عصمة الأنبياء

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

عصمة الأنبياء

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٤٤

الأول وهو قوله : ( فَإِنَّ اَللّٰهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ ) فإن ذلك عين المطلوب ، وله أن يقول : إن الشمس تطلع إما لذاتها أولا لمؤثر أصلا فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك؟ فإن البحث ما وقع إلا فيه.

وإن كان الغرض هو الثاني وهو أن نمروذ ليس بخالق للعالم فهذا غير جائز لأن نمروذ إن جوز ذلك لم يكن كامل العقل ، لأن العلم بأن هذا الشخص البشري الذي ما وجد إلا في هذه الأيام ليس هو الموجد للسماوات السبع التي كانت موجودة قبله بألوف ألوف سنين ، وأن العلم بأن هذا الشخص العاجز عن التصرف في هذه السموات والكواكب والبر والبحر ليس هو الموجد لها علم ضروري ، فمن شك فيها كان مختل العقل ، والمناظرة مع هذا الإنسان عبث ، وبعثة الأنبياء إليه أيضا عبث.

وإن كان الغرض هو الثالث ، وهو نفي كونه شريكا للّه تعالى ، فإن كان المراد من الشركة في خالقية السموات والأرض كان أيضا معلوم الفساد بالضرورة فكانت المناظرة فيها عبثا : وإن كان المراد من الشركة الطاعة بمعنى أن نمروذ كان يدعي أنه يجب عليهم طاعته كما يجب طاعة اللّه. فهذا مما لا يبطل بالحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام.

( سؤال آخر ) وهو أن إبراهيم عليه السلام لما قال ( فَإِنَّ اَللّٰهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهٰا مِنَ اَلْمَغْرِبِ ) فلو قال الخصم : بل أنا آتي بالشمس من المشرق فقل لإلهك جئ بها من المغرب كيف يكون جوابه؟

( الجواب ) عن البحث الأول أن الخصم كان دهريا منكرا للصانع فاحتج إبراهيم عليه السلام بهذه الحجة في إثبات الصانع وذلك لأن طلوع الشمس بعد عدمها حادث فلا بد من محدث والمحدث ليس أحدا من البشر فلا بد لهذه الأجسام من إله.

( واعلم ) أنه إنما انتقل عن الإحياء والإماتة إلى طلوع الشمس

٦١

وغروبها لأن أشرف ما في العالم السفلي هو الإنسان وأشرف ما في العالم العلوي هو الشمس ، فذكر من دلائل الآفاق أحوال الشمس ، ومن دلائل الأنفس أحوال الحياة والموت.

( والجواب ) عن البحث الثاني أن الخصم لو طالبه بذلك لكان من الواجب في حكم اللّه تعالى أن يأتي بالشمس من المغرب تقريرا لحجة إبراهيم عليه السلام.

ولقائل أن يقول : هذا غير واجب. لأن لإبراهيم عليه السلام أن يقول : طلوع الشمس حادث ، فلا بد له من محدث. وذلك المحدث ليس من البشر ، فلا بد من آله. فثبت أن طلوع الشمس إنما حدث بقدرة اللّه تعالى. ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحريك الشمس من اليمين إلى الشمال قادر على تحريكها من الشمال إلى اليمين. فلما كان اللّه تعالى قادرا على أن يأتي بالشمس من المشرق كان قادرا على أن يأتي بها أيضا من المغرب. فثبت أن إلهي قادر على الكل. وأما أنت فلو كنت إلها لكنت أيضا قادرا على الكل فلما عجزت عن الكل ثبت أنك لست بإله. ومتى اندفعت معارضة الخصم بهذه الأدلة العقلية لم يلزم من عدم إتيان اللّه تعالى بالشمس من المغرب القدح في دليل إبراهيم عليه السلام.

( الشبهة الخامسة ) تمسكوا بقوله تعالى ( إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ) (١) الآية وهذا يدل على انه لم يكن موقنا بقدرة اللّه على إحياء الأموات.

( والجواب ) من وجوه :

( الأول ) يحتمل أن يقال : وقع ذلك قبل النبوة. وقبلها لما وجب

__________________

١ ـ سورة البقرة الآية ٢٦٠.

٦٢

عليه الاستدلال في معرفة اللّه تعالى وجب عليه الاستدلال أيضا في أمر المعاد. فإن قلت : أليس إنه لا يتم علمه بالمبدإ إلا إذا عرفه قادرا على كل المقدورات حصل العلم بكونه عالما بكل المعلومات ، ومتى عرفه كذلك عرفه قادرا على إحياء الموتى؟ قلت : لا يلزم من مجرد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات حصول العلم بكونه تعالى قادرا على الإحياء لاحتمال أن يقال : هذه الأجزاء إنما تقبل التركيب الحيواني والحياة بطريق خاص وهو التولد. فأما بغير ذلك الطريق فهو ممتنع لذاته. فلا يلزم من عدم القدرة عليه قدح في قولنا أنه قادر على كل الممكنات.

فإن قلت : لو كان حصول الحياة في ذلك الجسم ممتنعا لما حصل فيه البتة ، فلما حصل ثبت أنه ممكن لذاته فيندرج تحت قدرة اللّه تعالى.

( قلت ) لعل الخصم يقول : إنه ممكن بطريق واحد ، وفيما عدا ذلك ممتنع ، وأيضا فهب أن الدليل الذي ذكرت يصح في بيان كون الأجزاء قابلة للحياة إلا أن إبراهيم عليه السلام ما أراد إثبات هذه المقدمة بهذه الدلالة العقلية بل أراد إثباتها بالمشاهدة ، فإنه لا يجب على المستدل أن يستدل بدليل معين ، كيف وفي الرجوع إلى المشاهدة هاهنا مزيد فائدة لأن الحسى أقوى في ذلك من الاستدلال.

( الثاني ) يحتمل أن يقال : وقع ذلك عند وصول الوحي إليه ، فإن القوم كما يحتاجون إلى المعجزة في معرفة رسالته ، فالرسول لا بد له أيضا من معجز ليعرف به نبوة نفسه ، فقوله ( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ) معناه أو لم تؤمن بأنك رسول اللّه؟ ( قٰالَ بَلىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على كوني رسولا من قبلك لا من قبل الشيطان.

( الثالث ) يحتمل أن يقال : وقع ذلك بعد النبوة ولكنه من اللّه تعالى

٦٣

لمعرفة شيء آخر ، كما يحكى أن اللّه تعالى أوحى إليه « إني اتخذت عبدا من عبادي خليلا وعلامته أنه لو طلب مني إحياء الميت فإني أفعله إكراما له » فأراد إبراهيم عليه السلام أن يتعرف أن ذلك الخليل هل هو هو؟ فسأل عن ذلك ، وكان المعنى ولكن ليطمئن قلبي على كوني خليلا لك ومخصوصا من عندك بهذا الشرف.

( الرابع ) أن يكون المراد ليطمئن قلبي على قربك على الإحياء بالمشاهدة ، فإن البرهان إذا تأيد بالمشاهدة صار أقوى وأعم.

( الخامس ) أنه عليه السلام لما أمر بذبح الولد ضعف قلبه ، فكأنه قال إلهي أمرتني بإماتة الحي وهو عليّ شاق ، فإن أكرمتني بإحياء الميت قوي قلبي فأقدر حينئذ على ذلك التكليف ، فقوله : ( وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) المراد ليطمئن قلبي على قربي منك واختصاصي بك فأقوى بوجدان ذلك الإكرام على امتثال ذلك الالتزام.

( السادس ) : أن الخصم لما قال لإبراهيم عليه السلام : أنت تزعم أن ربك يحيي ويميت فاسأله أن يحيي لنا ميتا وإلا قتلتك. فقال إبراهيم عليه السلام : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ) ويكون معنى قوله : ( وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) زوال الخوف والأمن من القتل.

( السابع ) : أن الخصم لما قال : ( أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) لم يشتغل إبراهيم عليه السلام بالكشف عن فساد ما قاله ، ولكن انتقل إلى وجه آخر ثم بعد الفراغ عن ذلك المقصود عاد إلى شرح فساد ما قاله الخصم :

فقال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ) ليعرف بهذا الكافر أن الإحياء والإماتة اللذين استدللت بهما على وجود الإله كيف يكون؟ فمعنى قوله : ( لِيَطْمَئِنَّ ) أي يطمئن قلبي على صحة الدليل واندفاع تلك المعارضة.

٦٤

( الثامن ) وهو على لسان أهل الإشارة : أن حياة القلب بالاشتغال بذكر اللّه وموته بالاشتغال بغير اللّه تعالى. فقال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ ) أي القلوب الميتة ( قٰالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ ) ولكن ليحصل الذوق بتحصيل الاستقرار والطمأنينة. فقال ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ ) فأمر بقطع العلاقة عن هذه الهيئة المركبة من هذه الطبائع الأربعة تنبيها على أن الحياة التامة الروحانية لا تحصل إلا بعد مقارنة هذا الجسد.

( التاسع ) : أن المراد منه طلب الرؤية في الدنيا ، وهو الذي سأل موسى عليه السلام بقوله : ( أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) وسأله محمد أرنا الأشياء كما هو (١) إلا أنه راعى الأدب فعبر بالمسبب عن السبب فإن سبب حياة القلب ليس إلا الرؤية التي هي الكشف التام ، فكان طلب الأثر طلبا للمؤثر.

( العاشر ) : أنه عليه السلام كان أب هذه الأمة والوالد يكون مشفقا على الولد ، والمشفق بسوء الظن مولع. فلما علم أن كثرة بنيه عاصيا خطر بباله : إني إن كنت شفيعا للعصاة فهل تقبل شفاعتي يوم القيامة ، فسأل عن إحياء الميت في الدنيا فقيل : أو لم تؤمن بقدرتنا عليه؟ فقال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على كوني مقبول الشفاعة في حق أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان هو كذلك كان محمد عليه الصلاة والسلام أولى به ، فلذلك قال : « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » (٢) وهذا الجواب تذكيري.

( الحادي عشر ) : لعله عليه السلام أمر بتبليغ الرسالة ففكر فقال :

__________________

١ ـ الظاهر انه ساقه على انه حديث. وقد بحثت عنه كثيرا وسألت من أعرف استحضاره للاحاديث فلم أعثر عليه لا في الضعيف ولا الموضوع ، ويظهر لي واللّه أعلم أنه ليس بحديث ، وليس عليه طلاوة كلام النبوة.

٢ ـ هذا الحديث رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أنس وعن ابن عباس.

٦٥

لعل الخصوم يطالبونني. بمعجزات غريبة فسأل اللّه تعالى عن هذه الغريبة.

فقال ( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على أنك تجيبني في كل ما أطلب. وبالجملة قوله ( وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) غير متعلق في الآية على شيء معين فلك أن تصرفه إلى أي شيء شئت سوى الإيمان.

( الشبهة السادسة ) قالوا : إن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه.

وأبوه كان كافرا والاستغفار للكافر غير جائز. فثبت أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز فعله إنما قلنا : إنما استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ( سَلاٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) (١) وقوله : ( وَاِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلضّٰالِّينَ ) (٢) وأما إن أباه كان كافرا فذلك بنص القرآن وبالإجماع. وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز لوجهين ( الأول ) قوله تعالى ( مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) (٣) فثبت بهذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز ( الثاني ) قوله تعالى في سورة الممتحنة ( قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّٰا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ كَفَرْنٰا بِكُمْ وَبَدٰا بَيْنَنٰا وَبَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةُ وَاَلْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) (٤) فأمر بالتأسي به إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه.

( والجواب ) لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار لا يجوز. والكلام عليه من وجوه :

__________________

١ ـ سورة مريم الآية ٤٧.

٢ ـ سورة الشعراء الآية ٨٦.

٣ ـ سورة التوبة الآية ١١٣.

٤ ـ سورة الممتحنة الآية ٤.

٦٦

( الأول ) أن القطع عليه أن اللّه تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع ، فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب اللّه تعالى الكافر. فلا جرم استغفر لأبيه.

( الثاني ) أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستبطاء كما في قوله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ أَيّٰامَ اَللّٰهِ ) (١).

( الثالث ) أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان ، فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار. ويدل عليه قوله تعالى ( فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٢) وأما قوله (مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) (٣) فليس في لفظ النبي عموم ، لما ثبت في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بالألف واللام لا يقتضي العموم فإذا حملنا النبي على رسولنا عليه الصلاة والسلام لم يلزم أن يتناول إبراهيم عليه السلام ، وأما الآية الثانية فهي على أنه لا يجوز التأسي به في ذلك الاستغفار ، فلم يدل على أن الاستغفار لم يكن جائزا له. ولكنا نحمل الاستغفار الذي أتى به على استبطاء العقاب أو تخفيفه ، أو على أنه ما كان عالما بكيفية الأحوال.

( فائدة ) اختلف المفسرون في الموعدة المذكورة في قوله تعالى ( إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ ) (٤) فقيل : وعد الأب ابنه بالإيمان ، وقيل : وعد الابن أباه بالاستغفار. والأول أولى على قولنا إنه لا يجوز الاستغفار للكافر ، لأن وعد الابن أباه بالاستغفار لو وعد

__________________

١ ـ راجعت كتب اللغة وكتب التفسير ومنها تفسير الفخر الرازي. فلم أجد هذا المعنى للاستغفار أصلا ، بل كل معنى الاستغفار يدور على التغطية والعفو والصفح خصوصا في آية الجاثية ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ـ ٢٤١ ).

٢ ـ سورة التوبة الآية ١١٤.

٣ ـ سورة التوبة الآية ١١٣.

٤ ـ سورة التوبة الآية ١١٤.

٦٧

الأب ابنه بالإيمان وإذا كان وجود هذا الوعد واجبا ووجود الوعد الثاني غير واجب كان حمل اللفظ على الوعد الأول أولى (١).

( الشبهة السابعة ) تمسكوا بقوله تعالى ( رَبَّنٰا وَاِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (٢) والدعاء طلب وطلب الحاصل ممتنع لقوله تعالى ( وَاُجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ ) (٣) ولو لا جواز ذلك عليه لما طلب من اللّه ذلك ولقوله تعالى ( وَاَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ ) (٤) والاستدلال فيه أن الآية مشعرة بأنه غير قاطع بكونه مغفورا له ، وهي تصريح بوقوع الخطيئة منه.

( والجواب ) لا نزاع بين الأمة أنه لا يجوز الكفر على الأنبياء بعد نبوتهم إلا عند شرذمة من الخوارج (٥) فلا اعتبار بخلافهم ، فكانت هذه الآيات مؤولة بإجماع الأمة ، فوجب حملها على هضم النفس وكسرها وإظهار الإنابة والابتهال (٦).

( الشبهة الثامنة ) قالوا : إنه طلب من اللّه أن يجنب أولاده عن عبادة الأصنام ، وما أجيب إليه. فكان كسرا من منصبه.

__________________

١ ـ في هذا ترجيح من غير دليل ونرى أن القول الثاني هو الأولى لان وعد ابراهيم بالاستغفار لابيه حصل بعد أن هجره لعدم ايمانه ( أَرٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاُهْجُرْنِي مَلِيًّا. قٰالَ سَلاٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا ) ٤٦ ـ ٤٧ مريم.

٢ ـ سورة البقرة الآية ١٢٨.

٣ ـ سورة ابراهيم الآية ٣٥.

٤ ـ سورة الشعراء الآية ٨٢.

٥ ـ وكذا لا يجوز الكفر قبل نبوتهم أيضا كما لا يخفى فتأمل.

٦ ـ يرى المؤلف في تفسيره أن هذا القول ضعيف ، اما القول الصحيح برأيه فهو أن يحمل ذلك على ترك الاولى وترك الاولى على الأنبياء جائز (٦ / ٤١٤).

٦٨

( الجواب ) أن المفسرين حملوا هذا الدعاء على من أعلمه اللّه أنه يؤمن ولا يعبد الأصنام وتخصيص العام غير بعيد.

( الشبهة التاسعة ) تمسكوا بقوله تعالى : ( وَلَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) (١) والبحث في الآية من وجوه :

( الأول ) : أنه قدم الطعام إلى الملائكة مع علمه أنهم لا يأكلون.

( الثاني ) : لم خافهم مع علمه بكونهم معصومين؟ فإن قلت : السبب في هذين أنه ما كان عالما بكونهم من الملائكة ، قلت : فلم صدقهم في ادعاء الملائكة من غير دليل؟

( الثالث ) : أنه تعالى وصفه بالمجادلة. فقال : ( يُجٰادِلُنٰا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) (٢) ثم قال : ( يٰا إِبْرٰاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا ) (٣) وهذا يدل على أن مجادلته مع الملائكة غير جائزة.

( والجواب ) أن ذلك لو كان ذنبا لعوتب عليه ولاستغفر إبراهيم عليه السلام منه كيف وقد مدحه اللّه تعالى على ذلك فقال : ( إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّٰاهٌ مُنِيبٌ ) (٤) فوصفه بهذه الصفات التي ليست وراءها منزلة في باب الرفعة. فكيف يجوز تخطئته فيما جعله اللّه تعالى سببا للمدح العظيم؟ وأما قوله : كيف صدقهم في ادعاء الملائكة من غير دليل فنقول ليس في الآية أنه صدق من غير دليل ، وإذا كان كذلك كان الدليل المذكور على عصمة إبراهيم عليه السلام دليلا على أنه إنما صدقهم في

__________________

١ ـ سورة هود الآية ٦٩.

٢ ـ سورة هود الآية ٧٤.

٣ ـ سورة هود الآية ٧٦.

٤ ـ سورة هود الآية ٧٥.

٦٩

تلك الدعوى بالدليل. ويقال أنهم دعوا اللّه بإحياء العجل الذي كان ذبحه وشواه فعاد حيا ، وأما المجادلة فإنها غير مقصودة على المخاصمة فقد تكون بمعنى المسألة قال اللّه تعالى ( قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا ) (١) يعني تسألك فكان إبراهيم عليه السلام أخذ يبحث كيفية العذاب وأنه عام لهم أو خاص بالبعض ، فسمى ذلك جدالا لما كان فيه من المراجعة ، وقيل : معنى ( تجادلنا ) تسألنا عن قوم لوط أن يؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا فأخبره اللّه تعالى بأن المصلحة في إهلاكهم وأن كلمة العذاب حقت عليهم.

لا يقال : أما أن يقال أنه كان مأذونا أو غير مأذون ، فإن كان الثاني كان إقدامه عليه ذنبا لأنا نقول لعله لم يكن مأذونا فيه شرعا إلا أنه بحكم أن الأصل في الأشياء الإباحة اعتقد جواز تلك المجادلة فإنه لما نهي عنه سكت عنه.

__________________

١ ـ سورة المجادلة الآية ١.

٧٠

قصة يعقوب عليه السلام

( وفيها شبه )

( الأولى ) قالوا لم رجّح يعقوب عليه السلام يوسف على إخوته في التقريب والمحبة مع علمه إفضاء ذلك الترجيح إلى الحسد والمفاسد العظيمة؟

( الجواب ) من وجهين :

( الأول ) لا نسلم أنه رجح يوسف على إخوته في الإكرام ، بل كان راجحا في المحبة وميل الطبع وذلك غير مقدور له فلا يكون مكلفا بتركه.

( الثاني ) هب أنه عليه السلام رجحه في الإكرام لكن لا نسلم علمه بأداء ذلك الترجيح إلى المفسدة ، فلعله رأى من سداد إخوته وجميل ظاهرهم ما غلب على ظنه أن ترجيحه لا يفضي إلى شيء من المفاسد فإن الحسد إن كان راسخا في الطبع إلا أن كثيرا من الناس يحترزون منه ويجتنبونه.

( الشبهة الثانية ) : أن إخوة يوسف وصفوا أباهم بالضلال بقوله : ( إِنَّ أَبٰانٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ).

( الجواب ) : ليس المراد بالضلال عن الدين بالإجماع بل المراد العدول عن الصواب

٧١

( فإن قلت ) لمّا وصفوه بذلك فقد قدحوا في عصمته واعتقدوا أنه غير مصيب في أحكامه ومن اعتقد في الرسل ذلك كفر فيلزم القول بكفر اخوة يوسف.

( قلت ) : الحكم بالإسلام والكفر شرعي فلعل ذلك لم يكن كفرا في دينهم ، أو يقال مرادهم وصف يعقوب بالغلو في الحب.

وذلك غير مقدور له. فلم يكن وصفهم أباهم بذلك قدحا في عصمته (١).

( الشبهة الثالثة ) فلم أرسل يوسف مع أخوته مع خوفه عليه منهم بقوله تعالى ( وَأَخٰافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ ) (٢) وهل هذا إلا تغريرا؟

( الجواب ) : لا يمتنع أن يعقوب عليه السلام لما رأى في بنيه من الإيمان والعهود والاجتهاد في حفظ يوسف ظن السلامة ، وبما ظن أنه لو لم يرسله معهم ، مع مبالغتهم في إظهار الحب ، لاعتقدوا في يعقوب عليه السلام أنه يتهمهم على يوسف ويصير ذلك سببا للوحشة العظيمة فلهذه الدعاوى بعثه معهم.

( الشبهة الرابعة ) : لم أسرف يعقوب عليه السلام في الحزن والبكاء حتى ابيضت عيناه ومن شأن الأنبياء التجلد والتصبر؟

( الجواب ) : التجلد على المصائب وكظم الحزن مندوب وليس يواجب ، وترك المندوب ليس بمعصية ، على أن يعقوب عليه

__________________

١ ـ ولا طعنا بايمانهم وقد قال المؤلف جوابا على ذلك في تفسيره ٥ / ١٠٩ : انهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولا حقا من عند اللّه تعالى الا انهم لعلهم جوزوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد الاجتهاد. وجواب المؤلف في تفسيره أصرح وأوضح من جوابه هاهنا.

٢ ـ سورة يوسف الآية ١٣.

٧٢

السلام إنما أبدى من الحزن اليسير من الكثير ، وكان ما يعتبر عليه أكثر وأوسع مما أظهره (١).

( الشبهة الخامسة ) : أن يعقوب عليه السلام كان يعلم برؤيا يوسف أن أمره يفضي إلى العاقبة الحسنة في الدنيا والدين ، فلم لم يتسل بذلك على حزنه؟

( الجواب ) : أن علمه بذلك لا يدفع الحزن الحاصل بسبب المفارقة ، على أن يوسف عليه السلام كان حين رأى تلك الرؤيا صبيا فلا جرم لم يقطع يعقوب عليه السلام بصحته.

__________________

١ ـ ثم ان يعقوب تجلد وصبر فلم يظهر الشكاية لاحد من الخلق وقال « انما اشكو بشيء وحزني الى اللّه » وكل ذلك يدل على انه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة ، انظر تفسير المؤلف ٥ / ١٦١.

٧٣

قصة يوسف عليه السلام

( وفيها شبه )

( الأولى ) أنه صبر على الرق ولم يبين الحرية التي فيه وذلك معصية.

( الجواب ) من وجوه :

( الأول ) فلعله لم يكن نبيا في تلك الحالة ، ولما خاف على نفسه القتل جاز أن يصبر على الرق. ومن ذهب إلى هذا الوجه حمل قوله تعالى ( وَأَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هٰذٰا ) (١) على وقت آخر.

( الثاني ) إن إظهار الحرية أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع فلعله أمر بالسكوت عنه امتحانا ، كما امتحن أبويه بنمروذ والذبح (٢).

( الثالث ) لعله عليه السلام أخبرهم بذلك إلا أنهم لم يلتفتوا إليه.

( الشبهة الثانية ) تمسكوا بقوله تعالى حاكيا عن يوسف وامرأة العزيز (وَرٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ وَقٰالَتْ هَيْتَ لَكَ قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ

__________________

١ ـ سورة يوسف الآية ١٥.

٢ ـ يظهر أن المؤلف يرى أن الذبيح هو اسحاق باعتبار أن اسحاق هو جد يوسف ، وهذا خطأ واضح فاسماعيل هو الذبيح كما تؤكد ذلك الدلائل التي تبحث في مظانها ، وقد حقق المؤلف هذا الموضوع في تفسيره دون أن يرجح أحد الرأيين ٦ / ١٥٠ فلينظر.

٧٤

كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَاَلْفَحْشٰاءَ ) (١).

( الجواب ) : قال القاضي أبو طاهر الطوسي رحمه اللّه تعالى (٢) شهد ببراءة يوسف من الذنب كل من له تعلق بتلك الواقعة من زوج وحاكم ونسوة وملك وادعى يوسف ذلك واعترف له خصمه بصدق ما قاله مرتين ، وشهد بذلك رب العالمين الذي هو أصدق القائلين ، واعترف إبليس فكيف يلتفت إلى قول هؤلاء الحشوية؟! أما شهادة الزوج فقوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا وَاِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخٰاطِئِينَ ) (٣) وأما شهادة الحاكم فقوله ( وَشَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ) (٤) وأما شهادة النسوة فقولهن ( حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا عَلِمْنٰا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) (٥) وأما شهادة الملك فقوله ( إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنٰا مَكِينٌ أَمِينٌ ) (٦) وما ادعاء يوسف عليه السلام ذلك فقوله (هِيَ رٰاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (٧) وقوله ( رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (٨) وقوله ( ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) (٩) وأما اعتراف الخصم فقولها للنسوة ( وَلَقَدْ رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) (١٠) وقوله ( اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) (١١) وأما شهادة رب العالمين فقوله ( كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَاَلْفَحْشٰاءَ ) (١٢) وأما اعتراف

__________________

١ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٢ ـ لم يعز المؤلف « في التفسير » هذا الموضوع الى قائله ، فهنا بيان لصاحب هذا القول اللطيف.

٣ ـ سورة يوسف الآية ٢٨.

٤ ـ سورة يوسف الآية ٢٦.

٥ ـ سورة يوسف الآية ٥١.

٦ ـ سورة يوسف الآية ٥٤.

٧ ـ سورة يوسف الآية ٢٦.

٨ ـ سورة يوسف الآية ٣٣.

٩ ـ سورة يوسف الآية ٥٢.

١٠ ـ سورة يوسف الآية ٣٢.

١١ ـ سورة يوسف الآية ٥١.

١٢ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٧٥

إبليس بذلك فقوله تعالى حكاية عنه ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ) (١) فبين أنه يغوي الكل إلا المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ ) (٢) فأية شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة يوسف عن الذنوب. ثم قال القاضي : وهؤلاء الطاعنون في يوسف إن كانوا من حزب اللّه فليقبلوا قوله ، وإن كانوا من حزب الشيطان فيجب أن لا يتركوا قوله ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ) (٣) وإذا ظهرت هذه الجملة فلنذكر معنى الآية فنقول :

( الهم ) : في اللغة جاء لمعان أربعة :

( الأول ) : العزم على الفعل لقوله تعالى ( إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) (٤) أي أرادوا ذلك وعزموا عليه.

( الثاني ) : خطور الشيء بالبال ، قال اللّه تعالى ( إِذْ هَمَّتْ طٰائِفَتٰانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاٰ وَاَللّٰهُ وَلِيُّهُمٰا ) (٥) فإنما أراد اللّه تعالى أن الفشل خطر ببالهم ولو كان المراد هاهنا العزم لما صح أن يكون اللّه وليا لهم ، لأن العزم على المعصية معصية ويدل عليه أيضا قول كعب بن زهير :

فكم فيهم من سيد متوسع

ومن فاعل للخير قد هم أو عزم

( الثالث ) : أن يستعمل بمعنى المقاربة يقولون هم بكذا أي كاد يفعله قال ذو الرمة :

__________________

١ ـ سورة الحجر الآية ٤٠.

٢ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٣ ـ سورة الحجر الآية ٤٠.

٤ ـ سورة المائدة الآية ١١.

٥ ـ سورة آل عمران الآية ١٢٢.

٧٦

أقول لمسعود بجرعاء مالك

وقد هم دمعي أن يلج أوائله

والدمع لا يجوز عليها العزم وإنما أراد أنه كاد وقارب.

( الرابع ) : الشهوة وميل الطباع لأن الإنسان قد يقول فيما يشتهيه هذا من همي فثبت أن الهم مستعمل في هذه المعاني.

فإن حملناه على العزم ففيه وجهان :

( الأول ) : أن الهم في ظاهر الآية معلق بذاته وذاتها. وذلك غير جائز لأن الذوات لا تراد فلا بد من ترك هذا الظاهر وتعليق الهم بشيء غير الذات. وإذا ثبت هذا فنقول : ليس تعليقه ببعض الأمور أولى من تعليقه بالباقي إلا للدليل فأما همها فكان متعلقا بالفاحشة دون سائر الأمور وذلك للنص والإجماع. أما النص فقوله تعالى ( وَقٰالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ) (١) وقوله ( وَرٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ ) (٢) وقوله تعالى حاكيا عنها ( اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ اَلصّٰادِقِينَ ) (٣) وفي موضع آخر ( وَلَقَدْ رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) (٤) وأما الإجماع فهو أن المفسرين اتفقوا على أنها همت بالمعصية والفاحشة. وأما همه فقد دللنا على أنه لا يجوز أن يكون متعلقا وبالفاحشة وليس في ظاهر الآية ما يقتضيه فلا جرم علقناه بدفعه إياها عن نفسه كما يقول القائل : لقد كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا.

لا يقال : فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى : ( لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ ) (٥) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان

__________________

١ ـ سورة يوسف الآية ٣٠.

٢ ـ سورة يوسف الآية ٢٣.

٣ ـ سورة يوسف الآية ٥١.

٤ ـ سورة يوسف الآية ٣٢.

٥ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٧٧

عنه لأنا نقول يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها أرى برهانا على أنه لو قدم على ما هم به أهلكه أهلها وقتلوه ، وأنها تدعي عليه المراودة على القبيح وتنسبه إلى أنه دعاها إلى نفسه وضربها لامتناعها منه. فأخبره اللّه تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمراودة وظن القبح واعتقاده فيه. لا يقال : فهذا يقتضي أن يكون جواب لفظة ( لو لا ) متقدما عليها ويكون التقدير لو لا أن رأى برهان ربه لهم بقربها ، وتقدم جواب ( لو لا ) غير جائز. لأنا نقول : لا نسلم أن تقدم جواب (لو لا) غير جائز وسيأتي تقريره ، سلمنا ذلك ولكن لا حاجة بنا إليه في هذا المقام ، لأن العزم على الضرب والهم قد وقع إلا أنه انصرف عن فعله بسبب البرهان. وتقدير الكلام : ولقد همت به وهم بدفعها لو لا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك. والجواب محذوف مضمر.

( الوجه الثاني ) : في حمل الهم على العزم أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولك : قد كنت هلكت لو لا أن تداركته ، وقد استبعد الزجاج (١). وعلي بن عيسى (٢) هذا الجواب من وجهين :

( الأول ) : أنه لا يجوز تقدم جواب لو لا. ( الثاني ) : جوابه يكون باللام كقوله (فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ ) (٣).

( والجواب ) : أنا لا نسلم أنه لا يجوز التقديم ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إِنْ كٰادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاٰ أَنْ رَبَطْنٰا عَلىٰ قَلْبِهٰا ) (٤)

__________________

١ ـ هو ابراهيم بن السري الزجاج ، عالم بالنحو واللغة ، ولد ومات في بغداد ت ٣١١ ه‍.

٢ ـ هو علي بن عيسى الريعي ، عالم بالنحو واللغة ت ٤٢٠ في بغداد.

٣ ـ سورة الصافات الآية ١٤٣.

٤ ـ سورة القصص الآية ١٠.

٧٨

وأيضا فلو لم يجعل التقديم على ( لو لا ) جوابا لها لكان جوابها محذوفا. وإذا دار الأمر بين أن يكون جوابا محذوفا وبين أن يكون متقدما عليها لا شك أن التقديم أولى.

( فإن قلت ) : فأي فائدة في قوله : ( وَهَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ ) (١) إذا لم يكن هناك هم؟

( قلت ) : الفائدة فيه الإخبار على أن ترك الهم به وإجابتها إلى ملتمسها لم يكن من حيث كان غير راغب في النساء لعجز لكنه ترك ذلك للّه وفي اللّه طلبا لثوابه وهربا من أليم عقابه.

( فإن قلت ) : فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام؟

( قلت ) فيه وجوه ثمانية :

( الأول ) : أنه حجة اللّه في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب قاله محمد بن كعب.

( الثاني ) : ما آتاه اللّه من آداب أنبيائه من العفاف وصيانة النفس عن الأرجاس.

( الثالث ) : رأى مكتوبا في سقف البيت ( وَلاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَسٰاءَ سَبِيلاً ) (٢).

( الرابع ) : عن الصادق : النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش.

( الخامس ) : عن زين العابدين : كان في ذلك البيت صنم فألقت المرأة ثوبا عليه وقالت أستحي منه. فقال يوسف : تستحي من الصنم فأنا أحق أن أستحي من الواحد القهار.

__________________

١ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٢ ـ سورة الاسراء الآية ٥٣.

٧٩

( السادس ) : أنه سمع قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير فإذا زنا ذهب ريشه.

( السابع ) : سمع قائلا يقول : أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء.

( الثامن ) : عن ابن عباس رأى صورة الملك ، وقيل : صورة يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله.

( فإن قلت ) : لو كان البرهان عبارة عن أنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه أو نادته الملائكة بالزجر لاقتضى ذلك الإلجاء وصار منافيا للتكليف ، ولما استحق يوسف عليه السلام بالبعد عن ذلك الفعل مدحا ولا ثناء ولا ثوابا.

( قلت ) : أليس إن المعتزلة قالوا في قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنٰا نَزَّلْنٰا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتىٰ وَحَشَرْنٰا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ ) (١) إن شيئا منها لا يوجب الإلجاء ، وإذا كان كذلك فكيف يلزم من مشاهدة يعقوب وسماع صوت الملائكة حصول الإلجاء.

( الشبهة الثالثة ) : تمسكوا بقوله تعالى ( وَمٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ ) (٢).

( الجواب ) من وجهين :

( الأول ) : أنه أراد الدعاء والمنازعة ولم يرد العزم على المعصية ، وهو لا يبرئ نفسه عما لا يقوى عنه طباع البشر.

__________________

١ ـ سورة الانعام الآية ١١١.

٢ ـ سورة يوسف الآية ٥٣.

٨٠