عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

السيد محمد علي الحلو

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة السبطين عليهما السلام العالمية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

٩ ـ ابن خلكان في «وفيات الأعيان» :

قال : اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب ... وأورد سوال عبدالله بن الحسن لمحمد بن السائب الكلبي المذكور آنفا (١).

١٠ ـ عمر رضا كحالة في «أعلام النساء» :

قال : واسمها آمنة أو أميمة ، وسكينة لقبها (٢).

١١ ـ السيد محسن الأمين العاملي في «أعيان الشيعة» :

عنونها هكذا :

أميمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب المعروفة بسكينة.

ثم نقل بعض الأقوال المتقدمة وقال :

روى في الأغاني بسنده ، عن ابن الكلبي (٣) ، عن أبيه ، قال : قال لي عبدالله بن الحسن [بن الحسن] : ما اسم سكينة بنت الحسين؟ فقلت له : سكينة ، فقال : لا ، اسمها آمنة (٤) (٥).

والظاهر تعدد الحادثتين ، أحدها هذه ، ولعلها هي الأسبق زمانا ، والأخرى ما أوردناه عن النديم من أن محمد بن السائب الكلبي كان قد سأله عبدالله بن الحسن هذا عن اسم سكينة ، فقال : هي أميمة ، واستظهرنا هناك في التسلسل (٥) في تعليقتنا على أميمة ، من أنها تصحيف آمنة.

__________________

(١) وفيات الأعيان ١ : ٣٧٨ في ترجمة سكينة.

(٢) أعلام النساء ٢ : ٢٠٢.

(٣) ابن الكلبي ينصرف إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وروايته عن أبيه أي عن محمد بن السائب الكلبي ، مما يدل أن الراوي واحد مع تعداد الحادثتين ، وهو الموافق لاستظهارنا.

(٤) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ١٦ : ١٤٧.

(٥) أعيان الشيعة ٣ : ٤٩١.

٤١

واستظهارنا بتعدد الحادثتين ، كون رواية الأغاني هنا في صدد تصحيح ما علق بذهن محمد بن الكلبي ، وما اشتهر من لقبها بين الناس من أنها سكينة ، فصحح عبدالله اسمها بأنها آمنة.

ورواية النديم في الفهرست (١) أن عبدالله بن الحسن سأل محمد بن الكلبي عن اسم سكينة ، فلما ذكر أن اسمها آمنة صوب له ذلك وأقره عليه حينما قال : أصبت ، وكأنه في صدد تذكيره على ما صححه من قبل والتأكيد عليه بأن اسمها آمنة وليس سكينة.

وتأكيد عبدالله بن الحسن على محمد بن الكلبي له خصوصيته ، فأن ابن الكلبي كونه نسابة ، وعبدالله بن الحسن حريص على تصحيح الاسم بواسطة محمد بن الكلبي لرجوع الناس إليه.

١٢ ـ السيد عبدالرزاق الموسوي المقرم في «سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام» :

قال : وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون أنه لقب من أمها الرباب ، وكأنه لسكونها وهدوئها ، وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف ، وهذا الرأي نسبه الصبان إلى المشهور. وأما اسمها ، فالذي اختاره ابن تغري بردي أنه آمنة (٢).

١٣ ـ الشيخ محمد حسين الأعلمي في «تراجم أعلام النساء» :

قال : سكينة لقبها ، واسمها آمنة أو أمينة أو أميمة (٣).

١٤ ـ المحدث الشيخ عباس القمي في «منتهى الآمال» :

قال : وكان اسم سكينة آمنة أو أميمة ، فلقبتها أمها رباب بسكينة ، فهي

__________________

(١) راجع صفحة (٣٩) لتقف على الرواية وتقارنها برواية الأغاني.

(٢) سكينة بنت الحسين : ١٤٠.

(٣) تراجم أعلام النساء ٢ : ٢٠٠.

٤٢

عقيلة قريش ، وذات عقل ورأي صائب (١).

هذا اتفاق أهل الأخبار والمحققين من الفريقين ، أن سكينة هو لقب آمنة أو أميمة بنت الحسين.

على أنا نرجح ما رجحه أهل التحقيق بأن اسمها آمنة بنت الحسين وميلهم إلى ذلك. بل هو الأقرب على ما في رواية أبي إسحاق المالكي ، كما نقله أبو الفرج الإصفهاني في الأغاني عن المدائني ، قال : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها آمنة ، ثم تصحيح الإصفهاني عقيب الرواية بقوله : وهذا هو الصحيح. وقد أشرنا إليه آنفا.

كما أن أبا الفرج نقل في موضع من الأغاني (٢) : قال مصعب فيما أخبرني به الطوسي ، عن زبير ، عنه : اسمها آمنة.

وهناك رواية أخرى للمدائني ، عن أبي إسحاق المالكي ، قال : قيل لسكينة ـ واسمها آمنة ، وسكينة لقب ـ : أختك فاطمة ناسكة ، وأنت تمزحين كثيرا؟ ... ثم جواب السيدة آمنة بأنكم : «سميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام» ، تعني آمنة بنت وهب ، أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ومع مؤاخذاتنا على هذه الرواية ، إلا أن الذي يعنينا منها الآن هو ترجيح اسم آمنة على غيره من الأسماء.

وهذا ما حدى بالسيد محس الأمين العاملي في أعيان الشيعة (٤) إلى القول بعد إيراده لهذه الرواية في أخبارها : هذا يدل على أن اسمها آمنة. رغم

__________________

(١) منتهى الآمال ١ : ٨١٨.

(٢) الأغاني ١٦ : ١٤٦.

(٣) المصدر السابق : ١٤٩.

(٤) إعيان الشيعة ٣ : ٤٩٢.

٤٣

أنه عنونها باسم أميمة ، ولعل اختياره كان مسايرة لما عليه الأكثر ليس إلا.

من هنا يتأكد لنا الاسم الحقيقي للقب سكينة وهو آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام ، لذا فالأمانة العلمية تدعونا إلى إثبات اسمها الصحيح ، والتعامل معه تعاملا جديا ، وذلك لغلق الطريق على الأكاذيب التي عهد إليها البعض للإساءة إلى بيت النبي الأطهر ، وتمحلات الآخرين الذين حسبوها أنها مرتكزات تاريخية ، دون أن يتكلفوا أدنى مطالب التحقيق في شأن هذه الحادثة الخطيرة ، لذا فإننا نأمل من ذوي التحقيق وأهل الإنصاف ، أن يرتكز في أذهانهم اسم آمنة بنت الحسين ، والتعامل معه تعاملا حقيقا ، والإعراض عن لقبها الذي استغله بعض أهل الأهواء ، والسذج من بسطاء العوام ، الذين لا خلاق لهم بتحقيق الوقائع ، ومعرفة الأحداث ، ومالهم بذلك إلا المطامع ، أو النعيق مع كل ناعق.

مصالح أموية ومطامع زبيرية

لم تزل الروايات التاريخية تحت مطرقة الأهواء والأغراض السياسية ، بل انجر ذلك حتى إلى رواية الحديث النبوي ، وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا «تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونص السلطة» ، ولا يزال تاريخنا مخبوءا خلف ظروف روائية أسهم في إيجادها رواة وظفتهم السياسة ؛ لإيجاد حبكات قصصيةٍ وروايات توهم الآخرين بأنها ضمن تراثنا التاريخي الإسلامي ، في حين لم تكد مدونات التاريخ تستعرض واقعة تاريخية ، أو تسبر سيرة شخصية ، إلا وتجد مشكلة الوضع تخترق الحدث ، وتحيله إلى قراءة لتوجهات سياسية ، تتحكم فيها أغراض الراوي الذي ينتسب إلى تلك الجهة المعنية ، أو تلك الرؤية المحسوبة ،

٤٤

وهكذا تتدخل هذه التوجهات لتأسيس تاريخ مشوه ، أو روايات موضوعة ، أو حدث مفتعل تجيد صياغته تارة أو تضطرب أخرى ، فتبدو القضية متناقضة غير حقيقية ، بأدنى تأمل ودقة نظر.

من هنا يمكننا أن نستعرض لهذه الظاهرة نموذجين من الوضع والتزوير ، تتدخل فيها عدة توجهات سياسية معينة :

أحدها : المصالح الأموية التي ما برحت تكيد لآل علي عليهم‌السلام منذ عهد معاوية بن أبي سفيان.

وثانيا : المطامع الزبيرية التي ما فتئت تلاحق المجد العلوي منذ حرب الجمل ، حتى ما ارتكبه آل الزبير من تأسيس مجدهم الزائل على جماجم شيعة علي عليه‌السلام وأصحابه ، ولاننسى ما بذله عبدالله بن الزبير وآله من محاربة العلويين وملاحقتهم ، كنفي محمد بن الحنيفة ، أو إخراج عبدالله بن عباس ، ومثلهم من بني هاشم عن مكة ، وإعلان العداء لهم منذ قيام دولتهم يومذاك. بمعنى أن الزبيريين عرفوا بمنافستهم الشديدة لآل علي عليه‌السلام ، وكانوا يحسدون ما يحرزه العلويون من تقدم في كل المجالات ، والأمة تتعامل مع العلويين بأنهم يمثلون الشرعية التي لا يمكن لأحد إغفالها أو تجاوزها ، وإذا لم تدم الجهود الزبيرية في تأسيس دولتهم يومذاك ، فلا بد أن يبحثوا عن مجد يحيلهم إلى أسياد الشرعية ، وقادة الأمة. حينئذ كيف يتم ذلك وملاحم العبث تملأ الأخبار؟ وقصص عمر بن أبي ربيعة وسكينة بنت خالد بن مصعب يتداولها الناس ، ويتغنى بها أهل المجون والغناء ، وهذه مشكلة يستشعر منها الزبيريون إحدى المعضلات التي تعرقل دعاواهم في شرعيتهم المدعاة. إلى جانب ذلك ترى الأمة قداسة آل علي عليهم‌السلام ، وطهارة

٤٥

بيتهم النبوي الذي لم تدنسه محاولات الأعداء ، فبقي مشعا بعطائه ، شاهدة الأمة لهم بالقداسة والإيمان ، وهذا يعني أن جهود منافسيهم سوف تعرقلها هذه النظرة المقدسة الزكية لآل علي عليهم‌السلام.

فالأمويون عرفوا بعبث خلفائهم ، حتى صار ذلك من تشريفات البلاط الأموي ، وآل الزبير يقرأون ويشاهدون أمامهم ملاحم بطلة الغرام سكينة بنت خالد الزبيرية ، فيحالون إلى بيت عبث وغناء ، لا كما يدعون من أنهم أهل خلافة وإمرة وقيادة ، وفي مثل هذا الحال سيتاح لآل علي عليهم‌السلام المنافس الأقوى لآل أمية وآل الزبير من التحرك بشكل طبيعي ؛ من أجل تمثيل شرعيتهم الإلهية المتمثلة بأئمة آل البيت عليهم‌السلام.

إذن فعلى الأمويين والزبيريين أن يختلقوا قضية يرمون بها منافسيهم الأقوياء ، وقلنا من قبل : إن شخصية الإمام زين العابدين عليه‌السلام لا يمكن أن تنالها دعايات الأعداء ، وقداسة بنات علي عليهم‌السلام لا تدنسها محاولات الأقلام الجائرة والأهواء العابثة ، فلم يجدوا إذن إلا شخصية «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، التي لم تساهم ـ كما ذكرنا ـ في الإعلام العلوي يوم كان آل البيت يتولون مهمة التبليغ وبيان الحقائق ، وكان لصغر سنها أثر في تحجيم دورها يومذاك ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى وجدت الدعايات الزبيرية ، والإعلام الأموي ، أن لتشابه اسمي سكينة بنت خالد بن مصعب صاحبة ملاحم عمر بن أبي ربيعة واسم سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، محاولة ناجحة في الخلط والتدليس ، واختراع القصص الماجنة ، ورمي شخص «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، ووجدت هذه المحاولة نجاحها على أيدي رواة متخصصين في صياغة

٤٦

الحدث ، ووضع القضية موضعا يستسيغ تناقله العامة ، ويلهج به البسطاء ، ويتعامل معه السذج تعامل المسلمات.

وبهذا احتلت روايات «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام مساحة واسعة من كتب الحكايات ، وملاحم الغزل ، ووسائل القصاصين ؛ ليحيلوا قداسة البيت العلوي إلى دناسة أموية وعبث زبيري ، ويأبى الله إلا ظهور الحقائق والإطاحة بمحاولات الشرذمة من أهل الأهواء السياسية فيحيلها ، إلى ملاحم تحكي حقيقة هؤلاء الوضاعين من الأمويين والزبيريين.

٤٧
٤٨

أكـذوبتان :

الأكذوبة الأولى

سكينة ومجالسة الشعراء واستماع الغناء

النموذج الأول :

قال أبو الفرج : أخبرني علي بن صالح قال : حدثنا أبو هفان ، عن إسحاق ، عن أبي عبدالله الزبيري قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين : أنا لكن به ، فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين ، وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها. فوافاهن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلاة في مسجده ، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا ، ثم انصرف إلى مكة من مكانه ، وقال في ذلك :

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

ليت المغيري الذي لم أجزه

فيما أطال تصيدي وطلابي

٤٩

كانت ترد لنا المنى أيامنا

إذ لا تُلام على هوى وتصابي (١)

رجال الخبر :

علي بن صالح : قال الذهبي : قال ابن الجوزي ضعفوه.

قلت [أي الذهبي] : لا أدري من هو (٢).

أبوهفان : قال الذهبي : أبو هفان الشاعر حدث عن الأصمعي بخبر منكر.

قال ابن الجوزي : لا يعول عليه (٣).

إذن فالخبر ساقط عن الاعتبار لضعف رواته ومجهوليتهم.

يعد هذا الخبر في صدارة أخبار سكينة المنسوب لها في مجالسة الشعراء خصوصا عمر بن أبي ربيعة ، والخبر مع غض النظر عن سقوط سنده عن الاعتبار ، فأن محاولة الوضع بادية عليه ؛ إذ افتتح الخبر بأن «نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف اجتمعن» ، ولم يتعرض الخبر إلى ذكر واحدة منهن ، واختص بذكر سكينة بنت الحسين ، وذلك دليل على أن صياغة الخبر بهذه الطريقة قصد منها التعرض للسيدة «آمنة» سكينة بنت الحسين ، ورتبت أحداثه لهذا الغرض ، والخبر في صدد ذكر ظرافة عمر بن أبي ربيعة ومحاولاته العبثية ، وهو ليس في صدد التعرض لسيرة أحد ، هكذا يعطي الخبر مسحة «البراءة» على ما يفتعله الوضاعون ، محاولين من خلاله الترسل لذكر وقائع أدبية صرفة ، وليس الغرض التعرض لسيرة أحد أو

__________________

(١) الأغاني١٧١ : ١.

(٢) ميزان الاعتدال ١٣٠ : ٣.

(٣) المصدر السابق ٥٤٠ : ٤.

٥٠

الإساءة للبيت العلوي الطاهر. وبهذا يحاول الوضاعون بعد أن أعيتهم الحيل في النيل من الشرف العلوي ، إلى ارتكاب هذه المجازفات الروائية ، التي وقع الكثير من المغفلين في التصديق بكل ما تدسه مشاريع الوضع ، واختلاق روايات من هذا القبيل ، تستهدف خصومهم وتوهم البسطاء بذلك.

على أن اجتماع هذه النسوة من الليل حتى طلوع الفجر يتنافى والحالة الاجتماعية التي تعيشها المدينة ، فالالتزامات التي تعيشها المرأة المدنية فضلا عن تعففها عما يشين سمعتها لدى الآخرين ، تختلف كثيرا عن غيرها من الأنحاء الإسلامية. فالمدينة تجد من نفسها مصدر إشعاع إسلامي للسيرة النبوية ، التي يمثلها أهلها القاطنون وقتذاك ، وهم لايزالون يعتزون بانتمائهم الإسلامي والتزامهم الديني ، كما أنها لا تزال تحتفظ بقداستها النبوية ، فضلا عما عرفته المدينة من أن القاطنين فيها بين مهاجر أو أنصاري ، والخبر لا يعد إساءة لخصوص البيت العلوي بقدر ما هو إساءة لأهل الهجرة من المهاجرين ، وأهل النصرة من الأنصار ، مما يعني أن الخبر قد سطرته أيد يهودية ، تتربص بالدين الإسلامي الذي يعيش تحت مطرقة نظام أموي مهزوز ؛ ليظهر بذلك انحلال المجتمع الإسلامي وهو قريب عهد بالنبوة ، فكيف بمجتمع ابتعد عن العهد النبوي وتطاولت عليه الدهور ، مما يعني أن لهذا المجتمع الإسلامي الذي يدعي الالتزام حياته العبثية الخاصة ، وتوجهات ترفه كذلك ، خلاف ما يدعيه المسلمون ليتقدموا بذلك على المجتمعات الأخر ، وبذلك استهدف الخبر قداسة الالتزام الإسلامي وطهارة مجتمعه.

واختيار عمر بن أبي ربيعة ليكون بطل هذه القصة له مغزاه ؛ إذ أن عمر

٥١

ابن أبي ربيعة معروف بمجونه وخلعه ، حتى نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد قولهم : ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة (١).

ويصف ابن جريج خطورة مجونه وعبثه حتى قال : ما دخل العواتق في حجالهن شيء أضر من شعر ابن أبي ربيعة (٢).

ويصف هشام بن عروة عواقب أشعار ابن أبي ربيعة وفحشها بقوله : لاترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطا (٣). فكيف يستقيم هذا مع ما عرف من عفة البيت العلوي وطهارته وترفعه عن أدناس الجاهلية؟! فتخصيص عمر بن أبي ربيعة إذن في هذه القصة يستهدف قداسة البيت العلوي وكرامته وليس غير ذلك.

تهافت الوضاع :

على أنا لو أردنا الإعراض عن مناقشة سند ودلالة هذه القصة ، فإننا نقطع بكونها موضوعة من قبل القصاصين ، الذين يستملحون كل شاذ ، ويروون كل غريب.

فالتهافت في نقل القصة إذا استقصينا مواردها ، وجدنا أنها في مصدر واحد يتهافت الكاتب في نقولاته ، مما يدل على أن القصة موضوعة ، فضلا عن كونها مكذوبة في نسبتها للسيدة سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، وإليك تعدد القصة في كتاب «الأغاني» :

أولا : نقل أبو الفرج الإصفهاني حديث اجتماع عمر بن أبي ربيعة

__________________

(١) العقد الفريد ٦ : ١٩٩.

(٢) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ١ : ٢٨١.

(٣) المصدر السابق.

٥٢

بالنسوة ، وكانت سكينة بنت الحسين هي التي واعدته ، فقصدهن واجتمع بهن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق.

ثانيا : نقل أبو الفرج الإصفهاني القصة في مورد آخر قبيل القصة الأولى بـ (٥٨) صفحة بعنوان سكينة ، وليس سكينة بنت الحسين.

فأي سكينة قصدها الراوي في قصته!

وكيف جزم أبو الفرج أن المقصود من سكينة في القصة الأولى ، هي سكينة بنت الحسين؟!

وقد أورد الخبر هكذا :

اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه ، وتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة : أنا لكن به ... إلى آخر الخبر (١).

ثم أكد أبو الفرج القصة باسم «سكينة» دون نسبتها إلى الحسين عليه‌السلام في موضع ثالث من كتابه (٢).

وهذا التعدد في تكرار الرواية يزيدنا اطمئنانا أن «سكينة» دون أن ينسبها الراوي ، هي بطلة القصة التي رواها مصعب الزبيري ، ونسبها أبو هفان الشاعر إلى سكينة بنت الحسين ، وقد ذكرنا أبو هفان وترجمة الذهبي له برواية الحديث المنكر (٣).

ثالثا : ذكر أبو الفرج الإصفهاني في مورد آخر الأبيات هكذا :

يا أم طلحة أن البين قد أفدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غدا

__________________

(١) الأغاني ١ : ١١٣.

(٢) الأغاني ٢ : ٣٦٩.

(٣) راجع صفحة : ٥٠ من كتابنا هذا.

٥٣

أمسى العراقي لا يدري إذا برزت

من ذا تطوف بالأركان أو سجدا

ثم ذكر القصة هكذا :

ولم يزل عمر ينسب بعائشة (١) أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها (٢).

رابعا : على أن الأبيات التي ذكرتها القصة هي إحدى قصائد عمر بن أبي ربيعة متغزلا بزينب الجمحية ، إحدى شخصيات ملاحمه الغزلية ، وقد تكرر ذكرها مرارا في قصائده منها :

طال من آل زينب الإعراض

للتعدي وما بها الإبغاض (٣)

وله كذلك :

أيها الكاشح المعبر بالصر

م تزحزح فما لها الهجران

لا مطاع في آل زينب فارجع

أو تكلم حتى يمل اللسان (٤)

من هنا فإن التهافت في رواية القصة والاضطراب في أبياتها يوقفنا على أمر مهم وهو :

وضع الرواية ونسبتها إلى السيدة سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام لدواع لا تخفي على القارئ اللبيب.

خامسا : والجدير ذكره أن أبا الفرج الإصفهاني حين ذكره لقصة اجتماع عمر بن أبي ربيعة بسكينة ، ذكر أبيات القصة في موضع آخر هكذا :

__________________

(١) عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، وأبو الفرج الإصفهاني هنا في صدد أخبار عمر بن أبي ربيعة مع عائشة بنت طلحة.

(٢) الأغاني ١ : ٢٠٥.

(٣) المصدر السابق : ١٠٨.

(٤) المصدر السابق : ١٠٩.

٥٤

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

ليت المغيري الذي لم أجزه

فيما أطال تصيدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيامنا

إذ لا نلام على هوى وتصابي

خبرت ما قالت فبت كأنما

ترمي الحشا بنوافذ النشاب

أسكين ما ماء الفرات وطيبه

مني على ظمأ وفقد شراب

بألذ منك وان نأيت وقلما

ترعى النساء أمانة الغياب (١)

إلا أنه ذكر نص الأبيات بعينها في موضع آخر هكذا :

قالت سعيدة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

إلى أن قال :

أسعيدَ ما ماءُ الفراتِ وطيبُه

مني على ظمأ وحب شرابِ (٢)

وذكره للأبيات هنا في صدد ذكر سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ، والقصيدة منسوبة لهذه القصة (٣) ، فكيف ركب الخبر من قصة سكينة وأبيات سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف؟!

وماذا يعني هذا الاضطراب والتهافت؟

والطريف أن أبا الفرج نفسه يعترف بعد ذكره خبر التشبيب بسعدى ، أن المغنين غيروا لفظ سعدى إلى سكينة ، وسوف نأتي على بيانه بعيد هذا (٤).

وإذا أردنا أن نحسن الظن بأبي الفرج الاصفهاني ، فترجع المشكلة إلى

__________________

(١) الأغاني ١ : ١٧٢.

(٢) الأغاني ١٧ : ١٦٢.

(٣) يأتي في صفحة ٧٤ و ٧٥ ذكر أبيات تشبيبه بسعدى ، فراجع.

(٤) راجع صفحة ٩٢ من هذا الكتاب.

٥٥

يد التحريف والتصحيف ، التي تدور في فلك الأنظمة والحكام ، الذين حاولوا فرض حالات العبث والتزييف في التراث الإسلامي ، فضلا عن التراث الأدبي ، الذي حاولوا تسخيره لتوجهاتهم ، دون أن تسلم مجالات الترويح الأدبي البريء ، الذي يستثمره القارئ دون أن تدخله القراءات الحاكمة ضمن دوائرها السياسية المقيتة.

النموذج الثاني :

أبو الفرج الاصفهاني ، أخبرني الحسن بن علي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال : أخبرني عيسى بن إسماعيل ، عن محمد بن سلام ، عن جرير المديني ، عن المدائني.

وأخبرني به محمد بن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن محمد بن سلام.

وأخبرني به أحمد بن عبدالعزيز الجوهري ، عن عمر بن شبة موقوفا عليه ، قالوا :

اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب ، فمكثوا أياما ، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ، ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة وقد روت الأشعار والأحاديث ، فقالت : أيكم الفرزدق؟ فقال لها : ها أنذا ، فقالت : أنت القائل :

هما دلتاني من ثمانين قامة

كما انحط باز أقثم الريش كاسره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا

أحي فيرجى أم قتيل نحاذره

فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا

وأقبلت في اعجاز ليل أبادره

٥٦

أبادر بوابين قد وكلا بنا

وأحمر من ساج تبص مسامره

فقال : نعم ، فقالت : فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك؟ هلا سترتها وسترت نفسك؟ خذ هذه الألف ، والحق بأهلك (١).

وفي رواية أخرى لأبي الفرج عن أبي الزناد : أن الفرزدق لما قال ها أنذا ، قالت : أنت الذي تقول :

أبيت أمني النفس أن سوف نلتقي

وهل هو مقدور لنفسي لقاؤها

فإن ألقها أو يجمع الدهر بيننا

ففيها شفاء النفس منها وداؤها

فقال : نعم ، قالت : قولك أحسن من منظرك ، وأنت القائل :

ودعتني بإشارة وتحية

وتركتني بين الديار قتيلا

لم أستطع رد الجواب عليهم

عند الوداع وما شفين غليلا

لو كنت أملكهم إذا لم يبرحوا

حتى أودع قلبي المخبولا

هال : نعم ، قالت : أحسنت أحسن الله إليك ، وأنت القائل :

هما دلتاني من ثمانين قامة

كما انقض باز أقثم الريش كاسره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا

أحي فيرجى أم قتيل نحاذره

فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا

ووليت في أعجاز ليل أبادره

أحاذر بوابين قد وكلا بها

وأحمر من ساج تبص مسامره

فأصبحت في القوم العقود وأصبحت

مغلقة دوني عليها دساكره

قال : نعم ، قالت : سوأة لك فشيت السر ، فضرب بيده على جبهته وقال : نعم ، فسوأة لي.

ثم دخلت الجارية على مولاتها وخرجت وقالت : أيكم جرير؟ فقال :

__________________

(١) الأغاني ١٦ : ١٦٩ و ١٧٠.

٥٧

ها أنذا ، قالت : أنت القائل :

رزقنا به الصيد الغزير ولم تكن

كمن نبله محرومة وحبائله (١)

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات حي بالعقيق نواصله

قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وأنت القائل :

كأن عيون المجلتين تعرضت

وشمسا تجلى يوم دحين سحابها

إذا ذكرت للقلب كاد لذكرها

يطير إليها واعتراه عذابها

قال : نعم ، قالت : أحسنت ، وأنت القائل :

سرت الهموم فبتن غير نيام

وأخو الهموم يروم كل مرام

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

لو كان عهدك كالذي حدثتني

لوصلت ذاك فكان غير لمام

تجري السواك على أغر كأنه

برد تحدر من متون غمام

قال : نعم ، قالت : سوأة لك جعلتها صائدة القلوب حتى إذا أناخت ببابك جعلت دونها حجابها ، ألا قلت :

طرقت صائدة القلوب فمرحبا

نفسي فداؤك فادخلي بسلام

قال : نعم ، فسوأة لي ، قالت : فخذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.

ودخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم كثير عزة؟ فقال : هاأنذا ، فقالت : أنت القائل :

وأعجبني يا عز منك خلائق

حسان إذ عد الخلائق أربع

دنوك حتى يطمع الصب في الصبا

وقطعك أسباب الصبا حيث تقطع

فوالله ما يدري كريم مطلته

أيشتر إن قاضاك أم يتضرع

__________________

(١) الأبيات وما بعدها أوردها عن الأغاني السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة ٥ : ٣٤٥.

٥٨

قال : نعم ، قالت : أعطاك الله مناك ، وأنت القائل :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما أنا بالداعي لعزة في الورى

ولا شامت إن فعل عزة زلتِ

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

و رجل رمى فيها الزمان فشلتِ

قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وفي رواية قالت : كثير أنت القائل :

يقر بعيني ما يقر بعينها

وأحسن شيء ما به العين قرت

قال : نعم ، قالت : أفسدت الحب بهذا التعريض ، خذ ألف دينار وانصرف.

ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم نصيب؟ فقال : ها أنذا ، قالت : أنت القائل :

ولولا أن يقال صبا نصيب

لقلت بنفسي النشأ الصغار

ألا ياليتني قامرت عنها

وكان يحل للناس القمار

فصارت في يدي وقمرت مالي

وذاك الربح لو علم التجار

على الاعراض منها والتواني

فإن وعدت فموعدها ضمار

قال : نعم ، قالت : والله إن إحداهن لتقوم من نومتها فما تحسن أن تتوضأ فلا حاجة لنا في شعرك.

وفي رواية تذكرة الخواص (١) أنها قالت لنصيل : أنت القائل :

من عاشقين تواعدا وتراسلا

حتى إذا نجم الثريا حلقا

باتا بأنعم ليلة وألذها

حتى إذا وضح الصباح تفرقا

قال : نعم ، قالت : وهل في الحب تدانٍ ، خذ هذه ألف دينار وانصرف.

ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم جميل؟ قال : ها أنذا ،

__________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ٢٧٩.

٥٩

قالت : أنت القائل :

لقد ذرفت عيني وطال سفوحها

وأصبح من نفسي سقيما صحيحها

ألا ليتنا كنا جميعا وأنت نمت

يجاور في الموتى ضريحي ضريحها

أظل نهاري مستهاما ويلتقي

مع الليل روحي في المنام وروحها

إلى آخر الأبيات والقصة (١).

رجال الخبر :

محمد بن القاسم بن مهرويه : مهمل لم تتعرض له كتب الرجال ، غير معروف.

عيسى بن إسماعيل : كذلك مهمل أهملته كتب الرجال ، لا يعرف.

محمد بن سلام : قال ابن حجر : لا يكتب حديثه (٢). جرير المديني : لا يعرف ، مهمل ، تركته كتب الرجال.

محمد بن أبي الأزهر : غير معروف.

فالخبر ساقط لمجهولية بعض رواته ، وضعف غيرهم.

وأنت ترى ما للخبر من تكلف زائد وتهويلات مصطنعة ، تصاغ للحط من كرامة السيدة سكينة عليهما‌السلام ، فاجتماع الشعراء على بابها يعطي صبغة عبثية تمارسها هذه السيدة الكريمة في حياتها الخاصة ، وكأنها لا ترتبط بنواميس دينية ، أو مقدسات اجتماعية تأبى هذه الحياة العبثية ، أو كأنها غير مرتبطة بأسرة أو زوج يأنف من هذه الحياة التي تمارسها زوجته ابنتهم ، وآية أسرة هي تلك التي كانت لها سيادة قريش ، وسلطنة الشرف والكرامة ،

__________________

(١) والقصة والأشعار أوردها أبو الفرج في الأغاني ٦ : ١٦٩ ـ ١٧٢ بنحو آخر.

(٢) لسان الميزان ٣ : ٥٤٢.

٦٠