عصمة الأنبياء

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

عصمة الأنبياء

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٤٤

( وأما السادس ) فجوابه : أنه ليس في الآية إلا أنه أخرج من الجنة عند إقدامه على هذا الفعل ، أو لأجل إقدامه على هذا الفعل ، وذلك لا يدل على أن ذلك الإخراج كان على سبيل التنكيل والاستخفاف ، وكيف واللّه تعالى إنما خلق آدم ليكون خليفه في الأرض؟ فلما كان المقصود الأصلي من خلقه ذلك؛ فكيف يقال : إنه وقع ذلك عقوبة واستخفافا ، الذي يدل على أنه لا بد من المصير إلى الوجوه التي ذكرناها هو أنه عليه الصلاة والسلام لو كان عاصيا في الحقيقة وكان ظالما في الحقيقة لوجب الحكم عليه بأنه كان مستحقا للنار ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ ) (١) وبأنه كان ملعونا لقوله تعالى ( أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ) (٢) فلما اجتمعت الأمة على أن ذلك لا يجوز علمنا قطعا أنه لا بد من التأويل وباللّه التوفيق.

الشبهة الثانية

تمسكوا بقوله تعالى ( هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّٰا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّٰهَ رَبَّهُمٰا لَئِنْ آتَيْتَنٰا صٰالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ ، فَلَمّٰا آتٰاهُمٰا صٰالِحاً جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ فِيمٰا آتٰاهُمٰا فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ ) (٣).

قالوا : لا شك أن النفس الواحدة هي آدم ، وزوجها المخلوق منها هي حواء فهذه الكنايات عائدة إليهما قوله تعالى : ( جَعَلاٰ لَهُ

__________________

١ ـ سورة الجن الآية ٢٣.

٢ ـ سورة هود الآية ١٨.

٣ ـ سورة الأعراف الآية ١٨٩ ـ ١٩٠.

٤١

شُرَكٰاءَ فِيمٰا آتٰاهُمٰا فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ ) يقتضي صدور الشرك عنهما.

ثم قالوا : إن إبليس لما أن حملت حواء عرض لها ولد فقال لها : إن أحببت أن يعيش ولدك فسميه بعبد الحارث وكان إبليس يسمى الحارث ، فلما ولدت سمته بهذه التسمية فلذا قال اللّه تعالى : ( جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ فِيمٰا آتٰاهُمٰا ).

( والجواب ) الصحيح أنا لا نسلم أن النفس الواحدة في هذه الآية هي آدم عليه السلام ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، بل نقول : الخطاب لقريش ، وهو آل قصى. والمعنى خلقكم من نفس قصى وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها. فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السمي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف. وعبد العزى. وعبد قصى. وعبد الدار ، والضمير في ( يشركون) لهما ولأعقابهما.

وذكروا وجوها أخر سوى ما ذكرناه وهي بأسرها ضعيفة :

( أولها ) أن الكنايات كلها عن آدم وحواء ، إلا في ( جعلا ) و ( يشركون آفإنهما يرجعان إلى نسلهما وعقبهما ، ويكون تقدير الكلام : فلما أتى اللّه آدم وحواء الولد الصالح الذي طلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير اللّه ، وإنما ثنى ذكرهما لأنهما جنسان من ذكر وأنثى ، ويقوى هذا التأويل قوله ( فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ ) وذلك يدل على أن المراد بالتثنية ما ذكرناه من الجنسين.

( وثانيهما ) أن قوله ( مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ ) هو آدم وجعل من تلك النفس زوجها ، وهي حواء ، إلى هاهنا حديث آدم وحواء.

ثم خص بالذكر المشركين من أولاد آدم الذين سألوا ما سألوا

٤٢

وجعلوا له شركاء. ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص بعض المذكور بالذكر. ومثله كثير في الكلام. قال اللّه تعالى ( هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَاَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (١) فعم جميع الخلق في أول الآية ثم خص في آخرها بعضهم. فكذا هاهنا.

( واعلم ) أن هذين يقتضيان في الكنايات المتوالية عقيب مذكور واحد صرف بعضها إلى المذكور وبعضها إلى شيء آخر. وذلك يفكك النظم.

( وثالثها ) أن تكون الهاء في قوله تعالى ( جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ ) راجعة إلى الولد ، لا إلى اللّه تعالى. ويكون المعنى إنهما طلبا من اللّه تعالى ابنا لا الولد الصالح وهو كقوله : طلبت مني درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه.

وهذا ضعيف لوجهين ( أحدهما) أن الهاء في قوله ( له ) لما عاد إلى الولد يصير قوله تعالى فلما آتاهما صالحا.

( الثاني ) وهو أنه يصير قوله تعالى ( فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ ) منقطعا عما قبله وذلك يوجب الركاكة. فهذا هو الكلام على الآية.

وأما الرواية التي ذكروها فهي ضعيفة لوجوه ثلاثة :

( الأول ) أنها من باب الآحاد فلا يكون مقبولا في العلميات.

( الثاني ) أنه إما أن يقال : بأن آدم وحواء اعتقدا أن الولد من خلق إبليس أو لم يعتقدا ذلك ولكنهما سميا ولدهما بعبد الحارث مع أن الحارث كان اسم إبليس ، فإن كان الأول لزم أن يكون آدم وحواء قد اعتقدا آلهية إبليس ، وذلك مما لا يذهب إليه عاقل. وإن

__________________

١ ـ سورة يونس الآية ٢٢.

٤٣

كان الثاني لم يلزم منه الكفر والشرك ، لأن الاعلام تفيد تسمية الولد بعبد الحارث لا تفيد كونه عبد الحارث ، فإن الأعلام قائمة مقام الإشارة فقط ولا يلزم منه الكفر والفسق أصلا.

( الثالث ) أن العداوة الشديدة التي كانت من آدم وإبليس من أول الأمر إلى وقت ذلك الحمل مانعة لآدم من الاغترار به.

هب أن آدم لم يكن نبيا ولم يكن مسلما ، أما كان عاقلا؟ فصحّ أن هذه الرواية الخبيئة لا يجوز أن يقبلها عاقل فضلا عن مسلم (١).

__________________

١ ـ قال الامام الحافظ أبو محمد بن حزم في كتاب الملل والنحل : وهذا الذي نسبوه الى آدم عليه السلام من انه سمى ابنه عبد الحرث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء ولم يصح سندها قط وانما نزلت الآية في المشركين على ظاهرها ا ه‍. والعجب أن ابن جرير ادعى الاجماع عليها. ثم اخذ يتمحل لذلك محلات بعيدة سخيفة فغفر اللّه له ولمن تبعه على هذه الخرافة.

٤٤

قصة نوح عليه السلام

( وفيها شبهات )

( الشبهة الأولى ) تمسكوا بقوله تعالى : ( وَنٰادىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقٰالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحٰاكِمِينَ قٰالَ : يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ ) (١) من وجهين :

( الأول ) أن قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ ) يدل على أنه لم يكن ابنا ، وإذا كان كذلك كان قوله ( إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي ) كذبا ، وهو معصية.

( الثاني ) أن سؤال نوح عليه السلام كان معصية لثلاث آيات :

( أحدها ) قوله ( فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ ) (٢).

__________________

١ ـ سورة هود الآية ٤٥ ـ ٤٦.

٢ ـ قال أبو محمد بن حزم : وهذا لا حجة لهم فيه ، لان نوحا عليه السلام تأول وعد اللّه تعالى ان يخلصه وأهله ، فظن ان ابنه من أهله على ظاهر القرابة وهذا لو فعله أحد كان مأجورا ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك نهى عن أن يكون من الجاهلين فندم عليه السلام ونزع وليس هاهنا عمد للمعصية البتة.

٤٥

( وثانيها ) قوله خبرا عن نوح ( قٰالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ ).

( وثالثها ) قوله ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ ) وفيها قراءتان قراءة الكسائي عمل غير صالح ، والمعنى أن ابنك عمل غير صالح والباقون بالتنوين والرفع. والأول مرجوح لأنه يقتضي إضمار الموصوف (١) وهو على خلاف الأصل فتعينت القراءة الثانية ، والهاء في قوله :

( إنه ) ضمير والضمير لا بد وأن يكون عائدا إلى مذكور سابق والمذكور السابق هاهنا إما السؤال وإما الابن لا يجوز عوده إلى الابن لأن الابن لا يكون عملا غير صالح بل ذا عمل غير صالح ، فيقتضي الإضمار وإنه خلاف الأصل. فثبت أن الضمير عائد إلى السؤال فثبت أن ذلك كان عملا غير صالح.

( والجواب ) : عن الأول أن المفسرين اختلفوا في هذا الابن على ثلاثة أقوال :

( الأول ) فالأكثرون على أنه كان ابنا له لصلبه وهو الأقوى لقوله تعالى ( وَنٰادىٰ نُوحٌ اِبْنَهُ ) ، ثم اختلفوا فمنهم من قال ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك ، وقيل : ليس من أهل دينك وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة وميمون بن مهران.

( الثاني ) أنه كان ابن امرأته إلا أنه لاختلاطه بأبنائه وأهل بيته

__________________

١ ـ موصوف (غير) أي عمل عملا غير صالح قال الشريف الرضى : ومع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام الى الابن دون سؤال نوح. وقد قوى الشريف هذه القراءة وساق عليها شواهد من كلام العرب.

٤٦

أطلق عليه لفظ الابن ، كما أن ابليس لاختلاطه بالملائكة اطلق عليه اسم الملك. ويدل عليه قوله (إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي ) ولم : ويروى ذلك عن الباقين (١).

( الثالث ) أنه ولد على فراشه لغير رشدة (٢) ، وهو المروي عن الحسن ومجاهد وابن جريج وعبيد بن عمير.

وهذان القولان ضعيفان ، لقوله تعالى ( وَنٰادىٰ نُوحٌ اِبْنَهُ ) والثالث أضعف لأنه يجب تنزيه منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة (٣).

وعن الشبهة الثانية : أنا لا نسلم أنه دعا لابنه مطلقا ، بل يشترط الإيمان لا يقال : فلم قال اللّه تعالى ( فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقال ( إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ ) وقال نوح ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ )؟ لأنا نقول : يمتنع أن يكون نوح عليه السلام نهى عن ذلك وإن لم يقع ذلك منه ، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام نهى عن الشرك لقوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) وإن لم يقع ذلك منه؛ فأما قوله تعالى ( إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ ) فمعناه أن لا تكون منهم. ولا شك أن وعظه تعالى الذي صرف نوحا عليه السلام عن الجهل. وأما قول نوح عليه السلام ( إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) فلا دلالة فيه على أنه فعل ذلك سلمنا أنه دعا له مطلقا ، ولكن لشفقته الطبيعية قال ما قال ، والعقل لا ينكر الدعاء للكافر ، وإنما يمنع منه الشرع ، فلعله دعاء بمقتضى الطبع إلى أن ورد الشرع بالنهي عنه.

__________________

١ ـ وهو قول محمد بن علي الباقر والحسن البصري ، كما يروى ان عليا قرأ « ونادى نوح ابنها » والضمير لامرأته ، (مفاتيح الغيب ٥ / ٦٢).

٢ ـ يريد أنه كان ولد زنى ، يقال : هذا ولد رشدة اذا كان لنكاح صحيح ، أما يقال ضده : ولد زنية.

٣ ـ قال المؤلف عن هذا الرأي في تفسيره ٥ / ٦٣ : وهذا قول خبيث.

٤٧

لا يقال : فلم سأل من غير إذن؟ لأنا نقول : لما لم يجد نصا مانعا منه تمسك في الجواز بالإباحة الأصلية ، أو نقول : إنما كان مسلما في الظاهر ، وكان نوح عليه السلام مأذونا في الدعاء للمسلمين فدعا له بحكم الظاهر وذلك جائز لقوله عليه السلام « نحن نحكم بالظاهر » (١) أو نقول : هب أنه أخطأ في ذلك ، لكن إن قلت : إن ذلك من الكبائر لقوله هذا سؤال ( عمل غير صالح ) قلنا : لا نسلم والتعويل في تغيير هذا القسم على كون الإضمار بخلاف الأصل ضعيف لأن الأدلة الدالة على عصمة الأنبياء أقوى من الدليل الدال على كون الإضمار بخلاف الأصل.

__________________

١ ـ لا يعرف بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف. ولكن المشهور « أمرت أن أحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر » ذكر العجلوني في كشف الخفاء وقال قال في اللآلي هو غير ثابت بهذا اللفظ. ولعله مروي بالمعنى من أحاديث صحيحة ذكرتها في الاقضية من الذهب الابريز. وقال في المقاصد : اشتهر بين الاصوليين والفقهاء بل وقع في شرح النووي لمسلم في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم « اني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم » ما نصه : معناه « أني أمرت بالحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر » كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ا ه‍ قال : ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ولا الاجزاء المنثورة. وجزم الحافظ العراقي بأنه لا أصل له وكذا المزى وغيره. وقال القاري : وممن أنكره الحافظ ابن الملقن في تخريج أحاديث البيضاوي. وقال الزركشي لا يعرف بهذا اللفظ وقد أطال العجلوني الكلام على هذا الحديث فارجع إليه ان شئت.

٤٨

قصة إبراهيم عليه السلام

تمسكوا بها (١) من وجوه تسعة :

( الشبهة الأولى ) قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام ( قٰالَ هٰذٰا رَبِّي ) (٢) فلا يخلو إما أن يقال : إنه قال هذا الكلام في النظر والاستدلال ، أو بعده. فإن كان الأول كان قطعه بذلك مع تجويزه أن يكون الأمر بخلافه إخبارا عما يجوز المخبر كونه كاذبا فيه. وذلك غير جائز.

وإن كان الثاني كان ذلك كذبا قطعا ، بل كفرا قطعا.

( والجواب ) قيل : إنه من كلام إبراهيم قبل البلوغ. فإنه لما خطر بباله قبيل بلوغه حد التكليف إثبات الصانع ففكر فرأى النجوم ، فقال ( هذا ربي ) فلما شاهد حركتها قال : لا بد أن تكون ربا. وكذا الشمس والقمر فبلغه اللّه تعالى في أثناء ذلك حد التكليف ، فقال ( إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ ) (٣) وإنما بلغ ذلك في النجوم والشمس والقمر لما فيه من العلو والنور.

ومنهم من سلم أنه كان كلام إبراهيم بعد البلوغ ثم اختلفوا فمنهم من قال : يجوز أن يكون ذلك كلامه حال اشتغاله بالنظر والاستدلال

__________________

١ ـ أي يشبهه عصمته.

٢ ـ سورة الانعام الآية ٧٦.

٣ ـ سورة الانعام الآية ٧٨.

٤٩

ثم إنه لم يقل ( هذا ربي ) على سبيل الإخبار بل على سبيل الفرض كما أن الواحد منا إذا نظر في حدوث الأجسام فيقول : الجسم قديم؟ لا لأن مراده الإخبار عن قدم الأجسام ، بل لأنه يفرضها قديمة ليظهر ما يؤدي ذلك الفرض إليه من الفساد. فكذا هاهنا فرض ثم عقبه بما يدل على فساده وهو قوله ( لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ ).

ومنهم من قال : تكلم بذلك بعد فراغه من النظر وصيرورته موقنا باللّه ، ثم اختلفوا فيه على وجوه خمسة فقيل : تكلم بذلك على معنى أن الأمر كذلك عندهم كما يقول أحدنا للمشبه على سبيل الإنكار إن إلهه جسم متغير. وقال تعالى : ( وَاُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ ) (١) أي في زعمك.

وقيل : المراد منه الاستفهام ، إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه. وقيل : في الآية اختصار ، وتقديره يقولون هذا ربي ونظيره ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَإِسْمٰاعِيلُ رَبَّنٰا ) (٢) أي ويقولان. وقيل : أراد إبراهيم أن يبطل قولهم بتعظيم الكواكب.

فأوهم من نفسه أنه يعظمها ، ثم عقبه بذكر الاستدلال على بطلانه وقيل : إنهم دعوه إلى عبادة النجوم فقال مبينا لهم خطأهم ( هذا ربي ) الذي تدعونني إلى عبادته.

والأصح من هذه الأقوال (٣) أن ذلك على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الاخبار ولذلك فإن اللّه تعالى لم يدم إبراهيم عليه السلام على ذلك بل ذكره بالمدح والتعظيم وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين.

هذا هو البحث المشهور في الآية.

__________________

١ ـ سورة طه الآية ٩٧.

٢ ـ سورة البقرة الآية ١٢٧.

٣ ـ وقد أفاض المؤلف في ذكر هذه الاقوال في تفسيره فلينظر ٤ / ٧٨.

٥٠

وفيها أبحاث أخر من حيث أن بعض الملاحدة قال : إن إبراهيم استدل على الشيء بما لا يدل عليه. وذكر أشياء لا تصح ، فكان الطعن متوجها ، ونحن نذكر كل واحد من تلك الأسئلة الأربعة عشرة مع جوابه.

( السؤال الأول ) قوله تعالى : ( فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً ) (١) دلت الآية على أنه نظر في حال الكواكب أولا ، ثم القمر ثانيا ، وفي حال الشمس ثالثا ، ولا شك أن تلك الليلة مسبوقة بنهار ، وأنه كانت الشمس طالعة ، فلم لم ينظر في النهار السابق على تلك الليلة في حال الشمس ، بل كان ذلك أولى لأن الشمس أعظم من القمر والكواكب ومتى ثبت أن الأعظم لا يصلح للآلهية فالأضعف أولى؟

( جوابه ) أن أم إبراهيم لخوفها عليه وضعته في كهف مظلم فلما تثبت وعقل دنا من الباب فرأى الكوكب ، فقد خطر بباله إثبات الصانع فقال ما قال (٢) وقيل : إنه كان لا يشار له إلى معبود ثم أشير إلى الكواكب فعند ذلك قال ما قال اعتبارا.

__________________

١ ـ سورة الانعام الآية ٧٦.

٢ ـ قال أبو محمد بن حزم : وأما قول ابراهيم اذ رأى الشمس والقمر (هذا ربي) فقال قوم ان ابراهيم قال ذلك محققا أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال. ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والتكليف بمثل هذا وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا. وقد أكذب اللّه هذا الظن الكاذب بقوله الصادق (وَلَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّٰا بِهِ عٰالِمِينَ) ـ الى أن قال ـ والصحيح من ذلك انه انما قال ذلك موبخا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الاصنام ولا فرق ـ الى أن قال : وبرهان قولنا هذا أن اللّه تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنٰا آتَيْنٰاهٰا إِبْرٰاهِيمَ عَلىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجٰاتٍ مَنْ نَشٰاءُ ) فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد اللّه.

٥١

( السؤال الثاني ) حدوث الكوكب معلوم بحركته ، فإنه لما تحرك ثبت أنه لا ينفك عن الحوادث ، فيكون محدثا فكان ينبغي أن يحتج عند طلوعه على حدوثه ، وأن لا يتوقف على أفوله.

( جوابه ) المراد بالأفول الهوى في حظيرة الإمكان ، فإن حركته تدل على كونه ممكنا لذاته ، والممكن لذاته معدوم لذاته موجود لغيره ، وذلك هو الأفول الحقيقي ، وأيضا فلأنه وإن كان لا يختلف الحال بين الطلوع والغروب في الحقيقة إلا أن الغروب أدل على عدم الإلهية عند العوام فلعله عدل إلى الأفول لهذا الغرض (١).

( السؤال الثالث ) أنه لما علم أن حركة الكوكب منتهية إلى الأفول وعلم أن الأفول يدل على الحدوث ثم رأى الشمس والقمر متحركين ، فكان ينبغي أن يقطع عليهما بالحدوث قبل أفولهما ، فلم وقت الأمر فيهما أيضا على الأفول؟

( جوابه ) أما إن حملنا الأفول على الهوى في مغرب الإمكان فقد اندفع الإشكال ، وإن حملناه على رعاية ما هو أظهر للعوام فكذلك.

( السؤال الرابع ) كيف قطع بغيبة الكوكب على حركته ، مع أن المحتمل أن يقال السماء واقفة والأرض متحركة؟

( جوابه ) غيبة الكوكب تقتضي حركة جسم ما فيلزم حدوث ذلك الجسم فيلزم حدوث كل جسم لأن الأجسام كلها متماثلة.

__________________

١ ـ يقول المؤلف في تفسيره ٤ / ٨٠ : ان الأفول أدل على المقصود لانه يعني زوال السلطان. ويرى أن الدلالة بالأفول من أحسن الكلام الذي يفهمه الخواص والاوساط والعوام. فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج ، والأوساط يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث ، والعوام يفهمون من الأفول ذهاب السلطان مما لا يصلح للإلهية.

٥٢

( السؤال الخامس ) : هب أنه استدل بحركة على حدوثه فكان ينبغي أن يقول عقيب فراغه من النظر : إني قضيت بحدوثه لكنه لم يفعل ذلك ، بل جعله نتيجة دليل إثبات الصانع ، فأين إحدى المسألتين من الأخرى؟

( جوابه ) : هذا تنبيه على أن العلم باحتياج المحدث إلى المحدث ضروري ، فلما كانت هذه المقدمة ضرورية لا جرم حذفها ، واستدل بالدليل الدال على حدوث العالم على ثبوت الصانع ولو لم تكن تلك المقدمة بديهية لكان هذا الاستدلال خطأ قطعا.

( السؤال السادس ) : هب أنه ثبت لإبراهيم عليه السلام بالدلالة التي ذكرها حدوث الأجسام وثبوت الصانع ، ولكن كيف استنتج منها فساد قوله : (هذا ربي) فإن من المحتمل أن الكواكب والسموات محدثة مخلوقة للّه تعالى ، ثم إنها تكون محدثة للبشر ، ولما في هذا العالم على ما يذهب إليه المعللون بالوسائط. فإن قلت : كان غرضه من هذا الاستدلال معرفته مقطع الحاجات ، فلما عرف أن السموات محدثة عرف أنها ليست مقطع الحاجات. قلت : ليس الأمر كذلك ، لأن أول الاستدلال في قوله : (هذا ربي) فكان مطلوبه أن الكوكب هل هو الشيء الذي يربيني ويخلقني؟ فكان المطلوب هذا لا ما ذكرته ، وأيضا بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فلم قال : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ ) (١) فإن بتقدير أن يكون خالقه هو السماء وجب عليه الاشتغال بشكره والإقبال على طاعته.

( جوابه ) : أن إبراهيم عليه السلام كان على مذهبنا (٢) في مسألة

__________________

١ ـ سورة الأنعام آية ٧٩.

٢ ـ أي في رأي المعتزلة.

٥٣

خلق الأفعال؛ فإنه لما عرف أنها محدثة عرف أنما ممكنة وكان من المعلوم أن المصحح لمقدورية اللّه تعالى هو الإمكان ، فعرف أن كل ممكن مقدور للّه تعالى فإنه لا يقع بقدرة غيره فعرف أن كل ممكن خرج من العدم إلى الوجود فلم يخرج إلا به فعلم أن خالقه ومربيه ليس الفلك ولا الملك بل هو اللّه الواحد القهار (١).

( السؤال السابع ) : كيف عرف أنه فطر السموات فإن بقي هاهنا احتمال آخر وهو أن الجسم وإن كان محدثا إلا أن هيولاه قديمة. وعلى هذا التقدير لا يكون هو تعالى فاطرها. ودليل الحركة لا يفيد إلا حدوث الجسم من حيث أنه جسم فأما حدوث الهيولي التي هي جزء ماهية الجسم فلا.

( وجوابه ) : لما عرف حدوث الجسم عرف لا محالة حدوث هيولاه لأن هيولاه لو كانت قديمة لكانت في الأزل قابلة للصورة ، لأن قابليتها لها لازمة لماهيتها ، ولو حصلت القابلية في الأزل لكان المقبول صحيح الوجود ، لأن القابلية نسبية وإمكان النسب متوقف على إمكان المنتسبين لكن المقبول لما كان ممتنع الوجود في الأزل فكانت القابلية كذلك فكان القابل كذلك ، فكان الكل كذلك.

( السؤال الثامن ) : كلمة ( الذي ) موضوعة لتعريف المفرد بقضية معلومة فيما قبل وكونه فاطر السموات والأرض لم يكن معلوما قبل ذلك إنما صار معلوما له في تلك الحالة فكيف قال ( للذي فطر السموات ).

( جوابه ) : أنه لما عرف أن العالم محدث انضمت إليه مقدمة أخرى ضرورية وهي أن كل محدث له محدث ، فتولد منهما بأن

__________________

١ ـ للمؤلف اشارات لطيفة في الرد على هذا الموضوع في تفسيره فلينظر / ٨١.

٥٤

العالم له صانع فصار علمه بافتقار العالم إلى الصانع علما جليا خاليا عن الشبهات ثم لما عرف وجود الصانع عرف أنه لا بد من القيام بشكره والاشتغال بطاعته ، فقال بعد ذلك ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ ) فكان المعنى : وجهت وجهي إلى ذلك الشيء (١) الذي ظهر في عقلي كونه فاطر السموات والأرض.

( السؤال التاسع ) : أنه لم يحتج إلا بحركة الكوكب على حدوثه فمن أين حكم بذلك على السموات والأرض بالحدوث ، والحاجة إلى المحدث؟

( جوابه ) : لما ثبت أن جسما ما محدث فكل جسم محدث لأن الأجسام كلها مماثلة ، وحكم الشيء حكم مثله ، وفي هذا الموضع تنبيه على أنه تعالى ليس بحسم من وجهين ( الأول ) أنه لما ثبت حدوث جسم فرع على تلك الدلالة حدوث جسم آخر ، وذلك إنما يصح إذا كانت الأجسام كلها متماثلة وذلك ينفي كونه تعالى جسما. (الثاني) أنه تعالى لو كان جسما لقال وجهت وجهي إلى الذي ، فلما قال (للذي) ولم يقل إلى الذي ، دل ذلك على أنه تعالى ليس بجسم.

( السؤال العاشر ) : لم قال ( وَمٰا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ) وأي دلالة في حدوث الأجسام على نفي الشرك ، والظاهر أنه لا يجوز أن يرتب على الدليل ما لا يكون لازما منه.

( جوابه ) : لما عرف حدوث الأجسام عرف أنّ محدثه قادر. وعرف

__________________

١ ـ التعبير بالشيء هنا في غاية الجفاء والسماجة ، وما ذا كان عليه لو قال ـ الى اللّه الذي ـ والذي جره الى هذا التعبير : انسياقه في هذا الحديث الذي لا قيمة له في اثبات عقيدة ولا لزوم له في تنزيه ابراهيم عليه السلام وكم جرت هذه البحوث المتكلفة الى فساد في التفكير وأبعدت عن هدى أصدق المؤمنين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم.

٥٥

أنه إنما صح منه أن يقدر على مقدور لكون ذلك المقدور ممكنا ، فعرف أن الإمكان هو المصحح للمقدورية ، فعرف أنه لو وجد لها آلهان لقدر كل واحد منهما على عين مقدور الآخر لكنه محال ، لما أنه يقتضي وقوع مقدور من قادرين من جهة واحدة هو محال ، لأنه يلزم استغناؤه بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، ولما كان ذلك باطلا كان القول بحدوث الأجسام نافيا للشرك من هذا الوجه. وهذه هي الأدلة الدالة على التوحيد ونفي الأضداد والأنداد في الذات والصفات والأفعال وهو اللّه تعالى واحد في ذاته لا شريك له وواحد في صفاته لا نظير له وواحد في الحلق والإيجاد لا شبيه له.

( السؤال الحادي عشر ) : ( فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ ) ابتدأ أولا بالنظر في الكواكب ، فلم لم يبتدئ بالنظر في نفسه ثم في أحوال هذا العالم من العناصر؟

( جوابه ) : الدليل الدال على حدوث الكواكب دال على حدوث العناصر ولا ينعكس فكان الاشتغال بالأعم أهم.

( السؤال الثاني عشر ) : هب أنه عرف أن للعالم صانعا. ولكن لم اشتغل بعبادته في الحال فقال : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ ).

( جوابه ) : من قال شكر المنعم واجب عقلا فلا إشكال عليه ومن لم يقل به حمل الآية على العلم دون العمل. وفيه إشكال لأن العلم أيضا عمل فقبل السمع أو لم يجز العمل لما جاز لإبراهيم هذا العمل.

( السؤال الثالث عشر ) لم قال : (وجهت وجهي للذي) ولم يقل وجهت قلبي ، مع أنه أولى.

( جوابه ) هذا يدل على أن الاعتقاد لا بدّ معه في تزكية الروح

٥٦

من العمل لأن الاعتقاد أرواح والأعمال قوالب ، والكمال لا يحصل إلا باجتماعهما وباللّه التوفيق.

( السؤال الرابع عشر ) : لم قدم السموات على الأرض؟

( جوابه ) : إن الاستدلال كان أولا على الكواكب والمجانسة بينها وبين الأفلاك أشد ، ثم بينها وبين العناصر ، فلذلك قدم السموات لأنها أشرف وأقوى وأعظم فأشكالها أشرف الأشكال وهو المستدير وألوانها أحسن الألوان وهو المستنير فأجسامها أصلب الأجسام فإنها السبع الشداد ، وهي محل البركات : ومنها تنزل الخيرات فلما فاقت السفليات في هذه الصفات قدمها في الذكر.

( الشبهة الثانية ) تمسكوا بقول اللّه تعالى مخبرا عن إبراهيم لما قال له قومه : ( أَأَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا يٰا إِبْرٰاهِيمُ؟ قٰالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا ) (١) وإنما عنى بالكبير الصنم وهذا كذب لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي كسر الأصنام فإضافة كسرها إلى غيره لا يكون إلا كذبا.

( الجواب ) : من وجوه (٢).

( الأول ) أنه كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله. و ( كَبِيرُهُمْ هٰذٰا ) ابتداء كلام. وروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى ( بَلْ فَعَلَهُ ) ثم يبتدئ ( كَبِيرُهُمْ هٰذٰا ).

( الثاني ) أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله تعالى ( كَبِيرُهُمْ

__________________

١ ـ سورة الأنبياء الآية ٦٢ ـ ٦٣.

٢ ـ ذكر المؤلف في تفسيره جوابا كان الاولى لو قاله هنا مفاده : لم يقصد ابراهيم أن ينسب الفعل الصادر عنه الى الصنم وانما قصد تقريره لنفسه واثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فرضه من الزامهم الحجة وتبكيتهم ٦ / ١٢٩.

٥٧

هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ ) والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم.

( الثالث ) أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال : بل كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطة بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين.

( الرابع ) أنه ذكر إلزاما على قولهم ، لأنه لما كان هو الإله الأكبر فكسر خدمه المقربين لديه لا يصدر إلا عنه.

( الخامس ) قرأ بعضهم (فعلّه كبيرهم هذا) أي فلعله ، وعلى هذا لا يكون كذبا لدخول حرف الشك (١).

( الشبهة الثالثة ) قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٢) والاستدلال من وجهين : ( الأول ) تمسك بعلم النجوم وهو غير لازم ( الثاني ) قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو كذب.

( الجواب ) قيل : أراد بنظره في النجوم والقمر والشمس حال كونه طالبا لمعرفة اللّه تعالى. وقوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أي لست على يقين من الأمر. ثم لما استدل بأفولها وغروبها على حدوثها وعرف اللّه تعالى زال ذلك الشك. وهذا ضعيف لأن اللّه تعالى قال : ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ إِذْ جٰاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مٰا ذٰا تَعْبُدُونَ ) (٣)

__________________

١ ـ قال الامام أبو محمد بن حزم : انما هو تقريع لهم وتوبيخ ، كما قال تعالى : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ ) وهو في الحقيقة مهان ذليل معذب في النار فكلا القولين توبيخ ظن قبلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا انه كريم عزيز. ولم يقل ابراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله. اذ الكذب انما هو الاخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصدا الى تحقيق ذلك.

٢ ـ سورة الصافات الآية ٨٨ ـ ٨٩.

٣ ـ سورة الصافات الآية ٨٣ ـ ٨٥.

٥٨

فدل ظاهر الآية على سلامة قلبه من الشك. ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الأصنام. فقال ( مٰا ذٰا تَعْبُدُونَ ) وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل. قال ( فَمٰا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ) وهذا قول عارف باللّه تعالى.

فالمعتمد أن يقول في الجواب عن الوجه الأول : لا نسلم أن النظر في النجوم حرام ، وذلك لأن من اعتقد أن اللّه تعالى أجرى العادة أنه مهما حدث فيما بينهما اتصال مخصوص خلق في هذا العالم حادثا مخصوصا واعتقد أن اللّه تعالى خلق فيها قوى وجعلها أسبابا لحدوث الحوادث في هذا العالم فعلى هذا التقدير لا نسلم أن النظر في النجوم حرام سلمنا كونه حراما ، ولكن لعل اللّه أخبر إبراهيم عليه السلام بأنه مهما طلع النجم الفلاني فإنك تمرض. فنظر في النجوم فلما مرّ به قال إني سقيم.

سلمنا أن ذلك أيضا لم يكن ، لكن من المحتمل أنه حين نظر في النجوم تشبها بأهل زمانه في الظاهر وحكم أنه سقيم إيهاما على قومه أنه استدل على ذلك بالنجوم وإن كان الأمر في نفسه ليس كذلك.

( وأما الوجه الثاني ) : فالجواب عنه لا نسلم أنه ما كان سقيما في تلك الساعة الآتية : كما إذا علمت أنك ستصير محموما وقت الظهر ثم إن واحدا يدعوك إلى الضيافة بحيث تعلم أنه لا بد من الجلوس مع القوم وقت الظهر فتقول إني محموم ، وتعني به أني أكون محموما في ذلك الوقت وأيضا لعله لما كان مشرفا على السقم سمى نفسه سقيما كما في قوله تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (١) وأيضا أراد إني سقيم القلب والمراد ما في قلبه من الحزن والغم بسبب كفرهم وعنادهم.

فإن قلت : روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم

__________________

١ ـ سورة الزمر الآية ٣٠.

٥٩

هذا ، وقوله لسارة : إنها أختي » (١) قلت : هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه ، ثم إن صح حمل على ما يكون ظاهره الكذب. فأما قوله لسارة : « إنها أختي » فمعناه أنها أختي في الدين ، أو نظرا إلى انتسابهما إلى آدم أو إلى سائر الأجداد.

( الشبهة الرابعة ) تمسكوا بقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرٰاهِيمَ ) (٢) الآية انتقل من دليل إلى دليل. وهذا يدل على عجزه عن نصره دليله الأول. وأيضا فكان من الواجب عليه دفع ذلك السؤال وإزالة تلك الشبهة فكان الإعراض عنه ذنبا عظيما.

( والجواب ) : أن الدليل واحد لم ينتقل إلى غيره ، ولكن انتقل من مثال إلى مثال آخر لعلمه بقصور فهم المخاطب عن إدراكه المقصود من المثال الأول. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام استدل بحدوث حادث يعلم كل أحد عاقل بالضرورة عجز البشر عنه؛ وذلك يفيد العلم بوجود الإله تعالى. وهذه القضية الكلية لها جزئيات منها الاحياء والإماتة ، ثم إن نمروذ دعا برجلين. فقتل أحدهما ولم يقتل الآخر. فقال عند ذلك : ( أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) وكان إبراهيم قادرا على أن يقول : لست أعني به الإحياء والإماتة بهذا التفسير ، وإنما المراد منه شيء آخر لعلم كل أحد بالضرورة عجز البشر عنه ، إلا أنه عليه السلام مبالغة في الإيضاح عدل عن ذلك المثال إلى آخر وهو طلوع الشمس وغروبها. فظهر أنه لم يحصل منه الانتقال من الاستدلال إلى الاستدلال بل من المثال إلى مثال آخر.

ثم هاهنا بحث وهو أن الغرض من هذا الاستدلال إما إثبات الإله للعالم ونفي كون نمروذ إلها ، أو نفي كونه شريكا للّه تعالى. فإن كان

__________________

١ ـ الحديث رواه البخاري ومسلم والامام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.

٢ ـ سورة البقرة الآية ٢٥٨.

٦٠