عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

السيد محمد علي الحلو

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة السبطين عليهما السلام العالمية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

المقدمة

تبقى الكتابات التاريخية محبوسة الأنفاس بين ما احتكره أهل الصنعة من التزوير ، وبين ما استحسنه الحكام من كتابته ، بما ينسجم وتطلعاتهم في إلغاء مسلمات الواقع ، أو فرض تخيلات القصاصين على كاهل تاريخ يمتد بعطاءاته منذ بزوغ فجر الرسالة إلى ما شاء الله له أن يقوم.

وإذا أردنا أن نحسن الظن بما سطره هؤلاء وأولئك من مروياتهم ، فلا ينبغي أن نتعامل معها بحسن ظن يفقدنا مصداقيتنا في الرغبة إلى معرفة الحق ومجرياته ، وشؤون الواقع وتطلعاته.

وهكذا تبقى المرويات التاريخية مكتمة ، لا يحق لها أن «تتفوه» عما أضافته يد الوضع عليها ، أو تلك النابعة من تخيلات القصاصين مجاراة لوضع سياسي قائم ، أو مدارة لنزعات تكتل معين ، أو تنفيذا لرغبة نفسية جامحة في الانتقاص من هذا ، وسلب محاسنه لتزويق صورة ذاك ، أو رمي هذا بداء ذاك دون وازع من دين ، أو تحرج من عرف ، أو حتى لو تعارض مع مبتنيات علمية ، أو أسس منطقية ، بل ومبادئ أخلاقية ، استجابة لمصالح

٢١

شخصية عارمة ، أو طموحات سياسية هائجة ، تسحق معها كل مبدأ ، وتقتل من خلالها كل فضيلة ، وتوأد بسببها كل مكرمة. وليس في منطق هؤلاء غير استدرار رضا أسيادهم ، وإشباع حاجات أوليائهم من «نهم» الوضع والتزوير ، ونزعة الكذب والتضليل.

وهكذا يبقى الصراع قائما بين توجهات هؤلاء ، وأسس المنطق العلمي الذي من خلاله يقرأ الواقع التاريخي دون تزلف لعصبة ، أو مراء في حقيقة أو تجن على واقع.

والذي بين أيدينا نموذج مما جنته الأهواء في كتابة التاريخ ، وما فرضته المصالح من تزوير ، وما أفرزته صراعات التكتلات السياسية من تضليل ، فخال لهم ما وضعوه «مسلمة» أجورها على ألسن السذج من الناس ، وأوهموا بها الحمقى من القصاصين ؛ ليستظرفوا بها كتبهم ، ويستملحوا بها قراءهم.

وكان نصيب هؤلاء من تخيلاتهم في مروياتهم ، وطعونهم على أهل البيت عليهم‌السلام ، أن صوروا السيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام ، الملقبة بسكينة ، أنها من أهل الظرافة والبطر.

فهي تتعاطى الغناء ، كما هي تتعاطى التحكيم بين الشعراء والمغنين ، وتترامى في أحضان أزواجها الأمويين والزبيريين دون وازع من دين أو مانع من عرف ، وكأنها «موقوفة» لبني مروان وآل الزبير. فبين مفارق لها ، وبين كاره ، وبين خاطب ، وبين مطلق ، وكأن لم يكن من بني هاشم كفء يتولى أمرها ، أو ولي يحسن منعها عما ترتكبه مما يخالف الدين وينافي العرف.

٢٢

في خضم هذه «الأهوال» التي تحدثها زوابع ثقافية ، يتسكع أصحابها على أبواب السلطان ، ويعيشون في دهاليز البلاط ، ويدفع بها هؤلاء ، ويتجاذبها أولئك .. ليحاولوا إقحامها في مرتكزات العامة ، ويدعوها لسذج الناس.

لم تدم هذه المحاولات الخائبة طويلا حتى قيض الله لذلك من يبطل أحدوثتهم ، ويرد مكائدهم ، ليطالعنا الحجة المحقق السيد عبدالرزاق المقرم قدس سره ، الذي عرف بالدفاع عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ، فيثبت دجل الوضاعين ، مما ادعوه من وصمة الظرافة واللهو ، وتعدد الأزواج التي يلصقونها بالسيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام الملقبة «بسكينة» ، فأثبت براءتها عن كل تهمة وشائنة ، بكتابه الرائع «سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام».

وكتابنا هذا هو حلقة مكملة لجهود العلامة المقرم رضوان الله تعالى عليه ، وليميط اللثام عما ارتكبه هؤلاء القصاصين ؛ من تخيلات ترضي أهواء أسيادهم ، وتنتقص من مقامات آل البيت عليهما‌السلام.

ولسوف يرى قراؤنا ما أحدثته السياسة من فجوة بين الحق الباطل ، وبين الحقيقة والخيال ، حرصا منا على تحرير القارئ من أسر توجهات الكتابات التاريخية المنفلتة عن قيم الدين ومبادئ العقل ، ومسلمات الوجدان.

وكان لمؤسسة السبطين عليهما‌السلام العالمية التي يشرف عليها آية الله السيد مرتضى الموسوي الإصفهاني «حفظه الله تعالى» ، الأثر الكبير في إنجاز هذا المشروع ورعايته ، وقد لمست الجد والإخلاص في إنجاز هذا العمل من لدن فضلائها الأخيار ، وأخص بالذكر سماحة العلامة الشيخ

٢٣

عباس الساويز الكاشاني الذي بذل جهده في مراجعة الكتاب ، والأستاذ السيد عدنان الحسيني في إخراجه ، ولجميع فريق عمل هذه المؤسسة الخيرة كل تقدير وإكبار ، سائلا المولى التسديد لهم لتقديم المزيد من مشاريع الدفاع عن أهل البيت عليهم‌السلام.

ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام

٣ جمادى الثانية ١٤٢٣ هـ

السيد محمد علي السيد يحيى الحلو

قم المقدسة

٢٤

تنوية

اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ،

وسكينة لقب لقبتها به أمها

ابن خلكان في

وفيات الأعيان ١ : ٣٧٨

ورد في الكتاب اسم السيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام ، بدل سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام ، توخيا لإثبات اسمها الصحيح ، وربما أشرنا إلى إثبات اسم السيدة آمنة إلى جانب اسم سكينة بنت الحسين ، إشارة إلى مسايرة بعض الأخبار الموضوعة بما تقتضيه سيرة البحث ، إمعانا في إرشاد القارئ وتنبيهه إلى استخدام اسم السيدة «آمنة» بدل «سكينة» ، وحرصا منا على تداول الاسم الصحيح وهو :

السيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام

٢٥
٢٦

وراثة نبوية

«وأما الحسين فله جودي وشجاعتي» (١)

هكذا كان ميراثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولديه ، فورث الحسين عليه‌السلام جوده وشجاعته ، وورث الحسن عليه‌السلام هيبته وسؤدده. كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ، فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ، وقال : «اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد» وأنزل الله عز وجل : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (٢)(٣). ولطالما كان يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا حرب لمن حاربكم

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ٧ : ٢ ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي : ٢١٠ ، الخصال للصدوق٧٧ : ١ وفيه : جرأتي وجودي وفي رواية أخرى : سخائي وشجاعتي ، بحار الأنوار ٢٩٣ : ٤٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١٠٥ : ١ ، الإصابة لا بن حجر ٣١٦ : ٤ رقم ٤٨١ ترجمة زينب بنت أبي رافع ، أسد الغابة١٣٠ : ٧ رقم ٦٩٥٥ ، البداية والنهاية ١٦١ : ٨ ، ذخائرالعقبى لمحب الدين الطبري : ١٢٩ ، المعجم الأوسط للطبراني ١٣٦ : ٧ ح ٦٢٤١ وفيه : كرامتي وجودي ، مجمع الزوائد ١٨٥ : ٩ ، وأخرجه ابن منده ، وابن عساكر في تاريخه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وأبو نعيم وغيرهم.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين ١٦٠ : ٣ ح ٤٧٠٩ ، دار الكتب العلمية.

٢٧

وسلم لمن سالمكم»(١).

ولكم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينوه عن حبه لابنيه هذين حتى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ترك مناسبة إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما.

فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات ليلة لبعض الحاجة ، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشف فإذا حسن وحسين على وركيه فقال : «هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما»(٢).

ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا.

وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما؟ فقال : إن هذين ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما (٣)؟!

هذه عناية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولديه ، ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ، عند رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ملكوت الله الأعلى ؛ ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال : «يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦١ ح ٤٧١٣.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٦٥٦ ح ٣٧٦٩ كتاب المناقب ، ب٣١ مناقب الحسن والحسين.

(٣) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر من تاريخ دمشق ، تحقيق المحمودي : ١٤٦ ح١٨٨.

٢٨

وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(١).

ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم ، فهذا علي عليه‌السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ، ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ، تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين. فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون عليا عليه‌السلام إلى بيعتهم مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ، إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ، وليس للحسن بن علي عليهما‌السلام شأن للنصرة عند هؤلاء القوم ، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ، واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ، ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده.

وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛ ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلا وتنكيلا. فأحرقوا خيامهم ، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء.

لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا ، فهذا الإمام زين العابدين عليه‌السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة : «أيها الناس من عرفني

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ٣ : ٦٥.

٢٩

فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي». فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو : هلكتم وما تعلمون (١).

وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ، ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق ، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه.

بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي عليهما‌السلام تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ، وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب ، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ، الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم وصمود الآل.

كانت زينب عليها‌السلام صامدة رغم ما تعانيه من تتابع الأهوال ، وهي في هذا تتابع الأحداث ، والخطب جلل ، والجرح لما يندمل ، فقالت من خطبة لها :

«ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق

__________________

(١) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم : ٣١٦ و ٣١٧.

٣٠

الأرض وتخر الجبال هدّاً.

ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ، كطلاع الأرض وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون؟ فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإن ربكم لبالمرصاد»(١).

كان أهل الكوفة على موعد مع صوت علي بن أبي طالب عليه‌السلام صوت العدالة الهادر .. فهذه هي ابنته تفرغ عن لسان أبيها كل ما كان يجلجل في خطرات القلوب ، وحبس الضمائر على باطل جلي ، يتضور منه الحق ، وتندك من خذلانه العزائم.

وكان علي عليه‌السلام كلما علا منبرا تطأطأت معه تلاع النفاق ، وخبت جذوة الفتن ، وأماط القناع عن أهل الضغائن ، وأطاح بمخلفات التحالف يوم كانت تتربص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قعودا عن كل نجدة في الدفاع عن الدين الحنيف. فهزيمة الأصحاب في أحد .. يرثها المخلفون من أهل النفاق يوم تغص صفين بحربها الضروس ، ويرتد أهل الفتنة في حرب الجمل الهزيل عن كل حق ، والبطين بكل خسيسة ؛ ليحمل أمهم الخرقاء ، فتقودهم إلى مساومات السياسة وتجارة المناصب.

هذه هي زينب عليها‌السلام في وقفتها الكوفية ، نطقت فأخرست ألسن النفاق ، وتجلببت فمزقت حجب الزور وهي ترنو إلى قصر الإمارة الخاوي عن كل حقيقة ، وقد أسس على جرف هار عندما شيدت يد الغدر جدران السقيفة ، وعقدت سداسية الشورى بمؤامراتها الهزيلة ، وصرح الخضراء الشامي تعقد فيه ليال حمراء على خرافة زهد الشيخين ، اللذين بعثا بالطليق ليطلق

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم : ٣١٢.

٣١

كل غدر على آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولم تدع ربات الحجال أن ينقطع صوت علي عليه‌السلام ، حتى لا يبيغ الباطل بأهله ، وتلتبس على الجاهل سبل الحق بطرائق الأهواء. فتلتحف فاطمة بثبات فاطمة ، لتقف أمام القوم كما وقفت أمها من قبل ، تجلجل بصرختها ممزقة أستار دسائس الغدر في دياجير العقبة الدامسة ، حتى صبيحة السقيفة ، ولتكشف بخطبتها خطط القوم ، وهم مقنعون بلباس الصحبة البالي الذي راح يرتديه قطاع طرق الأحداث ، ومحترفو مساومات الجاه ، ومتسكعو المناصب البليدة.

كانت فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام تحكي في خطبتها قصة تاريخ ملبد بالمكائد ، ومواقف النكوص. فبدأت في كلامها بحمد الله والثناء عليه ، والشهادة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، ثم عرفت القوم بأولاده حيث قالت :

«اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصية لعلي بن أبي طالب المغلوب حقه من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضه الله إليه محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه في الله لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته ـ اللهم ـ للإسلام صغيرا ، وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك ، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة ، مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضلنا بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق الله تفضيلا.

٣٢

فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالا ، وأموالنا نهبا ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم افتراء على الله ، ومكرا مكرتم ، والله خير الماكرين ، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور»(١).

هكذا كان آل الحسين عليهم‌السلام بعد قفولهم من أرض الفداء كربلاء الشهادة ، يوضحون للأمة كل ما أخفاه حقد الأعداء وكيد أزلامهم ، فكانوا غصة في حلق هؤلاء ، وشجة في لسان نصرهم المزعوم. فلم يكد آل أمية يتبجحون بسوأتهم هذه حتى تصك أسماعهم واعية الحسين عليه‌السلام على لسان زينب بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين عليهم‌السلام ، ولا زالت خطب الإمام السجاد عليه‌السلام تلعلع في خلوات الحق حينما ينطق كاظم الغاوين ، وينبغ خامل الأقلين ، ويهدر فنيق المبطلين ، كما شخصت ذلك سيدة النساء في ملحمتها الفدكية ، وسجلت بذلك ملاحم الفتن ، وموارد النكوص ، وبوائق الخذلان.

ولم يفتأ آل حرب عن حرب آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبين قتيل أو طريد أو شريد ، يحصون عليهم أنفاسهم ، ويتحينون كل ما وسعهم في تنكيلهم والوقيعة فيهم ، فكلما أوقدوا للحرب نارا أطفأها الله ، وكلما أرادوا إطفاء نورهم أبى الله إلا أن يتم نوره ، ووجد آل حرب أن حربهم لآل الله لا يزيد قدرهم إلا علوا ، ولا شأنهم إلا سموا ، ولا ذكرهم إلا رفعة. فعكفوا على تزوير الحق ، والكذب ، والطعن ، واختلاق كل ما من شأنه أن يظهر منقصة

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم : ٣١٤.

٣٣

يقتنصونها ، وقبيحة يستقبحون بها أهل الطهر والفضائل ؛ ليساووهم بأهل العهر والرذائل.

هكذا أراد آل أمية أن يحاربوا آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراحوا إلى كل ما لصق بهم من مساوئ وبوائق الرذيلة ، عاكفين أن يجعلوها في آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى الله إلا أن يظهر الحق ، ويميط النقاب عن كل إفك وكذب وتزوير ، فكانت قصة سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام جهدا أمويا خالصا ، حرصوا فيه على تشويه الحقائق وتزويرها ، فكان الله من ورائهم محيط.

٣٤

قصة سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام

قلنا : إن آل الرسول صلوات الله عليهم ، لم ينهوا معركتهم مع الكفر والظلال بقتل الحسين عليه‌السلام ، وسفك دماء آله الأطهار ، بل توهجت ثورتهم واشتد ضراها بعد رجوعهم من واقعة الطف الدامية ، فكان لعلي بن الحسين عليهما‌السلام وقع في خطبه وبياناته ، وكان لسيدات بيت النبوة زينب وأم كلثوم وفاطة بنت الحسين أثر في بيان الحقائق ، وذاكرة الأمة قد سجلت كل شيء ، ووعت كل صغيرة وكبيرة ، وارتسمت في أذهانها صور الكفاح والجهاد لهذا الجمع العلوي المقدس ، وهم يهتفون بالحق ، ويميطون الأستار عن كل ما أخفاه آل أبي سفيان من حقائق وأحداث ، كما أن الأمة تحتفظ كذلك بقداسة هؤلاء أمناء الحق ، فهم قديسون كما هم مجاهدون ، وهم مظلومون كما هم مقارعون أقوياء ، يزلزلون الأرض تحت أقدام أعدائهم بصيحات الحق التي لا تقر ، فكيف بعد ذلك يتاح لأعدائهم أن يغمزوهم ، أويطعنوا عليهم ، أويسوموهم بما تأباه قداسة الطهر ، وكرائم النبوة؟!

٣٥

لم يتح لسكينة الحسين عليهما‌السلام ما أتيح لآل الحسين من الظهور على ساحة أحداث كربلاء ؛ لتلهب الأجواء بالخطب والبيانات ، فإن مهمة ذلك موكول إلى الكبار من أهل هذا البيت الطاهر. فمع وجود أخيها الإمام ، وعمتها العقيلة ، وأم كلثوم ، وأختها فاطمة ، فإن سكينة كانت في عداد الهاشميات الصغيرات ، والمخدرات اللواتي لم يتحملن مهمة التبليغ بعد ، ولم تظهر إلا بعد أن حط الآل ركبهم في المدينة ، وأخذت تستذكر فيما بعد أحداث الفاجعة ؛ لتروي لنا نتفا مما علقت بها ذاكرتها من محن وأحداث.

وإذا كانت سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام لم تسلط عليها أضواء أحداث الفاجعة ؛ يتعامل معها وجدان الأمة كأحد مظلومي هذا البيت الطاهر ، ولم تستطع الأمة أن تستعرض السيدة سكينة في ركب المظلومين من آل الحسين عليهم‌السلام ، الذين شاهدوا مصارع ذويهم الأبرار ، كما أن اسم السيدة سكينة لم تتعاطف معه الضمائر والوجدانيات بعد ، مع الذين يعدهم الناس من آل الحسين عليهم‌السلام المظلومين .. أمكن للدعايات الأموية ، والطعون الزبيرية ان تأخذ دورها في إدخال اسم «سكينة» ضمن مسلسل الأقاصيص ، التي تسيء الى أهل بيت الحسين الأقدس ، الذين ما فتأت الأمة تستذكر فيهم طهارة الرسالة ، وقداسة الحق العلوي ، ومن ثم تحتفظ في ذاكرتها صور المأساة التي أقدمت عليها يد البطش الأموي ، التي لم تحفظ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمته في أهل بيته المطهرين من كل دنس ، والمبرئين من كل عيب.

عمدت الدعاية الأموية إلى تدنيس سمعة أهل هذا البيت الطاهر ؛ لتقلل من عبء وزر جناياتها ، وتخفف من ثقل ما ارتكبه الأمويون في حق أهل هذا البيت ، ولتصرف الأذهان عن مظلوميتهم إلى حياة ترفهم المزعوم ، التي كانت تمثله السيدة سكينة حسب دعواهم ، وبهذا يستطيع الأمويون

٣٦

التقليل من شأن أهل هذا البيت ، وحجم مظلوميتهم ، وانصراف الناس إلى التحدث بما فعلته السيدة سكينة من مجالس اللهو ، ومنادمة الشعراء ، وما قيل فيها ، وما قالته ، ليستملح ذلك السذج من الناس ، وتلقى بذلك مظلوميتهم من أذهان هؤلاء ؛ لتنصرف إلى حياة خاصة يعيشها أهل هذا البيت كما يزعمون.

ولم يكن آل الزبير بأقل مما عمده الأمويون من الإساءة إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد كان لآل الزبير طموح سياسي جامح ، ارتكبوا من خلاله أبشع المجازر من أجل الوصول إلى مناصب مؤقتة ، وإمارات محدودة ، كلفت الأمة فتنا ودماء وأموالا ، ثم هي لم تدم طويلا حتى قطع الله شأفتهم ، وأسكت عقيرة النفاق ، وأذهب عادية الشقاق ، وأطفأ الله نائرتهم من الجمل وما سفكوه من الدماء ، إلى مكة وما سببوه من هدم الكعبة وهتك حرمة البيت الحرام ، إلى الكوفة وما أباحوا فيها من حرم الآخذين بثأر الحسين ، والمنتقمين من أعداء الله ، وهم يجدون أن أهل البيت عليهم‌السلام يعدون المنافسين الأقوياء لوجودهم ، وأن أية محاولة من آل الزبير لم تعد تلقى قبولا مع وجود الشرعية المتمثلة بأئمة آل البيت عليهم‌السلام ، إضافة إلى ما لحقت آل الزبير سمعة الأحاديث السيئة لسكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير ، التي كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة في محافل الغناء ، ومجالس الشعراء ، وهم بذلك سيفقدون من سمعتهم الشيء الكثير ، فاولوا إحالة هذه التهمة إلى عقيلة بيت الوحي سكينة بنت الحسين عليهما‌السلام وسيأتي مزيد تفصيل ذلك.

اسم ابنة الحسين عليه‌السلام آمنة وليس سكينة

على أن المتتبع لكتب الأنساب والسير ليجد شيئا أغفلته كتابات السير

٣٧

التي ترجمت للسيدة آمنة بنت الحسين ونسبتها إلى سكينة ، وهي غفلة متعمدة أكدتها مشاريع الزبيريين ، ومن ورائهم مشاريع الأمويين ، حتى صار ذلك أحد المرتكزات لدى العوام ، واستشرى ذلك إلى كتابات الآخرين ، فجعلوها من المسلمات غفلة منهم ، وقلة تحقيق لديهم في هذا المضمار.

إن الاسم الحقيقي للسيدة سكينة والتي اشتهرت على الألسن ، هو آمنة بنت الحسين ، وإنما سكينة لقب لقبته به أمها الرباب ، وذلك لسكينتها وهدوء في طبعها غلب عليها ، حتى كانت السكينة صفة لها.

اختلف المؤرخون في اسماها بين آمنة وأميمة ، واتفقوا على أن «سكينة» صفة لها ، وممن ذهب إلى ذلك :

١ ـ ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» :

قال : أخبرنا الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبدالله ابنا البناء قالوا : انا أبو جعفر ، انا أبو طاهر ، انا أحمد بن سليمان ، انا الزبير [ابن أخ مصعب بن الزبير] قال في تسمية ولد الحسين :

وسكينة ، واسمها آمنة ، وإنما سكينة لقب لقبتها أمها الرباب بنت امرئ القيس. وتزوج سكينة بنة الحسين عبدالله بن حسن بن علي ، أمه بنت الشليل بن عبدالله البجلي ... فقتل مع عمه الحسين بالطف قبل أن يبني بها ... (١).

٢ ـ ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» :

قال : واسمها آمنة وأمها الرباب (٢).

__________________

(١) تاريخ دمشق ، قسم تراجم النساء : ١٥٦ ، طبع دمشق ، تحقيق سكينة الشهابي.

(٢) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ١ : ٢٧٦.

٣٨

٣ ـ ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»

قال : سكينة بنت الحسين واسمها آمنة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب عرفت به (١).

٤ ـ سبط ابن الجوزي في «تذكرة الخواص» :

اسمها آمنة ، وقيل : أميمة (٢).

٥ ـ النديم في «الفهرست» :

كما نقله عن محمد بن السائب الكلبي النسابة ، قال محمد بن السائب الكلبي : سألني عبد الله بن حسن [بن حسن] عن اسم سكينة بنة الحسين عليه‌السلام فقلت : أميمة (٣) ، فقال : أصبت.

قال النديم في ترجمة محمد بن السائب الكلبي :

من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار وأيام الناس ، ويتقدم الناس بالعلم بالأنساب (٤).

__________________

(١) المنتظم ٧ : ١٧٥ حوادث سنة ١١٧ هـ.

(٢) تذكرة الخواص : ٢٤٩.

(٣) لا نستبعد التصحيف في أميمة هنا ، وكونه في الأصل آمنة ، وذلك لما سيأتي بعد هذا من سؤال رجل لعبدالله ابن الحسن بن الحسن عن اسم سكينة ، وتخطئة عبدالله لابن الكلبي الذي كان يقول بأميمة ، كما في الشق الثاني من الرواية ، إذ كيف يصوب له أميمة هنا ، ولا يقبل منه أميمة هناك على قول نقل السائل؟

على أننا لا نستبعد أيضا التصحيف في صدر الرواية بقوله : أمينة ، والأظهر في الأصل آمنة ، واستظهارنا هذا تؤيده الرواية الأخرى الأتية في التسلسل (١١) عند نقل ما أورده صاحب الأعيان عن الأغاني من رواية ابن الكلبي ، عن أبيه ، وهي صريحة واضحة في هذا المعنى.

ثم أخيرا رواية المدائني ، عن أبي إسحاق المالكي التالية في الأغاني ، وتصحيح أبو الفرج الإصفهاني لاسم آمنة بعد الرواية مباشرة بقوله : وهذا هو الصحيح.

كل ذلك يدل صراحة أن أمية هنا مصحف عن آمنة.

وقوله : أصبت ، لآمنة لا أميمة. وإلا لزم التناقض في كلامه.

(٤) الفهرست : ١٠٧ في أخبار محمد بن السائب.

٣٩

٦ ـ أبوالفرج الإصفهاني في «الأغاني» :

قال : اسم سكينة أميمة ، وقيل : أمينة ، وقيل : آمنة ، وسكينة لقب لقبت به (١).

وقال أيضا : وروي أن رجلا سأل عبدالله بن الحسن [بن الحسن] عن اسم سكينة ، فقال : أمينة.

فقال له : إن ابن الكلبي يقول : أميمة. فقال : سل ابن الكلبي عن أمه ، وسلني عن أمي.

ونقل عن المدائني قوله : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها : آمنة.

ثم أردف الإصفهاني قوله : وهذا هو الصحيح (٢).

وقال في مقاتل الطالبين : واسم سكينة أمينة ، وقيل : أميمة ، وإنما غلب عليها سكينة وليس اسمها (٣).

٧ ـ ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب» :

قال : اسمها أميمة ، وقيل : أمينة ، وسكينة لقب (٤).

٨ ـ اليافعي في «مرآة الجنان» :

قال : قيل : اسمها أمينة ، وقيل : أميمة ، وهو الراجح ، وسكينة لقب لها (٥).

__________________

(١) الأغاني ١٦ : ١٤٦.

(٢) المصدر السابق : ١٤٧.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٩٤.

(٤) شذرات الذهب ٢ : ٨٢ وفيات سنة ١١٧.

(٥) مرآة الجنان ١ : ٢٥١.

٤٠