عصمة الأنبياء

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

عصمة الأنبياء

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٤٤

فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والانقياد لما لا يعلم صحته والطائفتان شبيهتان بالنصارى في ذلك. وقد تقرب إليهم بعض المصنفين من الغلاة في مسألة العصمة » ا ه‍.

وإنا لنعلم علما ضروريا أن أول من عرف الأنبياء وسمع أحاديثهم والحديث عنهم من هذه الأمة هم الصحابة رضي اللّه عنهم وبين ظهرانيهم نزل جبريل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله تعالى : ( مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيٰا وَاَللّٰهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَاَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ ) (١) ويشهدون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين تنزل عليه هذه الآيات في أسرى بدر يبكي هو وأبو بكر ويبكي عمر لبكائهما وينزل جبريل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : ( إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمٰا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً ) (٢) ويسمعون غير هذا من آيات القرآن الكريم من قصة زيد وزينب وأضرابها وأشباهها ويسمعون قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا » (٣) وقوله : « توبوا إلى اللّه فإني أتوب إلى اللّه في اليوم مائة مرة » (٤) وقوله : « اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري. وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي » (٥) إلى غير ذلك من ادعيته الكثيرة المشهورة في مثل هذا ، يسمع الصحابة رضي اللّه عنهم كل هذا ولا يزدادون إلا حبا لهذا القائل صلّى اللّه عليه وسلّم وتعلقا به وطاعة له ،

__________________

١ ـ سورة الانفال آية ٦٧ ـ ٦٨.

٢ ـ سورة الفتح الآية ١ ـ ٢.

٣ ـ رواه الترمذي والدارمي والنسائي وابن حنبل.

٤ ـ رواه مسلم ولفظه ( .. واستغفروه فاني .. ) الحديث.

٥ ـ متفق عليه.

٢١

حتى ليجعلون صدورهم دون صدره ، ويفدونه بأنفسهم وكل غال ويبذلونها في نشر دينه وملته؛ ويحملون أشق الصعاب في سبيل هذا طيبة به نفوسهم ، لا يرون ذلك إلا سعادة ونعيما حتى علت كلمة اللّه على كل كلمة ، وأتم اللّه نوره وأتم على الإسلام نعمته.

ثم نرى اولئك المتكلفين الذب عن الأنبياء والدفاع عن عصمتهم والمسودين الصحف في محاولة تنزيههم لا يذكرون شيئا بجانب اولئك الصحابة ، لا في حب الأنبياء ولا في اتباعهم ، ولا في جهاد اعدائهم ولا في بذل النفوس والأموال في سبيل مرضاتهم ونصرهم. أليس هذه من أعجب العجب؟

هذا وقد ألف الشريف المرتضى في هذا الباب كتابا أسماه (تنزيه الأنبياء) زعم فيه كذبا وباطلا أن أهل الحديث يجوزون على الأنبياء الكبيرة قبل النبوة. ومما يدلك على كذب هذا وافترائه ما قال الإمام أبو محمد بن حزم من ائمة أهل الحديث في الملل : فبيقين ندري أن اللّه تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية من أولاد بغي أو من بغايا بل بعثهم اللّه في حسب قومهم فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن اللّه تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة ا ه‍ ، وقد اعتمد الشريف المرتضى في كتابه هذا على عقله في أكثر كلامه وحجابه ، حتى أنه أورد في الكلام على نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم عدة أحاديث متواترة اللفظ والمعنى ثم ردها بأدلة العقول التي لا يدخلها ـ عنده ـ الاحتمال والمجاز فكان في أكثر ما أتى به غير موفق. وإنه ليغلب على ظني أنه إنما حمله على صنع كتابه هذا حرصه على عصمة ائمتهم ، وإنما اتخذ من ذكر الأنبياء دهليزا للدخول على مقصده. فإنك تجده ذكر ثلاثة عشر نبيا تكلم عليهم في مائة وتسع وأربعين صفحة بها فيهم نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وسود خمسين صفحة في دعوى عصمة خمسة من ائمتهم ، حشاها

٢٢

بالدعاوى الباطلة والحجج الواهية والقول الزور مما يؤمن كل الإيمان بأن الإمام عليا وولديه الحسنين وذريتهم الطيبين رضي اللّه عنهم في غنى عنه وبراء منه ومن أن يدعي لهم مساواة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي أكسبهم اللّه به هذا الشرف والسعادة ، بل وبرآء من أن يدعي لهم مساواة من فضلهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم كأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما.

ثم ألف من بعده فخر الدين الرازي كتاب عصمة الأنبياء هذا الذي نقدمه للقراء ، وسار فيه على نهج الشريف المرتضى من الحجاج العقلي والإعراض عن النصوص ، ورميها بأنها ظنية ، لأنها خبر آحاد ، أو لأنها لفظية أو نحو ذلك ووقع في مثل ما وقع فيه الشريف المرتضى من الطعن على أهل الحديث الذين هم أعرف الناس بحقوق الأنبياء واتبع الناس لسبيلهم غير أنه أجاد في مواضع من الكتاب على اختصار ونزه كتابه عن دعوى العصمة لغير الأنبياء.

وفاتني أن أعلق على قصة داود في أثناء الطبع بكلام نفيس ذكره الإمام تقي الدين السبكي في فتاويه. فإتماما للفائدة أنقله هنا برمته.

« تكلم الناس في قصة داود عليه السلام وأكثروا. وذلك مشهور جدا. وذكروا أمورا منها ما هو منكر عند العلماء جدا. ومنها ما ارتضاه بعضهم وهو عندي منكر. وتأملت القرآن فظهر لي فيه وجه خلاف ذلك كله. فإني نظرت قوله تعالى : ( فَغَفَرْنٰا لَهُ ذٰلِكَ ) (١) فوجدته يقتضي أن المغفور في الآية. فطلبته فوجدته أحد ثلاثة أمور : إما ظنه أن اللّه فتنه ، وإما اشتغاله بالحكم عن العبادة. وإما اشتغاله بالعبادة عن الحكم ، أشعر به قوله : ( اَلْمِحْرٰابَ ) وذلك أنه صح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن داود أعبد البشر وكان داود في ذلك اليوم قد انقطع في المحراب للعبادة

__________________

١ ـ سورة ص الآية ٢٥.

٢٣

الخاصة بينه وبين اللّه تعالى ، فجاء الخصوم فلم يجدوا طريقا فتسوروا عليه. وليسوا ملائكة ولا ضرب بهم المثل. وإنما هم قوم تخاصموا في نعاج على ظاهر الآية. فلما وصلوا إليه حكم فيهم ثم أنه من شدة خوفه وكثرة عبادته خاف أن يكون اللّه سبحانه قد فتنه بذلك : إما لاشتغاله عن الحكم بالعباد ذلك اليوم. وإما لاشتغاله عن العبادة بالحكم تلك اللحظة وظن أن اللّه فتنه أي امتحنه واختبره ، أهل يترك الحكم للعبادة أو العبادة للحكم؟ فاستغفر ربه. فاستغفاره لأحد هذين الأمرين المظنونين أعني تعلق الظن بأحدهما. قال اللّه تعالى : ( فَغَفَرْنٰا لَهُ ذٰلِكَ ) فاحتمل المغفور أحد هذين الأمرين ، واحتمل ثالثا وهو ظنه أن يكون اللّه لم يردّ فتنته ، وإنما أراد إظهار كرامته. وانظر قوله تعالى : ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ) (١) كيف يقتضي رفعة قدره.

وقوله : ( يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ ) (٢) يقتضي ذلك ويقتضي ترجيح الحكم على العبادة. وعلى أي وجه من الأوجه الثلاثة حملته حصل تبرئة داود عليه السلام مما يقوله القصاص وكثير من الفضلاء ا ه‍.

وللإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى في كتاب « مفتاح دار السعادة » فصول قيمة جدا في الكلام على قصة آدم عليه السلام وما فيها من الحكم البالغة والمعاني السامية ، وله فصول في آخر الجزء الثاني في فضل توبة آدم ومزيتها من أحل وأبدع ما كتب الكاتبون تريك أن ذلك كان من أعظم نعم اللّه على آدم ، وإكرامه. فطالعه فإنه ينفعك. وصلى اللّه على نبينا محمد وآله وصحبه.

__________________

١ ـ سورة ص الآية ٤٠.

٢ ـ سورة ص الآية ٢٦.

٢٤

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه المتعالي بجلال أحديته عن مسارح الخواطر والأوهام ، المقدس بكمال صمديته عن مسابح البصائر والأفهام. المتنزه لوجوب هويته عن مشاكلة الأعراض والأجسام. المبرأ بعظمة آلهيته عن بواعث الإقدام وصوارف الأحجام ، الذي لا يتغير بكرور الدهور ومرور الشهور والأعوام. ولا يؤده إنعام سجال (١) الخواص والعوام من الإحسان والإنعام. والصلاة على محمد المبعوث إلى لحافة الأنام ، والسلام على آله وأصحابه ائمة الإسلام.

( أما بعد ) فهذه رسالة عملناها في النضح عن رسل اللّه وأنبيائه ، والذب عن خلاصة خلقه واتقيائه ، وإبانة ما أتى به أهل الحشو من إحالة الذنوب والجرائم عليهم ، ونسبة الفضائح والقبائح إليهم ، وأنه زور وبهتان ، وحسبان عاطل عن الحجة والبرهان ، وأنهم يتجشئون من غير شبع ، ويطمعون في غير مطمع ، وأن شبهاتهم لا تقوى على مقاومة الساعد الأشد ولا تسم على المنهج الأسد ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّٰ كَذِباً ) (٢) واللّه المحمود على ما أفاض من توفيق ، والمشكور على ما منح من تحقيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

١ ـ سجال للمبالغة في الكثرة.

٢ ـ سورة الكهف آية ٥.

٢٥

فصل

( في شرح الأقوال والمذاهب في هذه المباحث والمطالب )

( أعلم ) أن الاختلاف في هذه المسألة واقع في أربعة مواضع :

( الأول ) ما يتعلق بالاعتقادية. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة إلا الفضيلية من الخروج فإنهم يجوزون الكفر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وذلك لأن عندهم يجوز صدور الذنوب عنهم ، وكل ذنب فهو كفر عندهم ، فبهذا الطريق جوزوا صدور الكفر عنهم ، والروافض فإنهم يجوزون عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية (١).

( الثاني ) ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من اللّه تعالى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسهو ، وإلا لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع.

( الثالث ) ما يتعلق بالفتوى. وأجمعوا على أنه لا يجوز تعمد الخطأ فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه.

__________________

١ ـ قال أبو محمد بن حزم رحمه اللّه في الملل والنحل : « فذهبت طائفة الى أن الرسل صلى الله عليهم وسلم يعصون اللّه في جميع الكبائر والصغائر عمدا ، حاش الكذب في التبليغ فقط. وهذا قول الكرامية من المرجئة ، وقول ابن الطيب الباقلاني من الاشعرية ومن تبعه ، وهو قول اليهود والنصارى ، وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجوزون على الرسل الكذب في التبليغ. واما هذا الباقلاني فانا رأينا في كتاب صاحبه ابي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول : كل ذنب دق أو جل فانه جائز على الرسل حاش الكذب في التبليغ فقط. قال : وجائز عليهم أن يكفروا.

٢٦

( الرابع ) ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم. وقد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب :

( الأول ) الحشوية : وهو أنه يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر.

( الثاني ) أنه لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز ، بشرط أن لا تكون منفرا. وأما إن كانت منفرا فذلك لا يجوز عليهم ، مثل التطفيف بما دون الحبة (١) وهو قول أكثر المعتزلة.

( الثالث ) أنه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة ، ولكن يجوز صدور الذنب منهم على سبيل الخطأ في التأويل ، وهو قول أبى علي الجبائي (٢).

( الرابع ) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة ، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز ثم إنهم يعاتبون على ذلك السهو والنسيان ، لما أن علومهم أكمل ، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام (٣).

( الخامس ) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ولا بالسهو والنسيان. وهذا مذهب الشيعة.

واختلفوا أيضا في وقت وجوب هذه العصمة.

فقال بعضهم : إنها من أول الولادة إلى آخر العمر.

وقال الأكثرون : هذه العصمة إنما تجب في زمان النبوة. فأما قبلها فهي غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا رحمهم اللّه تعالى (٤).

__________________

١ ـ الحبة : صنجة تزن مائة حبة خردل وهي جزء من ستين في المثقال.

٢ ـ من أئمة المعتزلة ، اشتهر في البصرة ، له آراء انفرد بها عن المذهب ت ٣٠٣ ه‍.

٣ ـ من ائمة المعتزلة له فرقة « النظامية » كتب في الفلسفة والاعتزال ت ٢٣١ ه‍.

٤ ـ وهو أيضا قول ابي هذيل وابي علي من المعتزلة.

٢٧

والذي نقول : إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز ويدل على وجوب العصمة وجوه خمسة عشرة :

( الحجة الأولى ) لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد من حال عصاة الأمة ، وهذا باطل ، فصدور الذنب أيضا باطل.

بيان الملازمة : أن أعظم نعم اللّه على العباد هي نعمة الرسالة والنبوة وكل من كانت نعم اللّه تعالى عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أفحش وصريح العقل يدل عليه ، ثم يؤكده من النقل ثلاثة وجوه :

( الأول ) قوله تعالى : ( يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ ) (١) وقال تعالى : ( يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا اَلْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ ) (٢).

( الثاني ) أن المحصن يرجم وغيره يجلد.

( الثالث ) أن العبد يحد نصف حد الحر.

فثبت بما ذكرنا أنه لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم العاجل والعقاب الآجل فوق حال جميع عصاة الأمة ، إلا أن هذا باطل بالإجماع فإن أحدا لا يجوز أن يقول إن الرسول أحسن حالا عند اللّه وأقل منزلة من كل أحد. وهذا يدل على عدم صدور الذنب عنهم.

( الحجة الثانية ) لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة لقوله تعالى : ( يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٣)

__________________

١ ـ سورة الأحزاب الآية ٣٢.

٢ ـ سورة الأحزاب الآية ٣٠.

٣ ـ سورة الحجرات الآية ٦ وهما قراءتان مشهورتان فتثبتوا وفتبينوا.

٢٨

أمر بالتثبت والتوقف في قبول شهادة الفاسق ، إلا أن هذا باطل فإن من لم تقبل شهادته في حال الدنيا فكيف تقبل شهادته في الأديان الباقية إلى يوم القيامة ، وأيضا فإنه تعالى شهد بأن محمدا عليه الصلاة والسلام شهيد على الكل يوم القيامة ، قال : ( وَكَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَيَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (١) ومن كان شهيدا لجميع الرسل يوم القيامة كيف يكون بحال لا تقبل شهادته في الجنة.

( الحجة الثالثة ) لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم ، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن زجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز ، لقوله تعالى : ( إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَاَلْآخِرَةِ ) (٢) فكان صدور الذنب عنهم ممتنعا.

( الحجة الرابعة ) لو صدر الفسق عن محمد عليه الصلاة والسلام لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز ، أو لا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضا باطل لقوله تعالى : ( قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ) (٣) ولقوله تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ ) (٤) ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين كان صدور الفسق عنه محالا.

( الحجة الخامسة ) لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب اللّه بعذاب جهنم؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ

__________________

١ ـ سورة البقرة الآية ١٤٣.

٢ ـ سورة الأحزاب الآية ٥٧.

٣ ـ سورة آل عمران الآية ٣١.

٤ ـ سورة الأنعام الآية ١٥٣.

٢٩

نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَلَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ ) (١) ولكانوا ملعونين ، لقوله تعالى : ( أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ) (٢) وبإجماع الأمة هذا باطل فكان صدور المعصية عنهم باطلا.

( الحجة السادسة ) أنهم كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى : ( يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ) (٣) وتحت قوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٤) ومعلوم أن هذا في غاية القبح ، وأيضا أخبر اللّه تعالى عن رسوله شعيب عليه الصلاة والسلام أنه برأ نفسه من ذلك ، فقال : ( وَمٰا أُرِيدُ أَنْ أُخٰالِفَكُمْ إِلىٰ مٰا أَنْهٰاكُمْ عَنْهُ ) (٥).

( الحجة السابعة ) قال اللّه تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( إِنَّهُمْ كٰانُوا يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ ) (٦) والألف واللام في صيغة الجمع تفيد العموم فدخل تحت لفظ (الخيرات) فعل كل ما ينبغي وترك كل ما لا ينبغي ، وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي.

( الحجة الثامنة ) قوله تعالى ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ ) (٧) وهو أن اللفظين أعني قوله تعالى ( اَلْمُصْطَفَيْنَ ) وقوله ( اَلْأَخْيٰارِ ) يتناولان جملة الأفعال والتروك ، بدليل جواز الاستثناء ، يقال : فلان من المصطفين الأخيار إلا في كذا ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين

__________________

١ ـ سورة النساء الآية ١٤.

٢ ـ سورة هود الآية ١٨.

٣ ـ سورة الصف الآية ٣.

٤ ـ سورة البقرة الآية ٤٤.

٥ ـ سورة هود الآية ٨٨.

٦ ـ سورة الأنبياء الآية ٩٠.

٧ ـ سورة ص الآية ٤٧.

٣٠

الأخيار في كل الأمور. وهذا ينافي صدور الذنب عنهم ، ونظيره قوله تعالى ( اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ اَلنّٰاسِ ) (١) وقوله تعالى ( إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرٰاهِيمَ وَآلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ) (٢) وقال في حق إبراهيم ( وَلَقَدِ اِصْطَفَيْنٰاهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَإِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّٰالِحِينَ ) (٣) وقال في حق موسى عليه الصلاة والسلام ( إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّٰاسِ بِرِسٰالاٰتِي وَبِكَلاٰمِي ) (٤) وقال تعالى ( وَاُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَإِسْحٰاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَاَلْأَبْصٰارِ. إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ ) (٥).

لا يقال : الاصطفاء لا يمنع من فعل الذنب ، بدليل قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ) (٦) قسّم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق ، لأنّا نقول : الضمير في قوله ( فَمِنْهُمْ ) عائد إلى قوله ( مِنْ عِبٰادِنٰا ) لا إلى قوله ( اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا ) لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب.

( الحجة التاسعة ) قوله تعالى حكاية عن إبليس ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ) (٧) استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله ، ثم إنه تعالى شهد على إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام أنهم من المخلصين ، حيث قال ( إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ) (٨) وقال في حق يوسف عليه الصلاة والسلام ( إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ ) (٩)

__________________

١ ـ سورة الحج الآية ٧٥.

٢ ـ سورة آل عمران الآية ٣٣.

٣ ـ سورة البقرة الآية ١٣٠.

٤ ـ سورة الاعراف الآية ١٤٤.

٥ ـ سورة ص الآية ٤٦.

٦ ـ سورة فاطر الآية ٣٢.

٧ ـ سورة ص الآية ٨٣.

٨ ـ سورة ص الآية ٤٦.

٩ ـ سورة يوسف الآية ٢٤.

٣١

فلما أقرا إبليس أنه لا يغوي المخلصين ، وشهد اللّه بأن هؤلاء من المخلصين ثبت أن إغواء إبليس ووسوسته ما وصلت إليهم ، وذلك يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم.

( الحجة العاشرة ) قال اللّه تعالى ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ) (١) فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال : إنهم الأنبياء أو غيرهم ، فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم ، لقوله تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ ) (٢) وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع. فوجب القطع بأن اولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكل من أذنب فقد اتبع إبليس فدل هذا على أن الأنبياء صلوات اللّه عليهم ما أذنبوا.

( الحجة الحادية عشرة ) أنه تعالى قسم المكلفين إلى قسمين : حزب الشيطان كما قال تعالى ( أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ) (٣) وحزب اللّه كما قال تعالى ( أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) (٤) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريد الشيطان ويأمره به. فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لصدق عليهم أنهم من حزب الشيطان ، ولصدق عليهم قوله تعالى ( أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ ) ولصدق على الزهاد من آحاد الامة قوله تعالى ( أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ) وحينئذ يلزم أن يكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء ، ولا شك في بطلانه.

__________________

١ ـ سورة سبأ الآية ٢٠.

٢ ـ سورة الحجرات الآية ١٣.

٣ ـ سورة المجادلة الآية ١٩.

٤ ـ سورة المجادلة الآية ٢٢.

٣٢

( الحجة الثانية عشرة ) إن أصحابنا رحمهم اللّه تعالى بينوا أن الأنبياء أفضل من الملائكة وثابت بالدلالة على أن الملائكة ما أقدموا على شيء من الذنوب ، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لامتنع أن يكونوا زائدين في الفضل على الملائكة لقوله تعالى ( أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ ) (١).

( الحجة الثالثة عشرة ) قال اللّه تعالى في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ( إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً ) (٢) والإمام هو الذي يقتدى به فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبا وإنه باطل.

( الحجة الرابعة عشرة ) قوله تعالى : ( لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ ) (٣) فكل من أقدم على الذنب كان ظالما لنفسه لقوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ ) (٤).

إذا عرفت هذا فنقول : ذلك العهد الذي حكم اللّه تعالى بأنه لا يصل إلى الظالمين إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإمامة ، فإن كان الأول فهو المقصود ، وإن كان الثاني فالمقصود أشهر ، لأن عهد الإمامة أقل درجة من عهد النبوة ، فإذا لم يصل عهد الإمامة إلى المذنب العاصي ، فبأن لا يصل عهد النبوة إليه أولى.

( الحجة الخامسة عشرة ) روي أن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي اللّه عنه شهد على وفق دعوى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، مع أنه ما كان عالما بتلك الواقعة فقال خزيمة : « إني أصدقك فيما تخبر عنه من أحوال السماء ،

__________________

١ ـ سورة ص الآية ٢٨.

٢ ـ سورة البقرة الآية ١٢٤.

٣ ـ سورة البقرة الآية ١٢٤.

٤ ـ سورة خاطر الآية ٣٢.

٣٣

أفلا أصدقك في هذا القدر؟! فلما ذكر ذلك صدقه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيه ولقبه بذي الشهادتين (١) ولو كان الذنب جائزا على الأنبياء لكانت شهادة خزيمة غير جائزة.

( واعلم ) أنا لما فرغنا من ذكر الدلائل الدالة على عصمة الأنبياء فلنذكر الآن ما يدل على عصمة الملائكة. ويدل عليه وجوه أربعة :

( الأول ) قوله تعالى في صفة الملائكة : ( يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ ) (٢) يتناول جميع الملائكة في فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات ، لأن كل من نهى عن فعل فقد أمر بتركه.

( الثاني ) قوله تعالى في وصفهم ( بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٣).

( الثالث ) قوله تعالى : ( يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَاَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ ) (٤) وما كانت صفته كذلك لا يصدر عنه الذنب.

( الرابع ) أن الملائكة رسل اللّه لقوله تعالى : ( جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ

__________________

١ ـ هو خزيمة بن ثابت الأوسي الانصاري من السابقين الاولين. روى عنه ابنه عمارة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اشترى فرسا من سواء بن قيس المحاربي فجحده سواء فشهد خزيمة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضرا؟ قال : صدقتك بما جئت به وعلمت أنك لا تقول الا حقا فقال النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : من شهد له خزيمة أو عليه فهو حسبه » وحديثه رواه أبو داود وغيره ، وجعل شهادته بشهادتين رواه البخاري.

٢ ـ سورة النحل الآية ٥٠.

٣ ـ سورة الأنبياء الآية ٢٧.

٤ ـ سورة الأنبياء الآية ٢٠.

٣٤

رُسُلاً ) (١) والرسل معصومون لقوله تعالى في تعظيمهم : ( اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ ) (٢).

فهذا مجموع الدلائل على عصمة الأنبياء وعصمة الملائكة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

( واعلم ) أن شبهات المخالفين في هذه المسألة كثيرة ، ونحن نذكرها على سبيل الاختصار.

__________________

١ ـ سورة فاطر الآية ١.

٢ ـ سورة الانعام الآية ١٢٤.

٣٥

عصمة آدم عليه السلام

أما قصة آدم عليه السلام فقد تمسكوا بها من وجوه ستة :

( الأول ) أنه كان عاصيا والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة ، وإنما قلنا : إنه كان عاصيا لقوله تعالى : ( وَعَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ ) (١) وإنما قلنا إن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين :

( أحدهما ) أن النص يقتضي كونه متعاقبا وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا ) (٢) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه.

( وثانيهما ) أن العصيان اسم ذم فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة.

( الثاني ) أنه تائب والتائب مذنب. وإنما قلنا أنه تائب لقوله تعالى ( ثُمَّ اِجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَتٰابَ عَلَيْهِ وَهَدىٰ) (٣) وقوله تعالى : ( فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ) (٤) وإنما قلنا إن التائب مذنب لأن التائب هو النادم على فعل الذنب والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلا للذنب ، فإن كذب في ذلك الاخبار فهو مذنب بفعل الكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب.

__________________

١ ـ سورة طه الآية ١٢١.

٢ ـ سورة النساء الآية ١٤.

٣ ـ سورة طه الآية ١٢٢.

٤ ـ سورة البقرة الآية ٣٧.

٣٦

( الثالث ) أنه ارتكب المنهى عنه ، لقوله تعالى : ( أَلَمْ أَنْهَكُمٰا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ ) (١) وقوله تعالى ( وَلاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ ) (٢) وارتكاب المنهى عنه عين الذنب.

( الرابع ) أنه تعالى سماه ظالما في قوله ( فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ ) (٣) وهو أيضا سمى نفسه ظالما في قوله ( رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا ) (٤) والظالم ملعون لقوله تعالى ( أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ) (٥) ومن كان كذلك كان صاحب كبيرة.

( الخامس ) أنه اعترف بأنه لو لا مغفرة اللّه تعالى له لكان خاسرا في قوله تعالى ( وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنٰا وَتَرْحَمْنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ ) (٦) وذلك يقتضي كونه صاحب كبيرة.

( السادس ) أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان ، وذلك يدل على كونه صاحب كبيرة.

ثم قالوا : إن كل واحدة من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعل كبيرة ، ولكن مجموعها قاطع في الدلالة عليه ، ويجوز أن يكون كل واحد من الوجوه وإن لم يكن دالا على الشيء إلا أنها عند الاجتماع تصير دالة كما قلنا في القرائن.

( والجواب ) عن الكل عندنا : أن ذلك كان قبل النبوة ، فلا يكون واردا علينا.

__________________

١ ـ سورة الاعراف الآية ٢٢.

٢ ـ سورة البقرة الآية ٣٥.

٣ ـ سورة البقرة الآية ٣٥.

٤ ـ سورة الاعراف الآية ٢٣.

٥ ـ سورة هود الآية ١٨.

٦ ـ سورة الاعراف الآية ٢٣.

٣٧

فأما الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة فقد أجابوا عن كل واحدة من هذه الوجوه.

( أما الأول ) فقالوا : المعصية مخالفة الأمر ، فالأمر قد يكون بالواجب والندب ، فإنهم يقولون : أشرت عليه في أمر ولده بكذا فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وإن كان كذلك لم يمتنع أن يكون إطلاق اسم العصيان على آدم ، لا لكونه تاركا للواجب بل للمندوب.

ولقائل أن يقول : إنا قد بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي يستحق العقاب وذلك يقتضي تخصيص اسم العاصي بترك الواجب فقط وبينا أنه أيضا اسم ذم؛ فوجب أن لا يتناول إلا تارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال وأنهم لا ينفكون عن المعصية ، لأنهم لا يكادون ينفكون عن ترك المندوب ، لا يقال : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد. لأنا نقول : لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه وحينئذ يتم استدلال الخصم.

فأما قوله : أشرت إليه في أمر ولده بكذا فعصاني فإنا لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ، وإن سلمناه لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل ، وأنه لا يجوز الإخلال به وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا ، وإن لم يكن الوجوب حاصلا. وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب لكن أجمعنا على أن الإيجاب من اللّه يقتضي الوجوب ، فلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب.

٣٨

( وأما الثاني ) وهو أنه تائب ، فقد أجاب من جوّز الصغيرة بأن التوبة تجب من الصغائر كما تجب من الكبائر ، فإن الصغيرة إذ لم يتب منها صاحبها صار مصرا عليها والإصرار على أي ذنب كان كبيرة.

وأما من لم يجوز الصغيرة فقد أجاب بأن التوبة قد تحسن ممن لم يذنب قط على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى والرجوع إليه ، ويكون وجه حسنها استحقاق الثواب بها ابتداءً. والذي يدل عليه أنا نقول :

« اللهم اجعلنا من التوابين » (١) فلو كان حسنها مسبوقا بفعل الذنب لكان ذلك سؤالا لصيرورتنا مذنبين ، وأنه لا يجوز.

( وأما الثالث ) فهو ارتكاب المنهى ، فالجواب أنا نقول : لا نسلم أن النهي للتحريم فقط ، بل هو مشترك بين التحريم والتنزيه وتفسيره أن النهي يفيد أن جانب الترك راجح على جانب الفعل.

فأما جانب الفعل فهل يقتضي استحقاق العقاب أو لا يقتضي؟ فذلك خارج عن مفهوم اللفظ وإذا كان كذلك سقط الاستدلال.

سلمنا أن النهي للتحريم لكنه ارتكبه ناسيا لقوله تعالى : ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) وحينئذ لم يكن ذنبا لأن التكليف مرتفع عن الناسي ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه ارتكبه ناسيا. والدليل عليه قوله تعالى : ( مٰا نَهٰاكُمٰا رَبُّكُمٰا عَنْ هٰذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونٰا مَلَكَيْنِ ) (٣) وقوله ( وَقٰاسَمَهُمٰا إِنِّي لَكُمٰا لَمِنَ اَلنّٰاصِحِينَ ) (٤) وكل ذلك يدل على أنه

__________________

١ ـ ورد « اللهم اجعلني من التوابين » وهذا قسم من حديث الوضوء ، رواه الترمذي عن عمر.

٢ ـ سورة طه الآية ١١٥.

٣ ـ سورة الأعراف الآية ٢٠.

٤ ـ سورة الأعراف الآية ٢١.

٣٩

ما نسي النهي حال الإقدام على ذلك الفعل ، وأيضا فلأنه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل ، ولما سمي بالعاصي ، فحيث عوتب عليه دل على أنه ما كان ناسيا ، وأما قوله تعالى : ( فَنَسِيَ ) ففيه إثبات أنه نسي وليس فيه أنه ما نسي سلمنا أنه لم يكن ناسيا ولكنه اخطأ في الاجتهاد وذلك لأن كلمة ( هذه) في قوله : ( وَلاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ ) (١) قد يراد بها الإشارة إلى الشخص وقد يراد بها الإشارة إلى النوع كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به » (٢) فآدم عليه الصلاة والسلام اشتبه الأمر عليه فظن أن المراد هو الشخص فعدل عنه إلى شخص آخر إلا أن المجتهد إذا أخطأ في الفروع لم يكن صاحب كبيرة.

لا يقال : كلمة ( هذه ) لما احتملت الأمرين كان البيان حاصلا في ذلك الوقت لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإذا كان البيان حاصلا لم يكن آدم عليه السلام معذورا في ذلك الخطأ لأنا نقول : لعل البيان كان حاصلا بطريق غامض خفي فالمخطئ فيه معذور.

( وأما الرابع ) وهو أن اللّه تعالى سماه ظالما فقد أجاب عنه من يجوز الصغيرة بأن كل ذنب يأتي به المكلف كبيرا كان أو صغيرا فهو ظالم لنفسه. وأما من لم يجوزها فأجاب بأن ترك الأولى ظلم ، لأنه لما كان متمكنا من فعل الأولى حتى يستحق به الثواب العظيم فلما تركه من غير موجب فقد ترك حظ نفسه ومثل هذا يجوز أن يسمى ظالما لنفسه ، لأن حقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهاهنا كذلك.

( وأما الخامس ) فالجواب عنه : أنه محمول على الصغيرة أو على ترك الأولى وتقديره ما تقدم.

__________________

١ ـ سورة البقرة الآية ٣٥.

٢ ـ رواه ابن ماجه ولفظه ( هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة الا به).

٤٠