عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

السيد محمد علي الحلو

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة السبطين عليهما السلام العالمية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (١).

هذه الصورة تعطينا تصورا عن موقف الزبير إبان بيعة الشيخين.

ويبقى الزبير معارضا ملتزما جانب الرفض لنظام الشيخين ، إلا أن ذلك لا يكون بالضرورة موقفا مناصرا للإمام علي عليه‌السلام ، حيث لم توقفنا النصوص التاريخية على مواقف النصرة للإمام بقدر ما كان معارضا معاندا ، لا يرى أهلية لشيخي تيم وعدي أن يتقدما على ابن صفية الذي عرف بأنه ابن عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضلا عن مواصفات الخلافة؟! هذا ولم يكن للزبير إبان عهد الشيخين أية ميزات اجتماعية ، فضلا عن إلغاء دوره السياسي كذلك.

لذا فإن عهد عثمان بن عفان يعد متنفسا لتوجهات الزبير الاجتماعية ، فبنى القصور واقتنى الأموال كما ذكر المسعودي فقال : وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور منهم الزبير بن العوام ، بنى داره بالبصرة وهي المعروفة ... وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة ... (٢).

أي سيجد الزبير حينئذ متنفسا يستطيع من خلاله أن يمارس دوره الاجتماعي باقتنائه الأموال والقصور ، إلا أنه يبقى محبوسا سياسيا ، أي لا يزال ملغى الدور السياسي الذي يطمح أن يصل إليه الزبير بعد إشباعه ماليا ، وسيكون دوره الاجتماعي منقوصا ما لم يكمله بحضوره السياسي في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤٤٣ : ٢.

(٢) مروج الذهب ٣٥٠ : ٢.

١٠١

الأحداث العامة ، ولم يجد الزبير أفضل من فرصة يوم الدار ، يوم محاصرة عثمان تأليب الثوار عليه ، منضما بذلك إلى الحركة الثورية التي قررت إيقاف انتهاكات عثمان الدينية والاجتماعية وحتى السياسية ، فرأى الزبير أن مناورة الانضمام إلى الثوار ستعطيه فرصة سياسية ناجحة ، يستغلها من أجل تثبيت موطئ قدم له. وكان حليفه طلحة كذلك ، وكان طلحة شديدا على عثمان حتى قال عثمان : اللهم اكفني طلحة بن عبيدالله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألبهم ، والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا ، وأن يسفك دمه ... (١).

كتاب طلحة والزبير في تحريض المسلمين على قتل عثمان

بل كان الزبير يعمل على قتل عثمان ، ولعل في ذلك أمنيته في انحياز الأمر إليه ، وهو ما كشفه الأشتر حين قرأ كتابه وكتاب طلحة في التحريض على قتل عثمان ، قال ابن قتيبة الدينوري : إن الأشتر قال لطلحة والزبير بعدما تظاهرا بعدم الرضا عن قتل عثمان ، وبعثوا إلى الأشتر في الكف عن محاصرته قال : تبعثون إلينا وجاءنا رسولكم بكتابكم وهاهو ذا ، فأخرج كتابا فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من المهاجرين الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بدل ، وسنة رسول الله قد غيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت. فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء. غلبنا على حقنا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤١١ : ٣.

١٠٢

واستولي على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله». أليس هذا كتابكم إلينا؟ فبكى طلحة ، فقال الأشتر : لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم ، والله لا نفارقه حتى نقتله ... (١).

فكان الزبير ممن يحث الناس على قتل عثمان ، بل خاذلا له مؤلبا عليه ، خارجا عن المدينة حتى لا يشهد قتله ويطالب بنصرته.

قال ابن الأثير في كامله : إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان ... (٢) أي أيام حصاره في الدار.

وهكذا حصل الزبير على مكسبه السياسي بعد قتل عثمان ، وتحول الأمر إلى علي عليه‌السلام ظنا منه أن الفرص السياسية قد سنحت له بعد أن قاد معارضته السياسية ضد نظام نقم عليه المسلمون ، وحسب أن سيكون له موطئ قدم في العهد الجديد حينئذ.

قال اليعقوبي في تاريخه : وأتى عليا طلحة والزبير فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة فأشركنا في أمرك ، فقال : أنتما شريكاي في القوة والاستقامة وعوناي على العجز والأود (٣).

ومعنى ذلك أن عليا عليه‌السلام لم يشركهما في الأمر ، فسارا إلى البصرة يطالبان بدم عثمان ومعهما عائشة وهم من خلال ذلك يطمحون للوصول إلى مآربهم السياسية ، فكانت وقعة الجمل التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين ولقي طلحة والزبير حتفهما في مغامرة سياسية فاشلة ، ولعبة لم

__________________

(١) الامامة والسياسية ٣٤ : ١.

(٢) الكامل في التاريخ ٨٧ : ٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٧٧ : ٢.

١٠٣

يحكما أمرها بعد. فقتلا على يد من خرجا معهم. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

آل الزبير ... تقليدية عداء ومنافسات سياسية محمومة

وضعت الحرب أوزارها بعد هزيمة حلفاء الجمل عائشة وطلحة والزبير ، إلا أن العداء لآل علي لم ينته بعد ، والمنافسات السياسية لم تحط رحالها ، ورواد مدرسة الجمل قد بدأ نشاطهم توا ، فهذا عبدالله بن الزبير يتربص الأحداث ، ويتحين الفرص ، ولم يكن في همه إلا الحصول على مبادرات المناصب التي ستتركها أحداث ما بعد يزيد. فبنو مروان احتلبوا تقلبات ماتركته خطبة معاوية بن يزيد ، الذي أعلن عن عدم أهليته للخلافة مع وجود الشرعية الإلهية المتمثلة بالإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فتركها منصرفا إلى حيث اختار له بنو أبيه من الموت قبل أن تكون تلك سُنّة يشيع أمرها فيخرج الملك من أيديهم. ويتسابق على الخلافة من لا خلاق له فيها من بني مروان وآل الزبير ، فيغلب بنون مروان على آل الزبير الذين حصلوا على مكة مقرا له ومكنوا عبدالله بن الزبير من أمرهم.

عرف آل الزبير بعدائهم لبني هاشم ، وقد مثل ذلك بأبشع صوره عبدالله بن الزبير.

قال اليعقوبي : وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ، وأظهر لهم العداوة والبغضاء حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد في خطبته ، فقيل له : لم تركت الصلاة على النبي؟ فقال : إن له أُهيل سوء يشرئبون لذكره ، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به. وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية وعبدالله بن عباس وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم

١٠٤

ليبايعوا له فامتنعوا ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار ... (١).

حدث المسعودي أن عبدالله بن الزبير تجاوز في عدائه لآل علي عليه‌السلام حتى إنه كان ينال من علي عليه‌السلام في خطبه ، قال : خطب ابن الزبير فنال من علي (٢).

على أن عبدالله بن الزبير يفضح دخيلته في عدائه لبني هاشم في محاورته مع ابن عباس ، فقد ذكر المسعودي عن سعيد بن جبير أن عبدالله ابن عباس دخل على ابن الزبير ، فقال له ابن الزبير : أنت الذي تؤنبني وتبخلني؟ قال ابن عباس : نعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ليس المسلم يشبع ويجوع جاره ، فقال ابن الزبير : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ... (٣).

فضلا عما كان يتظاهر به من الزهد والعبادة دجلا ومراء في كسب قلوب الناس والحرص على الملك ... قال المسعودي : وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة ، وقال : إنما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا ، وأنا العائذ بالبيت والمستجير بالرب ، وكثرت أذيته لبني هاشم مع شحه بالدنيا على سائر الناس ... (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ١٧٨ : ٢.

(٢) مروج الذهب ٨٩ : ٣.

(٣) المصدر السابق. وأنت جد عليم بالخير الصحيح عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، وأبي ذر ، وابن عباس ، أنهم كانوا يقولون : ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله ، والتخلف عن الصلوات ، والبغض لعلي بن أبي طالب. بل ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بغض بني هاشم والأنصار كفر». أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١٨ : ١١ ، ح ١١٣١٢. وأحاديث الباب في الصحاح والمسانيد المعتمدة كثيرة ، فراجعها في مظانها.

(٤) المصدر السابق : ٨٧.

١٠٥

هذا حال آل الزبير ، وهذه سيرة شيخهم عبدالله ، فما ظنك بغيره؟ وماذا عسى أن يكون مصعب بن الزبير في عدائه لبني هاشم ومخالفته لهم؟!

مصعب بن الزبير يؤوي قتلة الحسين عليه‌السلام

مثل مصعب بن الزبير نموذجا سيئاً في الانتهاكات المرتكبة بحق أهل البيت عليهم‌السلام ، فهو لم يكتف بملاحقة شيعتهم فحسب ، بل بلغ من عدائه انضمام قتلة أهل البيت عليهم‌السلام إليه ؛ ليشكلوا قادة جيشه ، ورؤوس أنصاره.

ومصادر التاريخ تحدثنا أن مصعب بن الزبير استقطب قتلة الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، وجعلهم قادة جيشه ؛ لإحباط محاولات المختار بن أبي عبيد الثقفي ، الذي تصدى لملاحقة قتلة الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام.

فإن المختار لما بعث غلاما له في طلب شمر بن ذي الجوشن ، لحق الغلام بشمر ، وكان قد خرج من الكوفة في جمع من أصحابه ، ثم كان ما كان من قتل شمر غلام المختار ، ونزوله قرية الكلتانية ، ومنها بعث بكتاب إلى مصعب بن الزبير يعلمه الالتحاق به عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن.

لكن إرادة الله لم تمهل اللعين بالالتحاق بابن الزبير ، إذا عثر على الكتاب ، وعرف مكان شمر فحوصر ، وجرت معركة قتل فيها شمر (١).

وكان سراقة بن مرداس البارقي قد اسره المختار ، فلما أحس القتل ، عمل حيلة للنجاة ، فنجا بها ، وقال : ما كنت في أيماني هذه حلفت لهم ـ يعني المختار وأصحابه ـ بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة تقاتل معهم. فخلوا سبيله ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥٢ : ٦.

١٠٦

فهرب ، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة (١).

وقال ابن خلدون : وبحث ـ أي المختار ـ عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين ، فدافع عن نفسه ، ونجا إلى مصعب بن الزبير ... وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين ، فلحق بالبصرة ... وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية ، فهرب إلى مصعب ، وهدم المختار داره. وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين ، فلحقوا بمصعب ، وهدم دورهم (٢).

قال الطبري : وطلب ـ يعني المختار ـ رجلا من خثعم يقال له : عبدالله ابن عروة الخثعمي ـ كان يقول : رميت فيهم باثني عشر سهما ضيعة ـ ففاته ولحق بمصعب ، فهدم داره (٣).

مصعب بن الزبير .. تركة العداء الزبيري لآل علي وشيعته

قال المسعودي : فكان جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل ، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب وسماهم الخشبية ، وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها ، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له : إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري ، وقالتا : كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله؟! كان صائم نهاره قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهله

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥٥ : ٦.

(٢) تاريخ ابن خلدون ٣٤ : ٣ ، الكامل في التاريخ ٢٤٣ : ٤ ، ٢٤٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦٥ : ٦ ، الكامل في التاريخ ٢٤٤ : ٤.

١٠٧

وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس.

فكتب مصعب إلى أخيه عبدالله بخبرهما وماقالتاه فكتب إليه : إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما ، فعرضهما مصعب على السيف ، فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرأت منه وقالت : لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت ، أشهد أن المختار كافر ، وأبت ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أرزقها فأتركها؟ كلا انها موتة ثم الجنة والقدوم على رسول الله وأهل بيته ، والله لا يكون ، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب؟ اللهم اشهد أني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ، ثم قدمها فقتلت صبراً. ففي ذلك يقول الشاعر :

إن من أعجب الأعاجيب عندي

قتل بيضاء حرة عطبول

قتلوها ظلماً على غير جرم

إن لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرُ الذيول (١)

هذا هو مصعب بن الزبير بصورته البشعة ، يؤوي قتلة الحسين عليه‌السلام ويسالمهم ، ويعدهم من قادة جيشه وحملة لوائه ، فضلا عما فعله بشيعته وأنصاره والآخذين بثأره ، مما يكشف عن مدى ما يحمله من حقد وعداء لأهل هذا البيت الطاهر ، واختلافه الشديد بينه وبينهم ، بل الفجوة بين أطروحتين متغايرتين ، الأطروحة الزبيرية التي تدين بالعداء لأهل البيت ، ودفعهم عن مقامهم ، بل محاولة تصفيتهم ، وبين توجهات الأطروحة العلوية المعروفة.

__________________

(١) مروج الذهب ١١٣ : ٣ ، وروى اليعقوبي في تاريخه ١٨٢ : ٢ ، الحادثة بإضافات أخر ، ونسب الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة ، ومثله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد ١٥٥ : ٥ في ذكر دولة بني مروان ، خبر المختار ابن أبي عبيد ، مع اختلاف في ألفاظ البيتين الأولين.

١٠٨

فأين التقارب إذن؟

وإذا كان هذا حال مصعب بن الزبير ومواقفه من أهل البيت عليهم‌السلام ، فمتى يتاح له التقارب مع بني هاشم ، الذين لا يزالون يحتفظون بمواقف التنكيل والتشريد التي ارتكبها عبدالله بن الزبير ، وقد عزم على إحراقهم وإفنائهم. ومصعب بن الزبير هو إحدى الصنائع الزبيرية التي ما فتأت تعمل على إنجاح الأطروحة الزبيرية بالتنكيل والتقتيل لأهل البيت وأشياعهم ، فهل يمكننا بعد هذه المقدمات التاريخية من استعراض حال آل الزبير ، أن يجد علي بن الحسين عليهما‌السلام مبررا لزواج مصعب بن الزبير من أخته «آمنة» سكينة بنت الحسين؟!

وإذا اعترض أحدهم قائلا : بأن الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ لا علاقة له بالمواقف الشخصية ، وأن مسألة المصاهرة لا تعدو عن اقتران بين زوجين ، لا يمثلان كل منهما توجها سياسيا أو فكريا يناقض أو يوافق الطرف الآخر.

فإن ذلك المقول غير دقيق ؛ إذ بالعكس فقد كان الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ يمثل حالات تقارب سياسي ، واستقطاب اجتماعي ، يحصل من خلاله الشخص على تأييد أصهاره أو محاولة منه لتأمين جانبهم وتخفيف احتمال الوقيعة به ، وهذا دأب ذي الشأن منهم. وما زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تشكيلات متعددة إلا صورة لهذه الحالة السائدة لدى المجتمع القبلي ، الذي يعيش تحت وطأة التعصبات القبائلية ، والأعراف العربية الملتزمة وقتذاك. فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستقطب في مصاهراته المتعددة بيوتات لها خطرها في التيارات السياسية المتربصة بالدين الحنيف.

١٠٩

إذن ففي خضم أحداث التنافس الزبيري لبني هاشم وعدائهم إياهم ، بل وفي هذه الأحداث السياسية الهائجة المتوترة ، لا يمكننا قبول حكاية زواج مصعب بن الزبير لسكينة «آمنة» بنت الحسين عليهما‌السلام ، فإن ذلك محاولة قصصية يراد من وضعها وافتعالها إلغاء ما عرف من تقليدية العداء الزبيري ـ العلوي ، وإظهار التوافق بين البيتين ، ومحاولة إسباغ الشرعية على حركة آل الزبير ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، محاولة إضفاء الشبه بين تصرفات عائشة بنت طلحة زوجة مصعب بن الزبير المعروفة بلهوها وترفها ، وبين السيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام المعروفة بورعها وتقواها ، ومحاولة سلخ صفة التقوى هذه عن السيدة آمنة ، والتعامل معها على أساس ما يتعامل به مع نساء الزبيريين والأمويين ، والتقليل من شأن مسحة الاحتشام والتعفف على نساء أهل هذا البيت الطاهر ، وخلط ما يقع لنساء الزبيريين والأمويين من انتهاكات شعرية ومخالفات عرفية ورميها على أهل البيت عليهم‌السلام.

محاولات زبيرية للطعن على أهل البيت عليهم‌السلام

ولم يكتف آل الزبير من أكذوبة زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة عليها‌السلام ، بل أمعنوا في الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، والازدراء بهم ، ورفع شأن مخالفيهم كما في الرواية الزبيرية التالية :

روى الاصفهاني : قال مصعب : وحدثني مصعب بن عثمان : أن علي ابن الحسين أخاها حملها إليه فأعطاه أربعين ألف دينار (١).

هكذا يصور الزبيريون ما يحلو لهم من انتقاص قدر أهل البيت عليهم‌السلام ،

__________________

(١) الأغاني ١٥٩ : ١٦.

١١٠

وحاجتهم إلى آل الزبير ، فيستعطون أرزاقهم ويتقربون لهم للحصول على أعطياتهم ، وقد تنكر الراوي إلى حقائق تاريخية تظهر شأن علي بن الحسين عليهما‌السلام وقدره حتى من أعدائه ، وهو عليه‌السلام كان يعيش بعد واقعة الطف في أخطر ظرف سياسي يتربص لتحركاته ، ومع هذا فقد هيمن عليه‌السلام على قلوب أعدائه ، فضلا عن شيعته ومريدية. فقد كانت وقعة الحرة في المدينة شاهدا على تعظيم علي بن الحسين عليهما‌السلام في أعين أعدائه فضلا عن أتباعه ، وكان مسرف بن عقبة حين دخل المدينة لم يتعرض لعلي بن الحسين عليهما‌السلام ، بل قال حين رأي الإمام عليه‌السلام : إن أمير المؤمنين أوصاني بك خيرا.

وروى ابن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان كانا يحبان علي بن الحسين عليهما‌السلام ويجللانه (١).

على أن هذا التجليل لا يعني الاعتقاد ، بقدر ما يعني رضوخهما لواقع الأمر مما كان عليه الإمام عليه‌السلام ، من الهيمنة على قلوب المسلمين وتعظيمهم له ، بل كان له سيرته المعروفة في البر والعطاء ، وكان موفور المال غير محتاج إلى أحد ، بل كان عليه‌السلام يعطي للمحتاجين.

فقد روى ابن الجوزي أن علي بن الحسين عليهما‌السلام دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي ، فقال علي : ماشأنك؟ قال : عليّ دين ، قال : كم هو؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ، قال : فهو عليّ.

وما رواه أيضا من أن رجلا كان يتعرض لعلي بن الحسين عليهما‌السلام ، فأمر له الإمام بألف درهم وألقى عليه خميصة كانت عليه ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٤٢١ : ٣.

(٢) صفة الصفوة ٣٩٣ : ١.

١١١

إلى غير ذلك من كرائم صفاته وجليل عطاياه ، فهل كان بعد ذلك يحتاج إلى عطايا آل الزبير ليحمل أخته إلى مصعبهم فيعطيه ألف ألف درهم؟! ومتى عرف آل الزبير بالعطاء؟ إذ لم ير منهم سوى الشح والضيق على الرعية ، حتى ضج الناس من بخل آل الزبير ، فقال قائلهم وهو أبو وجزة مولى الزبير :

إن الموالي أمست وهي عاتبة

على الخليفة تشكو الجوع والحربا

ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا

أي الملوك على ما حولنا غلبا (١)

وقال الضحاك بن فيروز الديلمي :

تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة

وبطنك شبرا أو أقل من الشبر

وأنت إذا ما نلت شيئا قضمته

كما قضمت نار الغضى حطب السدر

فلو كنت تجزي إذ تبيت بنعمة

قريبا لردتك العطوف على عمرو (٢)

وعمرو هذا هو أخو عبدالله بن الزبير ، قتله حرصا على الملك دون تحرج في سفك دماء حتى إخوته ومقربيه.

فروايات آل الزبير في الطعن على أئمة آل البيت عليهم‌السلام ، ورفع منزلة ذويهم ، تكذبها وقائع التاريخ ، وتناقضها شواهد أخر أعرضنا عن ذكرها.

والنتيجة : بعد استعراضنا لمقدمات تاريخية مهمة تشير إلى مواقف آل الزبير من أهل البيت عليهم‌السلام ، وعدائهم لهم ، وعدم توافقهم ، فإن حكاية زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام تمنعها مقتضيات دينية واجتماعية عدة.

__________________

(١) مروج الذهب ٨٨ : ٣.

(٢) المصدر السابق.

١١٢

أما المقتضيات الدينية

فقد عرفنا عداء مصعب لأهل البيت عليهم‌السلام ، وعدم توافقه معهم ، حيث لاحق شيعتهم وقتلهم تبعا لأخيه عبدالله بن الزبير ، فقد نكل ببني هاشم وأراد تحريقهم. فعداؤهم لآل البيت عليهم‌السلام يكشف عن انحرافهم عن ولايتهم ، ويدل على مخالفتهم لما أمر به الله ورسوله من الطاعة لهم والالتزام بنهجهم ، وبذلك فأي تخلف عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ يعد تخلفا عن طاعة الله ورسوله ، فطاعة الله ورسوله تدور مدار ولاية علي وطاعته ، والإيمان مرهون بالتمسك بنهج أهل البيت عليهم‌السلام.

أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني» (١).

أخرج بسند صحيح عن أبي عبدالله الجدلي أنه دخل على أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموسم مع جماعة من الناس ليسلموا عليها ، فسمعها تقول : ياشبث (٢) بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبيك يا أمتاه ، قالت : أيسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناديكم؟ قال : وأنى ذلك! قالت : فعلي بن أبي طالب؟ قال : إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا. قالت : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من سب عليا فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله تعالى» (٣).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١٣١ : ٣ ، ح ٤٦١٧ وصححه الذهبي في التلخيص.

(٢) في المصدر : شبيب ، وأحسبه تصحيفا. فالأوصاف التي وصف بها لا تنطبق إلا على شبث بن ربعي الرياحي التميمي اليربوعي.

(٣) المستدرك على الصحيحين ١٣٠ : ٣ ، ح ٤٦١٦. سكت عنه الذهبي في التلخيص ؛ لأنه صحح الحديث الذي قبله ، وهو : «من سب عليا فقد سبني». ولا يبعد أنه أراد تصحيحه ، لكن نفسه لم تطاوعه.

١١٣

وأخرج عن أبي ذر رحمه الله كذلك قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ياعلي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني»(١).

وإذا استعرضنا تاريخ آل الزبير ، وما كانوا عليه من المفارقة لعلي وانحرافهم عنه ، والنيل منه وسبه ، اتضح لنا جليا مدى عدائهم وعدم توافقهم مع آل علي بعد ذلك ، على أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام يتحرى مواطن الاتفاق والالتزام بولاية علي عليه‌السلام دون موارد الانحراف والضلال. هذا هو مقتضى سيرة المؤمنين ، فكيف بالإمام زين العابدين عليه‌السلام يتصاهر مع بيوت مخالفيه دون مراعاة جانب الإيمان والورع والتقوى؟! مما يكشف لنا عن عدم إمكانية وقوع زواج مصعب من آمنة حسب المقتضيات الدينية التي كان يراعيها الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام.

أما المقتضيات الاجتماعية

وهي التي تشمل المقتضيات السياسية كذلك ، فالزبيريون طلاب منصب وإمارة كما هو معروف ، وهم المنافسون لخصومهم السياسيين من بني مروان ، الذين انكفؤوا في استغلال الفرص السياسية بعد انعزال معاوية ابن يزيد عن السلطة ، وخلو الساحة السياسية عمن يشغل منصبه ، فتسارع مروان إلى اقتناص الفرصة السياسية هذه كونه الوريث السياسي للأمويين ، فنصب نفسه لرأس نظام أموي مرواني جديد ، وهو ما حدى بمنافسيه السياسيين إلى استغلال هذه الظروف السياسية ، فوثب عبدالله بن الزبير على مكة بعد صراعات دموية عنيفة ، مقتطعا بذلك مكة وما والاها ، وضاما إلى إمارته البصرة وما حاذاها ، حتى طمع في الكوفة ، فكانت وقعة مصعب مع

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١٣٣ : ٣ ، ح ٤٦٢٤. قال الحاكم : صحيح الإسناد.

١١٤

المختار ، وما نجم عنها من سفك دماء شيعة علي عليه‌السلام ، وإعلانها إمارة زبيرية بعد ذلك.

لم يكن هذا الوضع الزبيري قد أراح عبدالملك بن مروان الذي يعد موطد الحكم الأموي المرواني فعلا ، فابن الزبير قد امتد نفوذه في أرجاء البلاد الإسلامية وشاع أمره ، وحيل ذلك بين نفوذ بني أمية المهدد كيانهم من آل الزبير ، وبين طموحاتهم المستقبلية التي ترنو إلى السيطرة على جميع الأنحاء الإسلامية دون منافس عسكري أو معارض سياسي له سطوته وآثاره. وطبيعي أن يكون لهذا المنافس القوي في حسابات الأمويين الأولوية في تصفيته ، وانتزاع ما في يده من الإمارة ، وقد رافق ذلك تحسبا حذرا من تحركات الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام الذي فرغ توّاً من واقعة الطف ، وقد رأى مصارع أبيه وآل بيته أمامه ينفذه الأمويون بأبشع صوره ، ولا بد أن يكون علي بن الحسين عليهما‌السلام متربصا لآل أمية متحينا فرص الثأر والانتـقام ، فأية حركة مناقضة لبني أمية ستكون فرصة علي بن الحسين عليهما‌السلام بعد ذلك ، هكذا كان ظن الأمويين ، فكانوا يراقبون مواقف الإمام عليه‌السلام من الأحداث الجارية ، وكانوا يحسبون التأييد لآل الزبير ـ إن حصل ـ إسباغا للشرعية على آل الزبير ، لذا فهم في وجل من أية تحركات ينجم عنها تأييد علي بن الحسين عليهما‌السلام لمنافسيهم الأقوياء ، إلا أن الإمام عليه‌السلام لم يتوافق مع الحركة الزبيرية أبدا ، وذلك لما ذكرنا من عداء عبدالله بن الزبير لبني هاشم عموما ، وللإمام خصوصا. هذا من جهة.

ومن جهته علم الإمام عليه‌السلام ـ بغض النظر عما يكنه علمه اللدني المقدس ـ من عدم مصير الخلافة لآل الزبير ، فإن الأحداث السياسية الهائجة

١١٥

كانت توحي بفشل حركة آل الزبير ، وعدم رغبة الناس فيهم. والإمام عليه‌السلام لم يجازف في تأييد حركة ابن الزبير التي ستؤول إلى السقوط ، وما سيتحمل من تبعات ذلك من قبل بني أمية ، وهو عليه‌السلام انعزل عن هذه الأحداث ليترك الأمور تنقشع وشيكا عن هزيمة ابن الزبير وغلبة عبدالملك بن مروان ، ومن ثم فإن الفريقين غير جديرين للنصرة والمبايعة ، وكلاهما طلاب مناصب وأتباع دنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، فأي توافق سيبديه الإمام زين العابدين عليه‌السلام مع آل الزبير حتى على مستوى المصاهرة ، يعد توافقا سياسيا وتأييدا شرعيا في حسابات النظام الأموي القادم ، فهل يبقى أدنى احتمال لإمكانية التقارب بين الإمام عليه‌السلام حتى يعمد إلى مصاهرة مصعب بن الزبير المغامر السياسي النزق؟!

فالإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام يتجنب التقارب الظاهري مع الزبيريين ، خوفا من عواقب ذلك المزامن لأفول النجم الزبيري وشيكا ، لذا فاحتمال زواج السيدة آمنة من مصعب بن الزبير غير ممكن تبعا لهذه الظروف الآنفة ، والأبعد من ذلك أن يكون الزواج قد تم دون رغبة الإمام عليه‌السلام كما سيأتي مناقشة ذلك لاحقا.

مناقـشتان

المناقشة الأولى :

ذكر سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ما نصه :

وأول من تزوجها ـ أي سكينة ـ مصعب بن الزبير قهرا ... (١).

يثبت النص الذي أمامنا عدم وقوع الزواج ، وهو إحدى القرائن

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٢٤٩.

١١٦

المؤيدة إلى ما نذهب إليه. وذلك لأمرين :

الأمر الأول : يستبعد النص وجود أي توافق بين بني هاشم وبين الزبيريين ، أي أن الفجوة القائمة بين البيتين يؤكدها هذا النص ، وذلك فإن وقوع الزواج قهراً لا يعني إلا عدم التوافق وقبول أحد الطرفين بالآخر ، وهو الأمر الذي كنا نؤكده سابقا من عدم وجود أي تقارب وتفاهم بين البيتين ، وبالتالي أية رغبة في التفاهم ، بل حالة العداء والكراهية ظاهرة على تصرفات أحدهما للآخر.

الأمرالثاني : إننا نتوقف في مسألة وقوع هذا الزواج القهري ، فإن عبدالله بن الزبير لم يحكم سيطرته على المدينة بعد ، حتى يتسنى لأخيه مصعب قهر بني هاشم على الزواج من آمنة ، فالهاشميون رفضوا البيعة لعبدالله بن الزبير كما مر ، وعرفت ما اتخذه عبدالله من إجراءات مشددة في إجبار الهاشميين على بيعته ، وهددهم بتحريقهم إن لم ينصاعوا بعد ذلك ، ومع هذا فلم يستطع عبدالله بن الزبير مع سطوته أن يفرض بيعته على الهاشميين ، فإن لبني هاشم قوتهم النابعة من احترام المسلمين لهم ، مع ما عانوه من جور حكامهم إلا أن هيبتهم لا تزال تطغى على قلوب الناس ، وعلي بن الحسين عليه‌السلام يمثل الأنموذج الأمثل في هيمنته على القلوب وحبه وتكريمه ، وحادثة انفراج الحجيج له لاستلام الحجر بمرأى من هشام بن عبدالملك إحدى الشواهد التي تؤكد محبة الناس له ، فهو لا يزال يمثل واقعة الطف بكل فصولها الفجيعة.

والإمام عليه‌السلام لم يبتعد عما نزل في ساحة آله من القتل والأسر والتنكيل ، فهو لا يزال يستذكر ما حصل لأبيه الشهيد عليه‌السلام ولآل بيته من الذبح وسفك

١١٧

الدماء وكان الناس يرون مظلومية الإمام الحسين عليه‌السلام شاخصة في ولده علي ابن الحسين عليهما‌السلام الذي لم يبعد أذهان الأمة عن مجريات ذلك اليوم الرهيب ، وما فعله بنو أمية بأهل هذا البيت الطاهر ، والناس وإن لم يقدموا النصرة لآل البيت عليهم‌السلام وقتذاك وما أظهروه من تخاذل ونكوص ، فإن المأساة تعيش في وجدانهم ، وفصولها تستعيدها ذاكرتهم ، ولا يزال الأشخاص الذين حضروا المأساة يعيشون بين ظهرانيهم ، كعلي بن الحسين عليهما‌السلام والسيدة آمنة وأخواتها الطاهرات ، حتى إن بني مروان تحاشوا في بادئ الأمر سفك دماء الهاشميين ، وأظهروا الورع في أول أمرهم من اضطهاد العلويين ، وذلك لما أحسوه من خطر المجازفة في دمائهم بعد واقعة الطف التي تحفظها ذاكرة الأمة ، ومظلومية أهل البيت عليهم‌السلام شاخصة لديهم ، لذا فإن عبدالملك بن مروان يبدي تحفظه في دماء آل أبي طالب لا عن قناعته في حرمة دمائهم ، بل عن خوفه على مستقبل دولته الفتية المحاطة بمعارضات سياسية قوية تهدد كيانه.

قال اليعقوبي في تاريخه : وكان عبدالملك قد كتب إلى الحجاج وهو على الحجاز : جنبني دماء آل أبي طالب ، فإني رأيت آل حرب لما تهجموا بها لم ينصروا (١).

وهو ما يعكس شعور المسلمين في نظرتهم لآل البيت عليهم‌السلام ، فيترجمها عبدالملك بن مروان في كتابه هذا وتحفظه على سفك دماء آل أبي طالب حتى حين.

هذه مكانة آل البيت عليهم‌السلام في قلوب الأمة ، فمتى يتاح لمصعب وأمثاله

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢٣٠ : ٢.

١١٨

أن يقهروا أهل هذا البيت على أمر غير راضيه ؛ ليتعاملوا معهم على أساس القهر والقوة ، وإذا كانت حادثة آمنة بنت الحسين عليهما‌السلام يمكن قبولها ، فإن ذلك تكذبه واقعة السيدة فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام التي حاول عبدالرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري أن يخطبها قهراً ، فأبت وشكت أمرها إلى يزيد بن عبد الملك ، فلنر ما حل بعبدالرحمن هذا في رواية اليعقوبي وغيره ، وما آل إليه مصيره بمجرد محاولة التجرؤ على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام من الزواج منه.

قال اليعقوبي : وخطب عبدالرحمن فاطمة بنت الحسين بن علي ، فأرسل إليها رجالا يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر ولدها بالسياط ، فكتبت إلى يزيد بن عبدالملك كتابا ، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه وقال : لقد ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا ، من يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا؟ فكتب إلى عبدالواحد بن عبدالله بن بشر النضري وكان بالطائف أن يتولى المدينة ، ويأخذ عبدالرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار ، ويعذبه حتى يسمعه ضربه ، ففعل ذلك ، فرئي عبدالرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس (١).

هذا مصير من حاول أن يقهر أهل البيت على أمر غير راضين به ، ولا يقل عبدالرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري شرفا عن مصعب بن الزبير ، فهو ابن أبي بحر حليم العرب وسيدها ، كما كان يلقبه معاوية بن أبي سفيان ، ومع هذا فلم يتحمل يزيد بن عبدالملك أن يتجرأ عبدالرحمن على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين من الزواج. فاحتمال وقوع الزواج قهرا من قبل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢٤٠ : ٢.

١١٩

مصعب بن الزبير للسيدة آمنة أمر غير مقبول من خلال ماذكرناه من قرائن.

المناقشة الثانية :

روى ابن عبد ربه أنه : لما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة ، فأطاف بها أهل العراق وقالوا : أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله ، فقالت : لا جزاكم الله عني خيرا ، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد ، قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي ، أيتمتموني صغيرة وارملتموني كبيرة (١).

يشير الخبر إلى مصاحبة سكينة بنت الحسين لمصعب بن الزبير عند وروده الكوفة ، والخبر رغم إرساله إلا أن مؤرخي مقتل مصعب بن الزبير أرسلوه إرسال المسلمات دون مناقشته سندا ودلالة.

أما سنده : فقد ذكرنا إرساله فهو ساقط عن الاعتبار.

وأما دلالته : فإنه يريد إثبات قضيتين أشغلت الكثير ممن نحى المنحى الزبيري في كتابة التاريخ.

أما القضية الأولى

فهي محاولة تأكيد زواج آمنة من مصعب بن الزبير ، وكونه جاء بأهله إلى الكوفة فقتل هناك.

والحق أن هؤلاء خلطوا بين «آمنة» سكينة بنت الحسين التي أوردتها روايات مصعب بن الزبير حتى ارتكز في أذهانهم أن سكينة هذه التي ترافق مصعب في مسيره إلى الكوفة هي بنت الحسين عليه‌السلام ، إلا أن الحق في ذلك أن

__________________

(١) العقد الفريد ١٥٠ : ٥.

١٢٠