحانه وتعالى لا الاجتهاد والرأي وتفسير الأمور وفق الأذواق والأهواء والأمزجة والعقائد الموروثة ، فقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) (١) ، فقد قرّر القرآن في هذه الآية الكريمة أنّ استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يساوق الإيمان بالله ، وذلك لِما لهؤلاء المستأذنين من عقيدة راسخة وفهم صحيح لوجوب إطاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والالتزام بما يقوله ويفعله ، بخلاف الآخرين الذين لا يرون هذه الرؤية ويذهبون إلى خلافها ، أو أنّهم يفسّرونها طبق آرائهم واجتهاداتهم.

وغيرها من الآيات المباركة التي تتحدث بهذا الصدد.

المجتهدون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وقد كان للمجتهدين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أثر كبير ، بحيث سوّغوا لأنفسهم العمل بأعمال نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لم يأمر بها ، وتعدّوا حدودهم فراحوا يعترضون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتراض ندٍّ قرين ، ويجتهدون أمام النص الصريح.

فمن ذلك ما فعله خالد بن الوليد من الوقيعة ببني جذيمة في السنة الثامنة للهجرة ، حيث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله داعياً للإسلام ولم يبعثه مقاتلاً ،

______________________________

(١) النور : ٦٢.

٢١

فأمر خالد بني جذيمة بوضع السلاح ، فلمّا وضعوه غدر بهم وعرضهم على السيف لثأر كان بينه وبينهم في الجاهلية ، فلمّا انتهى الخبر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد ، ثمّ أرسل علياً ومعه مال فودى لهم الدماء والأموال ... (١).

ومن ذلك قتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك ـ مع بداهة حرمة دم المسلم ـ بعد أن كبّر ونطق بالشهادتين ، فقتله أسامة وساق غنمه بدعوى أنه أسلم خوفاً من السيف ، فلمّا علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفعله قال : قتلتموه إرادةَ ما معه ؟! ثمّ قرأ قوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ومن ذلك قول رجل من الأنصار في قسمة كان قسمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله إنها لقسمة ما أُريد بها وجه الله ... فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتغيّر وجهه وغضب... ثمّ قال : قد أُوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر (٣).

ومن العجب أنّ هذا الاتجاه كان يمارس فكرته المغلوطة حتّى فيما رخّص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فغضب ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ! فوالله إني لأعلمهم وأشدهم خشية (٤).

______________________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٧٠ ـ ٧٨.

(٢) اُنظر تفسير الفخرالرازي ١١ : ٣ ، والكشاف ١ : ٥٥٢ ، وتفسير ابن كثير ١ : ٨٥١ ـ ٨٥٢. والآية : ٩٤ من سورة النساء.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٣١ / كتاب الاداب ـ باب الصبر على الأذى.

(٤) صحيح البخاري ٨ : ٣١ / كتاب الاداب ـ باب من لم يواجه الناس بالعتاب.

٢٢

والأنكى من ذلك أنّ بعض روّاد هذا الاتجاه راحوا يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عرضه وأزواجه ، حتّى قال طلحة وصحابي آخر ـ وهو عثمان برواية السدي ـ : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات ؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام (١) ، وقال طلحة في نص آخر : لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة (٢).

وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أم سلمة ، فأنزل سبحانه قوله : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ) (٣). وقوله ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (٤) وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (٥) وقوله ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (٦).

______________________________

(١) تفسير القرطبي ١٤ : ٣٢٩ ، روح المعاني ٢٢ : ٧٤. وانظر كلام السدي في دلائل الصدق ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٥ : ٢٢٥ ، تفسير القرطبي ١٤ : ٢٢٩ ، تفسير ابن كثير ٣ : ٥٠٦ ، الدر المنثور ٦ : ٦٢٩ ، تفسير البغوي ٣ : ٥٤١ ، معاني القرآن للنحاس ٥ : ٣٧٣ ، روح المعاني ٢٢ : ٧٣ ، غاية السول في سيرة الرسول : ٢٢٣ ، السيرة الحلبية ١ ٦ ٤٤٨ ، الطبقات الكبرى ٨ : ٢٠١ ، زاد المسير ٢ : ٧١٢.

(٣) الاحزاب : ٥٣ ، عن السدي في تفسير الآية الدر المنثور ٥ : ٢١٤ ، الطرائف ٢ : ٤٩٣.

(٤) الاحزاب : ٥٤.

(٥) الاحزاب : ٥٧.

(٦) الاحزاب : ٦.

٢٣

واللافت للنظر أن أبا بكر وعمر لم يكونا بمنأىً عن الاجتهاد ، بل نرى لهما نصيباً من الاعتراض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم امتثال أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وخصوصاً عمر بن الخطّاب الذي خالفه في مفردات كثيرة :

كاعتراضه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته على المنافق (٢) ، واستيائه من قسمة قسمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، ومواجهته للنبي بلسان حادٍّ في صلح الحديبية (٤) ، ومطالبته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة (٥) ، وقوله في أخريات ساعات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه ليهجر (٦) أو غلبه الوجع.

وهكذا وهلمّ جرّاً في الاجتهادات التي خولف بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، غير ناسين أنّ المسلمين بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبدا ، فمن قائل : أنفذوا ما

______________________________

(١) الاصابة ١ : ٤٨٤ ، حلية الأولياء ٣ : ٢٢٧ ، البداية والنهاية ٧ : ٢٩٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٥.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ٣٧٢ ، الدر المنثور ٣ : ٢٦٤ ، كنز العمال ٢ : ٤١٩ / ح ٤٣٩٣.

(٣) مسند أحمد ١ : ٢٠ عن الاعمش عن شقيق عن سلمان بن ربيعة ، ومسلم في الزكاة.

(٤) تاريخ عمر لابن الجوزي : ٥٨.

(٥) المصنف لعبدالرزاق ١٠ : ٣١٣ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٤.

(٦) صحيح البخاري ١ : ٣٩ كتاب العلم ، وكتاب المرضى ٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ ، ١٢٥٩.

٢٤

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقائل : القول ما قال عمر ، وهذا إن كشف عن شيءٍ فإنما يكشف النقاب عن وجود الاتجاهين حتّى آخر لحظة من حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ اتجاه الاجتهاد بالرأي كان قويّاً ومؤثرا في مسير تاريخ المسلمين وفقههم وحياتهم ، وذلك هو الذي شرّع التعدديّة وحجيّة الرأي بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يخفى عليك أنّ ما يهمّنا بحثه هنا هو معرفة ( وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من خلال بيان ملابسات التشريع الإسلامي على وجه العموم ، وما يتعلق بوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  بوجه خاص.

المجتهدون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد علمنا بوجود تيارين في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : متعبّد ، ومجتهد ، وبقاءهما إلى آخر لحظة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولظروف شتّى صار زمام الخلافة بيد رؤساء الاجتهاد والرأي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان من جملة ما اتخذوه من قرارات هو معارضتهم للتحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمور رأوها.

فجاء في تذكرة الحفاظ : أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (١).

______________________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣ ، حجية السنة : ٣٩٤.

٢٥

وعن عروة بن الزبير : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً ، وقد عزم الله له فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً (١).

وروي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (٢).

وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي.

قال : فظنوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنيّة كأمنيّة أهل الكتاب (٣).

وفي الطبقات الكبرى ومسند أحمد ، قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان

______________________________

(١) تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥ عن البيهقي في المدخل ، وابن عبدالبر.

(٢) تقييد العلم : ٥٣ ، حجية السنة : ٣٩٥.

(٣) حجية السنة : ٣٩٥ ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ١ ٦ ١٤٠ « مثناة كمثناة أهل الكتاب ».

٢٦

على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثا عن رسول الله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (١).

وعن معاوية أنّه قال : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله ، وإن كنتم تحدّثون ، فحدّثوا بما كان يُتَحدَّث به في عهد عمر (٢).

وهذه النصوص توضّح لنا انقسام المسلمين إلى اتجاهين :

١ ـ اتّجاه الشيخين ومن تبعهما من الخلفاء ، فإنّهم كانوا يكرهون التدوين ويحضرون على الصحابة التحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ اتّجاه جمعٍ آخر من الصحابة قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد عمر بن الخطاب ، منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبوذر وغيرهم.

فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، لقول الراوي : أتيت أباذر ـ وهو جالس عند الجمرة الوسطى ـ وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل (٣) فوقف عليه ثمّ قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ (٤)

فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصمصامة على

______________________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٦ وعنه في السنة قبل التدوين : ٩٧.

(٢) كنز العمال ١ : ٢٩١.

(٣) هو فتى من قريش كما في تاريخ دمشق ٦٦ : ٩٤. وفي فتح الباري ١ : ١٤٨ « وبيّنّا أنّ الذي جابهه رجل من قريش ».

(٤) قال ابن حجر في فتح الباري ١ : ١٤٨ « إنّ الذي نهاه عن الفتيا عثمان ».

٢٧

هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي اُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن تجيزوا (١) عليّ لأنفذتها ! (٢).

وترى الخلفاء وأتباعهم يمنعون التحديث والتدوين ويضربون ويهددون المحدثين.

ومن هنا حدث التخالف في الموقف بين النهجين ، هذا يحدّث ويدوّن ، وذاك يقول بالإقلال ومنع التحديث والتدوين ، وهذا يقول بلزوم عرض المنقول عن رسول الله على القرآن ، فإن وافقه يؤخذ به وإن خالفه يُضرب به عرض الجدار ، والآخر يقول بعدم ضرورة ذلك ويعتبره من عمل الزنادقة ، وبذلك ارتسمت الأصول الفكرية للطرفين تدريجيّاً.

عثمان والاجتهاد

وفي خضم هذه الأحداث وإمساك نهج الاجتهاد والرأي بزمام الأمور ، تسنّى لهم أن يجعلوا سيرة الشيخين قسيماً ثالثاً لكتاب الله وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاشترطوا على من يلي الخلافة بعد عمر أن يذعن لهذه القاعدة النابعة من الاجتهاد ، فقبل عثمان بن عفّان ذلك ، وأبى الإمام عليٌّ أشدّ الإباء ، لأنّ قبول ذلك الشرط يعني التخلي عن مدرسة التعبد المحض ،

______________________________

(١) تجيزوا : أي تكملوا قتلي.

(٢) سنن الدارمي ١ : ١٣٦. ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٤ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٣٥٤. وروى هذا الحديث البخاري في صحيحه ٦ : ٢٥ لكنّه بتره ولم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القرشي الرقيب الجاسوس ، بل اكتفى بذكر قول أبي ذر « لو وضعتم الصمصامة » ... الخ.

٢٨

ويعني الانخراط في سلك الاجتهاد بالرأي ، وذلك ما لا يقرّه عليّ بن أبي طالب ـ تبعاً لرسول الله والقرآن المجيد كما بيّنّا ذلك ـ لأنّه يضفي الشرعية على تلك الفكرة المستحدثة.

ولا يخفى أنّ عبدالرحمن بن عوف كان يبغي من هذا الشرط إلزام عثمان بن عفّان بالعمل طبق اجتهادات الشيخين ، وحصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما ، إلاّ أنّ الواقع الذي حصل من بَعْدُ كانَ خلاف ما أراد الشيخان وابن عوف ، لأنّ فكرة الاجتهاد فنسها تأبى هذا التأطير الذي لا يمتلك القوة الإقناعية لهذا الحصر المراد.

فإنّ تشريع سنّة الشيخين ـ طبق الاجتهاد ـ والارتقاء بها إلى صف السنة النبوية ، جاء لتطبيق ما سُنّ على عهدهما من آراء ، والذهاب إلى شرعيتها ، وعدم السماح للآخرين بمخالفتها ، وعثمان كان يعتقد بأنّه لايقلّ عن الشيخين بشيء ، فما هو المبرر لتمسّكه بسيرتهما دون أن يجعل لنفسه سيرة واجتهادات خاصة ؟!

لقد سار عثمان على سيرة الشيخين مدّة من الزمن ، حتّى إذا أراد الاستقلال بالرؤية وجعل نفسه ثالثةَ الأثافي في أعلام مدرسة الاجتهاد ، انتقضت عليه الأطراف وتعالت صرخات الاحتجاج ، لأنّ اجتهاداته وسّعت الدائرة الأولى فأخرجت عثمان عن العهد الذي التزم به وقطعه على نفسه ، كما أخرجت الاجتهاد عمّا أريد له من تأطير وحصر ، وبذلك اكتملت حلقات الاجتهاد والرأي عند الشيخين حتّى بلغت أوجها عند عثمان مما حدا بالصحابة أن يصفونه ويصمونه بتحريف الدين وتقويضه ، ثمّ

٢٩

تشبيههم إيّاه بنعثل اليهودي (١) ، وغير ذلك.

ولذلك وجدنا كثرة الناقضين على عثمان آراءه ، ومعارضتهم لفقهه الجديد الذي أراد تطبيقه في كثير من المفردات الفقهية ، ومنها الوضوء كما رأيت وسترى.

عثمان والوضوء

لقد اتضحت عواقب الاجتهاد بجلاء في زمن عثمان ، حتّى أصبح المسلمون لا يطيقون تحمّلها ، فثارت ثائرتهم عليه ، وكان هذا التحوّل في مسار المشرَّعات وحياة المسلمين هو الذي حدا بابن عباس أن يُوقِفَ عمر بن الخطاب عليه ، حيث خلا عمر ذات يوم فجعل يحدّثُ نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال :

كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟

قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل ، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيمَ نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكلّ قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزبره عمر وانتهره ، وانصرف ابن عباس ، ثمّ دعاه بعد ، فعرف الذي قال ، ثم قال : إيهاً أَعِد (٢).

______________________________

(١) ستقف على مصادر بعض هذه النصوص في صفحة ٥٧ من هذا الكراس.

(٢) كنز العمال ٢ : ٣٣٣ / ح ٤١٦٧.

٣٠

وهكذا حدث بالفعل ، فقد اختلف الصحابة فيما يعرفون وفيما لم يعرفوا ، وصارت الأعلبية الساحقة ضدّ عثمان ، والنزر القليل معه ، وبقي الاجتهاد والرأي هما الحاكمان لذهنية عثمان حتّى مقتله ، ذلك الاجتهاد الذي أثّر على جُلّ الفروع الفقهية إن لم نقل كلما ، حتّى انعكس على أمّهات المسائل وواضحاتها ، بل على أوضحها ، ألا وهو الوضوء.

وقد أخذنا هنا مفردة « وضوء النبي صلى الله عليه وآله » لنرى البعد الاجتهادي ومدى تأثيره على هذا الفرع الذي لا تُقبل الصلاة إلاّ به ، إذ كيف اختلف المسلمون فيه مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يؤديّه بمرأىً منهم على مدى ثلاث وعشرين سنة ؟ ومتى وقع الاختلاف فيه ؟ ومن أوقعه ؟ وما هي دواعي الاختلاف فيه ؟

فممّا لا شك فيه أنّ المسلمين في العهد النبوي كانوا تبعاً للنبي في كيفية الوضوء ، وهو وضوء واحدٌ لا غير ؛ فكيف صار المسلمون بين ماسح مُثَنٍّ وبين غاسل مثلّثٍ ؟! ـ إذ لا يخرق إجماعهم المركّب قول قائل بالجمع احتياطاً ، أو بالتخيير لتكافؤ الأدلة عنده لأنّها أقوال شاذة ـ وكلٌّ منهم يدّعي أنّ ذلك فعلُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه الصواب وغيره الخطأ.

وعلى كلّ حال ، فإنَّ الوضوء في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا لم يكن ولم يصلنا فيه خلاف ، إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكرم ما زال بين أظهرهم.

وأمّا في زمن أبي بكر ـ على قصره ـ فلم نعهد فيه خلافاً وضوئياً ، ولو كان لبَان ، وذلك يدل على استقرار أمر الوضوء بين المسلمين في عهده ، وأنهم لم يزالوا متعبدين بوضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً وأنّ نصّاً في الوضوء البياني لم يصلنا عن أبي بكر ، وهذا ممّا يؤكد عدم وجود خلاف فيه آنذاك.

٣١

وكذلك لم نعهد خلافاً مطروحاً في زمن عمر بن الخطّاب إلاّ في مسألة يسيرة ، هي مسألة جواز المسح على الخفّين وعدمه ، إذ تخالف عليٌّ وعمر فيها (١) ، وحدث بين سعد وعبدالله بن عمر أيضاً خلاف فيها بمحضر من عمر (١) ، ولم نجد أكثر من ذلك ، وهذا لا يشكّل خلافاً في أصل الوضوء

______________________________

(١) ففي تفسير العياشي ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، قال : إنّ عليّا عليه‌السلام خالَفَ القوم في المسح على الخفين على عهد عمر بن الخطاب ...

وفيه أيضا ١ : ٢٩٧ / ح ٤٦ بسنده عن زرارة بن أعين وأبي حنيفة ، عن أبي بكر بن حزم ، قال : توضّأ رجل فمسح على خُفّيه ، فدخل المسجد فصلّى ، فجاء عليٌّ فوطأ على رقبته ، فقال : ويلكَ ! تُصلّي على غير وضوء ؟!

فقال [ الرجل ] : أمرني عمر بن الخطاب.

فقال [ الراوي ] : فأخذه بيده ، فانتهى به إليه.

فقال [ علي ] : انظر ما يروي هذا عليك ـ ورفَعَ صوته ـ

فقال [ عمر ] : نعم ، أنا أمرتُهُ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ.

قال [ علي ] : قبل المائدة أو بعدها ؟

قال [ عمر ] : لا أدري.

قال [ علي ] : فَلِمَ وأنت لا تدري ؟! سَبَقَ الكتابُ الخُفَّيْن. انتهى.

والمقصود أنّ سورة المائدة كانت من أواخر السّور التي نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بُيِّنَ فيها الوضوء بقوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) وهي تعني أنّ المسح على القدمين لا على الخُفّين.

(٢) ففي مسند أحمد ١ : ٣٦٦ بسند صحيح عن خصيف أنّ مقسما ـ مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل ـ أخبره أنّ ابن عباس قال : انا عند عمر حين سأله سعد [ بن أبي وقاص ] وابن عمر المسح على الخفين ؟ [ إذ كان سعد يرى المسح على الخفين ، وكان عبدالله بن عمر لا يرى جوازه ] فقضى عمر لسعد. فقال ابن عباس : فقلت : يا سعد ، قد علمنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ على خُفّيه ، ولكن أَقَبْلَ المائدة أم

٣٢

وماهيّته كما لا يخفى.

ثمّ إنّ عدم وجود وضوء بياني عن عمر بن الخطّاب ، يكشف عن عدم وجود اختلاف ظاهر في الوضوء في عهده ، خصوصاً إذا علمنا أنّ الفتوح توسّعت آنذاك وكان الداخلون الجدد في الإسلام بحاجة إلى تعلّم الوضوء.

فالحالة الطبيعية كانت تقتضي صدور نصوص عن عمر ـ أو في زمانه ـ لو كان ثمة اختلاف في ماهية الوضوء ، وحيث لم نجد أي شيء من ذلك ، عرفنا استقرار أمر الوضوء وعدم الخلاف فيه ، بل الذي وجدنا فيه هو نسبة المسح على القدمين إلى الخليفة عمر بن الخطّاب (١).

نعم ، إنّ الخلاف في الوضوء قد ظهر في زمن عثمان بن عفّان ، وذلك طبق الأدلة والمؤشرات التاريخية.

فقد روى المتقي الهندي ، عن أبي مالك الدمشقي قوله : حدّثت أن عثمان بن عفّان اختُلف في خلافته في الوضوء (٢).

وأخرج مسلم في صحيحه ، عن قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن عبدة الضبي ، قالا : حدثنا عبدالعزيز ـ وهو الدراوردي ـ عن زيد بن أسلم ، عهن حمران مولى عثمان ،

______________________________

بعدها ؟ ... قال : لا يخبرك أحدٌ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَسَحَ عليهما بعدما أُنزلت المائدة ، فسكت عمر.

(١) اُنظر : عمدة اقاري ٢ : ٢٤٠ وفيه : أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ.

(٢) كنز العمال ٩ : ٤٤٣ / ح ٢٦٨٩٠.

٣٣

قال : أتيت عثمان بن عفّان بوضوء ، فتوضّأ ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لاأدري ما هي ، إلاّ أنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ مثل وضوئي هذا. ثمّ قال : « من توضأ هكذا غُفِر له ما تقدم من ذنبه » (١).

وهذا النصّان يقرّران حدوث اختلاف في الوضوء بين عثمان ، وبين ناس متحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يؤكد تواصل النهجين في هذا العهد : نهج الاجتهاد والرأي والذي يتزعمه الخليفة ، ونهج التعبد المحض والذي يتزعمه ناس متحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبمعنى آخر إنّ هناك وضوءين :

١ ـ وضوء عثمان بن عفّان.

٢ ـ وضوء ناس متحدثين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ، وإن عثمان حاول تجاهلهم بقوله « بأحاديث لا أدري ما هي » ؟! مع اعترافه بأنّهم يتحدّثون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون اجتراءٍ منه على تكذيبهم أو اتّهامهم بالوضع.

وإذا أضفنا الملاحظات التالية إلى هذين النصين تبيّن لنا أنّ الخلاف وقع في زمان عثمان لا محالة ، وهي :

أ ـ عدم وجود وضوء بياني للشيخين كما قدمنا ، بل وجود نص عن الخليفة الثاني يدل على كونه من الماسحين على القدمين ، إذ أتى العيني باسمه

______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٧ / ح ٨ ، وعنه في كنز العمال ٩ : ٤٢٣ ح ٢٦٧٩٧.

٣٤

في عمدة القاري ضمن الماسحين (١).

وهكذا جاء عن ابنه عبدالله خبر المسح ؛ لِما أخرجه الطحاوي بسنده عن نافع عن ابن عمر أنّه إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ويقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع هكذا (٢).

وقد جاء عن عائشة أنّها خالفت أخاها عبدالرحمن في وضوئه وقالت له : يا عبدالرحمن ، أسبغ الوضوء ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (٣).

فإنها أرادت الاستفادة من كلمة ( الإسباغ ) ( وويل للأعقاب ) للتدليل على لزوم القدمين ، وأنت تعلم بأنْ لا دلالة لهاتين الكلمتين على مطلوبها ، بل ترى في كلامها إشارة إلى ثبوت المسح عندها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنها في الوقت نفسه اعتقدت بشمول ودلالة جملة ( ويل للأعقاب ) للغسل اجتهادا من عندها !!

فلو كانت حقا قد رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه للزمها القول : يا عبدالرحمن اغسل رجليك ، فإني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه ، لا أن تستدلّ بقوله ( ويل للاعقاب من النار ) ، حيث إنّها لم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغسل رجليه فقد استدلت على وجوب الغسل ـ حسب اعتقادها ـ

______________________________

(١) عمدة القاري للعيني ٢ : ٢٤٠.

(٢) شرح معاني الآثار ١ : ٣٥ / ح ١٦٠.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٢١٣ / ح ٢٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٥٤ / ح ٤٥٢ ، المصنف لعبدالرزاق ١ : ٢٣ / ٦٩ ، الموطأ ١ : ١٩ / ٥ ، مسند أحمد ٦ : ١١٢ ، شرح معاني الآثار ١ : ٣٨ / ١٨٨.

٣٥

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بفعله ، على أنّه ـ وعلى حدّ الاحتمال ـ قد يكون هذا الخبر وأمثاله هو ممّا نسبه الأمويون إليها.

وبهذا فقد عرفت أنّ سيرة المسلمين كانت المسح ـ ومنذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى آخر عهد الشيخين ـ لعدم مجيء وضوء بياني عنهما ، ولعدم وجود الخلاف في عهدهما ، ولما رأيته من فعل أبنائهما (١) في الوضوء.

ب ـ عدم صدور الوضوءات البيانية عن الصحابة المكثرين ـ كأبي هريرة وعائشة وابن عمر ـ ولا عن عيونهم وكبارهم ـ كابن مسعود وعمار وأبي ذر وسلمان ـ ولا عن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عن مواليه ـ سوى أنس ، صاحب الوضوء المسحي المخالف لوضوء الحجاج بن يوسف الثقفي (٢) !! ـ مع أنّ الحالة الطبيعية كانت تقتضي أن تصدر النصوص عنهم ؟!

ج ـ إنّ عدد المرويات الوضوئية لعثمان هائل بالنسبة لباقي أحاديثه ؛ إذ أنها تقارب عشرين حديثاً أو أكثر ، من مجموع مائة واثنين وأربعين رواية عنه في شتّى الأبواب.

______________________________

(١) كـ ( عبدالله بن عمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي بكر ، وحتى عائشة بنت أبي بكر قبل وفاة سعد بن أبي وقاص ). إذ أنّ خلافها مع أخيها عبدالرحمن كان يوم توفّي سعد بن أبي وقاص كما في صحيح مسلم والسنن الكبرى للبيهقي ١ : ٢٣٠ ، وجامع البيان للطبري ٦ : ١٨٠ وغيرها. وسعدٌ توفّي سنة ٥٤ أو ٥٥ أو ٥٨ ه‍. انظر أسد الغابة ٢ : ٢٩٣.

(٢) انظر خبر ذلك في تفسير الطبري ٦ : ٨٢ وتفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ وتفسير القرطبي ٦ : ٩٢.

٣٦

د ـ وجود ظواهر ومشتركات غريبة في روايات عثمان الوضوئية تفرّد بها عن روايات الآخرين (١) ، وفيها إشارة إلى كونه في موقف المتّهم ، وإلى وقوع الخلاف معه في الوضوء.

ه‍ ـ وضع بعض الأحاديث أريد من خلالها تحشيد رؤوس من المعارضين لعثمان فقها وسياسة ، وعدّهم في صفّ مؤيّديه في وضوئه (٢).

المخالفون لعثمان

بعد أن اهتدينا إلى معرفة تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء ، كان لابدّ لنا من الوقوف على « الناس المتحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » لعدم تصريح عثمان بأسمائهم.

وكان السبيل للاقتراب من ذلك هو معرفة المخالفين المطّردين أو شبه المطردين لعثمان بن عفان في إحداثاته الأخرى ، كإتمام الصلاة بمنى (٣) ، وعفوه عن عبيد الله بن عمر (٤) ، وتعطيله للحدود ورده للشهود ـ كما في قضية

______________________________

(١) سيأتي بيانها تحت عنوان « من هو البادئ بالخلاف ».

(٢) اُنظر كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ح ٢٦٩٠٧ ، و ٩ : ٤٣٩ / ح ٢٦٨٧٦ ففيهما ادّعاء شهادة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان على صحة وضوئه الغسلي ، مع أنهم من معارضيه فقهاً وفكراً وتطبيقاً.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٨ ، انساب الاشراف ٥ : ٣٩ ، سنن البيهقي ٣ : ١٤٤ ، كنز العمال ٨ : ٢٣٨ / ح ٢٢٧٢٠. صحيح البخاري ٢ : ٥٣ ، صحيح مسلم ١ : ٤٨١ / ح ١٥ و ٤٨٢ / ح ١٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٥٩ ، ١٩٠ ، مجمع الزوائد ٢ : ١٥٥ ، الموطأ ١ : ٤٠٢ / ح ٢٠١.

(٤) سنن البيهقي ٨ : ٦١ ، طبقات ابن سعد ٥ : ١٥ ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٩ ، شرح النهج ٣ : ٦٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٣ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٧٥.

٣٧

شرب الوليد بن عقبة الخمر (١) ـ وتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين (٢) ، والنداء الثالث يوم الجمعة (٣) وغيرها.

وحيث وقفنا في مدخل الدراسة على أسماء أولئك (٤) ، سعينا لانتقاء جملة من المخالفين المطردين أو شبه المطردين لعثمان في تلك الإحداثات ، فكانوا كالتالي :

١ ـ عليّ بن أبي طالب.

٢ ـ عبدالله بن عباس.

٣ ـ طلحة بن عبيدالله.

٤ ـ الزبير بن العوّام.

٥ ـ سعد بن أبي وقاص.

٦ ـ عبدالله بن عمر.

٧ ـ عائشة بنت أبي بكر.

______________________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ : ١٧ ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٧٤ ، انساب الاشراف ٥ : ٣٤ ، تاريخ الخلفاء : ١٥٤ ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٠٦.

(٢) فتح البارى ٢ : ١٦١ ، صحيح البخاري ٢ : ٢٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٠٢ / ح ٢٠١ ، سنن ابن داود ١ : ٢٩٧ / ح ١١٤٢ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٠٦ / ح ١٢٧٣ ، سنن الترمذي ٢ : ٢١ / ح ٥٢٩ ، مسند أحمد ٢ : ٣٨.

(٣) انساب الاشراف للبلاذري ٥ : ٣٩ ، المنتظم ٥ : ٧ ، المصنف لأبي ابن شيبة ٢ : ٤٨ / ٣ و ٤ و ٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٢.

(٤) لا يفوتك أنّ المكتوب هنا إنّما هو خلاصة لمدخل الدراسة ، ولو أحببتَ المزيد فراجع البحث التاريخي للدراسة ( المدخل ) من ص ١١٥ ـ ١٢٧.

٣٨

٨ ـ أنس بن مالك.

وإذا عرفنا أنّ عليّ بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ، وأنس بن مالك ، من أصحاب الوضوء المسحي قطعاً وكونهم من المكثرين في الحديث ، تجلّى لنا أمر الناس المعنيين في كلام عثمان ، وتبيّن لنا أنّهم من علّيّة الصحابة وعيونهم ، لا كما أراد عثمان أن يصوّرهم من خلال تجاهله لهم.

أضف إلى ذلك أسماء الصحابة الذاهبين إلى المسح أو المنسوب إليهم ذلك مثل :

١ ـ عبّاد بن تميم بن عاصم المازني.

٢ ـ أوس بن أبي أوس الثقفي.

٣ ـ رفاعة بن رافع.

٤ ـ أبي مالك الأشعري.

٥ ـ عبد الله بن مسعود (١).

٦ ـ جابر بن عبد الله الانصاري (٢).

٧ ـ عمر بن الخطّاب (٣) وغيرهم.

وهنا نستطيع معرفة من كان يعينهم عثمان من معارضيه الوضوئيين ، ونعلم زيف الرواية التي تدّعي موافقة طلحة والزبير وعلي وسعد لعثمان في وضوئه ، إذ علمت أنهم من مخالفيه ، وأنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناس

______________________________

(١) وذلك من خلال ادعائهم الرجوع إلى الغسل ، وهذا مما يعني أنه كان ذاهباً إلى المسح.

(٢) عدّه العيني ضمن الماسحين ، اُنظر عمدة القاري ٢ : ٢٤٠.

(٣) عمدة القاري ٢ : ٢٤٠.

٣٩

تأليباً عليه ومن أوائل الداعين لقتله.

فمن مخالفة بعض الصحابة لعثمان في أغلب اجتهاداته ، وورود أسمائهم في قائمة الوضوء الثنائي المسحي ، وعدم ورودهم في قائمة الوضوء الغسلي ، اهتدينا إلى الناس المقصودين في عبارة عثمان ، والعبارات الأخرى الواردة في مثل هذا المقام المراد منها أمثال أولئك الرجال.

من هو البادئُ بالخلاف ؟

قبل أن نبين لك البادئ بالخلاف لا بدّ لنا من عرض بعض النصوص التي نقلت الوضوء العثماني ، لتقف من خلالها على الاستنتاج الصحيح في هذا المضمار :

١ ـ أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن حمران مولى عثمان ، قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء ، فتوضّأ ثم قال : إنّ ناساً يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لا أدري ماهي ، إلاّ أني رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا (١). ثم قال : من توضّأ هكذا غُفِر له ما تقدم من ذنبه (٢).

______________________________

(١) كان عثمان يؤكد على هذا المعنى ـ وراويه في ذلك حمران = طويدا اليهوديّ مولاه ـ ففي سنن الدارمي ١ : ١٧٦ وسنن البيهقي ١ : ٥٣ و ٥٦ و ٥٨ « من توضّأ نحو وضوئي هذا » ، وفي البخاري ١ ٦ ٥١ « من يتوضّأ نحو وضوئي هذا » ، وفي سنن أبي داود ١ : ١٠٦ « من توضّأ مثل وضوئي هذا » ، وفي سنن الدارقطني ١ : ٨٣ / ح ١٤ « رايت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا ». فهو في كل ذلك يدعو الناس إلى وضوئه ويُشبّه النبي بوضوئه ، ولا يُشبِّه وضوءَه بوضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢٠٧ / ح ٨.

٤٠