القواعد والفوائد - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

القواعد والفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

تنقطع نية التجارة. فلو عاد إلى نية التجارة بنى على صيرورة المال تجارة بالنية ، وإن لم تقارن التكسب ، وعدمه ، فان قلنا به ، عادت التجارة وإلا فلا.

ومنها : قصد المسافر المسافة ، وهو معتبر في القصر ، فلو رفض القصد ، انقطع الترخص. فلو عاد اشترطت المسافة من حيث ضرب في الأرض بعد عود النية.

ومنها : لو نوى الأمين الخيانة ، فإن كان سبب أمانته الشارع ، كالملتقط ، صار ضامنا بنية الخيانة ، وإن كان سبب أمانته المالك ، كالوديعة والعارية والإجارة ، لا يضمن بمجرد النية.

ومنها : نية الحائز للمباح ، وهي مملكة مع الحيازة. ولو نوى ولم يجز لم يملك ، قولا واحدا. ولو حاز ولم (١) ينو ففيه وجهان ، الأقرب انتفاء الملك.

ومنها : لو أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا ، أو رباطا أو مقبرة ، فيحتمل صيرورتها بالنية إلى تلك الغايات ، لأنه نوى شيئا فيحصل له.

والأقرب افتقاره إلى التلفظ.

وحينئذ هل يملك بتلك النية؟ فيه وجهان مبنيان على أن الملك الضمني هل هو كالحقيقي أم لا؟ فعلى الأول يملك ، وعلى الثاني لا يملك.

والأول قريب.

ومنها : أن سائر صيغ العقود والإيقاعات يعتبر القصد إلى الإنشاء فيها ، سواء كانت بالصريح ، أو بالكناية عندنا في موضع جواز الكناية ، كما في العقود الجائزة كالوديعة والعارية.

والنية هنا هي : القصد إلى التلفظ بالصيغة مريدا غايتها. فلو قصد

__________________

(١) في (ك) و (ح) : ولما.

١٠١

اللفظ لا لإرادة غايته ، كما في المكره ، لم يقع العقد ولا الإيقاع ، سواء قصد ضد غايته ، كما لو قال : بعتك ، وقصد الاخبار ، أو قال : يا طالق وقصد ضد غايته ، كما لو قال : بعتك ، وقصد الاخبار ، أو قال : يا طالق وقصد النداء ، أو لم يقصد شيئا.

ولو انتفى قصد اللفظ ، كما في الساهي والنائم والغافل ، بطل بطريق الأولى.

ولا يكفي القصد (١) في أركان العقد إذا لم يتلفظ به ، كما لو قال : بعتك بمائة ، ونوى الدراهم ، أو : خالعتك بمائة درهم ، وأراد نقدا مخصوصا. وظاهر الشيخ أبي جعفر (٢) [ الطوسي ] ومن تبعه الصحة ويتبع الإرادة. ويمكن القول به هنا وفي البيع إذا كانا قد تواطئا على ذلك ، لأنه كالملفوظ. والبطلان قوي ، للإخلال بركن العقد.

ومنها : تأثير النية في تعيين الزوجة والمعتق فيما لو قال : زوجتي طالق ، ونوى زينب ، أو عبدي حر ، ونوى تغلب. ولو تجردا عن النية ففي وقوعهما وجهان ، فان قلنا به أنشأ التعيين من بعد.

ومنها : جريان النية في الأيمان والنذور والعهود ، بالنسبة إلى مخصصات نوع ، من جنس وشبهه ، كما لو حلف : أن لا يأكل ، ونوى اللحم ، أو : لا يأكل اللحم ، ونوى لحم الإبل ، فيؤثر ذلك في القصر (٣) على ما نواه.

وكما يجوز تقييد المطلق بالنية ، كما ذكرنا ، يجوز تخصيص العام بها ، فلو قال : لا دخلت الدار ، ونوى دخولا خاصا أو موقتا ، صح.

ولو قال : لا سلمت على زيد ، وسلم على جماعة هو فيهم ، ونوى

__________________

(١) زيادة من (ح).

(٢) انظر : المبسوط : ٤ ـ ٣٤٩.

(٣) في (ح) : القصد.

١٠٢

خروجه ، أو التسليم على من عداه ، لم يحنث.

أما الفعل ، فالأقرب عدم جواز الاستثناء فيه ، كما لو قال : لا دخلت على زيد ، فدخل على جماعة هو فيهم ونوى الدخول على غيره.

والشيخ جوزه (١) ، كالاستثناء في القول ، إذ النية مؤثرة في الأفعال ، لاعتبارها في العبادات ، ومعظمها أفعال ، فتكون مؤثرة هنا. وليس ذلك ببعيد.

فان (٢) قيل : لا ينتظم : دخل على العلماء إلا على قوم منهم ، وينتظم : سلم عليهم إلا على قوم منهم.

قلت لم لا يكون الباعث على الدخول مشخصا له ، فان الباعث على الدخول يتصور تخصيصه بقوم دون قوم ، ويكون ذلك صالحا لتخصيص الدخول. ويمنع عدم انتظامه على هذا التقدير.

ولو أخبر عن إرادة خلاف الظاهر في اليمين المتعلقة بحق الآدمي (فإنه لا يقبل) (٣) ظاهرا ، ولكنه يدين به باطنا ، كما لو قال : لا وطئتها ، ثمَّ قال : قصدت في غير المأتي ، أو شهرا ، أو في السوق.

ويحتمل القبول ، لأنه أخبر عما يحتمل لفظه ، وهو أعرف بقصده. ولو كان هناك قرينة تدل على التخصيص قبل قطعا.

وإذ قد علم جواز إطلاق العام وإرادة الخاصّ ، فلو قال : لا كلمت أحدا ، ونوى زيدا ، فان قصد مع ذلك إخراج من عدا زيدا من نسبة عدم التكلم ، قصد اللفظ على زيد ، وجاز تكليم غيره. وإن لم ينو

__________________

(١) انظر : الشيخ الطوسي ـ المبسوط : ٦ ـ ٢٢٦ ـ ٢٢٧. ولكنه لم يجوزه في الخلاف. انظر : ٢ ـ ٢٢٢.

(٢) زيادة من (ك).

(٣) في (م) و (أ) : فلا يقبل.

١٠٣

إخراج من عداه ، فالظاهر أنه خارج : إما على القول بمفهوم اللقب فظاهر ، وإما على القول بعدمه ، فلأن من عدا زيدا على أصل حكمه قبل اليمين ، فلا يخرج عنه إلا بمخرج. واللفظ المنوي به الخصوص كالناص على الخصوص ، فهو في قوة : لا كلمت زيدا ، وبالإجماع أنه لا يحرم تكليم غيره في هذه الصورة ، فكذا ما هو في معناها.

وقال بعض المعجبين برأيه من أهل الرّأي : إن هذا اللفظ صالح لمن عدا زيدا بالقصد الثاني ، كما أنه يتناول زيدا بالقصد الأول ، وذكر زيد كذكر فرد من أفراد العام الّذي ثبت في الأصول (١) : أنه غير مخصص ، كخبر شاة ميمونة (٢) ، مع خبر العموم في الإهاب (٣).

ولأن انضمام غير المستقل بنفسه إلى المستقل يصير الأول في حكم غير المستقل كما في الاستثناء والشرط ، والصفة والغاية ، مثل : لا لبست ثوبا إلا القطن ، أو إن كان غير القطن ، أو قطنا ، أو إلى شهر ، ولم يثبت

__________________

(١) انظر : العلامة الحلي ـ نهاية الأحكام الأصولية ـ مبحث التخصيص ـ في بيان التخصيص بذكر البعض (مخطوطة بمكتبة السيد الحكيم العامة في النجف برقم ٨٧٨).

(٢) في صحيح مسلم : ١ ـ ٢٧٦ ، باب ٢٧ من كتاب الحيض ، حديث ١٠٠ ، عن ابن عباس قال : (تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فماتت ، فمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه ، فانتفعتم به. فقالوا ، إنها ميتة. فقال : إنما حرم أكلها).

(٣) في مسند أحمد : ٤ ـ ٣١٠ عن عبد الله بن عكيم قال : (كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته بشهر ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) وانظر أيضا صحيح الترمذي بشرح ابن العربي : ٧ ـ ٢٣٤ ، باب ٧ من أبواب اللباس.

١٠٤

مثله في النية حتى يصير اللفظ بها غير مستقل في الإفادة ، بل النية جارية مجرى انضمام المستقل إلى المستقل ، وظاهر أنه لا يغير حكمه ، كما لو قال : له عليّ عشرة تنقص تسعة ، أو قال : له عليّ عشرة خمسة منها لي.

ولو قال : لا كلمت أحدا ، ولا كلمت زيدا ، كان مقتضيا لتحريم كلام زيد بالعموم تارة ، وبالخصوص أخرى ، ومقتضيا لتحريم كلام غير زيد بالعموم.

فان عورض بأن قوله : لا لبست ثوبا قطنا ، يتخصص به ، مع عدم المنافاة بين الثوب المطلق وبين القطن.

أجيب : بما ذكرناه من الاستقلال وعدمه ، فان قطنا غير مستقل ، فلما انضم إلى المستقل صيره غير مستقل بدونه ، ومخصص بالقطن ، بخلاف النية فإنه لم يثبت لها حكم اللفظ في الانضمام.

قلت : وهذا لا تحقيق له ، لأن صلاحية اللفظ لمن عدا زيدا مع نية زيد به ممنوع. ولا يلزم من صلاحيته مع الإطلاق صلاحيته مع التقييد ، لأن التقييد ينافي الإطلاق من حيث أنه (١) إطلاق.

وأما خبر الشاة ، وخبر العموم ، فهما خبران مستقلان ، فلذلك جمع بينهما ، لعدم التنافي.

وأما صورة النزاع فإنه كلام واجد يتبع مدلوله ، ولا يعلم ذلك إلا من قصد اللافظ ، وإن كان يحكم عليه من حيث الظاهر بإجراء اللفظ على ظاهره ، والتقدير أن اللافظ إنما قصد بالعامّ جزئيا من جزئياته ، فكيف تكون جميع الجزئيات مقصودة؟؟

وأما كون النية لم يثبت لها حكم اللفظ في الانضمام ، فهي جارية مجرى المستقل في أنه لا يغير الحكم في الأول.

__________________

(١) في (ح) : هو.

١٠٥

فجوابه : انضمام الاستثناء والشرط والصفة والغاية إلى اللفظ إنما اقتضى قصره باعتبار اقتران ذلك بنية الخصوص ، إذ لو صدرت هذه المخصصات من الغافل والساهي لم يكن لها أثر. نعم لا يثبت حكم ذلك ظاهرا إلا باللفظ ، ولما كان حكم الإيمان إنما يستفاد من المكلف ، لأن غالبها تدين له ، استغني فيه عن اللفظ ، ولهذا لو استثنى في يمينه ، أو اشترط ، أو قيدها بغاية ، كان ذلك مقبولا بالنسبة إلى الحالف. وإذا قبلت هذه النسبة بالنسبة إليه فالمؤثر في الحقيقة إنما هو النية ، فكما يحمل اللفظ على مقتضاه مع تلك الألفاظ ، فكذا مع النية التي هي أصل اعتبار تلك الألفاظ ، وجعلها مخصصة.

على أنا نقول : لا نسلم دلالة العام على أفراده حال نية الخصوص ، فليست النية هنا منضمة إلى اللفظ الدال على العموم ، بل النية جاعلة اللفظ العام في معنى اللفظ الخاصّ ، فلا ينتظم قوله : إن انضمام النية كانضمام المستقل إلى (١) المستقل ، إذ لا استقلال هنا في اللفظ العام ، لعدم نيته ، وإنما صار مدلول اللفظ بالنية إلى ذلك الخاصّ.

ومنها : تأثير النية في الدفع عن الدين المرهون به ، ولو خالفه (٢) المرتهن حلف الدافع ، لأنه أعرف بقصده.

ولو لم ينو حالة الدفع ، ففي التقسيط ، أو مطالبته بإنشاء النية الآن ، وجهان.

__________________

(١) في (ح) و (م) و (أ) زيادة : غير ، والصواب ما أثبتناه كما يتضح من مراجعة عبارة القائل المتقدمة.

(٢) في (ك) : حالفه ، وفي (م) : حلفه.

١٠٦

الفائدة الحادية والعشرون

لا تؤثر نية المعصية عقابا ولا ذما ، ما لم يتلبس بها ، وهو ما ثبت في الأخبار العفو عنه (١).

ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه (٢) معصية ، فظهر بخلافها ، ففي تأثير هذه النية نظر ، من أنها لما (٣) لم تصادف المعصي فيه صارت كنية مجردة ، وهو غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة وجرأته على المعاصي.

وقد ذكر بعض الأصحاب (٤) : أنه لو شرب المباح متشبها بشارب المسكر فعل حراما. ولعله ليس بمجرد النية ، بل بانضمام فعل الجوارح إليها.

ويتصور محل النّظر في صور :

منها : ما (٥) لو وجد امرأة في منزل غيره فظنها أجنبية ، فأصابها فتبين (٦) أنها زوجته ، أو أمته.

__________________

(١) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٣٦ وما بعدها ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث ٦ ـ ٨ ، ١٠ ، ٢٠ ، ٢١ ، ومسند أحمد : ٢ ـ ٢٥٥ ، ٢٩٣ ، وصحيح مسلم : ١ ـ ١١٦ ، حديث ٢٠١ ، ٢٠٧ من كتاب الإيمان.

(٢) في (ك) : نواه.

(٣) زيادة من (ك) و (ح).

(٤) انظر : أبا الصلاح الحلبي ـ الكافي : ١١٧ (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة في النجف برقم ٦٤١).

(٥) زيادة ليست في (ح) و (م).

(٦) في (ح) : فظهر ، وفي (م) : فثبت ، وفي (ا) : فظهرت.

١٠٧

ومنها : لو وطئ زوجته لظنها حائضا ، فبانت طاهرا.

ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره فأكل منه ، فتبين أنه ملك الآكل.

ومنها : لو ذبح شاة بظنها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه.

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنها معصومة ، فبانت مهدورة.

وقد قال بعض العامة (١) : يحكم بفسق متعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ـ ما لم يتب ـ عقابا متوسطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة.

وكلاهما تحكم وتخرص على الغيب.

الفائدة الثانية والعشرون

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أن نية المؤمن خير من عمله) (٢).

وربما روي : (أن نية الكافر شر من عمله) (٣) ، فورد عليه (٤) سؤالان :

أحدهما : أنه روي : (أن أفضل العبادة أحمزها) (٥). ولا ريب

__________________

(١) انظر : عز الدين بن عبد السلام ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام : ١ ـ ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٣٥ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ٣.

(٣) انظر نفس المصدر السابق.

(٤) زيادة ليست في (ك) و (م).

(٥) القرافي ـ الفروق : ٢ ـ ٣. ورواه المحقق الحلي بلفظ : (أفضل العبادات أحمزها). معارج الأصول : ورقة : ٥٣ ـ أ (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة برقم : ٣٧١). وفي حديث ابن عباس : (سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي الأعمال أفضل؟ فقال أحمزها). انظر : الزمخشري ـ الفائق : ١ ـ ٢٩٧ ، الحاء مع الميم ، مادة (حمز) ، وابن الأثير ـ النهاية : ١ ـ ٢٥٨ ، باب الحاء مع الميم ، مادة (حمز).

١٠٨

أن العمل أحمز من النية فكيف يكون مفضولا؟؟ وروي أيضا : (أن المؤمن إذا هم بحسنة كتبت بواحدة فإذا فعلها كتبت عشرا) (١) وهذا صريح في أن العمل أفضل من النية وخير.

السؤال الثاني : أنه روي : أن النية المجردة لا عقاب فيها (٢) ، فكيف تكون شرا من العمل؟

أجيب بأجوبة :

منها : أن المراد ، أن نية المؤمن بغير عمل خير من عمله بغير نية.

حكاه السيد المرتضى رحمه‌الله (٣).

وأجاب عنه : بأن (أفعل) التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل بغير نية لا خير فيه ، فكيف يكون داخلا في باب التفضيل؟؟ ولهذا لا يقال : العسل أحلى من الخل (٤).

ومنه : أنه عام مخصوص ، أو مطلق مقيد ، أي (٥) : نية بعض الأعمال الكبار ، كنية الجهاد ، خير من بعض الأعمال الخفيفة ، كتسبيحة

__________________

(١) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٣٦ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ٦ ـ ٨.

(٢) انظر : المصدر السابق : حديث : ٦ ـ ٨ ، ١٠ ، ٢٠ ، ٢١.

(٣) أمالي المرتضى : ٢ ـ ٣١٥. وانظر أيضا : ابن عبد السلام ـ قواعد الأحكام : ١ ـ ٢٢٥ ، والغزالي ـ إحياء علوم الدين : ٤ ـ ٣٦٦.

(٤) أمالي المرتضى : ٢ ـ ٣١٥. وانظر أيضا : ابن عبد السلام ـ قواعد الأحكام : ١ ـ ٢٢٥ ، والغزالي ـ إحياء علوم الدين : ٤ ـ ٣٦٦.

(٥) في (ا) : إذ.

١٠٩

أو تحميدة ، أو قراءة آية ، لما في تلك النية من تحمل النّفس المشقة الشديدة ، والتعرض للغم والهم الّذي لا توازيه (١) تلك الأفعال. وبمعناه قال المرتضى (٢) بيض الله وجهه ، قال : (وأتى بذلك لئلا يظن أن ثواب النية لا يجوز أن يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال).

ثمَّ أجاب : بأنه خلاف الظاهر ، لأن فيه إدخال زيادة ليست في الظاهر (٣).

قلت : المصير إلى خلاف الظاهر متعين عند وجود ما يصرف اللفظ إليه ، وهو هنا حاصل ، وهو معارضة الخبرين السالفين ، فيجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وبينه.

ومنها : أن خلود المؤمن في الجنة إنما هو بنيته أنه لو عاش أبدا لأطاع الله أبدا ، وخلود الكافر في النار بنيته أنه لو بقي أبدا لكفر أبدا.

قاله بعض العلماء (٤).

ومنها : أن النية (٥) يمكن فيها الدوام ، بخلاف العمل فإنه يتعطل عنه المكلف أحيانا وإذا نسبت هذه النية الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه. وكذا نقول في نية الكافر.

ومنها : أن النية لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ، لأنها نتكلم

__________________

(١) في (ك) : توازنه.

(٢) أمالي المرتضى : ٢ ـ ٣١٦.

(٣) المصدر السابق : ٢ ـ ٣١٨.

(٤) قاله الحسن البصري. انظر : الغزالي ـ الاحياء : ٤ ـ ٣٦٤. وقد ورد بمضمونه رواية عن الصادق عليه‌السلام. انظر : الحر العاملي ـ الوسائل : ١ ـ ٣٦ : باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ٤.

(٥) من هنا وإلى أواخر هذه الفائدة سقط من (أ).

١١٠

على تقدير النية المعتبرة شرعا ، بخلاف العمل فإنه يعرضه ذينك.

ويرد عليه : أن العمل وإن كان معرضا لهما إلا أن المراد به العمل الخالي عنهما ، وإلا لم يقع تفضيل.

ومنها : أن المؤمن يراد به : المؤمن الخاصّ (١) كالمؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فان غالب أفعاله جارية على التقية ومداراة أهل الباطل. وهذه الأعمال المفعولة تقية منها ما يقطع فيه بالثواب ، كالعبادات الواجبة ، ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب كالباقي. وأما نيته فإنها خالية عن التقية ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ، ونطق بها بلسانه ، إلا أنه غير معتقد بجنانه ، بل آب عنها ونافر منها. وإلى هذا الإشارة بقول أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ وقد سأله أبو عمرو الشامي (٢) ـ عن الغزو مع غير الإمام العادل ـ : (إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة) (٣). وروي مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

وهذه الأجوبة الثلاثة من السوانح.

__________________

(١) في (ك) : الخالص.

(٢) في الوسائل : ١ ـ ٣٤ : أبو عروة السلمي ، وفي ١١ ـ ٣١ ، نقلا عن الشيخ الطوسي في التهذيب : أبو عمرو الشامي ، والّذي وجدته في التهذيب المطبوع بالنجف : أبو عمرة السلمي ، انظر : ج ٦ ـ ١٣٥ ، وفي النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة السيد الحكيم بالنجف برقم ١٦١ ، ورقة ٢٩٤ : أبو عمرو الشامي.

(٣) انظر : الحر العاملي ـ الوسائل : ١ ـ ٣٤ ، باب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ٥ ، وج ١١ ـ ٣٠ ـ ٣١ ، باب ١٠ من أبواب جهاد العدو ، حديث : ٢.

(٤) انظر : مسند أحمد : ٢ ـ ٣٩٢.

١١١

وأجاب المرتضى أيضا بأجوبة (١) :

منها : أن النية لا يراد بها التي مع العمل ، والمفضل عليه هو العمل الخالي من النية.

وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف. مع أنه قد ذكره ، كما حكيناه عنه.

ومنها : أن لفظة (خير) ليست التي بمعنى (أفعل) التفضيل ، بل هي الموضوعة لما فيه منفعة ، ويكون معنى الكلام : أن نية المؤمن خير من جملة الخير من أعماله ، حتى لا يقدر مقدر : أن النية لا يدخلها الخير والشر كما يدخل في ذلك في الأعمال. وحكى عن بعض الوزراء استحسانه ، لأنه لا يرد عليه شي‌ء من الاعتراضات.

ومنها : أن لفظة (أفعل) التفضيل قد تكون مجردة عن الترجيح كما في قوله تعالى (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٢). وقول المتنبي (٣) :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظلم

قال ابن جني (٤) : أراد أنك أسود من جملة الظلم ، كما يقال :

حر من أحرار ، ولئيم من لئام ، فيكون الكلام قد تمَّ عند قوله (لأنت أسود). ومثله قول الآخر :

وأبيض من ماء الحديد كأنه

شهاب بدا والليل داج عساكره (٥)

__________________

(١) انظر : أمالي المرتضى : ٢ ـ ٣١٥ ـ ٣١٨.

(٢) الإسراء : ٧٢.

(٣) ديوانه بشرح البرقوقي : ٤ ـ ١٩٥.

(٤) انظر : أمالي المرتضى : ٢ ـ ٣١٧ (نقلا عنه).

(٥) البيت في أمالي المرتضى ، وفي شرح العكبري لبيت المتنبي أورد من غير عزو. انظر : أمالي المرتضى : ١ ـ ٩٣ (المتن والهامش).

١١٢

وقول الآخر :

يا ليتني مثلك في البياض

أبيض من أخت بني أباض

(١) أي : أبيض من جملة أخت بني أباض ومن عشيرتها.

فان قلت : قضية هذا الكلام أن يكون في قوة قوله (٢) : النية من جملة عمله. والنية من أفعال القلوب فكيف تكون عملا ، لأنه يختص بالعلاج.

قلت : جاز أن تسمى عملا ، كما جاز أن تسمى فعلا. أو يكون إطلاق العمل عليها مجازا.

قلت : وقد أجيب أيضا : بأن المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير نحو الصدقة ، والصوم ، والحج ، ولعله يعجز عنها أو عن بعضها فيؤجر على ذلك ، لأنه معقود النية عليه. وهذا الجواب منسوب إلى ابن دريد (٣) (٤).

__________________

(١) هذا البيت منسوب لرؤبة بن العجاج. انظر : وليم البروسي ـ مجموع أشعار العرب : ١٧٦.

(٢) في (م) : قولنا.

(٣) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري الإمامي. شاعر ، نحوي ، لغوي. كان واسع الرواية لم ير أحفظ منه. توفي ببغداد سنة ٣٢١ هـ. (القمي ـ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٧٩).

(٤) انظر : ابن دريد ـ المجتنى : ٢٣. كما جاء بمضمونه رواية عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٣٩ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ١٧.

١١٣

وأجاب الغزالي (١) (٢) : بأن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، وعمل السر أفضل من عمل الظاهر.

وأجيب : بأن وجه تفضيل النية على العمل أنها تدوم إلى آخره ، حقيقة أو حكما ، وأجزاء العمل لا يتصور فيها الدوام ، إنما تتصرم (٣) شيئا فشيئا (٤).

الفائدة الثالثة والعشرون

تعتبر مقارنة النية لأول العمل ، فما سبق منه لا يعتد به ، وإن سبقت سميت عزما) ، وهو غير معتد به أيضا على الإطلاق ، إلا على القول بجواز تقديم نية شهر رمضان عليه (٥).

وقد اغتفرت المقارنة في الصيام فجاز تقدمها وتوسطها ، كما جاز مقارنتها ، وإن كان فعلها في النهار إنما جاز في مواضع الضرورة ، كنسيان النية ، أو عدم العلم بتعلق التكليف بذلك اليوم ، أو عدم حصول

__________________

(١) هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الملقب بحجة الإسلام الطوسي الفقيه الشافعي. قيل لم يكن للشافعية في آخر عصره مثله. وكتبه معروفة ، منها : البسيط ، والوسيط ، والوجيز ، والخلاصة في الفقه ، وإحياء علوم الدين. توفي سنة ٥٠٥ هـ. (القمي ـ الكنى والألقاب : ٢ ـ ٤٥٦).

(٢) أورد الغزالي هذا الجواب ولكنه لم يرتضه. انظر : إحياء علوم الدين : ٤ ـ ٣٦٦.

(٣) في (م) و (أ) : تتصور.

(٤) انظر : الغزالي ـ إحياء علوم الدين : ٤ ـ ٣٦٦.

(٥) انظر : الشيخ الطوسي ـ الخلاف : ١ ـ ١٤٢ ، والعلامة الحلي ـ منتهى المطلب : ٢ ـ ٥٦٠.

١١٤

شرط الكمال عند طلوع فجره.

ثمَّ إذا وقعت النية (١) مؤثرة في صحة الصوم استفاد ثوابه بأجمعه ، سواء فعلها بعد الزوال ، إذا جوزناه في الندب ، أو قبله.

وإن وقعت على سبيل التمرين ، كنية الصبي المميز ، استحق أمره الثواب ، واستحق هو العوض.

وإن وقعت على طريق التأديب ، كنية الكافر والمجنون والمغمى عليه والصبي ، بزوال أعذارهم في أثناء النهار ، استحق ثوابا على ذلك العمل وان لم يسم صوما.

الفائدة الرابعة والعشرون ينبغي المحافظة على النية في كبير الأعمال وصغيرها ،

وتجب إذا كانت واجبة. فينوي عند قراءة القرآن العزيز قراءة ، وتدبره ، وسماعه ، وإسماعه وحفظه ، وتجويده ، وغير ذلك من الغايات المجتمعة فيه.

وينوي السعي إلى مجلس العلم ، والحضور فيه ، ودخول المسجد ، والاستماع ، والسؤال ، والتفهم ، والتفهيم ، والتعلم ، والتعليم ، والتسبيح والفكر والصلاة على النبي وآله صلى الله عليهم ، والرضا عن الصحابة والتابعين ، والترحم على العلماء والمؤمنين ، وعيادة المريض ، والجلوس عنده ، والدعاء له ، وزيارة الإخوان ، والسلام عليهم ، ورد السلام ، وحضور الجنائز ، وزيادة المقابر ، والسعي في حاجة أخيه ، وفي حاجة عياله ، والنفقة عليهم ، والدخول إليهم.

وينوي عند الضيافة ، وإجابة السؤال في الضيافة. بل ينوي عند الإباحات ، كالأكل والشرب والنوم ، قاصدا حفظ نفسه إلى الحد الّذي

__________________

(١) زيادة من (أ).

١١٥

ضمن له الأجل وقاصدا التقوي على عبادة الله عزوجل.

والمؤمن المتّقي خليق بأن يصرف جميع أعماله (١) إلى الطاعة ، فإن الوسيلة إلى الطاعة طاعة. وكل ذلك يحصل بالنية.

وينوي عند المباضعة والمقدمات التحصن والتحصين ، وتحصيل الألفة المقتضية للمودة والرحمة ، والتعرض للنسل.

والضابط في ذلك كله : إرادة الطاعة الواجبة أو المستحبة تقربا إلى الله تعالى. وعن بعض العلماء : لو قال في أول نهاره : (اللهم ما عملت في يومي هذا من خير فهو لابتغاء وجهك ، وما تركت فيه من شر فتركته لنهيك) ، عد ناويا وإن ذهل عن النية في بعض الأعمال أو التروك. وكذا يقول في أول ليله.

ويجزئ نية أعمال متصلة في أولها ولا يحتاج إلى تجديد نية لأفرادها وإن كان كل واحد منها مباينا لصاحبه ، كالتعقيب الواقع بعد الصلاة (٢).

الفائدة الخامسة والعشرون

ينبغي للثاقب البصير (٣) في الخيرات أن يستحضر الوجوه الحاصلة في العمل الواحد ، ويقصد قصدها بأجمعها ، لينفرد كل واحد منها بنفسه ويصير حسنة مستقلة أجرها عشرة إلى أضعاف كثيرة (ويحسب التوفيق لتكثر) (٤) تلك الوجوه.

مثاله : الجلوس في المسجد ، فإنه يمكن اشتماله على نحو من عشرين

__________________

(١) في (ح) : أحواله.

(٢) في (ح) و (أ) : الفرض.

(٣) في (ح) و (أ) : البصيرة ، وفي (ك) : البصرات.

(٤) في (ك) : ويحسب التوفيق بتكثير.

١١٦

وجها ، لأنه في نفسه طاعة ، وهو بيت الله ، وداخله زائر الله ، ومنتظر للصلاة ، مشغول بالذكر والتلاوة واستماع العلم ، ومشغول عن المعاصي والمباحات والمكروهات بكونه فيه ، والتأهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات في غير طاعة الله ، وعكوف الهمة (١) على الله ، ولزوم الفكر في أمر الآخرة حيث يسكت عن الذّكر ، وإفادة العلم واستفادته ، والمجالسة لأهله ، والاستماع له ، ومحبته ، ومحبته أهله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المكروه. وقد نبه على ذلك كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان : أخا مستفادا في الله ، أو علما مستطرفا ، أو آية محكمة ، أو رحمة منتظرة ، أو يسمع كلمة تدله على هدى ، أو كلمة تردعه عن ردى ، أو يترك ذنبا خشية أو حياء) (٢).

فإذا استحضر العارف هذه الأمور إجمالا أو تفصيلا ، وقصدها ، تعدد بذلك عمله ، وتضاعف جزاؤه ، فبلغ بذلك أعمال المتقين وتصاعد في درجات المقربين. وعلى ذلك تحمل أشباهه من الطاعات.

الفائدة السادسة والعشرون

ينبغي أن ينوي في الأشياء المحتملة للوجوب الوجوب ، كتلاوة القرآن ، إذ حفظه واجب على الكفاية ، وربما تعين على الحافظ له حذرا من النسيان. وكطلب العلم ، فإنه فريضة على كل مسلم (٣). وكالأمر

__________________

(١) في (ك) : الهم ، وهو خطأ على ما يبدو ، لأن الهم ـ بكسر الهاء ـ الشيخ الفاني ، وبفتحها : الحزن ، وكلاهما لا يلتئم مع السياق.

(٢) انظر : الشيخ الصدوق ـ ثواب الأعمال : ٢٧.

(٣) في (ح) زيادة : ومسلمة.

١١٧

بالمعروف وإن قام غيره مقامه. وبالجملة فروض الكفايات كلها.

وتجب نية الوجوب حيث يتعين. وفي ترك الحرام ينوي الوجوب (١) وفي فعل المستحب وترك المكروه ينوي الندب. والله الموفق.

الفائدة السابعة والعشرون

لما كانت الأفعال تقع على وجوه واعتبارات أمكن أن يكون الفعل الواحد واجبا وندبا وحراما ومباحا على البدل ، وإنما يختص ذلك بالنية ، كضربة اليتيم ، فإنها تجب في تعزيره ، وتستحب في تأديبه ، وتحرم لإهانته. وكالأكل ، فإنه مباح بالنظر إلى ماهيته ، ومستحب أو واجب أحيانا. وكالتطيب والجماع ، فإنهما من حظوظ النّفس ، وقد ورد في فضائل الأعمال لهما ثواب كثير (٢) ، وما ذلك إلا بحسب النية ، فلا يقصد المباضع والمتطيب بذلك إيفاء حظ نفسه بل حق الله في ذلك. ولا فرق في حظ النّفس أن يقصد بذلك مجرد (اللذة والتنعم) (٣) ، أو إظهار التجمل بالطيب واللباس للتفاخر ، والرياء ، واستجلاب المعاملين ، بل إذا تطيبت المرأة لغير الزوج فعلت حراما فاحشا. وكذا إذا خرجت متطيبة للتعرض للفجور أو مقدماته ، أو قصد الرّجل بذينك (٤) التودد إلى النساء المحرمات. فكل ما فيه حظ النّفس تتصور فيه الأحكام الخمسة

__________________

(١) في (ح) زيادة : وفي فعل الواجب ينوي الوجوب.

(٢) انظر : الطبرسي ـ مكارم الأخلاق : ٤٢ ـ ٤٥ ، والشيخ الصدوق ـ ثواب الأعمال : ٤٠ ، والحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١٤ ـ ٧٥ باب ٤٩ من أبواب مقدمات النكاح ، حديث : ١ ، ٤.

(٣) في (ح) : اللذات والنعم.

(٤) أي باللباس الفاخر والتطيب. وفي (ا) : بذلك.

١١٨

غالبا ، ولا ينصرف إلى أحدها إلا بالنية. ومن الخسران المبين أن يجعل المباح حراما فكيف الواجب والمستحب؟؟ بل معدود من الخسران إن صرف الزمان في المباح وإن قل ، لأنه ينقص من الثواب ، ويخفض من الدرجات ، وناهيك خسرانا بأن يتعجل ما يفنى ، ويخسر زيادة نعيم يبقى.

فمن حق المتطيب يوم الجمعة أن يقصد أمورا :

منها : التأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته.

ومنها : إكرام الملائكة الكاتبين.

ومنها : تعظيم المسجد واحترام ملائكته.

ومنها : ترويج مجاوريه في الجلوس في المسجد.

ومنها : دفع ما عساه يعرض من رائحة كريهة عن نفسه وغيره.

ومنها : حسم باب (١) الغيبة عن المغتابين أو نسبوه إلى الرائحة الكريهة ، فالمتعرض للغيبة كالشريك فيها ، قال الله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢).

ومنها : زيادة العقل بالتطيب (٣) ، كما جاء في الأخبار : (من تطيب في أول نهاره صائما لم يفقد (٤) عقله) (٥).

ولا يظن : أن النية هي التلفظ بقولك : اجلس في المسجد ، أو

__________________

(١) في (م) و (أ) : مادة.

(٢) الأنعام : ١٠٨.

(٣) في (ك) و (ح) : بالطيب.

(٤) في (أ) : يفسد ، وما أثبتناه مطابق لما في ثواب الأعمال : ٥٣.

(٥) رواه الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام بلفظ : (من تطيب بطيب أول النهار وهو صائم لم يفقد عقله). ثواب الأعمال : ٥٣.

١١٩

استمع العلم ، أو أدرسه أو أدرّسه (١) تقربا إلى الله تعالى ، فان ذلك لا عبرة به ، بل المراد جمع الهمة على ذلك وبعث النّفس وتوجهها وميلها إلى تحصيل ما فيه ثواب عاجل أو آجل تلفظ بذلك أو لا ، ولو قدر تلفظه بذلك والهمة غيره فهو لغو.

الفائدة الثامنة والعشرون

يجب التحرز من الرياء في الأعمال ، فإنه يلحقها بالمعاصي.

وهو قسمان : جلي ، وخفي. فالجلي ظاهر. والخفي إنما يطلع عليه أولو المكاشفة والمعاملة لله ، كما يروى عن بعضهم : أنه طلب الغزو وتاقت نفسه إليه ، فتفقدها فإذا هو يحب المدح بقولهم : فلان غاز ، فتركه ، فتاقت نفسه إليه ، فأقبل يعرض نفسه (٢) على ذلك الرياء حتى أزاله ، ولم يزل يتفقدها شيئا بعد شي‌ء حتى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث ، فاتهم نفسه وتفقد أحوالها فإذا هو يجب أن يقال : فلان مات شهيدا ، لتحسن سمعته في الناس بعد موته.

وقد يكون ابتداء النية إخلاصا وفي الأثناء يحصل الرياء ، فيجب التحرز منه فإنه مفسد للعمل. نعم لا يكلف بضبط هواجس النّفس وخواطرها بعد إيقاع النية في الابتداء خالصة ، فإن ذلك معفو عنه ، كما جاء في الحديث (٣).

__________________

(١) زيادة ليست في (م) و (أ).

(٢) زيادة من (أ).

(٣) انظر : الحر العاملي ـ وسائل الشيعة : ١ ـ ٨٠ ، باب ٢٤ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ٣ ، وصحيح مسلم : ١ ـ ١١٦ وما بعدها باب ٥٨ ، ٥٩ من كتاب الإيمان ، حديث : ٢٠١ ـ ٢٠٧.

١٢٠