موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ١

مركز الأبحاث العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ١

المؤلف:

مركز الأبحاث العقائديّة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-01-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-00-3

الصفحات: ٥٧٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فضائل الحسين ، والصفات المعنوية التي تحلّى بها ، وهذا ليس فيه شيء مخالف للدين ، وليس فيه نهي ، بل هو أمر مشروع ، وطبق الموازين الشرعية ، فافتح ترجمة أي شخص دون الحسين عليه‌السلام من كتب التراجم لدى السنّة والشيعة ، تجده يبدأ بذكر فضائل المترجم له ، إن كانت له فضائل ، فهذا الذهبي تحت ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام يقول : « الإمام الشريف الكامل ، سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وريحانته في الدنيا ، ومحبوبه ، أبو عبد الله الحسين بن أمير المؤمنين ... » (١) ، ثمّ أخذ بذكر مناقبه .

وأمّا واقعة الطفّ فقد ذكرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وتألّما وبكيا لذكرها ، وهاك بعض الروايات الصحيحة من حيث السند حتّى على مباني السلفية ؟

عن أبي أُمامة قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه : « لا تُبكُّوا هذا الصبيّ » ـ يعني حسيناً ـ وكان يوم أُمّ سلمة ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الداخل وقال لأُمّ سلمة : « لا تدعي أحداً يدخل بيتي » ، فجاء الحسين فلمّا نظر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في البيت ، أراد أن يدخل ، فأخذته أُمّ سلمة فاحتضنته ، وجعلت تناغيه وتسكنه ، فلمّا اشتدّ في البكاء خلّت عنه ، فدخل حتّى جلس في حجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : « إنّ أُمّتك ستقتل ابنك هذا » ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقتلونه وهم مؤمنون بي » ؟ قال : « نعم يقتلونه » ، فتناول جبرائيل تربة ... » (٢) .

وقال الذهبي : « وإسناده حسن » (٣) .

وأخرج الطبراني بسنده ـ ورجاله ثقات ـ في « المعجم الكبير » في ترجمة الحسين عليه‌السلام عن أُمّ سلمة قالت : « كان الحسن والحسين (رضي الله عنهما)

______________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٨٠ .

(٢) المعجم الكبير ٨ / ٢٨٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٩ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٩١ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٧٤ .

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٨٩ .

٤٦١

يلعبان بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال : « يا محمّد إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك » ، فأومأ بيده إلى الحسين ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضمّه إلى صدره ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وديعة عندك هذه التربة » ، فشمّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : « ريح كرب وبلاء » .

قالت : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التربة دماً ، فاعلمي أنّ ابني قد قتل » ، قال : فجعلتها أُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم ، وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيم » (١) .

وأخرج الحديث غير الطبراني أيضاً (٢) .

وقال الصنعاني : ( أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه ، قال : قالت أُمّ سلمة : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نائماً في بيتي ، فجاء حسين يدرج ، فقعدت على الباب فأمسكته مخافة أن يدخل فيوقظه ، قالت : ثمّ غفلت في شيء ، فدبّ فدخل فقعد على بطنه ، قالت : فسمعت نحيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به ، فقال : « إنّما جاءني جبرائيل ، وهو على بطني قاعد ، فقال لي : أتحبه ؟ فقلت : نعم ، قال : إنّ أُمّتك ستقتله ، ألا أُريك التربة التي يقتل بها » ؟

قال : « قلت : بلى » .

قال : « فضرب بجناحه فأتاني بهذه التربة » .

قالت : فإذا في يده تربة حمراء وهو يبكي ، ويقول : « يا ليت شعري من يقتلك بعدي » ) (٣) .

وأخرج الطبراني بسنده ـ ورجاله ثقات ـ عن أُمّ سلمة قالت : (كان رسول

______________________

(١) المعجم الكبير ٣ / ١٠٨ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٩٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٩ ، تهذيب الكمال ٦ / ٤٠٨ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٠٠ .

(٣) المنتخب من مسند الصنعاني : ٤٤٣ .

٤٦٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً ذات يوم في بيتي ، فقال : « لا يدخل عليّ أحد » فانتظرت فدخل الحسين رضي‌الله‌عنه ، فسمعت نشيج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي ، فاطلعت فإذا حسين في حجره ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح جبينه وهو يبكي ، فقلت : والله ما علمت حين دخل ، فقال : « إنّ جبرائيل عليه‌السلام كان معنا في البيت ، فقال : تحبّه ؟ فقلت : أمّا من الدنيا فنعم ، قال : إنّ أُمّتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء » ، فتناول جبرائيل عليه‌السلام من تربتها ، فأراها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا أُحيط بحسين حين قتل ، قال : « ما اسم هذه الأرض » ؟ قالوا : كربلاء ، قال : « صدق الله ورسوله ، أرض كرب وبلاء » ) (١) .

وأخرجه الهيثمي في « مجمع الزوائد » وقال : « رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات » (٢) .

وكذلك أقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المأتم والعزاء على الحسين في بيت عائشة ، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح ، وأحمد في مسنده (٣) .

وأقام مأتم الحزن والبكاء عليه في بيت السيّدة فاطمة عليها‌السلام ، كما في « مقتل الخوارزمي » (٤) .

وهناك الكثير من الروايات التي تشير إلى :

١ ـ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بكى وحزن على الحسين عليه‌السلام ، وأقام عليه العزاء والمأتم في بيوت نسائه ، بل وأمام جمع من الصحابة ، بل وأقام له المأتم منذ أوّل يوم من ولادته ، كما أخرجه الهيثمي في مجمعه بسند صحيح وغيره (٥) .

٢ ـ الأخبار الكثيرة التي تنصّ على أنّ جبرائيل عليه‌السلام أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ أُمّته

______________________

(١) المعجم الكبير ٣ / ١٠٩ .

(٢) معجم الزوائد ٩ / ١٨٩ .

(٣) المعجم الكبير ٣ / ١٠٧ ، مسند أحمد ٦ / ٢٩٤ .

(٤) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٢ .

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ١٨٧ .

٤٦٣

ستقتل الحسين عليه‌السلام ، وجاءه بتربة من أرض كربلاء ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شمّها واستنشق منها رائحة دم ابنه الحسين الشهيد .

٣ ـ أعطى صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض زوجاته تربة الحسين عليه‌السلام ، وأنّها عرفت مقتله من تحوّل لون تلك التربة إلى دم عبيطاً في يوم العاشر (١) .

وعن الزهري قال : قال لي عبد الملك : أيّ واحد أنت إن أعلمتني أيّ علامة كانت يوم قتل الحسين ؟ فقال : قلت : لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلّا وجد تحتها دم عبيط ، فقال عبد الملك : إنّي وإيّاك في هذا الحديث لقرينان .

قال الهيثمي : « رواه الطبراني ورجاله ثقات » (٢) .

وعن الزهري قال : ما رفع بالشام حجر يوم قتل الحسين بن علي إلّا عن دم .

قال الهيثمي : « رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح » (٣) .

وعن أبي قبيل قال : لمّا قتل الحسين بن علي انكسفت الشمس كسفة حتّى بدت الكواكب نصف النهار حتّى ظننّا أنّها هي .

قال الهيثمي : « رواه الطبراني وإسناده حسن » (٤) .

بل نجد أوسع صور العزاء والحزن تظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كربلاء عند قتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، فهذا ابن عبّاس يقول : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم ينتقطه ... فقلت : ما هذا ؟

قال : « دم الحسين وأصحابه ، فلم أزل أتتبعه منذ اليوم » .

قال الهيثمي : « رواه أحمد والطبراني ورجاله أحمد رجال الصحيح » (٥) .

فإذاً لا يوجد أيّ مانع شرعي من إقامة المأتم الحسيني ، بل في إقامته أسوة

______________________

(١) المصدر السابق ٩ / ١٨٩ .

(٢) المصدر السابق ٩ / ١٩٦ .

(٣) المصدر السابق ٩ / ١٩٦ .

(٤) المصدر السابق ٩ / ١٩٧ .

(٥) المصدر السابق ٩ / ١٩٣ .

٤٦٤

واقتداء بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ هو المقيم له والقائم عليه ، كما أسلفنا من خلال الروايات الصحيحة الواردة من طرق أهل السنّة ، وعليه فتسقط المقدّمة الأُولى ، وهي كون البكاء والمأتم نوع من الجزع ، ولا يبقى لها مكان تجلس عليه ، علاوة على المناقشة في كون البكاء في المأتم ، هل هو يصدق عليه جزع أم لا ، والصحيح أنّه لا ، لكن لا مجال لبيان ذلك .

« أحمد محمّد صالح ـ السعودية ـ ١٨ سنة ـ طالب ثانوية »

رأي ابن تيمية حولها :

س : إنّي من المشاركين في أحد المنتديات ، وقد أثار الدم في عروقي موضوع عن الشيعة ، ولكن لا أعرف الردّ الوافي الكافي ، فأجبت بقدر استطاعتي ، فأنتم تعلمون مدى الظلم الذي يقع علينا في السعودية ، لأنّنا محبّي أهل البيت ، فقلت : لدينا مناهل العلم ، وأواجه هذا الردّ من أحد السنّة عليّ ، ولا أستطيع إجابته فأجيبوني ، وكان قوله هو :

شهد مقتل علي والحسين من شهده من أهل البيت ، ومرّت سنون وما أحدثوا مأتماً ولا نياحة ، فأين الدليل على هذه المناظر المخزية المخجلة التي نراها من الروافض هذه الأيّام ؟ والتي تصدّ الناس عن الدخول في الإسلام ؟!

سؤال مطروح استفدته من كلام نفيس لشيخ الإسلام في نسف بدع الروافض في عاشوراء ! حيث قال :

ومن ذلك : إنّ اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيّه ، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء ، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام .

وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين ، وقد كانت شَهِدَت مصرع أبيها ، عن أبيها الحسين بن علي ، عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكّرها ، وإن قادم عهدها ، فيحدث لها

٤٦٥

استرجاعاً إلّا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أُصيب منها » (١) .

فقد علم الله أنّ مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدّد ذكرها مع تقادم العهد ، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أوّلاً .

ولا ريب أنّ ذلك إنّما فعله الله كرامة للحسين ، ورفعاً لدرجته ومنزلته عند الله ، ومبلغاً له منازل الشهداء ، وإلحاقاً له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء .

ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدّهما ولأُمّهما وعمّهما ؛ فإنّهما ولدا في عزّ الإسلام ، وتربّيا في حجور المؤمنين ، فأتمّ الله نعمته عليهما بالشهادة ، أحدهما مسموماً ، والآخر مقتولاً ، لأنّ الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ، ما لا ينالها إلّا أهل البلاء .

كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سئل : أيّ الناس أشدّ بلاء ؟ فقال : « الأنبياء ثمّ الصالحون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإنّ كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقّة خفّف عنه ، ولا تزال البلاء بالمؤمن حتّى يمشي على الأرض ، وليس عليه خطيئة » (٢) ، وشَقِي بقتله من أَعَانَ عليه ، أو رَضِي به !

فالذي شَرَعه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصاب وإن عَظُمَت ، أن يقولوا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون .

فأمّا اتخاذ المآتم في المصائب ، واتخاذ أوقاتها مآتم ، فليس من دين الإسلام ، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أحد من السابقين الأوّلين ، ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من عادة أهل البيت ، ولا غيرهم .

وقد شهد مقتل علي أهل بيته ، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته ، وقد مرّت على ذلك سنون كثيرة ، وهم متمسّكون بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا

______________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٢٢١ .

(٢) نظم درر السمطين : ٢٢٧ .

٤٦٦

يحدثون مأتماً ولا نياحة ، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله ، أو يفعلون ما لابأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة .

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مهما كان من العين والقلب فمن الله عزّ وجلّ ، ومن الرحمة ، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان » (١) .

وقال : « ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية » (٢) ، يعني مثل قول المصاب : يا سنداه ، يا ناصراه ، يا عضداه .

وقال : « النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ودرع من جرب » (٣) .

وقال : « لعن الله النائحة والمستمعة » (٤) ، وقد قال في تنزيله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٥) ، وقد فسّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : ( وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) بأنّها النياحة .

وتبرّأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحالقة والصالقة ، والحالقة : التي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة : التي ترفع صوتها عند المصيبة .

وقال جرير بن عبد الله : كنّا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميّت وصنعهم الطعام للناس من النياحة .

وإنّما السنّة : أن يصنع لأهل الميّت طعام ، لأنّ مصيبتهم تشغلهم ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نعي جعفر بن أبي طالب لمّا استشهد بمؤتة ، فقال : « اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم » (٦) ، والآن هل لديكم دليل واحد على

______________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٣٨ .

(٢) المعجم الأوسط ٤ / ١٩٩ .

(٣) مسند أحمد ٥ / ٣٤٤ .

(٤) الجامع الصغير ٢ / ٤٠٨ .

(٥) الممتحنة : ١٢ .

(٦) مسند أحمد ١ / ٢٠٥ .

٤٦٧

قيامهم بذلك ؟ أفيدونا .

فأرجوكم ساعدوني ، ولكم الأجر والثواب .

ج : لا تبتئس بما قاله لك الأخ السنّي السعودي ، ولا تحزن لما أورده لك من كلام إمامه وشيخ إسلامه ابن تيمية ، فقل له :

أوّلاً : إنّ إمامك كان ناصبياً ، فلا يلزمنا كلامه ، ويكفينا في تعريفه مقالة أهل السنّة فيه ، وإليك بعض ذلك :

١ ـ قال ابن حجر الهيتمي المكّي في « الجوهر المنظّم في زيارة القبور المعظّم » : « من هو ابن تيمية حتّى ينظر إليه ، أو يعوّل في شيء من أُمور الدين عليه » .

٢ ـ وقال : « ابن تيمية عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه ، وبذلك صرّح الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله ، وكذب أقواله ... » (١) .

فهذا حال ابن تيمية بشهادة ابن حجر صاحب « الصواعق المحرقة » .

ثانياً : ما دمت نقلت عن ابن تيمية بعض كلامه محتجّاً به علينا ، وليس يلزمنا ذلك ، فلننقل لك أيضاً بعض الشواهد من كلامه نحتجّ بها عليك ، ولا يسعك التخلّف عن آثارها ، وهي تكفي في الدلالة على نصبه العنيد ، ودفاعه عن يزيد ، فإليك نماذج من تحريفاته حول استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام :

١ ـ « ولم يكن في الخروج ـ خروج الحسين ـ لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا ... ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده ، فإنّ ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشرّ لم يحصل منه شيء ، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله ، ونقص الخير بذلك ، وصار ذلك سبباً لشرّ عظيم » (٢) .

٢ ـ « وإنّ الرأس حمل إليه ـ أي إلى يزيد ـ وإنّه هو الذي نكت على ثناياه ، وهذا مع أنّه لم يثبت ففي الحديث ما يدلّ على أنّه كذب » (٣) .

______________________

(١) الفتاوى الحديثية : ٨٦ .

(٢) منهاج السنّة النبوية ٤ / ٥٣٠ .

(٣) المصدر السابق ٤ / ٥٥٧ .

٤٦٨

٣ ـ « وأمّا من سبي نسائه والذراري ، والدوران بهم في البلاد ، وحملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب وباطل » (١) .

٤ ـ « أمّا ما يرويه من لا عقل له يميّز به ما يقول ، ولا له إلمام بمعرفة المنقول ، من أنّ أهل البيت سُبوا ، وأنّهم حُملوا على البخاتي ـ البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان ـ فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقول به » (٢) .

٥ ـ « وليس ما وقع من ذلك ـ من قتل الحسين ـ بأعظم من قتل الأنبياء ، فإنّ الله تعالى قد أخبر أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيّين بغير حقّ ، وقتل النبيّ أعظم ذنباً ومصيبة ، وكذلك قتل علي رضي‌الله‌عنه أعظم ذنباً ومصيبة ، وكذلك عثمان أعظم ذنباً ومصيبة » (٣) .

٦ ـ « ولكن ظهر من أمره ـ يزيد ـ في أهل الحرّة ما لا نستريب أنّه عدوان محرّم ، وكان له موقف في القسطنطينية ـ وهو أوّل جيش غزاها ـ ما يعدّ من الحسنات » (٤) .

٧ ـ « لكن ـ يزيد ـ لم يقتل جميع الأشراف ، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا إلى الروضة ، ولا كان القتل في المسجد » (٥) .

فهذه سبعة شواهد تغنيك في معرفة ابن تيمية الناصب المعاند ، ولا تنسَ بأن تسأل المسلم السنّي السعودي عن إمامه ابن تيمية ، أين مات ؟ فقد مات في السجن .

ولماذا سجن ؟ لأنّه قد حاكمه أصحاب المذاهب عند السلطان على شذوذه في آرائه .

______________________

(١) المصدر السابق ٤ / ٥٥٨ .

(٢) رأس الحسين : ٢٠٨ .

(٣) منهاج السنّة النبوية ٤ / ٥٥٠ .

(٤) رأس الحسين : ٢٠٧ .

(٥) منهاج السنّة النبوية ٤ / ٥٧٦ .

٤٦٩

وحسبك أن تدلّه فليقرأ رسالة الذهبي إليه ، وهي في تكملة « السيف الصقيل » للكوثري ، ولينظر ما قاله الكوثري عنه في كتاب مقالاته .

وإلى هنا تبيّن لك أنّ ما قاله ابن تيمية ليس له عندنا ولا عند غيرنا من بقية المسلمين ـ سوى اتباعه ـ ما يسوى شروي نقير .

والآن عودة إلى ما عابه المسلم السنّي السعودي من إقامة المآتم في المصائب ، وهو غير صائب بل هو خائب ، لأنّا سنذكر له بعض ما لا يسعه إنكاره من مصادره الموثوقة عند أهل السنّة :

فسله أوّلاً : ما رأيه فيما جاء في « صحيح البخاري » في كتاب الجنائز ، باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن ، وروي في حديث عائشة قالت : « لمّا جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل ابن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، جلس يعرف فيه الحزن ، وأنا أنظر من صائر الباب ـ شقّ الباب ـ » (١) .

قال القسطلاني في الشرح بعد قوله : « جلس ، أي في المسجد ، كما في رواية أبي داود » (٢) .

وقال ابن حجر : « وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً : جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار ، وجواز نظر النساء المحتجّبات إلى الرجال الأجانب ... » (٣) .

وسله ثانياً : ما رأيه فيما رواه البخاري في صحيحه أيضاً عن أنس ، قال : « قنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شهراً حين قُتل القرّآء ، فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حزن حزناً قط أشدّ منه » (٤) .

قال ابن حجر : « قوله : ما حزن حزناً قط أشدّ منه ، فإنّ ذلك يشمل حال جلوسه وغيرها » (٥) .

______________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٨٣ .

(٢) إرشاد الساري ٣ / ٤٢١ .

(٣) فتح الباري ٣ / ١٣٥ .

(٤) صحيح البخاري ٢ / ٨٤ .

(٥) فتح الباري ٣ / ١٣٥ .

٤٧٠

فقل للسنّي السعودي إذا جاز القنوت شهراً لإظهار الحزن جاز الجلوس لذلك أيضاً شهراً ودهراً .

وسله ثالثاً : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه مرّ بدار من دور الأنصار من بني عبد الاشهل وبني ظفر ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبكى ثمّ قال : « لكن حمزة لا بواكي له » (١) .

قال الحلبي : « فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكين حمزة بين المغرب والعشاء ، أي وكذلك أسيد بن حضير أمر نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكين حمزة .

أي ولمّا جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله بيته حمله السعدان وأنزلاه عن فرسه ، ثمّ اتكأ عليهما حتّى دخل بيته ، ثمّ أذّن بلال لصلاة المغرب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على مثل تلك الحال يتوكّأ على السعدين ، فصلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء ، فقال : « ما هذا » ؟ فقيل : نساء الأنصار يبكين حمزة ، فقال : « رضيّ الله عنكنّ وعن أولادكن » ، وأمر أن تردّ النساء إلى منازلهنّ .

وفي رواية : خرج عليهنّ ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء ، فإنّ بلالاً أذّن بالعشاء حين غاب الشفق ... فقام من نومه وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة رضي‌الله‌عنه ، فقال لهن : « ارجعن يرحمكن الله ، لقد واسيتن معي ، رحم الله الأنصار ، فإنّ المواساة فيهم كما علمت قديمة » ... وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعدُ لا تبكي على ميّتها إلا بدأت بالبكاء على حمزة رضي‌الله‌عنه ثمّ بكت على ميّتها ، ولعلّ المراد بالبكاء النوح » (٢) .

وسله رابعاً : عمّا رواه الطبري عن سعيد بن المسيّب قال : « لمّا توفّي أبو بكر

______________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك ٢ / ٢١٠ ، السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٦١٣ ، السيرة النبوية لابن كثير ٣ / ٩٥ ، سبل الهدى والرشاد ٤ / ٢٢٨ ، مسند ابن راهويه ٢ / ٥٩٩ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٤٤ و ٣ / ١١ ، الثقات ١ / ٢٣٥ ، أُسد الغابة ٢ / ٤٨ .

(٢) السيرة الحلبية ٢ / ٣٤٦ .

٤٧١

أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى قام ببابها ، فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر ، فأبين أن ينتهينَ ، فقال عمر لهشام بن الوليد : أدخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر ، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : إنّي أُحرّج عليك بيتي .

فقال عمر لهشام : أدخل قد أذنت لك ، فدخل هشام ، فأخرج أُمّ فروة أُخت أبي بكر إلى عمر فعلاها الدرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح حين سمعوا ذلك » (١) .

فقل له : لا يخلو الأمر ، إمّا أن يكون فعل عائشة صحيحاً بإقامة النوح ، فلا يجوز لعمر أن يمنعه ، وإمّا أن يكون الأمر بالعكس ، ولمّا كانت عائشة تروون في حقّها : « خذوا شطر دينكم عن الحميراء » (٢) ، فهي أعلم من عمر الذي لم يرد شيء في فقاهته ، بل هو كان يعترف على نفسه فيقول : « كلّ الناس أفقه منك يا عمر » (٣) .

إذاً فعقد مجلس النوح جائز وليس ببدعة ، وقد أقامته عائشة على أبيها .

وسله خامساً : لئلا يستزل الشيطان هذا السعودي فيقول بمنع عمر ، فإنّ عمر نفسه قد ناقض نفسه ، وذلك حين مات خالد بن الوليد ، فقد قال : « دعهنّ يبكين على أبي سليمان ـ وهو خالد بن الوليد ـ ما لم يكن نقع أو لقلقة ، والنقع التراب على الرأس ، واللقلقة الصوت » (٤) .

ونحو هذا رواه ابن عساكر عن محمّد بن سلام قال : « حدّثني أبان بن عثمان قال : لم تبق امرأة من بني المغيرة إلّا وضعت لُمتها على قبر خالد ، يقول : حلقت رأسها » (٥) .

______________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك ٢ / ٦١٤ .

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٤٢١ ، لسان العرب ٤ / ٢٠٩ ، تاج العروس ٣ / ١٥٤ .

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٥ / ٩٩ و ١٥ / ١٧٩ .

(٤) صحيح البخاري ٢ / ٨١ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٣٦٧ .

(٥) تاريخ مدينة دمشق ١٦ / ٢٧٨ .

٤٧٢

فأين كان عنهن عمر ؟ فلماذا لم ينه عن الحلق ؟

وعجيب أمر عمر في تناقضه ، فهو ينهى عائشة وآل أبي بكر عن النوح على أبي بكر وهو صاحبه ، ولولاه لما صار خليفة من بعده ، ويسمح بالبكاء لنساء بني المغيرة في النوح على خالد على ما كان بينهما من عداوة وهجرة ، كما هو معروف ، حتّى إنّ ابن حجر ذكر في « الإصابة » في أواخر ترجمة خالد : « وسمع ـ أي عمر ـ راجزاً يذكر خالداً ، فقال : رحم الله خالداً ، فقال له طليحة بن عبيد الله :

لا أعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي » (١)

وسله سادساً : عمّا ورد في تأبين الأموات ، بدءاً من وقوف فاطمة عليها‌السلام على قبر أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :

إنّا فقدنـاك فقد الأرض وابلهـا

وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما نُعيت وحالت دونك الكثب » (٢)

ومروراً بمجيء أعرابي وقف على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : قلت فقبلنا ، وأمرت فحفظنا ، وبلّغت عن ربّك فسمعنا : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (٣) ، وقد ظلمنا أنفسنا ، وجئناك فاستغفر لنا ، فما بقيت عين إلّا سالت (٤) .

وكذلك موقف ابن مسعود على قبر عمر يبكي ، ويطرح رداءه ثم أبّنه (٥) ، وانتهاءً بقول أمير المؤمنين عليه‌السلام على قبر خبّاب بن الأرت ، لمّا رجع من حرب صفّين إلى الكوفة ، فوجد خبّاباً قد مات ، فوقف على قبره وقال : « رحم الله

______________________

(١) الإصابة ٢ / ٢١٩ .

(٢) شرح الأخبار ٣ / ٣٩ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٢٨٩ .

(٣) النساء : ٦٤ .

(٤) العقد الفريد ٣ / ١٩٤ .

(٥) المصدر السابق ٣ / ١٩٥ .

٤٧٣

خبّاباً ، لقد أسلم راغباً ، وجاهد طائعاً ، وعاش زاهداً ، وابتلي في جسمه فصبر ، ولن يضيّع الله أجر من أحسن عملاً » (١) ، إلى غير ذلك من جمل الرثاء التي تحمل آيات الثناء ، وتعرب عن جليل العزاء ، فضلاً عن البكاء .

وسله سابعاً : عن سنّة الجلوس للعزاء عند المسلمين ، ألم تكن قائمة دائمة ؟ فما رأيه فيما رواه ابن قيّم الجوزية وهذا تلميذ ـ إمامه ابن تيمية ، فهو على شاكلته ـ في كتابه فقال : « لمّا توفّي العباس أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له وتعظيماً ، حتّى قدم رجل من البادية ، فأنشده :

اصبر نكن بك صابرين فإنّما

صبر الرعية بعد صبر الرأس

خير من العباس صبرك بعده

والله خير منك للعباس

قال : فسرى عنه ، وأقبل الناس على تعزيته » (٢) .

وسله ثامناً : عمّا رواه ابن الأثير وابن كثير في وفاة عبد الرحمن بن أبي بكر ، وهذا هو شقيق عائشة فقال الثاني : « ولمّا توفّي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي ـ على ستة أميال من مكّة ، وقيل أثنى عشر ميلاً ـ فحمله الرجال على أعناقهم حتّى دفن بأعلى مكّة ، فلمّا قدمت عائشة مكّة زارته ، وقالت : أما والله لو شهدتك لم أبك عليك ، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه ، ثمّ تمثّلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك :

وكنّا كندماني جذيمة برهة

من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا

فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالك

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

قال ابن كثير : رواه الترمذي وغيره » (٣) .

وقال ابن الأثير : « ولمّا اتّصل خبر موته بأخته عائشة ظعنت إلى مكّة حاجة ،

______________________

(١) نفس المصدر السابق .

(٢) بدائع الفوائد ٤ / ١٠١٨ .

(٣) البداية والنهاية ٨ / ٩٦ .

٤٧٤

فوقعت على قبره فبكت عليه ، وتمثّلت :

وكنّا كنـدماني جذيمة حقبة

من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا

فلمّا تفرّقنا كأنّي ومـالـكاً

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا » (١)

وسله تاسعاً : عمّا رواه البخاري : « ورأى ابن عمر فسطاطاً على قبر عبد الرحمن ، فقال : انزعه يا غلام ، إنّما يظلّه عمله » (٢) .

وذكر ابن حجر : « مرّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر أخي عائشة ، وعليه فسطاطاً مضروب ، فقال : يا غلام أنزعه فإنّما يظلّه عمله ، قال الغلام : تضربني مولاتي قالت : كلّا فنزعه » (٣) .

وزاد ابن عساكر : « فقالت لها ـ لعائشة ـ امرأة : وإنّك لتفعلين مثل هذا يا أُمّ المؤمنين ؟ قالت : وما رأيتني فعلت ؟ إنّه ليست لنا أكباد كأكباد الإبل ، ثمّ أمرت بفسطاط ، فضرب على القبر ... » (٤) .

وعن ابن أبي مليكة : « أنّه رآها ـ عائشة ـ زارت قبر أخيها عبد الرحمن » (٥) .

أليس فيما ذكرت من الشواهد ما يكفي لإثبات سنّة الجلوس للعزاء ، وعقد مجالس النوح والبكاء ، وإنشاد وسماع واستماع الرثاء ، وزيارة القبور ، والدعاء عندها بالمأثور ؟

وبعد ، هل يحقّ للسنّي السعودي أن يلوم من يحيي ذكرى استشهاد الحسين عليه‌السلام ، أو ينتقد مظاهر الحزن التي يمارسها الشيعة معبّرين عن شعورهم بالولاء لصاحب الذكرى ، وإنّما يصرّ الشيعة على إحياء مراسيم العزاء في كلّ عام

______________________

(١) أُسد الغابة ٣ / ٣٠٦ .

(٢) صحيح البخاري ٢ / ٩٨ .

(٣) فتح الباري ٣ / ١٧٧ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٣٥ / ٤١ .

(٥) فتح الباري ٣ / ١١٨ .

٤٧٥

تذكيراً للآخرين ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٤) ، ولئلا يلفها ضباب النسيان ، وينكرها اتباع آل أبي سفيان ، كما حدثت لبيعة الغدير ، وإسقاط المحسن ، و ... .

ثمّ هي خير وسيلة إعلامية يملكها الشيعة لتبليغ مبادئهم ، وبلوغ مآربهم في إفهام الآخرين مظلومية أهل البيت عليهم‌السلام ، وفضح أعمال الأمويين والعباسيين وغيرهم من أعداء الدين .

وإنّما خصّوا الحسين عليه‌السلام بمزيد من الذكرى ، لأنّه بقية الخمسة من أصحاب الكساء ، ولولاه لقضى بنو أُمية على دين جدّه ، وقد استهانوا بكلّ قيمه وأخلاقياته ، وحسبك أن تقرأ من خطبة للإمام الحسين عليه‌السلام قوله : « أيّها الناس إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر ... » (٢) ، فهو عليه‌السلام أعلن سرّ نهضته ، فمن أحقّ من شيعته بالاستجابة لدعوته ؟

كما إنّ مظاهر إحياء الذكرى بما فيها من خروج المواكب في الطرقات ، وحتّى ما يجري فيها ممّا يسمّيه السنّي السعودي ـ من المناظر المخزية المخجلة ـ ليست هي أخزى بدعة من ضرب الدرباش ، وبدعة الرقص ، وما إليه ممّا يمارسه أهل الوجد والمجاذيب من أهل السنّة ، حتّى قال شاعرهم الأخرس البغدادي ناقداً لهم :

______________________

(١) الذاريات : ٥٥ .

(٢) تاريخ الأُمم والملوك ٤ / ٣٠٤ .

٤٧٦

أقال الله صفّق لي وغنّي

وقل هجراً وسم الهجر ذكرا

فإن تكن السيادة باخضرار

فإنّ السلق أشرف منك قدرا

وما هي ألا كنحو العرضة التي يمارسها أشياخ قومه حتّى اليوم .

وهل ينكر ما تعرضه برامج إذاعته التلفزيونية من تمثيليات ، لا يستسيغها كثير من أبناء بلده ، فهل هو ممّن يرى القذاة في عين غيره ، ولا يرى الجذع في عينه ؟

وأحسبه إنّما قال : مناظر مخزية مخجلة ، لأنّها تكشف عن صحائف يحسبها منسية ، وتثير الحسّ الخامل والغافل للبحث عن ملابسات القضية .

نعم هي أخزى لأنصار بني أُمية ، فإنّ إقامة الشعائر الحسينية تذكير للناس بتاريخ الأمويين المخزي ، فتظهر خزايتهم بارتكاب عظيم الجنايات في المسلمين ، ولم يكن السنّي السعودي أوّل من يستنكر إقامة تلك الشعائر ، ولا يكون آخرهم ، فهم قد دأبوا على استنكار إعادة تلك الذكريات ، حتّى قال شاعرهم :

هتكوا الحسين بكلّ عام مرّة

فتمثّلوا بعداوةٍ وتصوّروا

ويلاه من تلك الفضيحة إنّها

تطوى وفي أيدي الروافض تنشر

فردّ عليه غير واحد من شعراء الشيعة ، فقال بعضهم مشطّراً للبيتين ، ورادّاً الصاع بصاعين :

هتكوا الحسين بكلّ عام مرّة

أَبناء من قتلوا الحسين فكبّروا

قد ساءهم أن لا يكونوا شاركوا

فتمثّلوا بعداوة وتصوّروا

ويلاه من تلك الفضيحة إنّها

تحكي الذي فعلوه لمّا تذكر

فبها فضيحتهم تبين وجهدهم

تطوى وفي أيدي الروافض تنشر

والآن فلندع هذا كلّه جانباً ، وللنظر إلى مسألة إقامة الشعائر الحسينية من الوجهة الشرعية ، فماذا تقتضيه الأدلّة والقواعد ؟ فنقول :

٤٧٧

أوّلاً : إنّ الأصل في الأشياء الإباحة ، ما لم يأت تحريم ببرهان ، فعلى مدّعي الحرمة إقامة الدليل عليها من كتاب أو سنّة ثابتة مقبولة ، فالأصل إذاً مع منكر الحرمة لا مع المستنكر ، فلنا مطالبته بالدليل لا بالتضليل .

ثانياً : كلّ عمل من تلك الأعمال على الإجمال يسع المتضلّع الفقيه ، تخريج وجه له وجيه ، من عمومات الأدلّة ومحكمات القواعد المعقولة والمنقولة ، كما يستفاد من كلام الشيخ كاشف الغطاء قدس‌سره في جوابه على مسائل البصريين ، حول ما يجري في الساحة من ذكرى عاشوراء ، وله كلام في ذلك ننقل بعضه مضموناً ، فيما يخصّ مسألة اللطم على الصدور ، وخروج المواكب في الطرقات .

١ ـ ففي مسألة اللطم والدم ، حسبنا ما يرويه أعلامنا ، ويرويه أيضاً غيرنا من حديث دعبل بن علي الخزاعي ، وإنشاده قصيدته التائية عند الإمام الرضا عليه‌السلام أيّام ولاية العهد بخراسان ، وكان منها :

أفاطم لو خـلت الحسـين مجـدّلاً

وقـد مـات عطشـانـاً بشط فراتِ

إذاً لـلطمـت الخـدّ عنـده

وأجريت دمع العين في الوجنات » (١)

فسمع الإمام الرضا عليه‌السلام ولم يستنكر عليه قوله ، فإذا جاز لمثله أن يسمع ذلك ثمّ هو يبكي ، ويثيب الشاعر على قصيدته ثواباً جزيلاً ، فجائز لنا أن نلطم الخدّ أو الصدر في المصيبة الحسينية مادام مشروعاً ، ولو كان منكراً فيه خلاف للشرع لأنكره ، ولكنّه لم ينكر فهو جائز .

٢ ـ وأمّا مسألة خروج المواكب في الطرقات ، فهو أيضاً جائز في نفسه ، دون ما قد يصادفه من وقوع بعض المحرّمات ، فإنّ مساوقة المحرّم للخروج لا تعني حرمة الخروج ، لأنّ حرمة الشيء لا توجب حرمة ما يقع فيه ، فمن تغنّى بالقرآن مثلاً ، لا يقال له إنّ قراءة القرآن حرام ، بل يقال له : إنّ التغنّي بالقرآن حرام .

______________________

(١) شرح الأخبار ٣ / ١٧٣ .

٤٧٨

على أنّ خروج المواكب قد ثبت تاريخاً أنّه كان من عهد البويهيين في بغداد ، منذ القرن الرابع الهجري ، وكان ذلك العصر يعجّ بأفذاذ العلماء وجهابذة العلم ـ كالشيخين المفيد وابن قولويه ، والشريفين المرتضى والرضي ، والشيخ الطوسي ـ ولم يسمع من أحدهم إنكار ذلك ، بل ورد أنّ الشريف الرضي قدس‌سره لما ورد لزيارة جدّه الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء ، ورأى جماعة من الأعراب يعدّون ركضاً ، وهم ينوحون ويلطمون دخل في زمرتهم ، وأنشأ في ذلك الحال على البديهية مرثيته الخالدة ، التي لازالت حتّى اليوم تتلى وأوّلها :

كـربـلا لا زلـتِ كربـاً وبلا

مـا لقي عندكِ آل المصطـفى (١)

إلى أن يقول فيها :

لو رسول الله يـحيى بـعـدهـم

قعد الـيوم عـلـيـهـم للعزا

ونحن نقول له : أيّها الشريف لقد قعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للعزاء عليهم من يوم ولادة الحسين عليه‌السلام ، حين هبطت عليه ملائكة الرحمن تهنئه بمولد الحسين عليه‌السلام وتعزّيه بما يجري عليه ، وقد تكرّر منهم ومنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن بكى ، وأخبر أزواجه وأصحابه بمقتل الحسين ، حتّى ورد في حديث لعائشة قالت : فلمّا ذهب جبرائيل عليه‌السلام من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله والتربة في يده يبكي ، فقال : « يا عائشة إنّ جبرائيل عليه‌السلام أخبرني أنّ الحسين ابني مشهور مقتول في أرض الطفّ ، وإنّ أُمّتي ستفتتن بعدي » ، ثمّ خرج إلى أصحابه فيهم : علي ، وأبو بكر ، وعمر ، وحذيفة ، وعمّار ، وأبو ذر وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟

فقال : « أخبرني جبرائيل أنّ مشهور الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ ، وجاءني بهذه التربة ، وأخبرني أنّ فيها مضجعه » (٢) .

٣ ـ وأمّا مسألة زيارة قبورهم عليهم‌السلام ، فهي مستحبّة عندنا مؤكّدة الاستحباب ،

______________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٦٧ .

(٢) المعجم الكبير ٣ / ١٠٧ .

٤٧٩

كما أنّ عند العامّة زيارة القبور مسنونة أيضاً ، لأنّها تذكّر بالآخرة ، وحتّى البكاء عند القبور ليس فيه محذور ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زار أُمّه آمنة بنت وهب ، ومعه ألف مقنّع ، فبكى وبكوا معه ، حتّى لم ير باكياً أكثر من يومئذ (١) .

فهل علم السنّي السعودي أنّ أُمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ماتت ، وكان هو ابن ستّ سنين على أكثر تقدير ؟

وهل درى أنّ النبيّ زار قبر أُمّه وهو في طريقه إلى عمرة الحديبية ، أي بعد أربع وخمسين سنة ؟

وهل درى أنّ قبر آمنة كان بالأبواء بين مكّة والمدينة ، وثمّة رواية أنّه بالحجون بمكّة ، وقيل جمعاً بين الروايتين : أنّها دفنت أوّلاً بالأبواء ، ثمّ نبشت ونقلت إلى مكّة ، ودفنت بالحجون .

وهل درى أنّ الشيعة إنّما يفعلون نحو هذا اقتداء بسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهم يزورون قبور أئمّتهم ، وإن تطاول العهد ، ومهما طال الأمد ، ويعمّرونها بإصلاحها ، وهم يحيون مراسيم ذكراهم ، ويقيمون العزاء عليهم ، ويبكون لمصابهم ، كلّ ذلك اقتداء بسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ ـ وأمّا أعمال الشبيه على ما فيه ما ينبغي عليه التنبيه ، فإنّه كأيّ عمل آخر يشوبه ما يقتضيه التنزيه ، ولا يعني ذلك الحكم بالحرمة لمجرّد وقوع بعض المنافيات ، التي ليست هي منه بسبيل ، وإنّ آثار ذلك التمثيل أسرع تأثيراً في الناس من باقي مظاهر الحزن والعزاء .

حتّى أدرك ذلك الغربيون والشرقيون فجلب انتباههم ، وصاروا يبحثون عن الحسين عليه‌السلام من هو ؟ وما هي أهداف ثورته ؟ ولماذا يحيي الشيعة ذكراه كلّ

______________________

(١) المحلّى ٥ / ١٦١ ، نيل الأوطار ٤ / ١٦٤ ، ذخائر العقبى : ٢٥٨ ، مسند أحمد ٢ / ٤٤١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٥٠١ ، صحيح ابن حبّان ٧ / ٤٤٠ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٤٣ ، البداية والنهاية ٢ / ٣٤١ ، السيرة النبوية لابن كثير ١ / ٢٣٧ .

٤٨٠