عصمة الأنبياء

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

عصمة الأنبياء

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٤٤

١
٢

المحتويات

تعريف بالمؤلف فخر الدين الرازي................................................ ٥

تعريف بالكتاب................................................................. ٧

مقدمة........................................................................ ٢٥

فصل في شرح الأقوال والمذاهب في هذه المباحث................................ ٢٦

عصمة آدم عليه السلام........................................................ ٣٦

قصة نوح عليه السلام ، وفيها شبهات.......................................... ٤٥

قصة إبراهيم عليه السلام...................................................... ٤٩

قصة يعقوب عليه السلام...................................................... ٧١

قصة يوسف عليه السلام...................................................... ٧٤

قصة أيوب عليه السلام........................................................ ٨٥

قصة شعيب عليه السلام ، وفيها شبه ثلاث...................................... ٨٦

قصة موسى عليه السلام ، وفيها شبه ستة....................................... ٨٩

قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وفيها بحثان................................ ٩٤

قصة داود عليه السلام ، وفيها شبهتان.......................................... ٩٧

قصة سليمان عليه السلام ، وفيها شبهات ثلاث................................ ١٠٦

قصة يونس عليه السلام...................................................... ١١٤

قصة لوط عليه السلام....................................................... ١١٦

قصة زكريا عليه السلام...................................................... ١١٨

قصة عيسى عليه السلام ، وفيها شبهتان....................................... ١١٩

قصة سيدنا ومولانا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم................................ ١٢١

٣

٤

تعريف بالمؤلف :

فخر الدين الرازي (*)

٥٤٤ ـ ٦٠٦ ه‍

١١٥٠ ـ ١٢١٠ م

ـ هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري الطبرستاني الرازي ، الشافعي ، المعروف بفخر الدين الرازي وبابن خطيب الريّ.

ـ مفسّر ومتكلم وفقيه وأصولي وأديب وشاعر وطبيب ، وهو أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل الشرعية والعربية والحكمية والرياضية وكان يحسن اللغة الفارسية.

ـ ولد بالريّ وإليها ينسب ، رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وتوفي في هراة.

__________________

(*) أنظر ترجمته في : وفيات الاعيان ١ / ٤٧٤ ميزان الاعتدال ٢ / ٣٢٤ ذيل الروضتين ٦٨ شذرات الذهب ٥ / ٢١ لسان الميزان ٤ / ٤٢٦ الاعلام ٦ / ٣١٣ البداية والنهاية ١٣ / ٥٥ بروكلمان ١ / ١٦٦ والملحق ١ ـ ٦٢٠ طبقات الشافعية ٥ / ٣٣.

٥

ـ كان ذا ثروة ومماليك واحترام لدى الملوك. سار إلى شهاب الدين الغوري ، سلطان غزنة ، فبالغ في إكرامه وحصلت له منه أموال طائلة ، واتصل بالسلطان علاء الدين خوارزم فحظي لديه.

ـ صنّف عشرات الكتب في جميع علوم عصره ، وذكر ابن كثير :

أنه كتب مائتي مصنّف. وأقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها ، حتى يقال بحق أنه : إمام المتكلمين ونابغة المتأخرين ، رحمه اللّه تعالى.

٦

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه رب العالمين ، يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ، سبحان اللّه وتعالى عما يشركون ، خلق فسوى ، وقدر فهدى ، أحسن كل شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة قليلا ما تشكرون.

( وأشهد ) أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له أرحم الراحمين وأسرع الحاسبين وأحكم الحاكمين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله. وخيرته من خلقه والسفير بينه وبين عباده. أرسله بالهدى والرحمة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

( أما بعد ) فإن اللّه سبحانه وتعالى أكرم الإنسان وتفضل عليه بنعم لا يحصيها العد ولا يقف بها الحساب عند حد. ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا إِنَّ اَللّٰهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) سواه فعدله ، في أحسن

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ١٨.

٧

صورة ما شاء ركبه ، وزاد في كرامته أن نفخ فيه من روحه ، ووهبه الإنسانية العاقلة المفكرة المميزة التي ميزه بها على كل ما خلق ، وذلك لأنه أعده لأسمى الوظائف وخلقه لأشرف الأعمال : أن يتلقى العهد عن ربه فيعبده ويعرف نعم اللّه عليه فيقدرها ويشكرها ، ويثني على اللّه الثناء الذي يحبه ويشغل قلبه ولسانه وجوارحه بذكر اللّه وشكره رجاء أو خوفا ورغبة ورهبة وذلا وخضوعا.

ولقد امتحن اللّه تعالى الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنواع الفتن : من مال وبنين ، ونساء ، وأخوان وأصدقاء ، ورياسات وسعى في سبل العيش وتحصيل أسباب الحياة ، مما كان للّه عند أكثر الناس أعظم الأثر في صرف قلوبهم عن وظيفة العبودية وواجب الإلهية ، ولم يكن له عند خيار خلقه وصفوتهم إلا منزلة الضرورة يأخذون منها حاجتهم غير متجانفين ولا معتدين ثم رغد عيشهم ولذة قلوبهم وراحة أرواحهم في ذكر اللّه والثناء عليه بما هو أهله. وإنما كان ذلك الافتتان بتلك الشواغل ، وهذه الفواتن ليعلم اللّه الذين صدقوا وليعلم الكاذبين ، فقد جرت سنة اللّه التي لا تبدل أنه ما من لذة أتم ولا نعيم أوفر مما يكون ثمرة لجهاد وصبر ، وركوب المشاق والصعاب ، وإعمال مطايا النفس في السعي الحثيث إلى ما تحبه من تلك اللذائذ وهذا النعيم. وأن العبد لا يظفر في ميدان الجهاد ببغيته ، ويحظى بغنيمته إلا إذا كان كامل العدة موفور القوة ، قد اتخذ للنصر أسبابه وتهيأ للغنيمة بآلات النجاح والسداد ، وما عدة المجاهد في هذا الميدان وسلاحه وذخيرته إلا الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتوثيق الصلة الروحية بين العبد وبين ربه خالقه وبارئه وفاطره ، بإخلاص العبادة والذل والمحبة والطاعة والإسلام له وحده لا شريك له. فإن العدو الذي انتصب في الميدان خصما قد أعلن عن خصومته وعداوته وحربه وسلاحه ، إذ قال ( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ

٨

وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ اَلْأَنْعٰامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّٰهِ ) (١) وصفه اللّه بأنه ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً ) (٢) وقال عنه ( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمٰانِهِمْ وَعَنْ شَمٰائِلِهِمْ وَلاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ ) (٣) وكل ذلك لا سبيل للإنسان إلى معرفته من قبل نفسه ، ولا وصول له إليه بعقله مستقلا فإنها أمور خارجة عن حسه ، وعالية عن متناول تفكيره وذهنه. وجماع ما يكيد به العدو للإنسان ويجلب عليه به بخيله ورجله : الشبهات والشهوات يقذف بها على القلوب والنفوس ، ويوالي ذلك متابعا حتى يصيب القلوب بالأمراض الفتاكة والعلل القتالة ، فتعرض عن ربها وفاطرها وبارئها وتشتغل عنه بتلك العلل والأمراض ، والعدو الألد يلبس عليها الأمر ، ويزين لها بزخرف القول وغروره ، ويعدها ويمنيها ويقسم إنه لمن الناصحين ، وما يزال كذلك جاهدا حتى ينسيها ربها مرة بانشغالها بالآلهة الأخرى من دونه أو بما انغمست فيه من شهوات أطغت الحيوانية حتى زعمت خاطئة فاجرة أن لا بعث ولا نشور ( إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا وَمٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (٤).

( ووقاية القلوب ) من تلك الأمراض ، وطبها من هذه العلل إنما هو بيد الرسل صلوات اللّه عليهم فلا سبيل إلى حصول السلامة والعافية إلا من جهتهم وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب هو بأن تكون عارفة

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١١٩.

٢ ـ سورة النساء ، الآية ١٢٠.

٣ ـ سورة الاعراف ، الآية ١٧.

٤ ـ سورة الانعام ، الآية ٢٩.

٩

بربها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه مجتنبة لمناهيه ومساخطه ، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقي هذا ومعرفته إلا من جهة الرسل المبلغين عن اللّه. وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط فاحش وضلال مبين ممن يظن ذلك ، وأن ما يحس من نشاط وقوة ، فذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها وأما حياة قلبه وصحته وقوته فعن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات ، وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات.

ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا اللّه البتة إلا على أيديهم ، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق ، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال ، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها ، والروح إلى حياتها ، فأي حاجة وضرورة فرضت؟ فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير ، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وحل به من الآلام والعذاب ما يكون به مثل الحوت إذا فارق الماء ووضع في الفلا. وإذا كان هذا عمل الأنبياء عليهم من اللّه أفضل الصلاة والسلام ـ وتلك وظيفتهم فإنه لا يتم الغرض منها ولا تتحقق على تمام وجهها إلا إذا كانوا من الكمال وعلو المنزلة وسمو المقام في نفوس الناس بالدرجة التي تجعلهم

١٠

أهلا لأن يقتدى بهم في أعمالهم وسيرتهم ، ويلتزم ما يبلغون عن اللّه تعالى من الشرائع والآداب والأحكام.

ثم هم فوق هذه الإمامة ، وأكثر من هذه القدوة التي يلزم لها ذلك الكمال وعلو المنزلة ـ أشد الخلق صلة باللّه تعالى ، وأقربهم إليه ـ بما نالوا من شرف تكليمه سبحانه وتعالى لهم وتنزيل وحيه عليهم ، واختصاصهم بأن يكونوا سفراءه إلى خلقه ، وحملة الأمانة العظمى إلى عباده ، والمبلغين عنه سبحانه المراسيم الإلهية والأوامر الكريمة ، والهدى والرحمة ، ( اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ اَلنّٰاسِ ) (١) فلا غرو إن كانوا من أجل هذا ، ومن أجل غيره أكثر مما ذكرنا ـ صفوة خلق اللّه ، وخلاصة عباده الذين اجتباهم وهداهم إلى صراطه المستقيم ( أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْعٰالَمِينَ ) (٢) ( أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ وَإِسْرٰائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنٰا وَاِجْتَبَيْنٰا إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُ اَلرَّحْمٰنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ) (٣) وإنه لتتجلى رحمة اللّه تعالى في أجلى مظاهرها وتبدو واضحة في أسمى معانيها في إرسال اولئك المصطفين الخيرة هداة مرشدين ، ونصحاء مبلغين ، ورحماء واعظين ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَكٰانَ اَللّٰهُ

__________________

١ ـ سورة الحج ، الآية ٧٥.

٢ ـ سورة الانعام ، الآية ٩٠.

٣ ـ سورة مريم ، الآية ٥٨.

١١

عَزِيزاً حَكِيماً ) (١) ( وَجَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَأَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَإِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَإِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَكٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ ) (٢).

وجل اللّه وتعالى أن يضع تلك الإمامة في غير موضعها ، وأن يلقي بأعباء تلك الأمانة العظمى على من لا يليق لها ، وأن يجعل حجته البالغة إلا فيمن يكون أولى بها فإنه العليم الخبير ، العزيز الحكيم ، ولقد زعم عمى القلوب والبصائر وزعم لهم شيطانهم أنهم صالحون لهذه الرسالة فأبوا أن يتبعوا رسل اللّه حتى يكون لهم من الوحي مثل ما يتنزل عليهم فرد اللّه العليم الحكيم عليهم : إن الأمر ليس هملا ، وأن حكمة اللّه أجل أن تضع الأمر إلا حيث يكون أوجب وأولى. وقال ( وَإِذٰا جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّٰى نُؤْتىٰ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ رُسُلُ اَللّٰهِ ، اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغٰارٌ عِنْدَ اَللّٰهِ وَعَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا كٰانُوا يَمْكُرُونَ ) (٣) ( وَقٰالُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ، نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَرَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ ) (٤).

وأن مما لا يشك فيه عاقل أن اللّه العليم الخبير محال أن يتخذ رسولا رجلا تزدريه الأعين وتحقره القلوب ، سلط بوهن أخلاقه ، وحقارة نفسه ، وصغر همته ألسنة الناس عليه بالطعن والإزراء. فكيف يستطيع مثل هذا المهان المرذول أن يكون قدوة في مكارم الأخلاق وأما

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١٦٥.

٢ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٧٣.

٣ ـ سورة الانعام ، الآية ١٢٤.

٤ ـ سورة الزخرف ، الآية ٣١ ـ ٣٢.

١٢

وإماما يهدي الناس إلى صراط ربهم العزيز الحميد؟ أو رجلا متهما في نسبه أو ناقصا مشوها في خلقه وجسمه يجعل منه داعيا إليه بإذنه ، والدعوة تستلزم أن يكون للداعي من المهابة في النفوس والإجلال في القلوب والمنزلة الكريمة عند الناس وظهور الكمال الخلقي والخلقي حتى تخضع لها الفطر السليمة والقلوب المستقيمة.

ومن أجل هذا بعث اللّه أنبياءه من أوسط قومهم نسبا وبرّأهم من العيوب الجسيمة المشوهة وأعطاهم أكمل صفات الرجولة من الشجاعة وصدق العزيمة وقوة الإرادة وشدة البأس وسعة الصدر وحدة الذهن وذكاء القلب وطلاقة اللسان وحلاوة المنطق ، وما إلى ذلك مما يكون به المختار لرسالة ربه أكمل الرجال في قومه وقبيلته وأملأهم للأسماع والأبصار. وفي قول اللّه تعالى لصفوة خلقه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم (وَاِصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا) (١) ولموسى عليه السلام (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلىٰ عَيْنِي) (٢) وقوله : ( وَاِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) (٣) ما يوضح بأتم أنواع الإيضاح عن شدة عناية اللّه تعالى بمن سبق في علمه أن سيتخذه رسولا لخلقه وسفيرا بينه وبين عباده وليس ذلك ـ لعمر اللّه ـ خاصا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا بموسى لشخصهما الكريمين وإنما هو لكل واحد من أنبيائه ، إذا رجعت إلى القرآن الكريم رأيت هذا في قصص الأنبياء بينا واضحا ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (٤) ( قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَمٰا كٰانَ لَنٰا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطٰانٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ) (٥).

__________________

١ ـ سورة الطور ، الآية ٤٨.

٢ ـ سورة طه ، الآية ٣٩.

٣ ـ سورة طه ، الآية ٤١.

٤ ـ من سورة الشعراء.

٥ ـ سورة ابراهيم ، الآية ١١.

١٣

وعلى الأخص من هذا صفوة الأنبياء وأفضل المرسلين سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي نشئه اللّه أطيب نشأة وأزكاها وأطهرها وأبرأها وأبعدها من كل نقيصة أو دنية حتى كان زينة المجالس في قومه ، ومرجع الأحكام وموئل الكرم ومثال عزة النفس ، فكان موضع سرهم ، وحلال مشكلاتهم وحرز أماناتهم ، فما كان يدعي بينهم إلا بالأمين عليه الصلاة والسلام وحتى قالت له السيدة خديجة حين جاءه الوحي أول مرة وخاف على نفسه أن يعجز عن هذه الوظيفة : « إن اللّه لا يخزيك أبدا إنك لتحمل الكلّ وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق » (١).

وقال الإمام النووي في شرح مسلم في الكلام على حديث ضرب موسى للحجر حين عدا بثوبه ، فخرج يعدو وراءه عريانا ، ويقول : ثوبي حجر ، وطفق ضربا بالحجر يراه بنو إسرائيل فيتبين كذب افترائهم عليه إنه آدر ، قال النووي : ومن فوائد هذا الحديث ما قاله القاضي عياض وغيره : إن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين منزهون عن النقائص في الخلق والخلق ، سالمون من العاهات والمعايب ، قالوا : ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم بل نزههم اللّه من كل عيب وكل شيء يبغض العيون أو ينفر القلوب ا ه‍.

هذا ، وإن السبيل السوي والطريق الأقوم إلى معرفة أولئك الصفوة من خلق اللّه ، الذي سبقت لهم من اللّه الحسنى ، وسبقت لهم على أهل الأرض الأيادي البيضاء إنما هو كلام مصطفيهم ومختارهم ومجتباهم وباعثهم إلى الناس مبشرين ومنذرين ، وهداة مهتدين. ولقد قص اللّه

__________________

١ ـ رواه البخاري مع اختلاف في اللفظ.

١٤

في كتابه الكريم المنزل على خاتمهم وإمامهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من نبأ أولئك الأنبياء ما أبان عن جليل قدرهم وسامي مكانتهم وشريف مواقفهم في الذب عن دين اللّه الحق ، والصبر على ما لقوا من قومهم من أذى لا يصبر عليه ولا يطيقه إلا اولئك المرسلون الصادقون ، فحلوا من نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونفوس أصحابه وأتباعهم أكرم منزلة وأسمى مكانة وكانت لهم بهم أحسن قدوة. وذلك هو الذي قصد اللّه تعالى إليه وأراده من هذه القصص ، وما زاد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أصحابه عن هذا القدر الطيب النافع ، وما سمعنا عن أحد منهم أنه ناقش النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في كيف أكل آدم من الشجرة وكيف عصى ربه؟ وهذا القصص الذي هو أصرح شيء في وصف المعصية ، ولا ناقشوا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في غير آدم من الأنبياء على هذا المنحى الذي نحاه المتأخرون ، ولا واللّه ما كان أولئك الصحابة أقل معرفة لمكانة الأنبياء من أولئك المتأخرين ، ولا أقل احتراما وإجلالا لشأنهم من أولئك المتكلفين ما لا يعنيهم والداخلين فيما ليس من شئونهم. وإنما هي القلوب السليمة ، والقلوب السقيمة.

فأما الصحابة فكانت قلوبهم على فطرتها السليمة بعيدة من شكوك الشياطين وشبهاتهم فنزل عليها كلام اللّه بردا وسلاما وسالت أوديتها بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ، بقيت القلوب مفعمة بذلك العلم الصافي من أقوال الخلق وأهوائهم وكانوا كلما تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا على إيمانهم وهداية على هدايتهم ونورا على نورهم ( أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) (١) ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَاَلْفُسُوقَ وَاَلْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلرّٰاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَنِعْمَةً ) (٢).

__________________

١ ـ سورة المجادلة ، الآية ٢٢.

٢ ـ سورة الحجرات ، الآية ٧ ـ ٨.

١٥

وأما القلوب السقيمة فهي قلوب المتأخرين الذين فتح عليهم الشيطان بابا واسعا من فنون الجدل وكثرة القيل والقال والمماحكات اللفظية وأقوال أهل الكتاب من اليهود أشد الناس كراهية للأنبياء وتحقيرا لهم ومشاقة لهم وكفرا بهم وتقتيلا ( إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَيَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّٰاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَاَلْآخِرَةِ وَمٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ ) (١) ( ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كٰانُوا يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَيَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) (٢) ومن النصارى الضلال الذين غلوا في دينهم غير الحق بجهلهم وعمى بصائرهم حتى اتخذوا عيسى وأمه إلهين من دون اللّه واتخذوا غيرهما كذلك من قساوستهم ورهبانهم. ومن فلسفة أرسطو وإخوانه الذين كانوا يعبدون الأصنام ويكفرون باللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وزعم لهم شياطين الجن والأنس أن هذه الفلسفة هي ميزان العقل الذي لا يميل وأن قضاياها المنطقية مسلمات وأن الواجب عرض ما جاءت به الأنبياء على هذه القضايا فما وافقها فهو المقبول وما خالفها لا تعبأوا به شيئا واطلبوا له وجوه الرد بكل ما تقدرون من تحريف وتأويل ودعوى أنه ظني وأنه خبر آحاد وغير ذلك من كل ما يعزله عن وظيفته ويطمس نور حقيقته.

فلما فتح الشيطان هذا الباب ، وأسقم القلوب بهذه العلل أخذ يخادع أصحابها عن أنفسهم ويوهمهم أنهم لا يزالون على الهدى المستقيم وشغلهم بالمماحكات اللفظية عن المواعظ القلبية والهدايات الروحية فجرهم ذلك كله إلى مناقشة هذا القصص القرآني مناقشات بعيدة عن الهدى والصواب وخاضوا فيما لم يخض فيه الأنبياء وأتباعهم ، بل فيما خاض فيه اليهود

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ٢١ ـ ٢٢.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٨٢.

١٦

والنصارى وإخوانهم ، وأخذوا يتخبطون في سبيلهم تخبط الأعمى الأصم على غير هدى ولا نور.

وقد تفرقت الأمة على هذه القلوب والعلوم والفلسفات فرقا شتى وطرائق قددا ، كل فرقة قد أخذت من مشابهة هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء من يهود ونصارى وفروخ اليونان بحظ ونصيب قل أو كثر على قدر افتتانهم بشبهاتهم وبعدهم عن طريق الأنبياء وهدى المرسلين وهو القرآن الذي ( لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١) وما صح من قول الرسول المبلغ عن اللّه والمبين لما نزل عليه ، وما وقى اللّه من شر هذه الفتنة إلا أهل الحديث المتبعين للأثر الذين جعلوا عقولهم وآراءهم تحت حكم ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم استمساكا بالعروة الوثقى والحبل المتين ( وَلَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوٰاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَاَلْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) (٢) « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » (٣) صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم.

وإن أقرب فرق هذه الأمة إلى اليهود وأشدها مشابهة لهم في أخلاقهم وأقوالهم وقلوبهم وأعمالهم فرقة الروافض فإنهم زعموا العصمة لائمتهم كعصمة الأنبياء أو أعظم وضلوا ، فإنما فضيلة الأنبياء وعلو قدرهم بأن اللّه تعالى وهبهم من العصمة والكمال بالرسالة والوحي ما لم يشاركهم فيه أحد ولا يساويهم فيه بشر آخر ، وإلا لم يكن لهم فضل ولا مزية ، وكانت القدوة بغيرهم مساوية للقدوة بهم ، والأخذ عنهم كالأخذ عن غيرهم ، وتلك هي مقالة أهل الكتاب وعقيدتهم ( اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَرُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ) (٤) وكانوا يكتبون لهم الكتاب بأيديهم

__________________

١ ـ سورة فصلت ، الآية ٤٢.

٢ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٧١.

٣ ـ قال النووي : حديث حسن صحيح.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية ٣١.

١٧

( يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا يَكْسِبُونَ ) (١) والرافضة ورثوا عن اليهود عداوة الأنبياء وقالة السوء فيهم وإشراكهم أئمتهم في العصمة وادعاء أن كل ما قالوه شرع يتبع ودين يدان اللّه تعالى به. وجوزوا على الأنبياء المعصية ولم يجوزوها على ائمتهم وموهوا في ترويج فريتهم وباطلهم بأن الأنبياء إذا عصوا ردهم الوحي إلى الصواب وائمتهم لا وحي يردهم وإنما تنطوي هذه المقالة الشنيعة على تفضيل ائمتهم على الأنبياء ، وذلك واضح منها جلي مهما حاولوا إخفاءه بالتمويه. وقد أخذ بعض المتصوفة عن الرافضة هذه المقالة الشنيعة وزادوا عليها بلاء ، إذ زعموا أن الأولياء أفضل من الأنبياء ، كما قال ذلك ابن عربي الحاتمي الطائي (٢) وغيره في كتبهم المتداولة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة في الرد على ابن المطهر الرافضي ، قال الأشعري في المقالات : واختلف الروافض في الرسول : هل يجوز عليه أن يعصي أم لا؟ وهم فرقتان. فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصي اللّه. وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر. فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم. فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل اللّه والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون. فلا يجوز عليهم السهو ولا أن يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان. والقائل بهذا القول هشام بن الحكم والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصي اللّه عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج اللّه وهم معصومون من الزلل » ا ه‍.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٧٩.

٢ ـ الذي تعلمه ان هذا الامر نقل عنه ولم نر له رأيا يفيد هذا المعنى صراحة.

١٨

وقال أبو محمد بن حزم في الملل والنحل : رأينا المعروف بابن الطيب الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل : أنه قد يكون في الناس بعد النبي من هو أفضل من النبي من حين يبعث إلى حين يموت ، فاستعظمنا ذلك. وهذا شرك مجرد وقدح في النبوة لا خفاء به. وقد كنا نسمع عن قوم من المتصوفة إنهم يقولون : أن الولي أفضل من النبي وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ باللّه من الارتداد. قال أبو محمد : ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة إلى « أفضل » ويدري فضيلة النبوة لما انطلق لسانه بهذا الكفر. وهذا التكذيب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذ يقول :

« إني لأتقاكم اللّه (١) ـ وإني لست كهيئتكم (٢) ـ وإني لست مثلكم » فإذ قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئات ، وأن من اجترح السيئات لا يساويهم عند اللّه عز وجل فالأنبياء عليهم السلام هم أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام بقول اللّه عز وجل ( اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ اَلنّٰاسِ ) فأخبر اللّه تعالى أن الرسل صفوته من خلقه » ا ه‍ (٣).

وقد غلا جماعة فجهلوا معنى المعصية وردوا الأحاديث الصحيحة يجهلهم وغلوهم هذا إذا قالوا : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يجوز عليه السهو ولا النسيان ظنا منهم أن هذا السهو معصية. وهذا من أبطل الباطل ، وقال أبو محمد بن حزم في الملل والنحل : فإن قال قائل : فهلا نفيتم عنهم السهو بدليل الندب إلى التأسي بهم؟ قلنا وباللّه تعالى التوفيق : إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق ، والسهو منهم قد ثبت بيقين

__________________

١ ـ قسم من حديث الرهط الثلاثة رواه البخاري ومسلم.

٢ ـ قسم من حديث الوصال في الصوم رواه البخاري.

٣ ـ سورة الحج ، الآية ٧٥.

١٩

وأيضا فإن ندب اللّه تعالى لنا إلى التأسي بهم لا يمنع من وقوع السهو منهم ، لأن التأسي بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ، ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو ، لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهوا.

ولا يجوز أيضا أن ننهى عن السهو ، لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا ، وقد قال تعالى : ( لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا ) (١) ونقول أيضا : إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ سها ، وأيضا فإن اللّه تعالى لا يقر الأنبياء عليهم السلام على السهو بل ينبههم في الوقت ، ولو لم يفعل تعالى ذلك لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين. وهذا تكذيب للّه عز وجل إذ يقول : ( تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) وإذ يقول : ( اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٣) إلى أن قال : وما نعلم أهل قرية أشد سعيا في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة ـ يعني ابن الباقلاني وشيعته ـ فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه وصرحت هذه الفئة ـ مع ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي ـ بأن اللّه تعالى تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا وأنه لا حكم للّه إلا ما غلب عليه ظن المرء منا وإن كان مختلفا متناقضا. وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن نعوذ باللّه من الضلال » ا ه‍.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة : « وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد حيث ادعوا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يسهو. فإن هذا لا أعلم أحدا يوافقهم عليه ، اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك ،

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٨٦.

٢ ـ سورة النحل ٨٩.

٣ ـ سورة المائدة الآية ٣.

٢٠