القواعد والفوائد - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

قاعدة ـ [٦٥]

ضبط كثير من الأصحاب (١) الاستفاضة : بما يتاخم العلم.

وبعضهم (٢) : بمحصل العلم. وهذه مأخوذة من الخبر المستفيض عند الأصوليين (٣) ، وهو المشهور ، بحيث يزيد نقلته عن ثلاثة.

وقال بعضهم (٤) : يثبت بالاستفاضة اثنان وعشرون (٥) : النسب إلى الأبوين ، والموت ، والنكاح ، والولاية ، والعزل ، والولاء ، والرضاع ، وتضرر الزوجة ، والوقوف ، والصدقات ، والملك المطلق ، والتعديل ، والجرح ، والإسلام ، والكفر ، والرشد ، والسفه ، والحمل ، والولادة ، والوصاية ، والحرية ، واللوث قيل : والغصب (٦) ، والدين والعتق ، والإعسار.

__________________

(١) انظر : المحقق الحلي ـ شرائع الإسلام : ٤ ـ ١٣٣ ، والعلامة الحلي ـ قواعد الأحكام : ٢٣٩.

(٢) انظر : العلامة الحلي ـ تحرير الأحكام : ٢ ـ ٢١١ ، والشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٣٣٥ (نقلا عن الماوردي).

(٣) انظر : النسفي ـ كشف الأسرار : ٢ ـ ٦ ـ ٧ ، والمحلى ـ شرح جمع الجوامع ، طبع مع حاشية البناني على الشرح المذكور : ٢ ـ ١٢٩.

(٤) نقل السيوطي عن الصدر موهوب الجزري هذه الموارد إلا في اثنتين منها ، وهما : الولاء والملك المطلق ، فقد نقل عنه بدلهما : ولاية الولي ، والأشربة القديمة. انظر : الأشباه والنّظائر ـ ٥٢٠.

(٥) عدّ القرافي خمسة وعشرين موضعا يثبت بالاستفاضة. انظر : الفروق : ٤ ـ ٥٥.

(٦) أضافه الماوردي انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٥٢٠.

٢٢١

تنبيه

كل ما جاز الشهادة به جاز الحلف عليه ، وما لا فلا. وخرج عن ذلك : الحلف على تملك ما اشتراه من ذي اليد إذا قلنا لا يشهد له بالملك ، وإن جوزناه فلا خروج.

تنبيه

آخر إن اعتبرنا في الاستفاضة العلم جاز للحاكم أن يحكم بعلمه المستفاد منها ، وإلا ففيه نظر. وقد نصوا على أن الحاكم يحكم بعلمه في التعديل والجرح (١) مع أنه من الاستفاضة.

وقد يفرّق : بأن التعديل كالرواية العامة لجميع الناس ، لأن نصبه عدلا يعم كل مشهود عليه ، فهو كالرواية التي لا يشترط في قبولها العلم ، بخلاف باقي الأحكام الثابتة بالاستفاضة فإنها أحكام على أشخاص بعينهم ، فاعتبر فيها العلم القطعي.

قاعدة ـ [٦٦]

يجوز الاعتماد على القرائن في مواضع.

وهذه مأخوذة من إفادة الخبر المحتف بالقرائن للعلم ، إما بمجرد القرائن ، أو بها وبالأخبار. ولكن معظم هذه المواضع فيها ظن غالب لا غير ، كالقبول من المميز في الهدية ، وفتح الباب ، واللوث ، وجواز

__________________

(١) انظر : القرافي ـ الفروق : ٤ ـ ٤٤.

٢٢٢

أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن ، والتصرف في الهدية من غير لفظ ، والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع ، والعري في الخلوة ، وشبهه.

قاعدة ـ [٦٧]

كل شرط في الراوي والشاهد فإنه معتبر عند الأداء لا عند التحمل ، إلا : في الطلاق قطعا ، وفي البراءة من ضمان الجريرة على قول ولا تعتبر روايته قبل البلوغ وإن صح تحمله ومن العامة (١) من اعتبرها ، وفرعوا عليه : جواز تدبيره ، ووصيته ، وأمانه كافرا ، وإسلامه مميزا (٢).

فائدة (٣)

عمد الصبي في الدماء خطأ ، مع نصّ الأصحاب (٤) على حل ذبيحته واصطياده ، مع أن ذينك مشروطان بالقصد ، فكيف اعتبر القصد هنا ولم يعتبر في الدماء؟!

__________________

(١) انظر : السخاوي ـ فتح المغيث : ١ ـ ٢٧١ (نقلا عن بعض الشافعية).

(٢) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٧ ، والغزالي ـ الوجيز : ١ ـ ١٦٢ ، والسيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٣) في (ك) و (م) : فوائد.

(٤) انظر : الشيخ الطوسي ـ النهاية : ٥٨٢ ، والعلامة الحلي ـ تحرير الأحكام : ٢ ـ ١٥٦ ، ١٥٨.

٢٢٣

وقد بنى الشيخ (١) مباشرته لمحظور الإحرام على أن عمده عمد أو خطأ. وأجمعنا على أنه لو تعمد الكلام في الصلاة ، والإفطار في الصيام ، لبطلا.

ويترتب على ذلك : تحريم المصاهرة بوطئه إما عن عقد أو شبهة ، أو إيقاب ذكر.

والمجنون أبعد في اعتبار عمده. واعتبره بعض الأصحاب (٢) في الزنا ، محصنا أو غير محصن.

قاعدة ـ [٦٨]

كل ما توعد الشرع عليه بخصوصه فإنه كبيرة. وقد ضبط ذلك بعضهم (٣) فقال : هي :

الشرك بالله ، والقتل بغير حق ، واللواط ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والرّبا ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والغيبة بغير حق ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وشرب الخمر ، واستحلال الكعبة ، والسرقة ، ونكث الصفقة (٤) ، والتعرب بعد الهجرة ،

__________________

(١) الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ١ ـ ٣٢٩.

(٢) انظر : الشيخ المفيد ـ المقنعة : ١٢٤. وفيه رواية عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. انظر : الشيخ الطوسي ـ تهذيب الأحكام : ١٠ ـ ١٩ ، حديث : ٥٦.

(٣) لعله يقصد به شيخ الإسلام العلائي فقد ضبطها بذلك إلا أنه لم يذكر اللواط. انظر : ابن حجر ـ الزواجر : ١ ـ ٨.

(٤) نكث الصفقة كما فسرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله هي :

٢٢٤

واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وعقوق الوالدين.

وكل هذا ورد في الحديث (١) منصوصا عليه بأنه كبيرة.

وورد أيضا (٢) : النميمة (٣) ، وترك السنة ، ومنع ابن السبيل فضل الماء (٤) وعدم التنزه في البول ، والتسبب إلى شتم الوالدين ، والإضرار في الوصية.

وهناك عبارات أخر في حد الكبيرة :

منها : كل معصية توجب الحد (٥).

ومنها : التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بكتاب أو سنة (٦).

__________________

(أن تبايع رجلا بيمينك ثمَّ تخالف إليه فتقاتله بسيفك). انظر : ابن حجر ـ الزواجر : ٨١.

(١) انظر : المتقي الهندي ـ كنز العمال : ٢ ـ ١١٠ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١١ ـ ٢٥٢ ـ ٢٦٣ باب ٤٦ من أبواب جهاد النّفس ، وابن حجر ـ الزواجر : ١ ـ ٩ ـ ١٠ (متنا وهامشا).

(٢) انظر : ابن حجر ـ الزواجر : ١ ـ ١٠ ، والمتقي الهندي ـ كنز العمال : ٢ ـ ١١٠ ، حديث : ٢٦٧١ ، ٢٦٨٤.

(٣) في (ك) و (ح) و (م) : التهمة. وما أثبتناه لعله هو الصواب ، فإني لم أعثر على رواية تنص على عد التهمة من الكبائر ، أما النميمة فقد ورد ذكرها في أحاديث كثيرة ، كما أن المصنف سيذكرها بعد قليل في تقسيمه للكبائر ، ولم يذكر التهمة منها.

(٤) في (ك) : المال. والصواب ما أثبتناه لمطابقته الروايات.

(٥) قاله البغوي من الشافعية. انظر : ابن حجر ـ الزواجر : ١ ـ ٤.

(٦) انظر : شرح رمضان أفندي على شرح العقائد : ٢٣٨.

٢٢٥

ومنها : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث فاعلها بالدين (١).

ومنها : كل معصية توجب في جنسها حدا (٢).

وهذه الكبائر المعدودة عند التأمل ترجع إلى ما يتعلق بالضروريات الخمس التي هي مصلحة : الأديان ، والنفوس ، والعقول ، والأنساب ، والأموال.

فمصلحة الدين (منها) ما يتعلق بالاعتقاد ، وهو إما كفر ، وهو الشرك بالله ، أو ليس بكفر ، وهو ترك السنة ، إذا لم ينته إلى الكفر ، وتدخل فيه مقالات المبتدعة من الأمة كالمرجئة ، والخوارج ، والمجسمة. وقد يكون الاعتقاد في نفسه خطأ وإن لم يسم كفرا ولا بدعة ، كالأمن من مكر الله ، واليأس من روح الله. ويدخل فيه كل ما أشبه كالسخط بقضاء الله ، والاعتراض في قدره.

وقد يكون من أفعال القلوب المتعدية ، كالكبر ، والمكر ، والحسد ، والغل للمؤمنين.

ومن مصالح الدين ما يتعلق بالبدن ، إما قاصرا ، كالإلحاد في الحرم ، فيدخل فيه شبه كإخافة المدينة الشريفة ، والإلحاد فيها ، والكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام.

وإما متعديا ، وقد نصّ منها على النميمة ، والسحر ، والفرار (٣) من الزحف ، ونكث الصفقة ، لأن ضرره متعد.

وأما مصلحة النّفس ، فكالقتل بغير حق. وتدخل فيه جناية الطرف.

__________________

(١) انظر : الجويني ـ الإرشاد : ٣٩٢.

(٢) ذكره ابن حجر في ـ الزواجر : ١ ـ ٥.

(٣) في (م) و (أ) : والتولي.

٢٢٦

وأما العقل ، فشرب الخمر. ويدخل فيه كل مسكر. وأكل الميتة ، وسائر النجاسات في معناه ، لاشتمال الخمر على النجاسة.

وأما الأنساب ، فالزنا ، واللواط ، وتدخل فيها القيادة. ومن النسب : عقوق الوالدين ، والإضرار في الوصية.

تنبيه (١)

جاء في الحديث : (لا صغيرة مع الإصرار) (٢). والإصرار : إما فعليّ ، وهو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة. وإما حكمي ، وهو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها.

أما من فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصر ، ولعله مما تكفره الأعمال الصالحة من الوضوء والصلاة والصيام ، كما جاء في الاخبار (٣).

__________________

(١) في (ا) : قاعدة

(٢) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١١ ـ ٢٦٨ ، باب ٤٨ من أبواب جهاد النّفس ، حديث : ٣ ، والسيوطي ـ الجامع الصغير (بشرح المناوي) : ٢ ـ ٣٦٥.

(٣) انظر : الشيخ الطوسي ـ تهذيب الأحكام : ٢ ـ ٢٣٧ ، باب ١٢ من كتاب الصلاة ، حديث : ٧ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٢٦٢ ، باب ٨ من أبواب الوضوء ، حديث : ١ ، ٢ ، ٤ ، وج ٢ ـ ٩٤٥ ، باب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة ، حديث : ٤ ، وج ٨ ـ ٨٧ ، باب ٤٥ من أبواب وجوب الحج ، حديث : ١

٢٢٧

فائدة

التوبة بشروطها تزيل الكبائر والصغائر.

وهل يشترط الاستبراء مدة تظهر فيها توبته وصلاح سريرته ، كما قال الله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) (١)؟ الظاهر ذلك ، لأنا لا لتحقق التوبة بدونه.

ولا تقدير لتلك المدة. وقدرها بعض العامة (٢) بسنة ، أو نصفها.

وهو تحكم ، إذ المعتبر ظن صدقه في توبته ، وهو يختلف بحسب الأشخاص والأحوال المستفادة من القرائن.

على أن بعض الذنوب يكفي في التوبة منها تركها بمجرده من غير استبراء ، كمن عرض عليه القضاء مع وجوبه فامتنع ثمَّ عاد ، أو أوصى إليه وعلم بعد الموت فامتنع وعاد ، أو تعينت عليه الشهادة فامتنع وعاد ، أو عضل (٣) المرأة عن التزويج ثمَّ عاد.

ويظهر من كلام الشيخ (٤) رحمه‌الله عدم الاستبراء بالكلية ،

__________________

(١) آل عمران : ٨٩.

(٢) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٣٣١ ، وقاضي خان ـ الفتاوي الخانية : ٢ ـ ٤٩١.

(٣) في (ح) : أو منع.

(٤) صريح الشيخ الطوسي في المبسوط والخلاف الاستبراء مدة سنة في التوبة من بعض المعاصي. نعم ظاهره في المبسوط عدم الاستبراء في التوبة من قذف الشهادة. انظر : المبسوط : ٨ ـ ١٧٨ ـ ١٧٩ ، والخلاف : ٢ ـ ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٢٢٨

لأنه قال في المشهور بالفسق : (يقول له الحاكم : تب أقبل شهادتك) (١)

قاعدة (٢) ـ [٦٩]

كل مسلم أخبر عن أمر ديني يفعله فالظاهر قبوله.

وهذه مخرجة من قبول قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو أمر النبي بكذا ، أو نهى عن كذا ، لأن الظاهر من حال الصحابي تثبته ومعرفته باللغة ، فلا يطلق ذلك إلا بعد تيقن ما هو أمر أو نهي.

وفي هذه القاعدة مسائل : كإخبار المسلم بوكالته في بيع أو وصية ، أو بأن ما في يده طاهر أو نجس ، أو بأنه طهر الثوب المأمور بتطهيره.

تنبيه

يشترط في بعض الأمور هنا ذكر السبب عند اختلاف الأسباب ، كما لو أخبر بنجاسة الماء ، فإنه يمكن أن يتوهم ما ليس بسبب سببا ، وإن كانا عدلين. اللهم إلا أن يكون المخبر فقيها يوافق اعتقاده اعتقاد المخبر.

ومنه : عدم قبول شهادة الشاهد باستحقاق الشفعة ، أو بأن بينهما رضاعا محرما ، لتحقق الخلاف في ذلك ، أو بأولية شهر ، أو بإرث زيد من عمرو ، أو بكفر. والصور كثيرة.

__________________

(١) الظاهر أن هذا النص راجع إلى التوبة من قذف الشهادة. انظر : المبسوط : ٨ ـ ١٧٩.

(٢) في (م) : فائدة.

٢٢٩

ويشكل منها : لو شهدا بانتقال الملك عن زيد إلى عمرو ولم يبينا (١) سبب الانتقال ، أو بأن حاكما جائز الحكم حكم بهذا ولم يبيناه (٢) ، أو شهدا على من باع عبدا من زيد أنه عاد إليه من زيد ولم يبينا (٣) إقالة أو بيعا ، مثلا.

وبالجملة : لا ينبغي للشاهد أن يرتب الأحكام على أسبابها ، بل وظيفته أن ينقل ما سمعه منها من إقرار أو عقد بيع أو غيره ، أو ينقل ما رآه ، وإنما ترتيب المسببات وظيفة الحاكم. فالشاهد سفير والحاكم متصرف.

قاعدة ـ [٧٠]

كلما كان هناك دليل من خارج على وجوب جزئي معين في الماهية الكلية (٤) اتبع ، ولو قلنا بأن المطلق لا يتناول الجزئي المعين ، كوجوب إخراج الزكاة عند الحول ، والخمس ، وكالبيع بثمن المثل نقدا بنقد البلد.

ويقرب من هذه القاعدة : أن الإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، كالتوكيل في التصرفات التي لا تضبطها اليد الواحدة فيوكل في الزائد عن الممكن له ، وكالإذن في أداء الدين فان من لوازمه إثباته.

__________________

(١) في (ا) : يثبتا.

(٢) في (ا) : يثبتاه.

(٣) في (ا) : يثبتا.

(٤) زيادة من (ح).

٢٣٠

قاعدة ـ [٧١]

النهي في غير العبادات قد يقتضي الفساد ، بأن يكون النهي عن الشي‌ء لعينه ، أو لوصفه اللازم له.

فالأوّل : كبيع الميتة ، والخمر ، ونكاح المحرمات.

والثاني : كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة ، والرّبا ، ونكاح الشغار.

ومنه : عدم جواز ترخص العاصي بسفره ، كقاطع الطريق ، والآبق عن مولاه ، لأن تحريم السفر عليه لوصفه الّذي أنشأه لأجله ، ففي إباحة الترخص له بالقصر وشبهه من رخص السفر إعانة له على المعصية.

فإن قلت : ذبح الغاصب للشاة منهي عنه ، لوصف لازم ، وهو كونها ملك الغير ، مع وقوع الذكاة عليها.

قلت : الوصف اللازم هنا خارج عن الذبح ، إذ الذبح مستوف شرائطه ، والشاة باقية على ملك مالكها. وهذا بخلاف النهي عن ذبح الذمي فإنه يحرم الذبيحة ، أو بالظفر والسن ، أو بغير الحديد مع إمكانه ، فإن هذا النهي يرجع إلى وصف لازم للذكاة من حيث هي ذكاة.

فائدة (١)

نهي الإنسان عن جرح نفسه وإتلافها. ويكفي في التحريم عدم

__________________

(١) في (ا) : قاعدة.

٢٣١

علم إباحة الجرح وإشكال جوازه ، فمن ثمَّ قيل (١) : لا يختن الخنثى ، لأنه جرح مع الإشكال ، فلا يكون مباحا.

ووجه وجوبه (٢) عملا بصورة الغلفة. ولا يجوز له حلق لحيته ، لجواز رجوليته. ويجب عليه الستر في الصلاة كالمرأة ، فلو ترك احتمل عدم البطلان (٣) ، للشك في كونه امرأة. ويحرم عليه النّظر إلى النساء والرّجال ، كما يحرم على القبيلين النّظر إليه. وهو في الشهادة كالمرأة ، وكذا في الحجب.

قاعدة ـ [٧٢]

الألف واللام يستعمل من معانيها عند الفقهاء والأصوليين ثلاثة ، لأنه إما أن ينظر إلى متعلقها من حيث هو هو ، وهو الحقيقة ، كقوله : اشتر الخبز ، أو اللحم ، ولا يريد شيئا بعينه أو من حيث هو مستغرق لتمام ما يندرج تحته ، وهو الجنس. أو من حيث هو خاص جزئي ، وهو العهد. فمتى كان في الكلام معهود يمكن عود التعريف إليه تعين له ، وإن لم يكن معهودا ولا قرينة عهد ، فالأصل أنها لاستغراق الجنس ، لأن الأعم أكثر فائدة ، فالحمل عليه أولى ، فإن تعذر

__________________

(١) قاله البغوي ، واختاره النوويّ ، وهو الأصح عند الشافعية. انظر : النوويّ ـ المجموع : ١٠ ـ ٣٠٤ ، والسيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٢٦٧.

(٢) في (ح) : عدم وجوبه.

(٣) وهذا الاحتمال هو الأصح عند الشافعية. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٢٦٦.

٢٣٢

الجنس حمل على الحقيقة ، كقوله : لا آكل الخبز ، ولا أشرب الماء.

ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه‌السلام (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (١).

ومن قال : اسم الجنس لا يعم (٢) ، قال : لاشتباهه بتعريف الحقيقة.

ويرد على العامة الإشكال في قولهم : الطلاق يلزمني ، لم لا يقع الثلاث ، وإن لم ينوها (٣)؟ لأن التعريف الجنسي يقتضي العموم ، وتعميم جميع عدد الطلاق متعذر ، والحمل على الثلاث ممكن ، فيحمل عليه.

وأجاب بعضهم (٤) : بأن الأيمان تتبع المنقولات العرفية غالبا دون الأوضاع اللغوية ، وتقدم عليها عند التعارض. وقد انتقل الكلام في الحلف بالطلاق إلى حقيقة الجنس دون استغراقه ، فلذلك كان الحالف لا يلزمه إلا الماهية المشتركة ، فلا يزاد على الواحدة.

ووجهه : أنه لما امتنع حمله على جميع الجنس من أعداد الطلاق انصرف إلى تعريف حقيقة الجنس فكأنه قال : أنت طالق بعضا من

__________________

(١) يوسف : ١٣.

(٢) قال به إمام الحرمين الجويني وأكثر اتباعه ، وأبو هاشم الجبائي. انظر : الأسنوي ـ نهاية السئول : ٢ ـ ٦٠ ، ٦٦ ، والبصري ـ المعتمد : ١ ـ ٢٤٤.

(٣) انظر : الأسنوي ـ نهاية السئول : ٢ ـ ٦٠ ـ ٦١ ، والقرافي ـ الفروق : ٢ ـ ٩٤.

(٤) انظر : الأسنوي ـ نهاية السئول : ٢ ـ ٦٠ (نقلا عن عز الدين بن عبد السلام) ، والقرافي ـ الفروق : ٢ ـ ٩٥.

٢٣٣

الطلاق. وذلك البعض مجهول ، والواحد فيه متيقن ، فينصرف اللفظ إليه.

قاعدة ـ [٧٣]

الموالاة معتبرة في العقد ونحوه. وهو مأخوذ من اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه.

وقال بعض العامة (١). لا يضر قول الزوج بعد الإيجاب : الحمد لله والصلاة على رسول الله ، قبلت نكاحها.

ومنه : الفورية في استتابة المرتد فتعتبر في الحال. وقيل (٢) : إلى ثلاثة أيام.

ومنه : السكوت في أثناء الأذان إن كان كثيرا أبطله ، وكذا الكلام عند طول الفصل.

ومنه : السكوت الطويل في أثناء القراءة ، أو قراءة غيرها خلالها. وكذا التشهد.

ومنه : تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع ، فلو تعمدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة. واعتبر بعض العامة (٣) تحريمهم معه قبل الفاتحة.

__________________

(١) قاله من الشافعية أبو حامد الأسفرائيني. انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٤١.

(٢) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ٢ ـ ٢٢٢ ، وابن قدامة ـ المغني : ٨ ـ ١٢٤ ، وابن جزي ـ قوانين الأحكام الشرعية : ٣٩٤.

(٣) اعتبره إمام الحرمين الجويني ، وصححه الغزالي على ما يبدو من النوويّ في ـ المجموع : ٤ ـ ٥٠٦.

٢٣٤

ومنه : الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنه تكرار ، والموالاة في سنة التعريف ، فلو رجع في أثناء المدة استؤنف ، ليتوالى الإنجاش (١) ، وقيل (٢) يبني.

قاعدة ـ [٧٤]

الاستثناء المستغرق باطل إجماعا.

واختلف فيما لو عطف بعض العدد على بعض ، إما في المستثنى أو المستثنى منه ، هل يجمع بينهما حتى يكونا كالكلام الواحد ، كقوله : عليّ درهم ودرهم إلا درهما؟

وقال ابن الحداد (٣) من العامة : لا يجمع ، لأن الجملتين المعطوفتين تفردان بالحكم.

وإن لم تكن (الواو) للترتيب ، كما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق ، لا يقع إلا واحدة. بخلاف : طالق اثنتين ،

__________________

(١) في (م) : الأنجاس ، وفي (ا) : الإيحاش. ولعل الأنسب بالمعنى ما أثبتناه ، لأن الإنجاش لغة : الإذاعة والإعلان. قال ابن منظور : (نجش الحديث ينجشه : أذاعه). لسان العرب : ٦ ـ ٣٥١ ، مادة (نجش).

(٢) انظر : الشيرازي ـ المهذب : ١ ـ ٤٣٠ ، والشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٣ ـ ٣٢٢ ، والعلامة الحلي ـ تذكرة الفقهاء : ٢ ـ ٢٥٨.

(٣) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد الكناني المصري الفقيه الشافعي. صاحب كتاب الفروع في المذهب الّذي شرحه جماعة منهم القفال المروزي. تولى القضاء والتدريس بمصر وتوفي فيها سنة ٣٤٥ هـ. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٥٩).

٢٣٥

عندهم (١).

ويتفرع على ذلك : له عليّ ثلاثة إلا درهمين ودرهما ، وكذا : له علي درهمان ودرهم إلا درهما ، وله علي ثلاثة إلا درهما ودرهما ودرهما.

قاعدة ـ [٧٥]

الاستثناء من (الإثبات نفي ، ومن) (٢) النفي إثبات.

ويشكل عليه : والله لا أجامعك في السنة إلا مرة ، فمضت السنة ولم يجامع أصلا ، فإن قضية القاعدة أنه يحنث ، لأنه يقضي إثبات المرة ، فيجب الجماع مرة (٣).

ووجه عدم الحنث : أن المقصود باليمين أن لا يزيد على الواحدة ، فيرجع ذلك إلى أن العرف يجعل (إلا) بمعنى (غير) (٤).

ومنه : لو قال : لا لبست ثوبا إلا الكتان ، فقعد عاريا. فعند العامة (٥) لا تلزمه الكفارة.

ويشكل عليهم : بما ذكرناه.

وجوابه : أن (إلا) في الحلف انتقلت عرفا إلى معنى الصفة

__________________

(١) أي عند العامة.

(٢) زيادة من (ح).

(٣) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٤٠٧ (نقلا عن بن كج).

(٤) انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٤٠٧ (نقلا عن بن كج).

(٥) انظر : القرافي ـ الفروق : ٢ ـ ٩٣ ، والسيوطي ـ الأشباه النّظائر : ٤٠٦.

٢٣٦

مثل (سوى ، وغير) فكأنه قال : لا لبست ثوبا غير الكتان ، فلا يكون الكتان محلوفا عليه ، فلا يضر تركه ولا لبسه (١).

ومنه : لو قال : ليس له علي عشرة إلا خمسة. فإنه قيل (٢) لا يلزمه شي‌ء ، لأن النفي الأول توجه إلى مجموع المستثنى والمستثنى منه ، وذلك عشرة إلا خمسة ، وهي خمسة ، فكأنه قال : ليس له علي خمسة.

ووجه اللزوم : أن النفي بـ (ليس) لم يتوجه إلا في العشرة ، ثمَّ الاستثناء بعد ذلك من المنفي بـ (ليس) فكان إثباتا للخمسة.

والتحقيق : أنه إن نصب (خمسة) فلا شي‌ء ، وإن رفع فخمسة.

قاعدة ـ [٧٦]

الاستثناء المجهول باطل ، فيبطل في المبيعات وسائر العقود ، كقوله : بعتك الصبرة إلا جزء منها. وفي صحيح مسلم (٣) عن جابر : (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الثنيا).

وربما جاءت في الإيقاعات ، كقوله : عبيدي أحرار إلا واحدا ، أو : أعطوه نخلي إلا نخلة.

ولو قال : بعتك الصبرة إلا صاعا منها ، وهي متفرقة ، وأراد

__________________

(١) هذا الجواب منسوب إلى عز الدين بن عبد السلام. انظر : السيوطي ـ الأشباه والنّظائر : ٤٠٧.

(٢) انظر : العلامة الحلي ـ تذكرة الفقهاء : ٢ ـ ١٦٤ ، وشمس الدين الرملي ـ نهاية المحتاج : ٥ ـ ١٠٥.

(٣) ٣ ـ ١١٧٤ ، باب ١٦ من كتاب البيوع ، حديث : ٨٥.

٢٣٧

واحدا من المتفرقة ، ولم يعينه ، بطل البيع. وكذا لو قال : بعتك صاعا من الصبرة متفرقة ، لأنه غرر يسهل اجتنابه. أو لأن العقد لم يجد موردا يحمل عليه. وإن كانت الصبرة مجتمعة وقال : بعتكها إلا صاعا منها ، فان كانت مجهولة الصيعان بطل البيع ، لعدم معرفة قدر المبيع. وكذا لو قال : بعتك صاعا منها ، إن نزلناه على الإشاعة ، وإلا صح إذا ظن اشتمالها عليه. وإن كانت معلومة فاستثنى منها عددا معينا صح قطعا. واختلف في تنزيله ، فقيل (١) : هو بمثابة جزء من الجملة كالربع ، والعشر ، فلو (٢) كانت الصبرة أربعة أصواع فالربع. وعلى هذا ، حتى إذا تلف منها شي‌ء يقسط (٣) بالحساب.

وقيل (٤) : بل المبيع جزء مشاع (٥) منها مقدر ، فلو لم يبق إلا صاع بقي البيع فيه. وعليه دل خبر بريد بن معاوية عن الصادق عليه‌السلام (٦). والأول اختيار أكثر العامة.

__________________

(١) انظر : النوويّ ـ المجموع : ٩ ـ ٣١١ ، والرافعي ـ فتح العزيز ، بهامش المجموع : ٨ ـ ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) في (م) : وإن.

(٣) في (ح) : سقط.

(٤) وجه للشافعية ، واحتمال للعلامة الحلي. انظر : النوويّ ـ المجموع : ٩ ـ ٣١١ ، والعلامة الحلي ـ تذكرة الفقهاء : ١ ـ ٤٧١.

(٥) في التذكرة : ١ ـ ٤٧١ ، والمجموع : ٩ ـ ٣١١ : غير مشاع.

(٦) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١٢ ـ ٢٧٢ ، باب ١٩ من أبواب عقد المبيع ، حديث : ١.

٢٣٨

قاعدة ـ [٧٧]

للمطلق والمقيد أربعة (١) أقسام :

الأول : اختلاف الحكم والسبب. ولا حمل فيه اتفاقا ، مثل : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (٢) مع قوله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣) فإنه لا يقتضي تقييد المساكين بالعدالة.

الثاني : أن يتحد السبب والحكم ، فيحمل المطلق على المقيد قطعا ، مثل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٤) مع قوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) (٥) ، وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (٦) مع قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٧).

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) (٨) ، وفي حديث آخر : (فأبردوها من ماء زمزم) (٩).

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) المجادلة : ٤.

(٣) للطلاق : ٢.

(٤) المائدة : ٥.

(٥) البقرة : ٢١٧.

(٦) البقرة : ٢٨٢.

(٧) البقرة : ٢٨٢.

(٨) انظر : صحيح مسلم : ٤ ـ ١٧٣١ ، باب ٢٦ من كتاب السلام ، حديث : ٧٨ ، ٨١ ، وسنن ابن ماجه : ٢ ـ ١١٤٨ ، باب ١٩ من كتاب الطب ، حديث : ٣٤٧١ ، ٣٤٧٣.

(٩) انظر : ابن الأثير ـ جامع الأصول : ٨ ـ ٣٨١ ، حديث : ٥٦٤٦ ، والمتقي الهندي ـ كنز العمال : ٥ ـ ١٧٧ ، حديث : ٣٦١٩ بلفظ (بماء زمزم)

٢٣٩

ومثل : (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ..) (١). وذكر الغراب منها. وفي حديث آخر : تقييد الغراب بالأبقع (٢).

ومن أمثلة اتحادهما وهما نفيان ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل) (٣) مع قوله في الحديث الآخر : (إلا يدا بيد ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز) (٤).

الثالث : أن يختلف السبب ويتحد الحكم ، كتحرير رقبة في الظهار مطلقة ، مع تقييدها في القتل بالإيمان.

الرابع : أن يتحد السبب ويختلف الحكم ، ففي الثبوت مثل : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (٥) مع قوله تعالى في آية الوضوء : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٦) فان السبب فيهما واحد ، وهو التطهير للصلاة بعد الحدث ، والحكم مختلف بالغسل في أحدهما والمسح في الآخر.

__________________

(١) انظر : مسند أحمد : ٦ ـ ١٢٢ ، من حديث عائشة.

(٢) انظر : سنن ابن ماجه : ٢ ـ ١٠٣١ ، باب ٩١ من كتاب المناسك ، حديث : ٣٠٨٧ ، ومسند أحمد : ٦ ـ ٩٧ من حديث عائشة.

(٣) صحيح مسلم : ٣ ـ ١٢٠٨ ، باب ١٤ من كتاب المساقاة ، حديث : ٧٥.

(٤) رواه مسلم بلفظ : (ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد). صحيح مسلم : ٣ ـ ١٢٠٩ ، باب ١٤ من كتاب المساقاة ، حديث : ٧٦.

(٥) النساء : ٤٣.

(٦) المائدة : ٦.

٢٤٠