من هو الصدّيق ؟ ومن هي الصدّيقة ؟

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-135-X
الصفحات: ١٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUESwddiq-Seddiqehimagesimage001.gif

١

٢

Description: F:Book-LibraryENDQUEUESwddiq-Seddiqehimagesimage002.gif

٣

٤



الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمّد

وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد ، فإن هناك مفردات كثيرة في التاريخ والشريعة يجب الوقوف عندها والتأمّل في معانيها وإيحاءاتها ؛ لكونها أموراً ترتبط بالعقائد والأحكام والسيرة.

والصدّيقية من تلك المفردات التي تحمل في طيّاتها معاني عالية وتشير إلى مقامات إلهية ، وحيث أنّي ـ وحسب معلوماتي ـ لم أقف على رسالة مستقلة في هذا المجال ، وكلّ ما هو موجود في كلمات الأعلام إنّما هو إشارات عابرة إلى معنى الصدّيقية ذكروها استطراداً في بحوثهم الكلامية ولم ينقحوها تنقيحاً يلائم عقيلة الباحث الموضوعي اليوم ، وإسهاماً منّا في إثراء المكتبة الإسلامية قدمنا هذا الجهد المتواضع ليكون نواة لعمل مستقبلي لنا ولإخواننا الباحثين والمحققين.

فإنّ حياة السيدة فاطمة الزهراء تحمل بين جوانبها تراثاً تاريخياً وعقائدياً وفقهياً ضخماً ، بل إنّ في كل مفردة من مفردات حياتها ( سلام الله عليها ) دروساً وعبراً ومواعظ ومعطيات يجب التأسّي بها. حتى في أسمائها وألقابها ، فهي تشير

٥

إلى مقامات ومفاهيم عالية.

فالصدّيقية مثلاً ترتبط بعصمتها ، وهي إشارة إلى أوّل حياتها الطاهرة حيث صدّقت بأبيها وبكل ما أتى به ، وصدّقت بارئها أكمل التصديق حتى أوقف سبحانه رضاه على رضاها وغضبه على غضبها.

ومثل ذلك لقب المحدّثة فهو إشارة إلى ما بعد حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان جبرائيل يكلمها ويسليها ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها.

وبعد لقب الصدّيقة ولقب المحدثة لقب الشهيدة فهو إشارة إلى مظلوميتها وختامِ حياتها المباركة مكللّة بالشهادة.

إذاً أسماء وألقاب السيدة فاطمة (١) الزهراء لم تكن أسماءً وألقاباً عابرة ، بل تحمل في جوانبها معاني قدسية ، حاول البعض أن يسرقها ويمنحها جُزافاً لآخرين.

وبما أن التسمية بفاطمة عللت في بعض روايات أهل البيت ، بكونها عليها‌السلام تفطم شيعتها من النار ، ومثل ذلك جاء في الإمام علي أنه يفرق بين الحقّ والباطل ، نرى القوم يطلقون لقب الصدّيقة على أُخريات ، كما يطلقون لقب الفاروق على آخرين اعتقاداً منهم بأنه يفصل بين الحق والباطل.

فما وجه الشبه والارتباط بين ما روي عن النبي أنّه قال في عمر : قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدثون وأنه لو كان في أُمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب (٢) ، أو ما نسب إلى الإمام علي من قوله : كنّا نتحدث أن ملكا ينطق

_______________________________________

١. وحتى أن هذا العلم الشريف ( فاطمة ) يستحق مدلوله الوقوف عنده وبحثه لما يحوي معاني ومفاهيم إلهية.

٢. صحيح البخاري ٣ : ١٢٧٩ ح ٣٢٨٢ ، ١٣٤٩ ح ٣٤٨٦ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٦٤ ، سنن الترمذي ٥ :

٦

على لسان عمر (١) وبين ما سميت به السيدة فاطمة الزهراء والمحدثين من آل بيت رسول الله.

ولا أدري هل فكر أحد معي في مداليل ومعاني كلمة الزهراء وارتباطها بالنور الإلهي ، وهل أنّ هذا هو لقب ومنزلة لها فحسب ؟ أم أنّه يمكن تعميمه على الأُخريات من بنات رسول الله حتى يمكن لعثمان بن عفان أن يلقب بذي النورين لتزوّجه بنتين من بنات رسول الله أو ربائبه ؟

ولعل النابه يقف على محاولات الخلفاء وأنصارهم لإطلاق هذه الأسماء والألقاب على من يريدونه ، ففي الوقت الذي يطلقون كلمة « الشهيد المظلوم » على عثمان بن عفان ، يهابون من إطلاق كلمة « الشهيدة المظلومة » على فاطمة الزهراء.

إن ألقاب الصدّيقة والمحدثة والشهيدة مفردات تحمل بين جوانبها معاني : العصمة ، والعلم ، والمظلومية ، وتشير إلى ثلاث مراحل من حياتها سلام الله عليها ، وما جرى لها وعليها.

وهذه الرسالة الموجزة ما هي إلا توضيح لمفردةٍ واحدة من تلك المفردات الكثيرة في التاريخ والشريعة فإنّ هذه الاسماء والألقاب وأمثالها جديرة بالوقوف عندها والتأمّل في مضامينها ، وهذا ما نرجوه من الأخوة أن يجعلوه نصب أعينهم في دراساتهم وبحوثهم عن هذه السيدة العظيمة سلام الله عليها.

وختاماً أسأل الله سبحانه أن يتقبل هذا القليل ، وأن يجعله في حسناتي مكفراً

_______________________________________

٦٢٢ ، ح ٣٦٩٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٩٢ ، ح ٤٤٩٩ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٣٩ ، ح ٨١١٩.

١. تاريخ واسط ١ : ١٦٧ ، حلية الأولياء ١ : ٤٢ ، الرياض النضرة ١ : ٣٧٦ ، المعجم الأوسط ٧ : ١٨ ح ٦٧٢٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ٦٩.

٧

به عن سيّئاتي ، وأن يسعدني بشفاعة مولاتي « فاطمة الزهراء » ، مصلياً عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها بهذه الصلوات :

اللّهم صلِّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها بعدد ما أحاط به علمك.

والحمد لله أوّلاً وأخراً ، وله الشكر باطناً وظاهراً ، وصلواته على نبيه محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

علي الشهرستاني

في السابع عشر من جمادي الأولى لسنة ١٤٢٦ أيام شهادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها‌السلام

_______________________________________

عنوان المؤلف البريدي : ايران ـ مشهد ـ ص. ب : ٤٧٦٦ / ٩١٣٧٥

عنوان المؤلف الالكتروني :

E-mail:info@shahrestani.org

موقع المؤلف على الانترنيت :

http://www.shahrstani.org

٨



من سمات البحث الموضوعي أن يتعامل المرء مع المفردات والمصطلحات بذهنيّة واقعية ، قد تجبره على تحقيق ذلك من خلال شواهد السيرة والتاريخ وأمثالها ، لا سيّما إذا واجه مفرداتٍ متعارضة أو متضاربة أو متضادّة لا يمكن الجمع بينها جمعاً تبرعياً ، كما لا يمكن توجيهها توجيهاً شرعياً أو عقليّاً متماسكا.

والمطالع في التاريخ الإسلامي والفقه والحديث يقف على مفردات متضاربة ، وفي بعض الأحيان متناقضة أو متضادة ، لا يدري كيف يتعامل معها أو يجمع بينها ؛ لأنّها تراكمات وصلتنا من عصور سابقة ، وقد استحكمت هذه الاشكالية عند البعض ، لأنّهم أرادوا أن يقدسوا اناساً لم يقدسهم الله ورسوله ، فجدّوا أن يجمعوا بين النهجين ( الصحابة وآل البيت ) ، فمن جهة تراهم يظهرون محبة آل الرسول ، ومن جهة أخرى لا يرتضون بيان ما جرى عليهم ، فيطالبون أتباع النهج الآخر بالاغماض عما فعله الآخرون ، بدعوى أنهم رجال ذهبوا ، لهم ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، وما لنا والدخول فيما كانوا فيه ؟

وهذا التبرير قد يبدو وجيها في أول وهلة ، ولكنك بتأمّل بسيط تقف على سقمه ؛ وذلك لأن هؤلاء الرجال لم يكونوا أناساً عاديين في التاريخ حتى يقال : لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، ويُرجَأُ الأمر إلى الله كي يحكم في أمرهم.

٩

بل كان لهؤلاء دور في الشريعة والتاريخ ، وإن كثيراً من المواقف التي يتخذها بعض المسلمين اليوم قد أُخذت عن أولئك ، فلابُدّ من الوقوف على سيرتهم وسلوكهم لأنّ ذلك يرتبط بحياتنا الاجتماعية وسيرتنا العلمية والعملية اليوم ، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، فلا يمكننا أن نعرف علياً وفاطمة إلّا بعد أن نعرف معاوية وأبا بكر ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى يجب أن نعرف بأن الحكم المنزل من الله جلّت أسماؤه ، على لسان رسوله ، هو واحد ، والحقّ واحد ، وسواه باطل ، فإن كان عليٌ مع الحقّ فمعاوية على الباطل ، وإن كانت فاطمة الزهراء صادقة في مدّعاها فأبو بكر ليس كذلك ، ولا ثالث لهما ؛ إذ قد قال سبحانه وتعالى : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ). (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستفترق أُمتي إلى نيف وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقي في النار » (٢) وهذان النّصان يؤكدان وبكل وضوح وحدة الحقّ وتشعب الباطل والضّلال ، بل الإسلام كلّه مبتن على وحدة الفكر والمضمون.

وقد قال الإمام علي : وأن الباطل لو « خَلَصَ من مِزاج الحقّ لم يَخفَ على المُرتادينَ ، ولكن يؤخذ من هذا ضِغثٌ ، ومِن هذا ضِغث فيُمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى ». (٣)

وقال عليه السلام للحارث بن حوط الليثي : يا حارث إنك ملبوس عليك ، إن

_______________________________________

١. يونس : ٣٢١.

٢. شرح الأخبار ٢ : ١٢٤ ، الخصال : ٥٨٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٣٩٩٣ / ١٣٢٢ ، في الزوائد اسناده صحيح ورجاله ثقات ، سنن الترمذي ٤ : ١٣٥ ، حديث غريب مفسر ، المستدرك على الصحيحين ١ : ١٢٩.

٣. نهج البلاغة ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ خطبة ٥٠ ، وشرح النهج ٣ : ٢٤٠.

١٠

الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله. (١)

فإضفاء هالة من الأُبهّة على السلف هو الذي أوقع البعض في هذه المفارقات ، لأن الصحابة هم أُناس كسائر البشر يخضعون للمقاييس الإلهية ، فمن آمن بالله ورسوله وكتبه وأحكامه وسار على هداها فإنّما اهتدى لنفسه ، ومن ضل عن ذلك فإنّما يضل عليها.

فمجرد الصحبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست بعاصمة للصحابي عن مناقشة آرائه ومواقفه ، لأنّ مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالشمس المشعة ، ومن صاحبه كالمرايا ، فما صفا منها عكس ضوء النبوة بمقدار صفائه ، وما كدر منها لم يزده ضوء الشمس إلّا صدأً وتهرؤاً ، فالنقص إذن في المصاحِب لا المصاحَب صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والإمام علي بن الحسين زين العابدين قد مدح صحابة رسول الله الذين ثبتوا على منهاجه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبدّلوا ولم يُغيّروا ، وذلك في دعائه عليه‌السلام في الصلاة على اتباع الرسل ومصدّقيهم ، فقال :

اللّهم وأصحاب محمد خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبته ، يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضِهم من رضوانك.

_______________________________________

١. تفسير القرطبي ١ : ٣٤٠ ، وانظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٥ / ٣٢.

١١

اللّهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون :

( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) خير جزائك ، الذين قصدوا سمتهم ... إلى آخر الدعاء. (١)

كان هذا هو منهج أهل البيت في التعامل مع الصحابة ، وهو منهج صحيح يزن الأمور بميزانها ، لكنا نرى المنهج الآخر يخلط الأوراق ، فيجعل الطليق كالمهاجر والُمحَاصِر كالُمحَاصَر والمحقّ كالمبطل (٢) فيقول وبكل جرأة : سيدنا معاوية حارب سيدنا علياً ، أو أن سيدتنا عائشة خرجت على سيدنا علي ، أو أن سيدنا يزيد قتل سيدنا الحسين ، إلى ما شابه ذلك من المفردات المتناقضة.

ومن تلك المفارقات التي يجب علينا الوقوف عندها ما يلهج به المنهج الآخر دوماً في النزاع بين أبي بكر وفاطمة الزهراء : إن سيدنا الصدّيق اختلف مع الصدّيقة في فدك وميراثها من رسول الله ؟

بهذه التعابير والمفردات لبّسوا الأمر على بعض المسلمين ، فلا يُدرَى من هو الصادق في هذه الدعوى ومن هو الكاذب ، وذلك بتشويه معنى الصدّيق والصدّيقة منهما.

وعلى أي حال ، فلو كان أحدهما صادقاً فالآخر كاذب بلا كلام ، وكذا الحال بالنسبة إلى الصدّيقية ، ـ والتي تعني كمال الصدق في الحديث والتصديق لرب العالمين ولرسوله الكريم ـ فلا يمكن تصورها في الاثنين معاً ، لأنّا نرى كل طرف يكذّب الآخر إمّا تصريحاً وإمّا تلويحاً ؛ فالسيدة فاطمة الزهراء قد كذّبت أبا بكر

_______________________________________

١. الصحيفة السجادية : ٤٣ ـ ٤٢.

٢. انظر ما قاله الإمام علي في رسالته إلى معاوية ( ... ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ... ) نهج البلاغة ٣ : ١٨ / ١٧.

١٢

صراحة بقولها : لقد جئت شيئاً فريا ، وفي الجهة المقابلة لم يجرؤ أبو بكر على تكذيب الزهراء عليها‌السلام صراحة ، لكنه عمد إلى أُمور من لوازمها التكذيب.

والآن لنَسِرْ معاً ، برفقة هذه السطور لنقف على معنى الصدّيق لغة واستعمالاً.

*

١٣
١٤



الصدّيق في اللغة والاستعمال !!

الصدّيق مشتق من مادة ( ص ، د ، ق ) والصدق نقيض الكذب ، والصدّيق فعيّل ، والصدّيقة فعيّلة ، وتأتي للدلالة على كثرة اتصاف الموصوف بالصفة ، والمبالغة في الصدق والتصديق ، وهي أبلغ من الصدوق ، وقيل : إنه يطلق على الكامل في الصدق الذي يصدّق قوله عمله ، وقيل : إنه لمن لم يكذب قط.

وقد اشتهر عند أهل السنة والجماعة أنه لقب لأبي بكر بن أبي قحافة وإن كانت عندهم روايات تقول إنه لقب لعلي بن أبي طالب ، وهي توافق روايات الشيعة الإمامية الناصّة على أن « الصدّيق » لقب للإمام علي وأن القوم سرقوه وأعطوه لأبي بكر.

أما لقب الصدّيقة فقد أطلق في القرآن الكريم على مريم بنت عمران ، وجاء على لسان رسول الله أنّه لقب لفاطمة الزهراء وخديجة الكبرى ، وهناك محاولات لإضفاء هذا اللقب على عائشة ، لكنا سنثبت سقم تلك الدعوى لاحقاً.

ونحن لو أردنا الوصول إلى الحقيقة ليس لنا إلا تنقيح معنى الصدّيقية لنعرف هل أنها مرتبة معنوية ربانية ، أم أنّها ألقاب ممنوحة تقابل الألقاب الممنوحة اليوم لهذا أو ذاك ؟

١٥

وهل هناك فرق بين ما يمنحه رسول الله وما يمنحه الآخرون ، بل هل يعقل أن تكون الألقاب المعطاة من قبل الله ورسوله قد أعطيت جزافاً وبمجرد واقعة ، أم أن وسم النبيّ لشخص بسمة ما يدلّ على امتلاكه لها واقعاً ؟

وهل إن الألقاب تعطى طبقاً للمؤهلات والماهيات ، أم تشجيعاً وترغيباً للأشخاص ؟

ولِمَ لم يُمنح أبا ذر لقب الصدّيق مع كونه أصدق ذي لهجة حسب تعبير الرسول الأمين ؟

بل ماذا تعني الصدّيقية وهل إنّ للصدّيق مراتب وأقسام :

قال ابن البطريق ( ت ٦٠٠ هـ. ) في العمدة :

الصدّيق ينقسم إلى ثلاثة أقسام ..

١ ـ صدّيق يكون نبياً.

٢ ـ صدّيق يكون إماماً.

٣ ـ صدّيق يكون عبداً صالحاً ، لا نبي ولا إمام.

فاما ما يدل على أول الأقسام فقوله سبحانه وتعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) وكل نبي صديق ، وليس كل صديق نبياً ، وقوله تعالى : ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ).

وأما ما يدل على كون الصدّيق إماماً ، فقوله تعالى : ( فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ).

فذكر النبيين ثم ثنى بذكر الصدّيقين ، لأنه ليس بعد النبيين في الذكر أخص من الأئمة.

ويدل عليه أيضاً الأخبار الواردة بأنّ الصدّيقين ثلاثة : حبيب وحزقيل وعلي وهو أفضلهم ، فلما ذكر عليّاً عليه‌السلام مع هذين المذكورين دخل معهما

١٦

في لفظة الصدّيقين وهما ليسا بنبيين ولا إمامين ، فأراد إفراده عليه‌السلام عنهما بما لا يكون لهما وهي الإمامة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهو أفضلهم.

فليس في لفظة الصدّيق بينهم تفاضل ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصدّيقون ثلاثة ، فقد استووا في اللفظ ، فأراد الإخبار عن اختلافهم في المعنى وهو استحقاق الإمامة فقال : وهو أفضلهم ، تنبيها على كونه عليه‌السلام صديقاً إماماً. (١)

وبما أن البحث في أطراف هذه المسألة يستوجب بيان عدة مسائل ويستدعي التّدرج في طرحها ، كان لا بدّ من الوقوف على الصادق والكاذب ، ثمّ الوقوف على الصدّيقيّة وأنّها في أيّ الطرفين تكون.

وقبل كل شيء يجب أن نذكّر بأن النبي محمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلّقب في الجاهلية بالصادق الأمين ، وأنّ السيدة خديجة الكبرى وابنتها فاطمة الزهراء لقبت كل واحدة منهما من قبل رسول الله بالصدّيقة ، وقد أنجب الصدّيق علي بن أبي طالب من الصدّيقة فاطمة الزهراء أولاداً مطهرين صادقين هم أئمة المسلمين الذين طهّرهم رب العالمين في آية التطهير ، وأمر باتباعهم في قوله : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، وقد حدثت وما زالت تحدث محاولات فاشلة لتحريف هذا

_______________________________________

١. العمدة : ٢٢٣.

٢. انظر تفسير القمي ١ : ٣٠٧ ، تفسير فرات ١٣٧. أي كونوا مع علي وأولاد علي ، وقد روى هذا المعنى كل من :

الإمام الباقر ، كما في الدر المنثور ٣ : ٢٩٠ ، وفتح القدير ٢ : ٣٩٥ ، وشواهد التنزيل ١ : ٢٦٠ آية ٥٥ ح ٣٥٣ وكفاية الطالب : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

والإمام الصادق كما في شواهد التنزيل ١ : ٢٥٩ آية ٥٥ ح ٣٥٠ وغاية المرام : ٢٤٨ عن أبي نعيم الاصفهانى.

وعبدالله بن عباس كما في مناقب أمير المؤمنين للخوارزمي : ١٩٨ وشواهد التنزيل ١ : ٢٦٢ آية ٥٥ ح ٣٥٦ ، والدر المنثور ٣ : ٢٩٠ ، وفتح القدير ٢ : ٣٩٥.

وعبدالله بن عمر كما في شواهد التنزيل ١ : ٢٦٢ آية ٥٥ ح ٣٥٧.

١٧

اللقب عنهم ، ولكن أنّى للمحرفين ذلك ؟! حيث إنهم صلوات الله عليهم كانوا في أصلاب شامخة وأرحام مطهرة لم تنجسهم الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها. (١) إذ عُرف جدهم بالصادق الأمين في الجاهلية ، لصدقه ووفائه بالمواثيق والعهود ، وكانت العرب تحترمه وتجله وتتحاكم إليه لأنه لا يداري ولا يماري ، (٢) وقد اشترك صلى‌الله‌عليه‌وآله في حلف الفضول وعمره لا يتجاوز العشرين عاماً مناصرة للمظلوم أمام الظالم (٣) ووفاءً للعهود والمواثيق.

وقد حُكّم صلى‌الله‌عليه‌وآله بين القبائل في وضع الحجر الأسود ، وذلك بعد أن أتمت القبائل تجديد البيت الحرام ، فتنازعوا بينهم في الذي يضع الحجر مكانه ، فاقترح أبو أُمية بن المغيرة ـ والد أم سلمة ـ أن يُحكّموا أول داخل عليهم من باب السلام ، فإذا بمحمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا.

فأُخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله الخبر ، فبسط إزاره ـ وفي نص طلب ثوباً ـ ثم أخذ الحجر فوضعه

_______________________________________

ومقاتل ابن سليمان كما في شواهد التنزيل ١ : ٢٦٢ آية ٥٥ ح ٣٥٦. وجاء في التفسير المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ) فعن أبي جعفر ( مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ) حمزة وجعفر ( وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ) علي بن أبي طالب.

١. فعن رسول الله : انا دعوة أبي إبراهيم. ( مسند الشاميين ٢ : ٣٤١ ، تفسير الطبري ١ : ٧٧٣ ح ١٧٠٧ ، الجامع الصغير ١ : ٤١٤ ح ٧٠٣ ، شواهد التنزيل ١ : ٤١١ ح ٤٣٥.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : نقلت من كرام الأصلاب إلى مطهرات الأرحام ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، وما مسني عرق سفاح قط ، وما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم البرية من العيوب ( شرح نهج البلاغة ١١ : ٧٠ ).

وروى أحمد في فضائل الصحابة ٢ : ٦٦٢ عن النبي أنه قال : خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم ... فلمّا خلق الله آدم أسكن ذلك النور في صلبه إلى أن افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء في صلب عبدالله ، وجزء في صلب أبي طالب.

٢. السيرة الحلبية ١ : ١٤٥.

٣. طبقات ابن سعد ١ : ١٢٩ ، المنمق : ٥٢ ـ ٥٤.

١٨

فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم رفعوه جميعاً ، فلما حاذى الموضع ، أخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده الشريفة فوضعه في مكانه. (١)

وجاء عنه فيما روته بعض كتب العامة أنه قال عند الصفا ـ في بداية دعوته المباركة ـ :

يا بني فهر ، يا بني عدي ، يا بني عبد المطلب ، وذكر الأقرب فالأقرب حتى اجتمعوا ، ومن لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر له ما يريد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً في سفح هذا الجبل قد طلعت عليكم أكنتم مصدقي » ؟

فقالوا بلسان واحد : نعم ، أنت عندنا غير متّهم ، وما جربنا عليك كذباً قط.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني نذير لكم من عذاب شديد ، يا بني عبدالمطلب ، ويا بني عبد مناف ، ويا بني زهرة ، ويا بني تيم ، ويا بني مخزوم وأسد ، ومضى يعدد جميع قبائل مكة وفروعها ، ثم قال : إن الله أمرني أن أنذركم من عقابه ، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا في الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا : لا اله إلّا الله.

فنهض أبو لهب ـ وكان رجلاً بدينا سريع الغضب ـ وصاح به :

تَبّاً لك ، سائر اليوم ، ألهذا جمعت الناس ؟ وتفرقوا عنه يتشاورون في أمره. (٢)

بلى ، إن القبائل العربية عارضته وكذبته لا لنفسه ، بل لما جاءهم به من أفكار وآراء عن الكون والحياة ، والتي لم يكن لهم بها عهد من قبل ، فصار شأنه شأن باقي المرسلين المكَذّبين من قِبَلِ أقوامهم ، فكان مثل قومه كمثل قوم نوح ، وعاد ،

_______________________________________

١. السيرة النبوية لابن هشام ١ : ٢٠٩ ، تاريخ الطبري ٢ : ٤١ البداية والنهاية ٢ : ٣٠٣ ، شرح نهج البلاغة ١٤ : ١٢٩.

٢. انظر صحيح البخاري ٦ : ٩٥ ، في تفسير الآية : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) ، وصحيح مسلم ١ : ١٣٤.

١٩

وثمود ، ولوط وأصحاب الرس إذ قال تعالى : ( وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ). (١)

إذا قومه لم يرموه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكذب الذاتي والخيانة والظلم ، بل رموه بالسحر والكذب المستجدّ بزعمهم ؛ لعدم دركهم كنه الإعجاز ، ونعتوه بمجنون لما كانوا يرون عليه من ثقل الوحي ، وفي هذا غاية الوضوح في أنّ العرب كانت تعرف صدقه ، وأمانته ووفاءه وحكمته صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الإسلام.

فالصادق والصدّيق إذا قبل كل شي هو لقب لرسول الله والأنبياء والمرسلين من قبله كإبراهيم ، وإدريس ، وإسماعيل ، وموسى ، وعيسى ؛ لقوله تعالى عن رسول الله : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) ، (٢) وقوله سبحانه عن إبراهيم : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) ، (٣) وقوله عنه أيضاً : ( وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) ، (٤) وقوله عن إدريس : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) ، (٥) وقوله عن إسماعيل : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ) (٦) وقوله عن موسى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ). (٧)

_______________________________________

١. سوره الحج ٢٢ : ٤٢ و ٤٣.

٢. سورة الزمر : ٣٣.

٣. سورة مريم : ٤١.

٤. سورة مريم : ٤٩ ، ٥٠.

٥. سورة مريم : ٥٦.

٦. سورة مريم : ٥٤.

٧. سورة مريم : ٥١.

٢٠