القواعد والفوائد - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

ومع ذلك لا رجعة له ، ولو طلقها لحقها الطلاق.

وهذا الحكم ضعيف ، لأنه إن حصل منه في هذه المدة لمس أو تقبيل أو وطء فهو رجعة ، وإلا فلا عبرة بالمعاشرة.

وأورد على عكسه : إذا تزوج امرأة وطلقها بعد المسيس ، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين العقد ، لم تنقض عدتها به ، وله رجعتها بعد وضع الحمل :

وهو واه ، لأن الرجعة هنا ليست بعد العدة في طلاق رجعي ، إذ وضع الحمل لا تنقضي به العدة هنا ، لعدم تكونه منه. فالرجعة واقعة في العدة.

وأورد أيضا : إذا وطء امرأة بشبهة ، فحملت ، ثمَّ تزوجها وأصابها ، ثمَّ طلقها ، فوضعت حمل الشبهة ، فإن عدة الشبهة قد انقضت وله الرجعة. وكذا لو وطء أمته بالملك حملت ، ثمَّ أعتقها وتزوجها ثمَّ وطئها ، فطلقها ، فوضعت حمل ملك اليمين ممن له العدة وله الرجعة بعد (١) الوضع في الموضعين.

وأجيب : بمنع الرجعة هنا ، كيف ، وهما داخلتان تحت قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (٢)؟

__________________

(١) في (ك) : عند.

(٢) الطلاق : ٤.

٤٠١
٤٠٢

وهذه قواعد تتعلق

بالقضاء

٤٠٣
٤٠٤

قاعدة ـ [١٤٧]

في ضبط ما يحتاج إلى الحاكم : كل قضية يقع (١) النزاع فيها بين اثنين فصاعدا في إثبات شي‌ء لأحدهم أو نفيه ، أو كيفيته. وكل أمر مجمع على ثبوته وتعين الحق فيه ، ولا يؤدي انتزاعه إلى فتنة ، يجوز انتزاعه من دون الحاكم. ولو لم يتعين جاز في صورة المقاصة.

ومن المرفوع إلى الحاكم : كل أمر فيه اختلاف بين العلماء ، كثبوت الشفعة مع الكثرة. أو احتيج فيه إلى التقويم ، كالأرش ، وتقدير النفقات. أو إلى ضرب المدة ، كالإيلاء والظهار. أو إلى الإلقاء ، كاللعان والقصاص ، نفسا أو طرفا ، والحدود والتعزيرات مطلقا ـ وقد يقيد القصاص بخوف فتنة أو فساد ـ وحفظ مال الغياب ، كالودائع واللقطات.

فائدة

يجوز عزل الحاكم في مواضع (٢) :

الأول : إذا ارتاب به الإمام فإنه يعزله ، لحصول خشية المفسدة مع بقائه.

الثاني : إذا وجد من هو أكمل منه ، تقديما للأصلح على المصلحة (٣).

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من ولي من أمور المسلمين شيئا ثمَّ

__________________

(١) في (ح) و (م) : وقع.

(٢) انظر هذه المواضع في قواعد الأحكام لابن عبد السلام : ١ ـ ٨٠ ـ ٨١.

(٣) ذكر هذين الموضعين القرافي في ـ الفروق : ٤ ـ ٣٩.

٤٠٥

لم يجتهد لهم وينصح لم يدخل الجنة معهم) (١).

الثالث : مع كراهية الرعية له وانقيادهم إلى غيره ، وإن لم يكن أكمل إذا كان أهلا ، لأن نصبه لمصلحتهم ، فكلما كان الصلاح أتم كان أولى.

ولا يجوز عزله لتولية الأنقص ، لمنافاته للمصلحة. وفي جوازه بالمساوي وجهان : نعم ، كما يتخير بينهما ابتداء ، ولا ، وهو الأقرب ، لما فيه من إدخال الغضاضة عليه بغير سبب. ولا يعارض : بأن فيه نفعا للمولّى ، لأن دفع الضرر أقدم من جلب النّفع ، وحفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود. وأولى بالمنع جواز عزله اقتراحا مع قطع النّظر عن البدل ، لأن ولايته ثبتت شرعا فلا تزول تشهّيا.

قاعدة ـ [١٤٨]

يجوز للآحاد مع تعذر الحكام تولية آحاد التصرفات الحكمية على الأصح (٢) ، كدفع ضرورة اليتيم ، لعموم : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

__________________

(١) رواه مسلم بلفظ : (ما من أمير يلي أمر المسلمين ثمَّ لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة). صحيح مسلم : ١ ـ ١٢٦ ، باب ٦٥ من أبواب الأيمان ، حديث : ٢٢٩. وقد رواه ابن عبد السلام بنحو ما ذكره المصنف باختلاف بسيط ، فقد جاء في قواعد الأحكام : ١ ـ ٨١ : (من ولي من أمر المسلمين شيئا ثمَّ لم يجهد لهم وينصح لم يدخل الجنة معهم).

(٢) انظر في هذا ـ ابن عبد السلام ـ قواعد الأحكام : ١ ـ ٨٢.

٤٠٦

وَالتَّقْوى) (١). وقوله عليه‌السلام : (والله في عون العبد ما كان (٢) العبد في عون أخيه) (٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كل معروف صدقة) (٤).

وهل يجوز قبض الزكوات والأخماس من الممتنع وصرفها (٥) في أربابها ، وكذا بقية وظائف الحكام غير ما يتعلق بالدعاوي؟ فيه وجهان. ووجه الجواز ما ذكرناه. ولأنه لو منع ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال ، وهي مطلوبة لله سبحانه.

قال بعض متأخري العامة (٦) : لا شك أن القيام بهذه المصالح أتم (٧) من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ، ويصرفونها إلى غير مستحقها ، فان توقّع إمام يصرف ذلك في وجه حفظ المتمكن تلك الأموال إلى حين تمكنه من صرفها إليه ، وإن يئس من ذلك ـ كما في هذا الزمان ـ تعين صرفه على الفور في مصارفه ،

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) في (م) و (أ) : ما دام ، وما أثبتناه مطابق لما في سنن ابن ماجه.

(٣) انظر : سنن ابن ماجه : ١ ـ ٨٢ ، باب ١٧ من أبواب المقدمة ، حديث : ٢٢٥.

(٤) انظر : صحيح مسلم : ٢ ـ ٦٩٧ ، باب ١٦ من أبواب الزكاة ، حديث : ٥٢ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ٦ ـ ٣٢١ ، باب ٤ من أبواب الصدقة ، حديث : ١ ـ ٢.

(٥) في (أ) و (م) و (ك) : وتفرقها.

(٦) هو عز الدين بن عبد السلام في ـ قواعد الأحكام : ١ ـ ٨٢.

(٧) في (ا) : أهم ، وما أثبتناه مطابق لما في قواعد الأحكام.

٤٠٧

لما في إبقائه من التغرير ، وحرمان مستحقه من تعجيل أخذه مع مسيس حاجتهم إليه.

ولو ظفر بأموال مغصوبة حفظها لأربابها حتى يصل إليهم ، ومع اليأس يتصدق بها عنهم ويضمن. وعند العامة (١) تصرف في المصالح العامة.

قاعدة ـ [١٤٩]

في تحقيق المدعي والمنكر وفيه (٢) عبارات ملخصها يرجع إلى أن المدعي : من يدعي خلاف الظاهر ، أو الّذي يخلى وسكوته (٣). والمنكر : بإزائه.

وقد يتفق في صور كثيرة اجتماع الدعوى والإنكار في كل من المتداعيين. وتنفق العبارتان في كثير من الصور ، كمن ادعى على زيد دينار أو عينا. وقد يختلفان (٤) في صور :

منها : قول الزوج : أسلمنا معا قبل المسيس ، وقالت المرأة : على التعاقب ، فلا نكاح بيننا ، فعلى الظاهر الزوج هو المدعي ، لأنه يخالفه (٥) ، وإلا فهي المدعية ، لأنها لو سكتت تركت واستمر النكاح ، بخلاف الزوج فإنه لو سكت لم يترك ، لأنه يحاول بسكوته

__________________

(١) انظر : المصدر السابق : ١ ـ ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) في (ك) و (أ) و (م) : فيها.

(٣) انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٥٧.

(٤) في (ح) : يتخالفان.

(٥) أي يخالف قوله الظاهر.

٤٠٨

استيفاء النكاح ، والنزاع واقع في الانفساخ.

ولو قال الزوج هنا : أسلمت قبلي ، فلا نكاح ولا مهر ، وقالت : أسلمنا معا ، أخذ الزوج بقوله في الفرقة. وأما المهر ، فان فسرنا بالظاهر فهي المدعية ، فيحلف الزوج ، وإلا فهو المدعي ، فتحلف هي.

واعترض : بتصديق الودعي في الرد والتلف ، مع أنه مخالف للظاهر.

وأجيب (١) : بأن هنا أصلا وهو بقاء الأمانة ، فإن المودع ائتمنه ثمَّ ادعى عليه الخيانة ، فيصير الودعي منكرا ، فيقدم قوله.

ورتب الإصطخري (٢) من العامة على الظهور والخفاء : عدم سماع دعوى رجل من السفلة على عظيم القدر ما يبعد وقوعه ، كما إذا ادعى الخسيس أنه أقرض ملكا مالا ، أو نكح ابنته ، أو استأجره لسياسة دوابه.

ورده الأكثر : بأن فيه تشويش القواعد ، فلا تعويل عليه. وقد مر مثله (٣).

__________________

(١) انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٥٧

(٢) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الإصطخري كان من شيوخ فقهاء الشافعية. له مصنفات في الفقه منها : كتاب الأقضية. كان قاضي قم ، وتولى حسبة بغداد. توفي سنة ٣٢٨ هـ. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٢ ـ ٣١).

(٣) راجع قاعدة (١٤٦).

٤٠٩

قاعدة ـ [١٥٠]

في تقسيم الدعوى وهي تنقسم إلى : الصحيحة ، والفاسدة ، والكاذبة ، والمجملة ، والزائدة ، والناقصة (١).

والصحيحة : إما دعوى استحقاق عين أو منفعة ، أو شي‌ء في الذّمّة ، وإما دعوى معارضة بما يضر بالمدعى ويبطل دعواه. ويدخل في دعوى الاستحقاق دعوى القصاص ، والحدّ ، والنكاح ، والرد بالعيب.

والفاسدة : قد يعود الفساد إلى المدعي ، كما إذا ادعى الكافر ابتداء نكاح مسلمة ، أو المسلم نكاح وثنية. وقد يعود الفساد إلى المدعى به ، كدعوى الخمر والميتة وما لا يتمول. والأقرب قبول دعوى الكافر الخمر المحرمة. وقد يعود الفساد إلى سبب الدعوى ، كدعوى الكافر شراء عبد مسلم أو مصحف.

وأما الكاذبة : فكدعوى معاملة ميت أو جنايته بعد موته ، أو ادعى وهو بمكة أنه تزوج فلانة أمس بالكوفة.

وأما الدعوى المجملة : فكقوله : لي عليه شي‌ء ، وإن سمعنا الإقرار بالمجمل ، لأن المدعي مقصر في حق نفسه ، والمقر مقصر في حق غيره ، فيطالب بالبيان. وقد تسمع الدعوى المجهولة : في الوصية ، والإقرار له ، وفرض المهر في المفوضة ، وثواب الهبة المطلقة ، لأن

__________________

(١) قسم الدعوى إلى هذه الأقسام الستة الماوردي في الحاوي. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٢٧.

٤١٠

ذلك يمكن تقديره ، والمطلوب تقديره (١).

وأما الزائدة : فقد تكون الزيادة مفسدة ، كقوله : لي عليه مائة درهم من ثمن خمر. وقد تكون لاغية ، كقوله : اشتريت منه على أن له أن يقيلني إذا استقلته. وقد تكون مؤكدة ، كقوله : لي عليه مائة درهم من ثمن مبيع صفته كذا وكذا. وقد تسمى التي قبلها أيضا مؤكدة ، وتكون اللاغية مثل قوله : اشتريت منه في الدكان الفلاني ، أو وعليه ثوب أبيض.

وأما الناقصة : فاما في الصفة ، كقوله : لي عنده دابة ، ولم يصفها ، فيسأله الحاكم عن الصفة. ولو قال : لي عليه ألف درهم ، لم يحمل على غالب نقد البلد ، كالبيع ، لأن أسباب المعاملات لا تنحصر في ذلك البلد. وإما ناقصة في الشرط ، فكدعوى عقد النكاح من غير أن يذكر بلوغ الناكح ورشده أو صدوره عن وليه ، فيستفصله الحاكم. ويكفي في دعوى المهر أو استحقاق إجراء الماء على سطح الغير أو في ساحته تحديد ما منه وما فيه (٢). ويحتمل تقديره بالذراع أو الحدّ المعين. والشهادة به تابعة ، وبل أولى ، لأن الشهادة أعلى شأنا من الدعوى.

قاعدة ـ [١٥١]

كلما كان المدعى به حقا فلا ريب في سماعه. وإن كان ينفع في

__________________

(١) انظر هذه الموارد وغيرها في سماع الدعوى المجهولة : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٢.

(٢) وهو رأي للشافعية. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

٤١١

الحق ففيه صور :

الأولى : دعوى فسق الشهود أو كذبهم وعلم المدعي بذلك ، والأقرب الحلف ، فان نكل حلف الخصم وبطلت الشهادة. أما دعوى فسق الحاكم فأبعد ، لأنه يثير فسادا.

الثانية : دعوى الإقرار بالمدعى به ، والحلف قوي.

الثالثة : دعوى إحلاف المدعي قبل هذه الدعوى ، فان قلنا به وقال المدعي : قد أحلفني إني لم أحلفه ، لم تسمع ، لأدائه إلى عدم التناهي ، وتضيع مجالس الحكام.

الرابعة : دعوى القاذف زنا المقذوف (١).

الخامسة : قيل : لو قال للقاضي : حكمت لي ، فأنكر ، لم تسمع الدعوى. ولو توقف ، انتظر ريثما (٢) يتذكر ، وليس له أن يأمره بالحكم. فلو قال للخصم : احلف على أنك لا تعلم أنه حكم لي ، ففي السماع وجهان. ولا ريب في عدم سماع الدعوى على القاضي والشاهد بالكذب ، لإباء منصبهما عن ذلك ، وأدائه إلى الفساد.

قاعدة ـ [١٥٢]

لا يحكم بالنكول على الأقوى إلا في عشرة مواضع (٣) :

الأول : دعوى المالك إبدال النصاب أو الإخراج (أو عدم) (٤) الحول ، الأصح أنه مسموع بغير يمين. ولو قلنا باليمين ، فنكل

__________________

(١) في (ا) : المقذوفة.

(٢) في (م) و (أ) : ربما.

(٣) ذكر المصنف هنا أحد عشر موضعا.

(٤) في (ح) : أو على عدم.

٤١٢

أخذ منه الحق ، فهو إما قضاء بالنكول ، وإما قضاء عند النكول ، لأن قضية ملك النصاب أداء الزكاة ، فإذا لم يأت بحجة أخذت منه (١).

وقال بعضهم : إذا كان المستحقون محصورين ، وقلنا بتحريم النقل ، حلفوا وأخذت منه. وهو بعيد.

وقيل (٢) : عند نكوله يحبس حتى يقرّ أو يحلف.

وقيل : بل يخلى.

وقيل : إن كان بصورة المدعي كقوله : أخرجت ، أو بادلت ، أخذت منه عند النكول ، وإن كان بصورة المنكر كقوله : لم يحل الحول ، أو ما في يدي لمكاتبي ، ترك.

الثاني : إذا وجد القاضي في تذكرة ميت لا وارث له : لي على فلان كذا ، فادعى به ، فأنكر ونكل عن اليمين ، ففيه : الحكم ، والحبس ، والإعراض. وربما ضعف الإعراض هنا ، لأن اليمين هنا واجبة قطعا.

ورجح بعضهم (٣) : القضاء بالنكول ، أو عنده في الأولى (٤) دون هذه ، لأن هناك وجوبا محققا ولم يظهر مسقط.

ومثل هذا : لو ادعى الوصي أن الميت أوصى للفقراء ، فأنكر

__________________

(١) نقل الشيخ الطوسي هذا الرّأي عن بعض الفقهاء. انظر : المبسوط : ٨ ـ ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) وجه للشافعية. انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٦٠ ، والسيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٣.

(٣) بعض الشافعية. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٣.

(٤) أي في دعوى المالك إبدال نصاب الزكاة أو الإخراج أو عدم الحول.

٤١٣

الوارث ونكل (١).

الثالث : الذمي إذا ادعى الإسلام قبل الحول واتهمه العامل ، أو قال : أسلمت بعد الحول ، على القول بأن الجزية لا تسقط هنا ، فإنه يحلف ، فلو نكل ، فالأوجه (٢).

للرابع : إذا ادعى الأسير استعجال الشعر بالدواء ، وقلنا : الإنبات إمارة على البلوغ لا عينه ، قيل (٣) : يحلف ، فلو نكل لم يقتل ، بل إما ان يحبس أو يطلق. والحلف هنا مشكل ، لعدم ثبوت بلوغه ، وهو الّذي ذكره الأصحاب (٤).

الخامس : لو ادعى ناظر الوقف أو المسجد ، ونكل المدعى عليه ، فيه الأوجه (٥). وقيل (٦) : ترد اليمين عليه. وليس بشي‌ء ، إذ لا يحلف لإثبات مال غيره. وقيل (٧) : إن كان ذلك بسبب باشره (٨)

__________________

(١) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٨ ـ ٢١٤ (نسبه إلى قوم من الفقهاء).

(٢) أي الأوجه الثلاثة وهي : الحكم بالنكول ، أو الحبس إلى أن يقرّ أو يحلف ، أو الاعراض عنه وتخليته. وقد ذكرها الغزالي في ـ الوجيز : ٢ ـ ١٦٠.

(٣) انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٦٠ ، والسيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٣.

(٤) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٨ ـ ٢١٣.

(٥) أي : الأوجه الثلاثة المتقدمة وهي : الحكم بالنكول ، أو الحبس إلى أن يقر أو يحلف ، أو الاعراض عنه وتخليته.

(٦) قول لبعض الشافعية. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٣.

(٧) رجحه الرافعي من الشافعية. انظر نفس المصدر السابق.

(٨) في (أ) و (م) : مباشرته.

٤١٤

بنفسه ، ردت ، وإن كان بإتلاف المدعى عليه لم ترد. وهما ضعيفان.

السادس : إذا ادعى ولد المرتزق الاحتلام ، وطلب الرزق ، فالأقرب تصديقه من غير يمين ، وإلا دار. ولأنه إن كان كاذبا فكيف يحلف وهو صبي؟؟ وقيل (١) : يحلف عند التهمة ، فإن نكل لم يثبت في المرتزقة. وهذا الموضع ليس من القضاء بالنكول ، وإنما هو ترك الحكم لعدم قيام حجة.

السابع : إذا نكل الزوج عن يمين الإصابة بعد العنة ، ففي حلف المرأة وجه ، لإمكان علمها بالقرائن. فان لم نقل به ، قضي بالنكول.

الثامن : لو قتل من لا وارث له ، وهناك لوث (٢) أو لبس ، أحلف المنكر ، فان نكل ، فيه ما تقدم.

التاسع : لو ادعت تقدم الطلاق على الوضع ، وقال : لا أدري ، لم يقنع منه بذلك بل إما أن يحلف يمينا جازمة ، أو ينكل فتحلف هي ، فإن نكلت فعليها العدة. وليس قضاء بالنكول عند بعضهم ، بل لأن الأصل بقاء النكاح وآثاره فيعمل به حتى يثبت رافع.

العاشر : لو نكل المقذوف عن اليمين. على عدم الزنا ، قيل : يقضى عليه بالنكول. قيل : بل ترد اليمين. وهو وجه إن سمعنا الدعوى في الأصل ، إذ النص : (أن لا يمين في حد) (٣).

__________________

(١) انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٦٠.

(٢) اللّوث : إمارة يظن بها صدق المدعي فيما ادعاه من القتل ، كوجود ذي سلاح ملطخ بالدم عند قتيل في دار. انظر : الطريحي ـ مجمع البحرين : ٢ ـ ٢٦٣ ، مادة (لوث).

(٣) انظر : النوري ـ مستدرك الوسائل : ٣ ـ ٢٥٧ ، باب ٣٠ من أبواب كيفية الحكم ، حديث : ٦.

٤١٥

الحادي عشر : إذا ادعى الولي مالا للمولى عليه ، فأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ، احتمل القضاء بالنكول ، [ أ ] وانتظار أهلية المدعى له (١).

قاعدة ـ [١٥٣]

البينة حجة شرعية. والبحث فيها في مواضع :

الأول : إقامتها على تملك ما في يده للتسجيل ، والأقرب جوازه.

الثاني : إقامتها بعد دعوى الخارج لدفع اليمين ، يحتمل القبول ، لأن اليمين مخوفة وفيها تهمة. وكإقامة الودعي البينة على الرد والتلف ، وإن قبل قوله فيهما. ويحتمل عدمه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (٢) والتفصيل قاطع للشركة.

الثالث : إقامتها بعد إقامة الخارج بينته وقبل تعديلها.

الرابع : إقامتها بعد تعديلها وقبل الحكم.

وهذان مبنيان على تقديم الداخل على الخارج أو بالعكس.

وقيل (٣) : بتعارض البينتين ويحكم للداخل بيده ، فعلى هذا يحلف.

ويحتمل وجوب الحلف وإن قضينا بالبينة ، لتأكيدها.

الخامس : إقامتها بعد القضاء للخارج وقيل التسليم ، فالظاهر انها من باب بينة ذي اليد ، لأنها باقية حسا.

__________________

(١) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٨ ـ ٢١٢. وقد اختار هو الاحتمال الثاني.

(٢) انظر : البيهقي ـ السنن الكبرى : ١٠ ـ ٢٥٢.

(٣) انظر : الغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٦١.

٤١٦

السادس : إقامتها بعد الحكم والتسليم إلى الخارج ، فيحتمل السماع ، لأن اليد إنما أزيلت لعدم الحجة ، وهي قائمة الآن. ويحتمل عدمه ، لأن القضاء لا ينقض إلا بقطعي. ولأن الأول صار خارجا. هذا إذا صرحت بينته بالملكية قبل القضاء واعتذر بغيبتها أو غفلته عنها وشبهه. ولو شهدت مطلقة فهي بينة خارجة ، فلو رجحنا بالخروج احتمل الترجيح بها ، لأن البينة لا توجب زوال الملك عما قبل الشهادة.

واحتمل التصريح بالخروج ، لاحتمال استنادها إلى اليد السابقة (١).

فتحصلنا (٢) منها على ثلاثة أوجه : إن صرحت بالتقدم فهي داخلة ، وإن صرحت بالتأخر فهي خارجة ، وإن أطلقت وقف الحكم.

قاعدة ـ [١٥٤]

اليمين إما على النفي ، وهي وظيفة المنكر المشار إليها في الحديث (٣) ، وإما على الإثبات ، وهي : في اللعان ، إن جعلناه يمينا ، والقسامة من المدعي ، ومع الشاهد الواحد في موضعه ، واليمين المردودة على المدعي بالرد أو بالنكول ، ويمين الاستظهار ، ولها موارد : الميت والصبي ، والمجنون ، والغائب مع البينة.

ومن صور الغيبة : ان يدعي المشتري : أن غائبا معينا باعه هذا وأقبضه الثمن ، ثمَّ ظهر به عيب وأنه فسخ البيع ، ويقيم البينة على

__________________

(١) في (ا) : السالفة.

(٢) في (ك) و (أ) : فتخلصنا.

(٣) أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (... واليمين على من أنكر).

٤١٧

ذلك. ومن منع الحكم على الغائب ، ينصب الحاكم له وكيلا ثمَّ يحلفه بعد قيام البينة.

والمعسر يحلف مع بينته ، احتياطا للمال الخفي عن (١) البينة. والأقرب توقفها على استدعاء الخصم ، كغيرها من الأيمان.

ولو ادعى العنين الوطء قبلا ، فأقامت بينة على البكارة ، فقال : لم أبالغ فعادت البكارة ، حلفت على أنها بالبكارة الأصلية. أو على عدم الإصابة وفسخت ، فان نكلت حلف ، وإن نكل قيل : لها الفسخ ، ويكون نكوله كحلفها. ويحتمل عدم الفسخ ، لأنه يضرب (٢) نكولها بنكوله ، والأصل بقاء العصمة.

ويمين دعوى المواطاة على القبالة.

وقيل : لو ادعى الجاني شلل العضو ، وأقام الآخر البينة على سلامته ، حلف معها أيضا إذا كان باطنا ، دفعا لاحتمال خفي.

قاعدة ـ [١٥٥]

ليس بين شرعية الإحلاف وبين قبول الإقرار تلازم ، وإن كان غالبا :

إذ يقبل إقرار الصبي بالبلوغ ولا يقبل يمينه ، لأنه يؤدي إلى نفيه. ويقبل يمين المستحر (٣) في نفي العبودية ، ولا يقبل إقراره بها بعد دعواه الحرية.

__________________

(١) في (م) : على.

(٢) في (ح) : يصون.

(٣) في (أ) و (ك) : المخبر ، وفي (ح) : المسخّر. والمستحر : مدعي الحرية ، كما في بعض الحواشي.

٤١٨

فإن قلت : طلب الإحلاف لتوقع الإقرار ، فإذا انتفى ، انتفى الإحلاف ، لعدم فائدته.

قلت : الغاية في الإحلاف أعم من ذلك ، لأنه قد ينكل فيحلف المدعى على رقيته ، فيغرم القيمة إن قلنا اليمين المردودة كالإقرار ، وإن قلنا كالبينة ثبت رقه.

والأصل فيه : أن من فوّت مالا أو غيره على آخر ثمَّ رجع ، فان كان مما لا يستدرك ، كالعتق والقتل والطلاق ، غرم ، وإن كان مما يستدرك ، كالإقرار بالعين والشهادة بالملك ، فالأقرب الغرم أيضا ، للحيلولة.

قاعدة ـ [١٥٦]

الحلف دائما على القطع وهو ينقسم إلى : إثبات ونفي ، وكلاهما إما من فعله أو فعل غيره.

فالأقسام أربعة ، يحلف على نفي العلم في واحدة منها ، وهي : الحلف على نفي فعل غيره ، والباقي على البت (١).

وهنا سؤال وهو : أن النفي المحصور تجوز الشهادة به ، كما لو شهد أنه باع فلانا في ساعة كذا ، وشهد آخران بأن المشتري في تلك الساعة كان ساكتا. أو شهد (٢) أنه قتل فلانا في وقت كذا ،

__________________

(١) انظر في هذا : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٣٤ ، والشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٨ ـ ٢٠٦.

(٢) في (ح) و (أ) : شهدا.

٤١٩

فشهد آخران أنه كان في تلك الحالة ساكن الأعضاء جميعها ، أو أنه لم يكن عند المقتول في تلك الساعة. وصوره كثيرة ، والشهادة إن لم تكن أبلغ من اليمين فلا أقل من المساواة.

وجوابه : إذا قدر أن النفي محصور يمكن العلم به ، التزمنا بحلف النافي لفعل غيره على البت أيضا.

وهنا مسائل :

الأولى : لو ادعى عليه جناية بهيمة وأنكر ، حلف على البت ، لأن البهيمة لا ذمة لها ، وضمان المالك لها ليس المجرد فعلها ، بل لتقصيره في حفظها ، وهو من أفعال نفسه.

الثانية : لو أنكر جناية عبده ، قيل (١) : يحلف على نفي العلم ، جريا على القاعدة. وربما بني هذا على أن جناية العبد هل تتعلق بمحض الرقبة ، أو بها وبالذمة جميعا ، بمعنى أنه يتبع بها بعد العتق؟ فعلى الأول يحلف المولى على البت ، كالبهيمة ، لأنه يخاصم عن نفسه.

وعلى الثاني ، وهو ظاهر الأصحاب (٢) ، يحلف على نفي العلم ، لأن للعبد ذمة تتعلق بها الحقوق ، والرقبة كالمرتهنة بها.

الثالثة : لو ادعى عليه موت مورثه ، سمعت في موضع السماع ، فلو أنكر ، حلف على نفي العلم إن ادعاه عليه ، كما يحلف على نفي غصبه وإتلافه. ويحتمل الحلف على البت ، لكثرة اطلاع الوارث على ذلك. ويحتمل الفرق بين حضوره وغيبته عند الموت المدعى به.

__________________

(١) انظر : العلامة الحلي ـ تحرير الأحكام : ٢ ـ ١٩٢ ، والغزالي ـ الوجيز : ٢ ـ ١٥٩.

(٢) انظر : المحقق الحلي ـ شرائع الإسلام : ٤ ـ ٢٠٦ ، والعلامة الحلي ـ تحرير الأحكام : ٢ ـ ٢٤٦.

٤٢٠