القواعد والفوائد - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

فالزائدة ، نحو قولنا : قبل قبل قبله رمضان والموصولة تقديرها : للذي استقر قبل قبله رمضان ، ويكون الاستقرار في (قبل) الّذي بعد ما هو قبلها (١). وتقدير النكرة الموصوفة : قبل شي‌ء استقر قبل قبله رمضان ، فيكون الاستقرار العامل في الظرف الكائن بعدها (٢) صفة لها.

الثاني : أن هذه القبلات والبعدات ظروف زمان ، مظروفاتها الشهور هاهنا ، ففي كل (قبل) أو (بعد) شهر هو المستقر فيه. مع أن اللغة تقبل غير هذه المظروفات ، لأن القاعدة إنا إذا قلنا : قبله رمضان ، احتمل أن يكون شوالا ، فإن رمضان قبله ، واحتمل أن يكون يوما واحدا من شوال ، فان رمضان قبله ، لصدق قولنا : رمضان قبل العيد حقيقة ، لكن يجب هنا كون المظروف شهرا ، للسياق ، ولضرورة الضمير في (قبله) العائد إلى الشهر المسئول عنه. إلا أن يتجوز في الشهر ببعضه ، تسمية للجزء باسم الكل. إلا أن الفتوى هنا مبنية على الحقيقة.

هذا تقرير (قبله) الأخير المصحوب بالضمير. وأما (قبل) المتوسط فليس معه ضمير يضطرنا إلى ذلك ، بل علمنا أن مظروفه شهر بالدليل العقلي ، لأن رمضان إذا كان قبل قبل الشهر المسئول عنه وتعين أن أحد القبلين ـ وهو الّذي أضيف إلى الضمير ـ مظروفه شهر ، تعين أن مظروف القبل المتوسط شهر أيضا ، لأنه ليس بين شهرين من جميع الشهور أقل من شهر ، فيصدق عليه أنه قبل شهر وبعد شهر ، بل لا يوجد بين شهرين عربيين إلا شهر ، فلذلك تعين أن مظروف هذه الظروف شهور تامة. وأما شهور القبط فإن أيام

__________________

(١) في الفروق : ١ ـ ٦٥ : صلتها.

(٢) في الفروق : ١ ـ ٦٥ : بعد ما.

٢٦١

النسي‌ء (١) متوسطة بين مشتري (٢) وتوت.

الثالث : أن الإضافة تكفي فيها أدنى ملابسة كقوله تعالى (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) (٣) أضيفت الشهادة إليه ، لأنه شرعها ، لا لأنه شاهد أو مشهود عليه. وكذلك (دين الله) (٤) و (فنفخنا فيه من روحنا) (٥) ، (ولله على الناس حج البيت) (٦).

ومنه : قول أحد حاملي الخشبة : خذ طرفك. وقال الشاعر :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة (٧)

لأنها كانت تقوم إلى عملها وقت طلوعه. فالقدر المشترك بين هذه الإضافات المختلفة المعاني هو أدنى ملابسة ، كما قاله صاحب المفصل (٨).

إذا تقرر ذلك : فهذه القبلات أو البعدات المضاف بعضها إلى

__________________

(١) في (ك) : البتي ، وفي (ح) : الشتاء. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ٦٥.

(٢) في الفروق : ١ ـ ٦٥ : مسرى.

(٣) المائدة : ١٠٦.

(٤) آل عمران : ٨٣ ، والنور : ٢.

(٥) التحريم : ١٢.

(٦) آل عمران : ٩٧.

(٧) هذا البيت أورده الزمخشري في كتابه ـ المفصل : ٩٠. وقال النعساني في ـ المفضل شرح أبيات المفصل ، المطبوع بهامش المفصل : لم أر من ذكر قائله ، وتمامه : سهيل أذاعت غزلها في القرائب

(٨) انظر : الزمخشري ـ المفصل : ٩٠.

٢٦٢

بعض تحتمل لغة أن يكون كل ظرف أضيف إلى مجاوره أو إلى مجاور مجاوره فصاعدا ، فيكون الشهر الّذي قبل رمضان هو ربيع ، فان ربيعا قبل رمضان بالضرورة ، بل يومنا هذا قبل يوم القيامة.

وهذا كله حقيقة غير أن الظروف التي في البيت حملت على المجاور الأول ، لأنه الأسبق إلى الفهم مع أن غيره حقيقة أيضا.

الرابع : إنك تعلم إنك إذا قلت : قبل ما قبل قبله رمضان ، فالقبل الأول هو عين (١) رمضان ، لأنه مستقر في ذلك الظرف.

وكذلك : بعد ما بعد بعده رمضان ، فالبعد الأخير (٢) هو رمضان ، لأنه مستقر فيه ، ومتى كان القبل الأول هو رمضان فالقبلان الكائنان بعده شهران آخران متقدمان على الشهر المسئول عنه. وكذلك في : بعد ما بعد بعده رمضان ، البعدان الأخيران شهران آخران متأخران عن الشهر المسئول عنه ، فالترتيب (٣) دائما في الشهر (٤) أربع ، الشهر المسئول عنه وثلاث ظروف لغيره.

الخامس : إنا إذا قلنا : قبل ما بعد بعده رمضان ، فهل نجعل هذه الظروف متجاورة على ما نطق بها في اللفظ؟ فيتعين أن يكون الشهر المسئول عنه هو رمضان ، فان كل شي‌ء فرض له أبعاد كثيرة متأخرة عنه فهو قبل جميعها ، فرمضان قبل بعده ، وبعد بعده ، وجميع ما يفرض من ذلك إلى الأبد هو قبل تلك الظروف كلها الموصوفة

__________________

(١) في (ك) و (ح) و (م) : غير ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ٦٦.

(٢) في الفروق : ١ ـ ٦٦ : الأول.

(٣) في الفروق : ١ ـ ٦٦ : فالرتب.

(٤) في الفروق : ١ ـ ٦٦ : البيت.

٢٦٣

بـ (بعد) ، وإن كانت غير متناهية. وكذلك يصدق أيضا أنه بعد قبله ، وقبل قبله ، إلى الأزل ، فيكون رمضان أيضا.

قال (١) : ويبطل ما قاله ابن الحاجب (٢) ، فإنه عين في الأول شوالا وفي الثاني شعبان. ويقتضي ما ذكرناه ، أن يكون الشهر المسئول عنه هو رمضان في المسألتين.

أو نقول : مقتضى اللغة خلاف هذا التقدير (٣) ، وأن لا تكون هذه الظروف المنطوق بها مرتبة على ما هي عليه في اللفظ ، بل قولنا : قبل ما بعد بعده ، فبعد الأولى المتوسطة بين قبل وبعد متأخرة في المعنى ، وقبل المتقدمة متوسطة بين البعدين منطبقة على بعد الأخيرة ، وتكون بعد الأخيرة بعدا وقبلا معا ، وليس ذلك محالا ، لأنه بالنسبة إلى شهرين واعتبارين. وتقدير (٤) ذلك : أن العرب إذا قالت : (غلام غلام غلامي) ، فهؤلاء الأرقاء منعكسون في المعنى ، فالغلام الأول هو الغلام الأخير الّذي ملكه عبد (٥) عبد عبدك ، والغلام الأخير هو عبدك الّذي ملكته ، وهو ملك عبد الأخير ، فملك ذلك العبد الأخير العبد المقدم ذكره. وكذلك إذا قلت : (صاحب صاحب صاحبي) فالمبدوء به هو أبعد الثلاثة عنك ، والأقرب إليك هو الأخير ، والمتوسط متوسط.

__________________

(١) أي بعض البصريين الّذي نقل عنه هذه المباحث.

(٢) وفي الفروق : ١ ـ ٦٦ : ويبطل ما قاله الشيخ ، أي جمال الدين أبو عمرو.

(٣) في الفروق : ١ ـ ٦٦ : التقرير

(٤) في الفروق : ١ ـ ٦٦ : وتقرير.

(٥) زيادة من (م) وهي مطابقة لما في الفروق : ١ ـ ٦٦.

٢٦٤

إذا عرفت هذا فنقول : قولنا : قبل ما بعد بعده رمضان هو شعبان ، كما قاله ابن الحاجب ، لأن شعبان بعده رمضان ، وبعد قبل (١) بعده شوال ، فقولنا قبل مجاور لبعده الأخيرة ، لأنه لم يقل : قبل بعده ، بل قبل بعد بعده ، فجعله مضافا في المعنى إلى بعد ، متأخر عن بعد ، وهو البعد الثاني ، فيكون رمضان قبل البعد الثاني [ و ] هو شوال ، فالواقع قبله رمضان. وليس لنا شهر بعده بعد ان رمضان قبل البعد الأخير إلا شعبان.

فان قلت : رمضان حينئذ هو قبل البعد الأخير وهو بعد شوال ، باعتبار البعد الأول كما بينه ، فيلزم أن يكون قبل بعد ، وهو محال ، لأن القبل والبعد ضدان ، والضدان لا يجتمعان في الشي‌ء الواحد (٢).

قلت : مسلم أنهما ضدان ، وأنهما اجتمعا في شي‌ء واحد وهو رمضان ، لكن باعتبار إضافتين ، فيكون رمضان قبل باعتبار شوال ، وبعد باعتبار شعبان ، كما يكون المؤمن صديقا للمؤمن عدوا للكافر ، فتجتمع فيه الصداقة والعداوة باعتبار فريقين.

إذا عرفت هذا فيتعين إنا لو زدنا في لفظ (بعد) لفظة أخرى منه فقلنا : قبل ما بعد بعد بعده [ رمضان ] (٣) ، تعين أن يكون الشهر المسئول عنه رجبا ، وإن جعلنا (بعد) أربعة ، كان جمادى الآخرة ، أو خمسة كان جمادى الأولى ، أو ستة كان (٤) ربيع الثاني ، أو سبعة

__________________

(١) زيادة ليست في الفروق : ١ ـ ٦٦. والظاهر انه لا محل لها.

(٢) في (ح) زيادة : في الوجود. وهي غير موجودة في الفروق : ١ ـ ٦٧.

(٣) زيادة من الفروق : ١ ـ ٦٧.

(٤) في (ح) زيادة : شهر

٢٦٥

كان شهر ربيع الأول. وكذلك كلما زاد (بعد) زاد شهر قبل ، فان هذه الشهور ظروف ، كما تقدم.

فيحصل على هذا الضابط مسائل غير متناهية ، وإذا وصلت إلى أكثر من اثني عشر ظرفا فقد دارت السنة معك فربما عدت إلى غير الشهر الّذي كنت قلته في المسألة ، ولكن من سنة أخرى. وكذا في السنتين إذا كثرت.

مسألة :

فإن عكسنا وقيل : بعد ما قبل قبله رمضان ، فمقتضى جعلنا الظروف متجاورة على ما هي في اللفظ يكون الشهر المسئول عنه رمضان ، فان كل شي‌ء بعد جميع ما هو قبله وبعد قبلاته ، وإن كثرت.

وقال ابن الحاجب : إنه شوال ، بناء على ما تقدم (١) ، وهو أن [ القبل ] (٢) الأول متقدم على البعد الأول [ والبعد الأول ] (٣) متوسط مضاف إلى البعد الأخير المضاف إلى الضمير العائد على الشهر المسئول عنه ، فنفرض شهرا هو شوال ، فقبله رمضان ، وقبل رمضان شعبان. والسائل قد قال : إن رمضان بعد أحد القبلين ، والقبل الآخر بعده ، وليس لنا شهران الثاني منهما رمضان إلا شوال ، فتعين. فيكون رمضان موصوفا بأنه بعد ، باعتبار شعبان ، وبأنه قبل ، باعتبار شوال ، ولا تضاد كما تقدم (٤).

__________________

(١) راجع ص : ٢٦٠.

(٢) زيادة من الفروق : ١ ـ ٦٧.

(٣) زيادة من الفروق : ١ ـ ٦٧.

(٤) راجع : ٢٦٤.

٢٦٦

وإن زدنا في لفظة (قبل) لفظة أخرى فقلنا : بعد ما قبل قبل قبله رمضان ، كان ذا القعدة ، فإن رمضان أضيف إلى قبل قبل قبلين ، وهما شوال وذو القعدة. فإن جعلنا لفظ (قبل) أربعا كان ذا الحجة ، أو خمسا كان المحرم. وعلى هذا.

مسألة :

فإذا قلنا : بعد ما بعد بعده رمضان ، فهو جمادى الآخرة ، لأن السائل قد نطق بثلاث بعدات غير الشهر المسئول عنه ، فرجب البعد الأول ، وشعبان البعد الثاني ، ورمضان البعد الثالث ، والرابع هو الشهر المسئول عنه المتقدم عليها ، وذلك جمادى الآخرة.

مسألة :

وإذا قلنا : قبل ما قبل قبله رمضان ، تعين ذو الحجة ، لأن السائل قد نطق بثلاث من لفظ قبل ، فقبل ذي الحجة ذو القعدة ، وقبل ذي القعدة شوال ، وقبل شوال رمضان ، وهو ما قاله السائل.

وأما قبل ما قبل بعده ، أو بعد ما بعد قبله ، فقد تقدم (١) أن كل شي‌ء هو قبل ما هو بعده ، وبعد ما هو قبله ، وإذا اتحدت العين صار معنى الكلام : بعده رمضان أو قبله رمضان. فيكون المسئول عنه شعبان في الأول ، وشوال في الثاني.

__________________

(١) راجع ص : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٢٦٧

فائدة

جميع أجوبة البيت منحصرة في أربعة أشهر : طرفان وواسطة ، فالطرفان : جمادى الآخرة وذو الحجة ، والواسطة : شوال وشعبان.

وتقريب ضبطها : أن جميعها إن كانت قبلا فالجواب بذي الحجة ، أو بعدا فالجواب بجمادى الآخرة ، أو مركبا من قبل وبعد ، فمتى وجدت في الأخير قبل بعده ، أو بعد قبله ، فالشهر مجاور لرمضان ، فان كل شي‌ء هو قبل بعده ، وبعد قبله فالكلمة الأولى إن كانت حينئذ قبلا فهو شوال ، لأن المعنى : قبله رمضان ، أو بعدا فهو شعبان ، لأن التقدير : بعده رمضان.

هذا إن اجتمع آخر البيت قبل ، وبعد ، فان اجتمع قبلان ، أو بعد أن ، وقبلهما مخالف لهما ففي البعدين شعبان ، وفي القبلين شوال ، فشوال ثلاثة ، وشعبان ثلاثة. وهذه الستة هي المتوسطة بين جمادى وذي الحجة.

هذا كله على تقدير البيت على التزام الحقيقة والوزن ، وأما على خلافهما من التزام المجاز وعدم النظم ، بل يكون الكلام ، نثرا فتصير المسائل سبعمائة وعشرين مسألة.

قاعدة ـ [٨٥]

طريان الرافع للشي‌ء هل هو مبطل له ، أو بيان لنهايته؟

وهي مأخوذة من أن النسخ هل هو رفع أو بيان؟

ويتفرع على ذلك مسائل : كالرد بالعيب ، والغبن ، وفسخ الخيار ،

٢٦٨

ورد المسلم إليه العين بالعيب.

وقد يعبر عنها : بأن الزائل العائد هل هو كالذي لم يزل ، أو كالذي لم يعد (١)؟ فإن القائل بأنها كالذي لم يزل ، يجعل العود بيانا لاستمرار الحكم الأول ، والقائل بأنها كالذي لم يعد ، يقول برفع الحكم الأول بالزوال فلا يرجع حكمه بالعود.

ومنه (٢) : لو انقطع دم المستحاضة (٣) بعد الطهارة ولما يعلم أهو للبرء أم لا؟ فإنها تعيد الطهارة. فلو تركت ودام الانقطاع ، قضت ما صلت بالطهارة التي يعقبها بالانقطاع ، فان عاد الدم ففي القضاء وجهان مبنيان على أن هذا العائد كشف عن أن الدم لم يزل ، فهو بمثابة الواقع (٤) ، أو أنه كالذي لم يعد ، فيجب القضاء. وهذا يتم إذا دخلت في الصلاة ذاهلة عن وجوب الطهارة ، أما مع علمها بأنها مكلفة بإعادة الطهارة فإنها تعتقد فساد صلاتها ، فلا تكون صحيحة.

ولو تعجل الفقير الزكاة ، ثمَّ ارتد في أثناء الحول ، أو فسق ، وقلنا أنها زكاة معجلة ، وعاد إلى الإسلام أو تاب (٥) ، فان قلنا : إن الزائل العائد كأنه لم يزل ، أجزأت ، وإن قلنا : كالذي لم يعد لم تجز. والأول أقرب.

ومنه : ما لو عاد الملك بعد زواله إلى يد المفلس ، فهل لغريمه

__________________

(١) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ١٩٤.

(٢) أي : ومن الزائل العائد.

(٣) في (ح) : الاستحاضة.

(٤) في (ك) : الرافع.

(٥) زيادة من (م).

٢٦٩

الرجوع؟ وكذا لو عاد الملك إلى الموهوب بعد زواله ، وقلنا : إن التصرف غير مانع.

ومنها (١) لو زال ملك المرأة عن المهر ، ثمَّ عاد ، وطلقها قبل الدخول. ولو أصدقها عصيرا ، ثمَّ تخمر في يدها ، ثمَّ عاد خلا ، فهل يرجع الزوج المطلق بنصفه ، لكون عينه باقية وإنما تغيرت صفتها ، أولا يرجع بشي‌ء ، لأن حق الرجوع إنما يثبت إذا كان المقبوض مالا ، والمالية هنا حدثت في يدها؟ والأقرب الرجوع.

ومنها : لو دبر عبدا ، ثمَّ ارتد ، ثمَّ عاد إلى الإسلام ، فهل يعود إلى (٢) التدبير؟

ولو جار في القسمة وطلقها ، ثمَّ تزوجها ، فهل يجب عليه القضاء؟

ولو فسق الحاكم ، أو جن ، أو أغمي عليه ، ثمَّ زالت الأسباب هل تعود ولاية القاضي؟

أو جرحه مسلم ثمَّ ارتد المجروح ، ثمَّ عاد بعد حدوث سرايته في زمان الردة ، أو قبله.

قاعدة ـ [٨٦]

في جريان الأحكام قبل العلم احتمالان ، لعلهما مأخوذان من قاعدة :

__________________

(١) في (ح) : ومنه. وعلى ما أثبتناه يكون الضمير عائدا إلى المسائل المتفرعة على هذه القاعدة ، وعلى النسخة الأخرى يكون مرجع الضمير إلى الزائل العائد.

(٢) زيادة من (ح).

٢٧٠

جواز النسخ قبل الفعل.

وفروعه : كرجوع الموكل قبل علم الوكيل. وعزل القاضي ولما يعلم. ورجوع السيد عن إذن الإحرام لعبده ولما يعلم حتى أحرم.

ورجوع واهبة الليلة ولما يعلم الزوج. وصلاة الأمة مكشوفة الرّأس ولما تعلم بعتقها قبل. أو إباحة ثماره فأكل بعد رجوعه (١) ولما يعلم. أو رجع المعير فاستعملها المستعير جاهلا. والأصح أنه لا أثر لهذا كله ، بل تمضي الأحكام قبل العلم ، لامتناع التكليف بالمحال (٢).

قاعدة ـ [٨٧]

قد يثبت الحكم على خلاف الدليل لمعارضة دليل أقوى منه.

كرد الصاع عوضا عن لبن المصراة. وقبول قول ذي اليد في شراء ما في يده من العين المربحة للمضاربة. والجعالة. والعارية.

وغرامة مهر زوجة المهادن. والكتابة. ومنع سيده للتصرف في ماله لغير لاستيفاء. وجعل جارية من القلعة للدال عليها مع أنها غير معلومة ولا مقدور على تسليمها. (وكذا يقبل قول الزوجة : إن زوجي طلقني ، وقول الأمة بالعتق إذا لم يعلم لهما منازع ، وإن خالف الأصل) (٣).

__________________

(١) في (ا) : رجوع المبيح.

(٢) انظر في فروع هذه القاعدة. السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٣) زيادة ليست في (م) و (ح).

٢٧١

قاعدة ـ [٨٨]

كلما وقع الإتفاق على أصول أجريت فروعه عليه. وقد يختلف فيها لعارض.

ثمَّ قد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة ، كالاتفاق على أن العلة في طهورية الماء (١) هي إطلاقه ، ثمَّ خالف العامة في المتغير بالتراب المطروح قصدا ، أو بالملح المائي (٢).

وهذا عجيب ، لأن العلة إذا كانت قائمة كيف يتخلف عنها المعلول؟؟

قالوا : هذا يسلب اسم الماء ، لأن طهوريته إما تعبد لا يعقل معناه ، وإما لاختصاصه بمزيد لطافة ورقة ونفوذ لا يشاركه فيها سائر المائعات (٣). وعلى التقديرين المناط الاسم.

قلنا : مسلم لكن التقدير أنه لم يزل الاسم بهذا النوع من التغير.

ولو زال فلا إشكال في زوال الطهورية.

__________________

(١) في (م) و (أ) زيادة : إنما.

(٢) الصحيح من مذهب الشافعية أن هذا التغير لا يؤثر في سلب اسم الإطلاق عنه. ولهم وجه آخر : أنه يسلب الاسم عنه. كما أن مذهب الحنابلة هو عدم التأثير. ولهم قول بأنه يتأثر بالتغير بالتراب أو بالملح المائي. كما أن التأثر بأحدهما قول لبعض المالكية. انظر : النوويّ ـ المجموع : ١ ـ ١٠٢ ، وابن قدامة ـ المغني : ١ ـ ١٣ ، والمرداوي ـ الإنصاف : ١ ـ ٢٣ ـ ٢٤ ، والحطاب ـ مواهب الجليل : ١ ـ ٥٧ ـ ٥٨ ، وابن جزي ـ قوانين الأحكام الشرعية : ٤٤.

(٣) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٤٣٥.

٢٧٢

وقد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة ، والمرجع فيه إلى العرف ، كالغرر في البيع فإنه نهي عنه (١) ، مع الاختلاف في صحة بيع سمك الآجام مع ضم القصب ، وشبهها من الأحكام ، فمن أبطله (٢) يقول : لا تغني الضميمة عن معرفة المنضم (٣) إليه مع كونه مقصودا ، فالغرر بحاله. ومن صححه (٤) يقول : الضميمة معلومة ، والباقي في ضمنها كالحمل في بيع الدّابّة إذا شرطه ، أو مطلقا ، عند الشيخ (٥) وابن البراج (٦) (٧).

وليس من هذا بيع الغائب ، لأن الوصف الشارح يزيل الغرر عرفا ، وما فات عن اللفظ يتدارك بخيار الرؤية ، فمثله لا يسمى

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم : ٣ ـ ١١٥٣ ، باب ٢ من أبواب البيوع ، حديث : ٤.

(٢) انظر : ابن إدريس ـ السرائر : ٢٣١ ، والعلامة الحلي ـ مختلف الشيعة : ٢ ـ ٢٠٩.

(٣) في (ك) : المتضمن.

(٤) انظر : الشيخ الطوسي ـ النهاية : ٤٠١ ، وابن حمزة ـ الوسيلة : ٤٥ ، والعلامة الحلي ـ مختلف الشيعة : ٢ ـ ٢٠٩ (نقلا عن ابن البراج القاضي)

(٥) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٢ ـ ١٥٦.

(٦) هو الشيخ أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج القاضي. من وجوه علماء الإمامية. تولى القضاء في طرابلس مدة عشرين أو ثلاثين سنة. توفي سنة ٤٨١ هـ. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢١٩).

(٧) انظر : جواهر الفقه : ١٤.

٢٧٣

غررا عرفا.

وقد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة. والمرجع فيه إلى الحس ، كزوال تغير الماء بالتراب عند من قال من الأصحاب (١) بطهارة الماء بزوال التغير كيف اتفق ، فمن قال (٢) التراب مزيل فهو كالماء في التطهير ، ومن قال (٣) ساتر فهو كالمسك والزعفران في عدم التطهير. فحاصل الاختلاف راجع إلى أمر حسي.

ومنه ما يكون قبل تعيين العلة والنزاع إنما هو في العلة ، كالقول بعدم طهورية الماء المستعمل ، والاختلاف في التعليل ، إما بأداء الفرض ، أو أداء العبادة.

قاعدة ـ [٨٩]

الحكم المعلق على اسم الجنس قد يعقل فيه معنى العلة (٤) ، وقد

__________________

(١) انظر : ابن سعيد ـ الجامع للشرائع : ٢ (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة بالنجف برقم ٤٧٦) ، والعلامة الحلي ـ نهاية الأحكام الفقهية ـ المطلب الثاني ـ الفصل التاسع في تطهير الكثير ـ مسألة : فيما لو تغير بعض الكثير. (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة بالنجف برقم : ٦٦٨).

(٢) كابن سعيد الحلي. انظر : الجامع : ٢.

(٣) لم أعثر على قائل به من الإمامية. نعم هو قول للشافعية. انظر : النوويّ ـ المجموع : ١ ـ ١٣٣ ـ ١٣٤ ، والعلامة الحلي ـ تذكرة الفقهاء : ١ ـ ٣.

(٤) زيادة من (ك) و (أ).

٢٧٤

يكون تعبدا.

وتظهر الفائدة : في تعدية الحكم عند من قال بالقياس من العامة (١) ، ونحن نذكره إلزاما لهم ، وذلك مثل : اختصاص الماء بالطهورية هل هو تعبد أو لعلة كما مر (٢)؟ واختصاص التراب بذلك تعبد ، أو استعماله في الولوغ ، للجمع بين الطهورين ، أو تعبدا ، أو استظهارا (٣)؟

وتظهر الفائدة : في الأشنان والدّقيق ، فعلى الأولين لا يجزيان دون الثالث.

ونحن نقول : التعدية غير ممكنة ، لأنه إذا دار الأمر بين احتمالين لا يمكن القطع بأحدهما تعيينا ، فبقي عدم التعدية بحاله.

وأما عدم تعين الحجر في الاستجمار فمأخذه عندنا النصوص الصريحة (٤). وعند العامة قد يؤخذ من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أن يستنجي بروث أو عظم) (٥) فإنه يعلم منه أنه لا يتعين الحجر وإلا لما كان لاستثناء هذين فائدة ، وإنما ذكرت الأحجار لتيسرها غالبا في كل موضع. وأما الأحجار في رمي الجمار فلا يحث في عدم التعدي.

__________________

(١) قال بالقياس الشرعي الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين. انظر : الشوكاني ـ إرشاد الفحول : ١٩٩.

(٢) راجع ص : ٢٧٢.

(٣) انظر هذه الفروع وغيرها في ـ الأشباه والنّظائر للسيوطي : ٤٣٥.

(٤) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٢٥٢ ، باب ٣٥ من أبواب أحكام الخلوة ، حديث : ٢ ، ٣.

(٥) انظر : سنن أبي داود : ١ ـ ٩ ، باب ٢٠ من أبواب الطهارة ، حديث : ١ ، ٤ ، وسنن ابن ماجه : ١ ـ ١١٤ ، باب ١٦ من أبواب الطهارة ، حديث : ٣١٣ ، ٣١٦.

٢٧٥

قاعدة ـ [٩٠]

الاستجمار رخصة.

إذ هو أمر خارج عن إزالة النجاسة المعتادة ، ولكن اكتفى الشارع به تخفيفا ، لعموم البلوى ، فلا بد فيه من النقاء وعدد الأحجار ، جمعا بين النص (١) والمعنى. والعامة اضطربوا هنا ، فمنهم (٢) من رأي هذا دالا على العفو ، فجوز ترك الاستجمار ، ثمَّ عداه إلى كل نجاسة بقدر الدرهم ، إذ هو مقدار المسرية (٣) غالبا.

ومنهم (٤) من اعتبر النقاء ولو بواحد ، نظرا إلى المعنى ولم يعدّ الحكم إلى غيره.

ومنهم (٥) من حمله على النص ، واعتبر التعدد لا النقاء.

وإذا اعتبرنا النص فالمراد بالحجر المسحة ، فيجزئ ذو الوجوه.

__________________

(١) انظر : سنن أبي داود : ١ ـ ١٠ ، باب ٢١ من أبواب الطهارة ، حديث : ١ ، ٢ ، وسنن ابن ماجه : ١ ـ ١١٤ ، باب ١٦ من أبواب الطهارة ، حديث : ٣١٥ ، ٣١٦ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٢٢٢ ، باب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، حديث : ١ ، وباب ٣٠ من أبواب أحكام الخلوة ، حديث : ١ ، ٤.

(٢) انظر : الكاشاني ـ بدائع الصنائع : ١ ـ ١٨.

(٣) المسربة ـ بفتح الراء وضمها ـ مجرى الحدث من الدبر. انظر : ابن منظور ـ لسان العرب : ١ ـ ٤٦٥ مادة (سرب).

(٤) انظر : ابن جزي ـ قوانين الأحكام الشرعية : ٥١ ، والنوويّ ـ المجموع : ١ ـ ١٠٣ ، والكاشاني ـ بدائع الصنائع : ١ ـ ١٩.

(٥) لم أعثر على قائل منهم بهذا القول.

٢٧٦

والمأخذ ما روي (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حمل إليه حجران وروثة ، فألقى الروثة واستعمل الحجرين) (١). فان الظاهر أنه استعمل وجهي أحدهما.

قاعدة ـ [٩١]

ألحق بعض العامة (٢) إزالة النجاسة بالماء بالرخص ، قال : لأن الماء إن كان قليلا فالجزء الّذي يلاقي النجاسة ينجس ، ثمَّ ينجس المجاور له ، ثمَّ المجاور حتى ينجس جميع ما في الآنية التي يصب منها ، بل كل جزء من الماء الكثير ولو كان ماء (البحر ، فإنه منفصل) (٣) في الحقيقة ، وإن كان متصلا في الحس ، فإذا لاقته نجاسة ينجس ذلك الجزء ، فينجس ما يجاوره. وهلم جرا. وحينئذ إزالة النجاسة من باب الرخص ، والغرض بها إنما هو زوال الأعيان عن الحس.

وهذا الإلحاق باطل ، لأن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان ، وقد جعل الشارع للنجاسة علامات خاصة كالتغير في الكثير ، أو استواء السطح ، أو علو النجاسة في القليل ، فلا يحكم بالنجاسة بدون ما نصبه الشارع إمارة لها (٤).

__________________

(١) انظر : سنن ابن ماجه : ١ ـ ١١٤ ، باب ١٦ من أبواب الطهارة ، حديث : ٣١٤.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ٢ ـ ١١٣ (نقلا عن جماعة من العلماء).

(٣) في (ك) و (م) : البحر منفصلا.

(٤) انظر : القرافي ـ الفروق : ٢ ـ ١١٣ ـ ١١٤.

٢٧٧

قاعدة ـ [٩٢]

الأمور الخفية جرت عادة الشارع أن يجعل لها ضوابط ظاهرة.

ومنه : الاستنجاء ، لما كانت المسرية تخفى عن العيان ، وكانت الثلاثة مما تزيل النجاسة عنها غالبا ، ضبطها بالثلاثة.

والقصر ، لما كان للمشقة ، وهي مضطربة مختلفة باختلاف المسافرين والأوقات ضبطت بالمسافة التي هي مظنة المشقة غالبا.

والعقل الّذي هو مناط التكليف ، لا يكاد يعلم ، ضبط بالأمور (المعرفة للبلوغ) (١).

وضبط التراضي في العقود ، بصيغها الخاصة. والإسلام ، بالشهادتين لأن التصديق القلبي لا يطلع عليه. وضبطت العدة الاستبرائية (٢) ، بالوطء. والوطء ، بغيبوبة الحشفة.

فرعان :

الأول : لو علق الظهار بمشيئتها فقالت : شئت ، وهي كارهة لذلك هل يقع؟

على هذه القاعدة ينبغي أن يقع ، لأن الأمور منوطة بالظاهر.

الثاني : لو أوقع بيعا أو شراء قاصدا إلى خلاف مدلوله أو غير مريد له فهل ينفذ ظاهرا وباطنا؟

يحتمل النفوذ ، لأن الشرع وضع ذلك سببا.

__________________

(١) في (ك) : المعروفة.

(٢) في (ك) زيادة : منه.

٢٧٨

قاعدة ـ [٩٣]

إذا دار الوصف بين الحسي والمعنوي فالظاهر أن الحسي أولى لكونه أضبط ، ويتفرع عليه :

تحريم انهزام مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل (من الكافرين) (١) ، وثبات مائة بطل من المسلمين لمائتي ضعيف وواحد.

وحل التقسيط (٢) في أطعمة الغنيمة وإن كان هناك سوق. ولا تجزئ المكسورة ، وإن كان غير مؤثر في الهزال كعند (٣) الذبح. ولا يمنع الذمي من ركوب البغل وإن كان أنفس من الفرس.

قاعدة ـ [٩٤]

كلما كانت العلة مركبة توقف الحكم على اجتماع اجزائها.

كالقتل عمدا عدوانا في ثبوت القود ، وكالسكوت لا بنية القطع ، والقطع لا بنية السكوت في القراءة لا يبطل ، واجتماعهما يبطل. وكل من نية التعدي والنقل في الوديعة لا يضمن ، وكلاهما يضمّن.

فرع :

لو راج نقدان متساويان جاز بيع الوكيل بأيهما شاء. وفي جواز بيعه بهما وجهان.

__________________

(١) زيادة من (ح).

(٢) في (ا) : التبسط.

(٣) في (ح) : عند.

٢٧٩

فائدة (١)

كل حكم شرط فيه شروط متعددة ، كالجمعة ، ووجوب الحد ، والقصر في المسافة ، فإنه ينعدم بفوات واحد منها.

قاعدة ـ [٩٥]

المعارضة بنقيض المقصود واقعة في مواضع (٢) :

كحرمان القاتل من الإرث ، وإثبات الشفعة للشريك. ومن ثمَّ قال ابن أبي عقيل (٣) (٤) بمنع قتل الخطأ الإرث مطلقا ، لئلا

__________________

(١) في (م) : قاعدة.

(٢) عنون السيوطي هذه القاعدة بعنوان : (من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه) انظر : الأشباه والنّظائر : ١٦٩. وبنحو ذلك عبر ابن رجب في ـ قواعده : ٢٤٧.

(٣) هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني الحذاء من أكابر علماء الإمامية وفقهائهم في القرن الرابع الهجري وهو أول من هذب الفقه واستعمل النّظر في الأدلة وطريق الجمع بين مدارك الأحكام بالاجتهاد الصحيح في ابتداء الغيبة الكبرى. له كتب في الفقه والكلام. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ١٩٤ ، والأمين ـ أعيان الشيعة : ٢٢ ـ ١٩٣).

(٤) انظر : العلامة الحلي ـ مختلف الشيعة : ٥ ـ ١٩٠ (نقلا عنه).

٢٨٠