القواعد والفوائد - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

قاعدة ـ [٧٨]

المطالبة بتفسير المبهم على الفور مأخوذ من امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كمن أقر بمبهم إما ابتداء أو عقيب دعوى. وفيه أوجه إذا امتنع من الفور : يحبس حتى يجيب (١) ، وجعله ناكلا فيرد اليمين ، وأنه إن أقرّ بغصب مبهم وامتنع من بيانه حبس ، وإن أقرّ بدين مبهم جعل ناكلا. وكذا اختيار ما زاد على أربع ، أو طلق مبهمة ، أو ادعى القاضي دينا لميت لا ولي له.

قاعدة ـ [٧٩]

التأويل إنما يكون في الظواهر دون النصوص.

ولا يقال تأويل لبيان المجمل ، كالمشترك إذا حمل على أحد معنييه بقرينة.

وللتأويل مراتب :

أعلاها : ما كان اللفظ محتملا له ، ويكثر دخوله في الكلام.

ويليه : ما يكون احتماله فيه بعد ، لكن تقوم قرينة تقتضي ذلك.

فان زاد البعد أشكل القبول والرد ، من جهة القرينة قوة وضعفا.

وأبعده : ما لا يحتمله اللفظ ولا تقوم عليه قرينة ، فيرد.

وهذا وارد في الأدلة ويجي‌ء مثله في ألفاظ المكلفين مثل : طلقتك ،

__________________

(١) في (ك) : يحنث ، والصواب ما أثبتناه على ما يبدو.

٢٤١

للرجعية ، يحتمل الإنشاء والاخبار ، فإذا ادعى الاخبار قبل منه.

وهذا في الحقيقة تبين لأحد محتملي اللفظ المشترك وليس تأويلا.

ولو كان اسمها (طالق) أو (حرة) فناداهما بذلك ، فان قصد النداء فلا تحث ، وإن قصد الإيقاع ، احتمل الوقوع. وإن أطلق ، فالأقرب الحمل على النداء ، للقرينة.

ومنه : تخصيص العام وتقييد المطلق بالنية (١) ، كما يقع في الأيمان.

ومنه : طلقتك ، أو أنت طالق ، وادعى سبق لسانه من غير قصد ، وأنه أراد أن يقول : طلبتك.

ومنه : لو صدقت الزوج في عدم الرجعة ثمَّ رجعت إلى تصديقه هل يقبل إقرارها ، لإمكان اخبارها عن ظنها ثمَّ تبين لها خلافه؟

ويشكل : بالإقرار بالمحرمية والرضاع ثمَّ يرجع ، فإنه لا يقبل ، مع قيام الاحتمال فيه.

وفرق بينهما : بأن المحرمية والرضاع أمران ثبوتيان وعدم الرجعة نفي ، والإحاطة في الثبوت أقرب من النفي. ومن ثمَّ لو ادعت عليه الطلاق البائن فرد اليمين عليها ، فحلفت ، ثمَّ رجعت لم يقبل منها ، لاستنادها إلى الإثبات.

ولو زوجت وقالت : لم أرض ، ثمَّ رجعت قبل ، لرجوعه إلى النفي ، لأنها أنكرت حق الزوج فرجعت إلى التصديق ، فيقبل ، لحقه.

وقيل (٢) لا يقبل في جميع هذه المواضع ، لأن النفي في فعلها كالإثبات ، ولهذا يحلف على القطع.

__________________

(١) في (ك) : بالبينة ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٢) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٤٩٥ (في المسألة الأخيرة).

٢٤٢

وكالتأويل في الرجوع عن الإقرار بقدر الثمن بشراء وكيله وشبهه ، فتسمع دعواه.

ولو قال : له علي شي‌ء ، ففسره بحبة حنطة قيل (١) يقبل لأنه شي‌ء يحرم أخذه ويجب رده. ولو فسره بوديعة قبل ، لأن عليه ردها ، ويضمنها لو فرط وتلفت. ولو فسره بالعيادة ورد السلام لم يقبل ، لبعد التأويل.

ولو قال : له علي حق ، احتمل فيه (٢) قبول رد السلام.

ويشكل : بأن الحق أخص ، ويبعد قبول الأخص بتأويل لا يقبله الأعم. ولو قيل : بأن العرف يأبى تأويله في الوجهين أمكن.

ومنه : دعوى إقامة القبالة في الدين ، والرهن.

قاعدة ـ [٨٠]

قد يثبت ضمنا ما لا يثبت أصلا.

وهو مأخوذ من قاعدة المقتضي (٣) في أصول الفقه ، وهي : ما إذا كان المدلول مضمرا ، لضرورة صدق المتكلم ، كرفع الخطأ ، أو لتوقف صحة اللفظ عليه (كاسأل القرية) ، أو لاقتضاء الشرع ذلك مثل : (أعتق عبدك عني) فإنه يقتضي تقدير سبق انتقال الملك إليه.

كما لو حكمنا بثبوت أول الصوم بشهادة الواحد ، فإنهم يفطرون عند كمال الثلاثين ضمنا ، وإن كان هلال شوال لا يثبت به.

__________________

(١) انظر : العلامة الحلي ـ تذكرة الفقهاء : ٢ ـ ١٥١.

(٢) زيادة من (أ).

(٣) المعبر عنها بدلالة الاقتضاء.

٢٤٣

وقيل (١) لا إفطار.

ويتفرع عليه (٢) : حلول الدين ، وتعليق الظهار ، وغير ذلك.

أما لو شهد النساء على الولادة قبل ، ويثبت النسب ، وإن كان لا يثبت النسب بشهادتهن.

ولو وقف على الفقراء ، ثمَّ صار فقيرا ، فهنا دخل في الوقف ، وإن كان لو وقف على نفسه بطل.

وكبيع الثمرة مع الأصل ، لا يشترط فيها مع الظهور بدو الصلاح ، لأنها في ضمن الشجر.

ولو تجددت اللّقطة الثانية قبل أخذ الأولى وترك البائع للمشتري ، وقلنا لا خيار له ، لحصول التمليك ضمنا في الترك.

وكذا لو رد مشتري العبد المسلم من الكافر ، للعيب ، فإنه يدخل المسلم في ملك الكافر ضمنا ، أو وجد البائع في الثمن المعين عيبا.

والضمني في هذا أظهر.

ولو باع المريض محاباة فالزائد هبة ، ولا يشترط فيها القبض ، لأنه في ضمن البيع.

ولو قال : أعتق عبدك المستأجر عني ، صح ، وإن قلنا بمنع بيع العين المستأجرة ، لأن الملك ضمني.

وكذا لو أعتق العبد المغصوب عنه ولا يقدر الآذن على انتزاعه ،

__________________

(١) هو وجه للشافعية اختاره أبو بكر بن الحداد. وذهب إليه أبو حنيفة ، وهو الأشهر عند الحنابلة. انظر : الشيرازي ـ المهذب : ١ ـ ١٧٩ ، والنوويّ ـ المجموع : ٦ ـ ٢٧٩ ، والكاشاني ـ بدائع الصنائع : ٢ ـ ٨٢ ، وابن رجب ـ القواعد : ٣٢٢.

(٢) زيادة من (ح).

٢٤٤

فإنه يصح وإن لم يصح بيعه ، لأن الملك في ضمن العتق.

وكذا حب الزوال (١) في الحنطة بمثلها. وكذلك اللبن في الشاة إذا باعها بحالبه (٢).

ولو قلنا بمذهب الشيخ (٣) : أن للغسل عن الجنابة إذا كان على البدن نجاسة فغسلها بنية رفع الحدث ، وزالت ، فإنه يكون قد تضمن إزالة الحدث إزالة الخبث.

وكذا تدخل الأشجار في بيع الأرض ضمنا ، وكإرث الخيار تبعا للمال ، وإن كان الخيار وحده لا يورث.

قاعدة ـ [٨١]

يستفاد من دلالة الإشارة أحكام ، كقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٤) مع قوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٥) فإنه يشير إلى أن أقل الحمل ستة أشهر.

ومنها : قول المصلي (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (٦) وقصد

__________________

(١) الزوان : ما يخرج من الطعام فيرمى به ، وهو الردي‌ء منه. وفي الصحاح : هو حب يخالط البر. انظر : ابن منظور ـ لسان العرب (مادة زون).

(٢) في (ح) و (م) : بحالته.

(٣) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ١ ـ ٢٩.

(٤) الأحقاف : ١٥.

(٥) لقمان : ١٤.

(٦) الحجر : ٤٦.

٢٤٥

التلاوة والأمر ، فإن صلاته لا تبطل ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أبيا بفتح القراءة على من يرتج عليه (١).

وهل تقوم الإشارة منه مقام اللفظ على الإطلاق؟ تظهر الفائدة في إبطال إشارة الأخرس لصلاته.

قاعدة ـ [٨٢]

إذا تعارضت الإشارة والعبارة ففي ترجيح أيهما؟ وجهان. ويتفرع عليهما مسائل :

مثل : أصلي خلف هذا زيد ، وكان عمرا ، (أو على هذا زيد وكان عمرا) (٢) ، أو على هذه المرأة ، وكان رجلا ، أو زوجتك هذه العربية ، وهي عجمية.

وقوى العامة تغليب الإشارة في الكل (٣).

ومنه : بعتك هذا الفرس ، فإذا هو حمار ، وخلعتك على هذا الثوب الصوف ، فبان قطنا.

وفي الأيمان مسائل من هذا ، ومنه : لله علي إن اشتريت هذه الشاة جعلتها أضحية ، فإنه قيل (٤) : بالمنع ، لأن التعليق على ملك

__________________

(١) لم أعثر على هذه الرواية في حدود تتبعي.

(٢) في (ح) : أو على هذا عمرو وكان زيدا.

(٣) هذا ينطبق على الشافعية فقد غلبوا في هذه المسائل الإشارة على العبارة. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٣٤٠. وفصل الحنفية في هذه الوجوه فغلبوا تارة الإشارة وأخرى العبارة. انظر : ابن نجيم ـ الأشباه والنّظائر : ٣٤٤ ـ ٣٤٦.

(٤) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٣٤٢.

٢٤٦

معين لا يجوز ، بخلاف ما لو قال : إن اشتريت شاة. والأصح الصحة في الموضعين.

فائدة (١)

الشهادة والرواية تشتركان في الجزم ، وتنفردان : في أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهو الرواية ، كقوله عليه‌السلام : (الشفعة فيما لا يقسم) (٢) فإنه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة. وإن كان بمعين فهو الشهادة ، كقوله عند الحاكم : أشهد بكذا لفلان.

وقد يقع لبس بينهما في صور :

الأولى : رؤية الهلال ، فان الصوم مثلا لا يختص بمعين ، فهو رواية ، ومن اختصاصه بهذا العام دون ما قبله وما بعده ، بل بهذا الشهر ، فهو كالشهادة ، ومن ثمَّ اختلف في التعدد.

الثانية : المترجم عند الحاكم من حيث نصب (٣) عاما للترجمة ،

__________________

(١) في (ح) و (م) : قاعدة.

(٢) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٤ ـ ٢ ، حديث : ٢٣ ، والنوري ـ مستدرك الوسائل : ٣ ـ ١٤٧ ، باب ٣ من أبواب الشفعة ، حديث : ٧.

(٣) في (ك) و (ح) و (أ) : يصير ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ٩. ويبدو أن المصنف اعتمد في هذه الفائدة انظر : ١ ـ ٥ ـ ١٤.

٢٤٧

ومن إخباره عن كلام معين. والأقوى التعدد في الموضعين.

الثالثة : المقوّم من حيث أنه منصوب لتقويمات لا نهاية لها ، فهو رواية ، ومن أنه إلزام لمعين (فلا يتعداه) (١).

الرابعة : القاسم من حيث نصبه لكل قسمة ، ومن حيث التعين في كل قضية.

الخامسة : المخبر عن عدد الركعات أو الأشواط ، من أنه لا يخبر عن إلزام حكم المخلوق بل للخالق سبحانه وتعالى ، فهو كالرواية ، ومن أنه إلزام لمعين لا يتعداه.

السادسة : المخبر بالطهارة أو النجاسة ، يرد فيه الشبهان (٢).

ويمكن الفرق بين قوله : طهرته ، ونجسته ، لاستناده إلى الأصل هناك ، وخلافه في الإخبار بالنجاسة. أما لو كان في ملكه فلا شك في القبول.

السابعة : المخبر عن دخول الوقت.

الثامنة : المخبر عن القبلة.

التاسعة : الخارص.

والأقرب في هذه الخمسة الاكتفاء بالواحد إلا في الاخبار بالنجاسة ، لو (كان ملكه) (٣) ، إلا أن تكون يده ثابتة عليه بإذن المالك.

أما المفتي فلا خلاف في أنه لا يعتبر فيه التعدد ، وكذا الحاكم ، لأنه ناقل عن الله عزوجل إلى الخلق فهو كالراوي. ولأنه وارث

__________________

(١) زيادة من (ح).

(٢) في (ح) : الشهادة ، وفي (م) : الشبهات ، والصواب ما أثبتناه ، والمعنى : أنه يرد فيه شبه الرواية وشبه الشهادة.

(٣) زيادة من (ك).

٢٤٨

النبي ، والإمام ، الّذي هو واحد.

وأما قبول الواحد في الهدية ، والإذن في دخول دار الغير ، فليس برواية ، إذ هو حكم خاص لمحكوم عليه خاص ، بل هو شهادة ، لكن اكتفى فيها بالواحد عملا بالقرائن المفيدة للقطع ، ولهذا قبل وإن كان صبيا. ومنه : إخبار المرأة في إهداء العروس إلى زوجها.

ولو قيل : بأن هذه الأمور قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية وإن كان مشبها للرواية كان قويا (١) ، وليس إخبارا ، ولهذا لا يسمى الأمين (٢) المخبر عن فعله شاهدا ولا راويا ، مع قبول قوله وحده ، كقوله : هذا مذكى ، أو ميتة ، لما في يده. وقول الوكيل : بعت ، أو : أنا وكيل ، أو هذا ملكي.

ولا يرد على الفرق (٣) : أن من الشهادات ما يتضمن العموم ، كالوقف العام ، والنسب المتصل إلى يوم القيامة ، وكون الأرض عنوة أو صلحا. ومن الروايات ما يتضمن حكما خاصا ، كتوقيت الصلوات بأوقاتها المخصوصة. لأن العموم هناك عارض ، وفي الحقيقة التعيين هو المقصود بالذات فإنها شهادة على الواقف ، وهو شخص واحد ، وليس العموم من لوازم الوقف. وكذا النسب المشهود عليه إلحاق معين بمعين ، والعموم طرأ عليه. وأما أوقات الصلوات وإن كانت متحدة بحسب صلاة إلا أنها شرع عام على جميع المكلفين.

__________________

(١) في (ك) و (م) : قولا.

(٢) في (ا) : المرء.

(٣) أورد هذا الإيراد القرافي ، وأجاب عنه بما ذكره المصنف. انظر : الفروق : ١ ـ ١٥ ـ ١٦.

٢٤٩

فروع :

الأول ، لو روى أحد المتنازعين رواية تقتضي الحكم له ، أو العبد رواية تقتضي عتقه ، فالأقرب السماع ، لأن العموم مع وازع العدالة يمنع التهمة في الخصوص.

الثاني : معنى (شهد) : حضر ، ومنه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١). وأخبر ، ومنه : الشهادة عند الحاكم. ومعنى : علم ، نحو (٢) (على كل شي‌ء شهيد) (٣) أي : عليم.

وقوله تعالى (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) (٤) يحتمل الاخبار ، والعلم.

ومعنى (روى) تحمل ، فراوي الحديث يحمله عن شيخه ، ومن ثمَّ سمي البعير راوية ، لحمله الماء ، وأطلق على المزادة (٥) للمجاورة ، وليس هذا من باب (أروى ، وروى) وإلا لقيل : مروية ، ومرويّة.

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) في (ح) و (أ) : ومنه.

(٣) المائدة : ١١٧ ، والحج : ١٧ ، وسبأ : ٤٧ ، وفصلت : ٥٣ ، والمجادلة : ٦ ، والبروج : ٩.

(٤) آل عمران : ١٨.

(٥) المزادة : هو الظرف الّذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة. انظر : ابن الأثير ـ النهاية : ٤ ـ ٩١ ، مادة (مزد).

٢٥٠

الثالث : رجح (١) الأصحاب (٢) في بعض صور الشهادة بالأعدل ، فالأكثر ، كما في الرواية. ومنع بعضهم (٣) : الأمرين.

وآخرون (٤) : الترجيح بالعدد ، لأن الحاكم نصب لدرء (٥) الخصومة وقطع المنازعة ، فلو فتح باب الكثرة أمكن طلب الخصم الإمهال ليحضر شهودا أكثر ، ولو زورا فإذا أحضر أمكن خصمه طلب مثله ، فيتمادى النزاع. بخلاف العدالة ، فإن العدالة لا تستفاد إلا من الحاكم فلا يمكن السعي في زيادتها (٦).

وهذا خيال واه ، لأنا نمنع الإمهال أولا ، بل يحكم الحاكم بحسب

__________________

(١) في (ك) و (ح) زيادة : بعض. والظاهر أن الصواب ما أثبتناه ، لأن نصوص الأصحاب كلها متفقة على هذا الترجيح كما يبدو من العلامة الحلي في ـ المختلف : ٥ ـ ١٣٩ ـ ١٤٢.

(٢) انظر : الشيخ المفيد ـ المقنعة : ١١٤ ، والشيخ الطوسي ـ النهاية : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، وابن إدريس ـ السرائر : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، والعلامة الحلي ـ تحرير الأحكام : ٢ ـ ١٩٥ ، ومختلف الشيعة : ٥ ـ ١٣٩ ـ ١٤٢.

(٣) ذهب بعض الشافعية والحنابلة إلى هذا الرّأي. انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٣١١ ، وابن قدامة ـ المغني : ٩ ـ ٢٨٢ ، والمرداوي ـ الإنصاف : ١١ ـ ٣٨٧.

(٤) انظر : النوويّ ـ منهاج الطالبين : ١٣٣ ، والقرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٧.

(٥) في (ح) : لرد.

(٦) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ١٧.

٢٥١

الحال الحاضر لما كان الإمهال يؤدي إلى هذا الإخلال.

سلمنا ، لكن المراد بالأعدل ظاهرا ، وقد يسعى في تحصيل الأعدل أيضا ظاهرا ، ولو زورا ، فان العصمة إذا ارتفعت اتسع المجال.

فالمحذور لازم. ولأن من القضايا ما يمكن فيها تكثير الشهود وتبديلهم ، كالشهادة على بيع معين ، فإنه يمكن أن يحضر جماعة (فيأتي ببعضهم) (١) ثمَّ يسعى لإكمال الباقي. أو على إقرار ، فيسعى لسماع الإقرار ثانيا وثالثا ، وذلك ممكن في الكثرة والأعدلية.

قاعدة ـ [٨٣]

الإنشاء هو : القول الّذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر (٢). فقولنا : (يوجد به مدلوله) ، احتراز من الخبر ، فإنه تقرير لا إيجاد. وقولنا : (يوجد) المراد به الصلاحية للإيجاد ، فلو صدر الإنشاء من سفيه أو ناقص الأهلية لم يخرج عن كونه إنشاء ، لصلاحية اللفظ لذلك ، وإنما امتنع تأثيره لأمر خارج. وقولنا : (في نفس الأمر) ليخرج به العقد المكرر ، فإنه قول صالح لإيجاد مدلوله ظاهرا ولا يسمى إنشاء ، لعدم الإيجاد في نفس الأمر.

ومن قال بالكلام النفسيّ ، (٣) قال : إن إنشاء السببية ، والشرطية ، والمانعية ، بل الأحكام الخمسة ، قائمة بذات الله تعالى ، ثمَّ أنه تعالى لما أنزل الكتاب دالا على ما قام بذاته زيد في الحد

__________________

(١) في (ك) : فيأبى بعضهم.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٢١.

(٣) انظر المصدر السابق : ١ ـ ٤٩.

٢٥٢

(أو متعلقه) لأن الكلام النفسيّ لا دلالة فيه ولا مدلول ، وإضافته متعلق ومعلق.

ولكن الظاهر أن النيات إنشاء وهي من أفعال القلوب ، وقد قال كثير منا بوقوع النذر والعهد بالنية (١).

فالأولى أن يقال : الإنشاء هو : قول أو عقد يوجد به مدلوله.

ولا حاجة إلى (نفس الأمر) ، لأن الصيغة الثانية لا تسمى إنشاء إلا مجازا مستعارا.

والفرق بينه وبين الخبر من أربعة أوجه (٢).

الأول : أن الإنشاء سبب لمدلوله ، والخبر ليس سببا.

الثاني : أن الإنشاء يتبعه مدلوله ، والخبر يتبع مدلوله. والمراد بتبعية الخبر لمدلوله : أنه تابع لتقريره في زمانه ، ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا ، لا أنه تابع لمخبره في وجوده ، وإلا لم يصدق إلا في الماضي ، فإن الحاضر مقارن ، فهو مساو في الوجود ، والمستقبل وجوده بعد الخبر ، فكان متبوعا لا تابعا.

الثالث : قبول الخبر للتصديق ومقابله ، بخلاف الإنشاء.

الرابع : أن الخبر يكفي فيه الوضع الأصلي ، والإنشاء قد يكون منقولا عن أصل أو ضع في صيغ العقود والإيقاعات ، وقد يقع إنشاء بالوضع الأصلي ، كالأمر والنهي ، فإنهما ينشئان الطلب بالوضع الأول.

__________________

(١) انظر : الشيخ المفيد ـ المقنعة : ٨٨ ، والشيخ الطوسي ـ النهاية : ٥٦٢ ـ ٥٦٣ ، وابن حمزة ـ الوسيلة : ٦٩ ، والعلامة الحلي ـ مختلف الشيعة : ٥ ـ ١٠٨ (نقلا عن ابن البراج القاضي).

(٢) ذكر هذه الأوجه القرافي في ـ الفروق : ١ ـ ٢٣.

٢٥٣

فائدة

الإنشاء أقسام : القسم ، والأمر ، والنهي ، والترجي ، والتمني (١) ، والعرض ، والنداء.

قيل (٢) : وهذه متفق على كونها إنشاء في الإسلام والجاهلية.

وأما صيغ العقود فالصحيح أنها إنشاء. وقال بعض العامة (٣) : بل هي أخبار على الوضع اللغوي ، والشرع قدم مدلولاتها قبل النطق بها بآن ، لضرورة تصديق المتكلم بها ، والإضمار أولى من النقل وهو تكلف.

قاعدة (٤) ـ [٨٤]

مكملة لما سبق في الوضع السبب : هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته (٥) فالتلازم في الوجود ، يخرج الشرط ، فإنه لا يلزم من وجوده الوجود

__________________

(١) زيادة من (ح) ، وهي مطابقة لما في الفروق : ١ ـ ٢٧.

(٢) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٢٧.

(٣) انظر : المصدر السابق : ١ ـ ٢٨ ، ٢٩ (نقلا عن الحنفية).

(٤) في (م) : فائدة.

(٥) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٦١.

٢٥٤

وإنما يلزم من عدمه العدم. وبالتلازم في العدم ، يخرج المانع ، لأنه لا يلزم من عدمه عدم شي‌ء ، إنما يؤثر وجوده في العدم.

وقولنا : لذاته ، احتراز من مقارنة وجود السبب عدم الشرط ، أو وجود المانع ، فلا يلزم الوجود ، أو قيام سبب آخر حالة عدم الأول مقامه ، فلا يلزم العدم.

وأما الشرط فهو : الّذي يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، ولا يشتمل على شي‌ء من المناسبة في ذاته بل في غيره (١).

فبالأول : يخرج المانع. وبالثاني : السبب. وبالثالث : يحترز من مقارنة وجوده لوجود السبب فيلزم الوجود ، ولكن ليس لذاته بل لأجل السبب. أو قيام المانع ، فيلزم العدم لأجل المانع لا لذات الشرط.

والقيد الرابع : احتراز من جزء العلة ، فإنه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، إلا أنه يشتمل على جزء المناسبة ، فان جزء المناسب مناسب (٢).

وأما المانع فهو : الّذي يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته (٣).

فبالأول : خرج السبب.

وبالثاني : الشرط.

والثالث : احتراز من مقارنة عدمه لعدم الشرط ، فيلزم العدم ،

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٦٢.

(٢) انظر : نفس المصدر.

(٣) انظر : نفس المصدر.

٢٥٥

أو وجوب السبب فيلزم الوجود. بل بالنظر إلى ذاته لا يلزم شي‌ء من ذلك.

فظهر أن المعتبر من (المانع) وجوده ، ومن (الشرط) عدمه ، ومن (السبب) وجوده وعدمه. وقد اجتمعت في الزكاة ، فالنصاب سبب ، والحول شرط ، والمنع من التصرف مانع (١). وفي الصلاة ، فإن الدلوك سبب في الوجوب ، والبلوغ شرط ، والحيض مانع.

والشرط قد يكون لغويا ، وقد يكون عرفيا ، وقد يكون شرعيا ، وقد يكون عقليا.

فالشروط اللغوية هي التعاليق مثل : تعليق الظهار على الدخول ، وهي متلازمة مع المشروط في الوجود والعدم ، فهي أسباب في المعنى.

والعرفية : كالسلم مع صعود السطح.

والشرعية : كالطهارة مع الصلاة.

والعقلية : كالحياة مع العلم.

فإطلاق اسم الشرط عليها إما بطريق الاشتراك ، أو بطريق الحقيقة والمجاز ، بناء على أن المجاز خبر من الاشتراك ، أو بطريق التواطي والقدر المشترك بينها توقف الوجود على الوجود مع قطع النّظر عما عدا ذلك (٢).

فائدة دقيقة

من قبيل الشرط اللغوي دائرة على ألسنة الأفاضل فلنذكرها حسبما

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٦٢.

(٢) انظر المصدر السابق : ١ ـ ٦٢ ـ ٦٣.

٢٥٦

قرروها وهي ما أنشد بعضهم :

ما يقول الفقيه أيده الله

ولا زال عنده إحسان

في فتى علق الطلاق بشهر

قبل ما قبل قبله رمضان(١)

وليمثل عندنا في الظهار ، أو في النذر وشبهه.

ويمكن إنشاد هذا البيت على ثمانية : بالتقديم ، والتأخير ، بشرط استعمال الألفاظ في حقائقها دون مجازاتها مع بقاء الوزن. ولو طرحنا اعتبار الحقيقة والوزن وطوّلنا البيت بمثله اشتمل على سبعمائة وعشرين مسألة فقهية. وهلم جرا. ولا تتعجب من ذلك فان هنا بيتا يتفق فيه بحسب التغيير أربعون ألف بيت وثلاثمائة وعشرون بيتا ، وهو :

علي إمام جليل عظيم

فريد شجاع كريم عليم

قلته محاذاة لقول بعض العلماء (٢) :

لقلبي (٣) حبيب مليح ظريف

بديع جميل رشيق لطيف

وهو من بحر المتقارب ، لأن اللفظين الأولين لهما صورتان ، فإذا ضربتا في مخرج الثالث صارت ستة ، فإذا ضربت في مخرج الرابع صارت أربعة وعشرين ، فإذا ضربت في مخرج الخامس صارت مائة وعشرين ، فإذا ضربت في الستة ، فسبعمائة وعشرون ، فإذا ضربت في

__________________

(١) ذكر هذين البيتين القرافي وعزاهما إلى بعض الفضلاء من دون التصريح باسم قائلهما. وقد وقع هذا السؤال للشيخ جمال الدين أبي عمرو ابن الحاجب بأرض الشام وأفتى فيه ، وسئل عنه أيضا بدمشق. انظر : الفروق : ١ ـ ٦٣ ـ ٦٤ ، والأمالي النحوية لابن الحاجب : ورقة : ١٢٩ (مخطوطة مصورة بمكتبة السيد الحكيم في النجف برقم ٩٤

(٢) نسبه القرافي إلى الفقيه زين الدين المغربي. (الفروق : ١ ـ ٦٨).

(٣) في الفروق : ١ ـ ٦٨ : بقلبي.

٢٥٧

السبعة فخمسة آلاف وأربعون ، ثمَّ في مخرج الثامن تبلغ ما قلناه.

ومن هذا يعلم أن صور النكس في الوضوء مائة وعشرون. ولو اعتبرنا الترتيب بين الرجلين كانت سبعمائة وعشرين (١).

ومنه يعلم الترتيب في قضاء الفوائت على القول بالوجوب أو الاستحباب.

فإذا أردنا في بيت السؤال تكثيره فمعنا في البيت ثلاثة من لفظ (قبل) وثلاثة من لفظ (بعد) فيجمع بين الستة ، فيخرج البيت عن الوزن فنقول :

قبل ما قبل قبل بعد ما بعد بعده رمضان

ثمَّ لنا أن ننوي بكل (قبل) وبكل (بعد) شهرا من شهور السنة ، أي شهر كان ، من غير مجاورة (٢) ولا التفات إلى ما بينهما من عدة الشهور ويكون بالمجاز ، فإن أي شهر أخذته فبينه وبين الشهر الّذي نسبته إليه بالقبلية والبعدية علاقة ، من جهة أنه من شهور السنة معه أو هو قبله من حيث الجملة أو بعده من حيث الجملة ، أو هو شبيه بما يليه (٣) من جهة أنه شهر موصوف بالقبلية (٤) ، إلى غير ذلك من علائق المجاز.

ثمَّ إنا نعمد إلى هذه الألفاظ الستة (٥) فتظهر نسبتها إلى رمضان ،

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ١ ـ ٦٩ ، فقد ذكر صور الوضوء.

(٢) في (ك) و (م) : مجاوزة ، وما أثبتناه مطابق لما في الفروق : ١ ـ ٦٩.

(٣) في الفروق : ١ ـ ٦٩ : قبله

(٤) في (ح) زيادة. وبالبعدية ، وليست في الفروق.

(٥) في الفروق ١ ـ ٦٩ زيادة : فنأخذ منها اثنين فتحدث منها صورتان ونعتبرهما شهرين من شهور السنة.

٢٥٨

ويظهر من ذلك الشهر المسئول عنه. ثمَّ نورد عليها لفظة أخرى من لفظ (قبل) و (بعد) إلى آخر السنة. ومتى أفضى الأمر إلى التداخل بين صورتين في شهر نوينا به آخر من شهور السنة حتى تحصل المغايرة ، فيحصل من الألفاظ الستة ما ذكرناه. وإن زدت عليها لفظة (قبل) أو (بعد) تراقى الأمر إلى ما لا نهاية له.

وقال ابن الحاجب (١) في أماليه (٢) : هذا البيت ينشد على ثمانية أوجه : لأن ما بعد قبل الأولى قد يكون قبلين ، وقد يكون بعدين ، وقد يكونان مختلفين ، فهذه أربعة أوجه كل منها قد يكون قبله (قبل) ، وقد يكون قبله (بعد) صارت ثمانية. فأذكر قاعدة يبنى عليها تفسير الجميع ، وهو : أن كل ما اجتمع فيه منها (قبل) و (بعد) فألقهما ، لأن كل شهر حاصل بعد ما هو قبله ، وحاصل قبل ما هو بعده ، فلا يبقى حينئذ إلا بعده رمضان ، فيكون شعبان ، أو قبله رمضان ، فيكون شوالا ، فلم يبق إلا ما جميعه قبل ، أو جميعه بعد ، فالأوّل هو الشهر الرابع من رمضان ، لأن معنى

__________________

(١) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي الأسنوي المالكي النحوي الأصولي. وكان مولده في أواخر سنة ٥٧٠ هـ وكان من أذكياء العالم مات بالإسكندرية سنة ٦٤٦ هـ. له كتب كثيرة ممتعة. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٥٠).

(٢) الأمالي النحوية ـ ورقة : ١٢٦ ـ أ (مخطوطة مصورة على الميكروفيلم بمكتبة السيد الحكيم العامة بالنجف برقم ٩٤). وأورد القرافي هذا النص المنقول عن ابن الحاجب للفقيه الشيخ جمال الدين أبي عمرو. انظر : الفروق : ١ ـ ٦٤.

٢٥٩

قبل ما قبل قبله رمضان : شهر تقدم رمضان قبل شهرين قبله ، وذلك ذو الحجة. والثاني هو الرابع أيضا ولكن على العكس ، لأن معنى بعد ما بعد بعده رمضان : شهر تأخر رمضان عنه بعد شهرين بعده ، وذلك جمادى الآخرة. فإذا تقرر ذلك : فقبل ما قبل قبله رمضان ذو الحجة ، لأن ما قبل قبله شوال ، وقبله رمضان ، فهو ذو الحجة. وقبل ما بعد بعده رمضان شعبان ، لأن المعنى بعده رمضان وذلك شعبان. وقبل ما قبل بعده رمضان شوال ، لأن المعنى أيضا قبله رمضان ، وذلك شوال. وقبل ما بعد قبله رمضان شوال ، لأن المعنى أيضا قبله وذلك شوال. فهذه الأربعة الأول. ثمَّ نأخذ الأربعة (١) الأخر على ما تقدم ، فان بعد ما قبل قبله رمضان شوال ، لأن المعنى قبله رمضان ، وذلك شوال. وبعد ما بعد بعده رمضان جمادى الآخرة ، لأن ما بعد بعده شعبان ، وبعده رمضان فهو جمادى الآخرة. وبعد ما قبل بعده رمضان شعبان ، لأن المعنى بعده رمضان وذلك شعبان. وبعد ما بعد قبله رمضان ، شعبان ، لأن المعنى بعده. رمضان ، وذلك شعبان.

وقال : بعض البصريين : هنا مباحث (٢) :

الأول : يصح في (ما) ثلاثة أوجه : أن تكون زائدة ، وموصولة ، ونكرة موصوفة. ولا تختلف الأحكام مع شي‌ء من ذلك.

__________________

(١) زيادة من (ح) ، وهي مطابقة لما في الأمالي.

(٢) أورد القرافي هذه المباحث باختلاف بسيط في اللفظ. انظر : الفروق : ١ ـ ٦٥ ـ ٦٧.

ولم أعثر ـ في حدود ما اطلعت عليه من مصادر ـ على هذا القائل من البصريين.

٢٦٠