موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ١

مركز الأبحاث العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ١

المؤلف:

مركز الأبحاث العقائديّة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-01-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-00-3

الصفحات: ٥٧٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وأقول مجيباً : أنّ المسافة ليست قريبة أبداً ، فبعض الروايات تذكر أنّ البعث كان بعد ثلاثة أيّام ، والأكثر تؤكّد بأنّ علياً لحق بهم عند الجحفة ، والجحفة أقرب إلى مكّة منها إلى المدينة .

وكذلك لم تذكر أية رواية ـ ولو ضعيفة أو موضوعة ـ بأنّ أبا بكر قد رجع والتحق بالبعثة ، بل هناك رواية صحيحة وصريحة تؤكّد إرجاع أبي بكر بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فوراً .

عن أبي بكر نفسه : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة لأهل مكّة ، لا يحجّ بعد العام مشرك ... قال : فسار بها ثلاثاً ، ثمّ قال لعلي عليه‌السلام ألحقه فَرُدّ عليَّ أبا بكر وبلّغها أنت ، قال : ففعل ، فلمّا قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر قال : يا رسول الله ، حدث فيّ شيء ؟ قال : « ما حدث فيك إلّا خير ، ولكن أُمرت ألا يبلّغه إلّا أنا أو رجل منّي » (١) .

قال ابن حجر : « في الصحيح بعضه ، رواه أحمد ورجاله ثقات » (٢) .

٧ ـ أمّا ما ذكروه من علّة إرسال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً بدلاً عن أبي بكر ـ من عادة العرب عند نقض العهود ، بأن يأتي نفس من تعاهد معهم ، أو قريبه لنقض العهد المبرم ـ فباطل ومردود من وجوه منها :

أ ـ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أعلم بهذه العادات وغيرها ، فكم من مشكلة تدخّل بحلّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكم من مشكلة رآها وصادفها ، بل كم من حديث يذكر فيها للصحابة عادات الجاهلية وأعرافهم لاسيّما الحسنة منها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق » (٣) ، فلولا علمه بأخلاق وعادات وتقاليد العرب في زمنه

______________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣ ، مسند أبي يعلى ١ / ١٠٠ ، كنز العمّال ٢ / ٤١٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤٧ ، جواهر المطالب ١ / ٩٧ .

(٢) مجمع الزوائد ٣ / ٢٣٩ .

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٧ / ٣٤٥ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٥٠٥ و ٧ / ٦ ، لسان العرب ١٠ / ٨٧ ، كشف الخفاء ١ / ٢١١ .

١٨١

وغير زمنه لما قال : « لأتمم » ، فإتمامها يدلّ على إقرارها والاعتراف بها ، وهو فرع معرفتها والعلم بها ، فلماذا لم ينتبه لذلك منذ البداية ؟ وكذلك أبو بكر ، فهو عربي وكبير السنّ ، فكيف غابت عنه تلك الأعراف والتقاليد ، حيث بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! بل لو سلّمنا عدم معرفتهما لذلك أو نسيانهما ، فكيف استغرب واستهجن عزله عن تلك المهمّة معترضاً سائلاً : أنزل فيّ شيء ؟

وكذلك لم يخبر علي عليه‌السلام ولا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه العادة ، ليطيب خاطره ، بل أخبره بأنّ العزل إلهي لا عرفي ولا جاهلي !!

ب ـ إنّ الروايات جميعاً ذكرت تبليغ آيات براءة ، وليس في شيء من القرآن أو الروايات نقض لعهد سابق ، بل كلّ الروايات تشير إلى أنّ المهلة المحدّدة في القرآن بأربعة اشهر ، كانت لمن كان عهده لأقلّ من تلك المدّة ، أو لمن لا عهد له مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا من كان عهده يطول عن تلك المدّة فعهده إليها ، فالبعث كان لتأكيد العهود واحترامها لا نقضها ، فأين نقض العهد الذي يستدعي أن يحضر من عقده أو قريبه ؟!

ج ـ هنالك من هو أقرب من علي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نسباً ووجاهة عند قريش ، كعمّه العباس وعقيل وغيرهما ، فلماذا أرسل علياً ؟ الذي أعتذر من النبيّ ـ كما في بعض الروايات ـ من عدم قابليته على الكلام بصوت مرتفع بين الناس ، فدعا له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال له : « أمّا أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت » ، فوافق على الذهاب لخوفه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفدائه بنفسه ، وقال : « فإن كان ولابدّ فسأذهب أنا » (١) .

وهذا الإصرار من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على علي يؤكّد عدم صحّة ادعائهم ، وخصوصاً أنّ الروايات تؤكّد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « إلّا أنا أو رجل منّي » ، وقد أكّد مراراً وتكراراً كما روى البخاري وغيره قوله لعلي عليه‌السلام : « أنت منّي

______________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٥٠ ، تفسير القرآن العظيم ٢ / ٣٤٦ .

١٨٢

وأنا منك » ، وكذلك : « ولا يؤدّي عنّي إلّا علي » ، فهذه المنزلة وهذا الاختصاص لعلي عليه‌السلام مع وجود غيره أقرب نسباً ، أو أكبر سنّاً ، أو أكثر قبولاً عند قريش والمشركين ، والإصرار عليه عليه‌السلام ، لابدّ أنّ وراءه سرّاً ومغزى ؟!

د ـ بل هناك روايات تنقل أنّ أبا بكر أرسل أبا هريرة وآخرين يؤذّنون في الناس ، وكان علي يؤذّن معهم ، كما يدّعي أبو هريرة ، فيناوبون معه ، فهل هؤلاء المؤذّنون ـ كأبي هريرة والآخرين الذين أرسلهم أبو بكر ـ أقرب للنبيّ من أبي بكر ؟ وهل يصلحون لذلك أكثر منه ؟ فلماذا عزل إذاً ؟!

٨ ـ وعلى كلّ حال حتّى لو صحّ أنّه ذهب للحجّ ، وأكمل المناسك ، فإنّه لو تنزّلنا وأثبتنا له ذلك فهي ليست فضيلة ، لأنّ ذلك قد ثبت لمن لا فضيلة له ، ولا سابقة في الموسم الذي سبقه ، فقد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عتاباً بن أسيد ـ الذي أسلم في الفتح ، وكان من الطلقاء ـ على الحجّ عام ثمانية بعد عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل هذا يعني أنّ عتاباً أفضل الصحابة ؟ أو أنّه صاحب سابقة وفضيلة ، وأفضل أهل مكّة ؟!

ولو طلبنا منكم الإنصاف والتعامل مع الفضائل على حدّ سواء ، فإنّكم أنتم لا تستطيعون أن تجعلوا هذا البعث فضيلة ، لأنّكم حكمتم سابقاً على فضيلة واضحة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّها ليست كذلك ، وذلك حينما خلّفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة عندما ذهب إلى تبوك ، وقال له : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » (١) ، وقلتم : بأنّ تخليفه على المدينة ليس فضيلة ، لأنّ

______________________

(١) فضائل الصحابة : ١٣ ، شرح صحيح مسلم ١٥ / ١٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٩ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١٦١ ، مسند أبي داود : ٢٩ ، المصنّف للصنعاني ٥ / ٤٠٦ و ١١ / ٢٢٦ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٩٦ و ٨ / ٥٦٢ ، مسند ابن راهويه ٥ / ٣٧ ، مسند سعد بن أبي وقّاص : ٥١ و ١٠٣ و ١٣٩ ، الآحاد والمثاني ٥ / ١٧٢ ، كتاب السنّة : ٥٥١ و ٥٨٦ و ٥٩٥ و ٦١٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٤ و ١٠٨ و ١١٣ و ١٢٠ و ١٢٥ و ١٤٤ ، خصائص أمير المؤمنين : ٤٨ و ٦٤ و ٧٦ و ٨٠ و ٨٥ و ١١٦ ، مسند أبي يعلى ١ / ٢٨٦ و ٢ / ٦٦ و ٨٦ و ٩٩ و

١٨٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خلّف عليها سابقاً أُناساً عاديين ـ كابن أُمّ مكتوم ـ وجعلتم النصّ المدح له ليس إلّا تطييباً للخاطر ، وأوّلتموه شرّ تأويل ، مع ما ينصّ من عدم الفرق إلّا في النبوّة .

أمّا حادثة أبي بكر ، ففيها العزل وأخذ براءة ، وفيها عدم ثبوت حجّته من أصلها ، وفيها أنّ حجَّه كان كحجّ أهل الجاهلية ، وفيها أنّه لم يمدح من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيها أنّه قد حجّ بالناس في السنة الماضية لحجّه أحد الطلقاء ، وكلّ ذلك وأنتم تثبتون الفضيلة ، بل الأفضلية لأبي بكر ، بمثل هذه الأوهام ، وترفضون أيّ فضل لعلي عليه‌السلام ، ولو نصّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

______________________

١٣٢ و ١٢ / ٣١٠ ، أمالي المحاملي : ٢٠٩ و ٢٥١ ، صحيح ابن حبّان ١٥ / ١٦ و ٣٧١ ، المعجم الصغير ٢ / ٢٢ و ٥٤ ، المعجم الأوسط ٢ / ١٢٦ و ٣ / ١٣٩ و ٤ / ٢٩٦ و ٥ / ٢٨٧ و ٦ / ٧٧ و ٨٣ و ٧ / ٣١١ و ٨ / ٤٠ ، المعجم الكبير ١ / ١٤٨ و ٢ / ٢٤٧ و ٤ / ١٨٤ و ٥ / ٢٠٣ و ١١ / ٦٣ و ١٢ / ١٥ و ٧٨ و ٢٤ / ١٤٦ ، نظم درر السمطين : ١٠٧ ، موارد الظمآن : ٥٤٣ ، كنز العمّال ٥ / ٧٢٤ و ٩ / ١٦٧ و ١١ / ٥٩٩ و ٦٠٣ و ١٣ / ١٠٦ و ١٥٨ و ١٦٣ و ١٩٢ و ١٦ / ١٨٦ ، فيض القدير ٤ / ٤٧١ ، كشف الخفاء ٢ / ٣٨٢ ، شواهد التنزيل ١ / ١٩٢ و ٢ / ٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ١ / ٢٦٦ و ٧ / ٢٧٧ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٢٣ ، الكامل في ضعفاء الرجال ١ / ٣٠٦ و ٢ / ٣١٥ و ٤١٣ و ٣ / ٢٠٧ و ٤ / ٢٢٩ و ٥ / ١٩٩ و ٦ / ٦٨ و ٢١٦ ، تاريخ بغداد ٧ / ٤٦٣ و ٨ / ٥٢ و ١١ / ٤٣٠ و ١٢ / ٣٢٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٢ / ٣١ و ١٣ / ١٥١ و ٢٠ / ٣٦٠ و ٢١ / ٤١٥ و ٣٠ / ٣٥٩ و ٣٨ / ٧ و ٣٩ / ٢٠١ و ٤١ / ١٨ و ٤٢ / ٤٢ و ٥٣ و ١٠٠ و ١١١ و ١١٥ و ١٣٩ و ١٤٥ و ١٥٢ و ١٥٩ و ١٦٥ و ١٧١ و ١٧٧ و ١٨٢ و ٥٤ / ٢٢٦ و٥٩ / ٧٤ و ٧٠ / ٣٥ ، أُسد الغابة ٤ / ٢٧ ، تهذيب الكمال ٢٠ / ٤٨٣ و ٢٥ / ٤٢٣ و ٣٢ / ٤٨٢ و ٣٥ / ٢٦٣ ، تذكرة الحفّاظ ١ / ١٠ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٣٦١ و ٧ / ٣٦٢ و ١٢ / ٢١٤ و ١٤ / ٢١٠ و ١٥ / ٤٢ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩٦ ، الإصابة ٤ / ٤٦٧ ، أنساب الأشراف : ٩٤ ، و ١٠٦ ، الجوهرة : ١٤ و ٦٢ ، البداية والنهاية ٥ / ١١ و ٧ / ٢٥١ و ٣٧٠ و ٣٧٤ و ٨ / ٨٤ ، جواهر المطالب ١ / ٥٨ و ١٧١ و ١٩٧ و ٢١٢ و ٢٩٦ ، سبل الهدى والرشاد ٥ / ٤٤١ و ١١ / ٢٩١ و ٢٩٦ ، ينابيع المودّة ١ / ١١٢ و ١٥٦ و ١٦٠ و ٣٠٩ و ٤٠٤ و ٢ / ٩٧ و ١١٩ و ١٥٣ و ٢٣٧ و ٣٠٢ و ٣٨٩ و ٣ / ٢١١ و ٣٦٩ و ٤٠٣ .

١٨٤

« ... ـ ... ـ ... »

لم يأمره النبيّ بالصلاة :

س : أرجو إبطال الرواية القائلة بأنّ أبا بكر صلّى بالناس في مرض رسول الله من كتب أهل السنّة ؟

ج : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمر أبا بكر بالصلاة في تلك الأيّام الثلاثة قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى ، ونستدلّ على مدّعانا بأُمور منها :

١ ـ التناقض الشديد في الروايات ، فمرّة تطلب عائشة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمر عمر بالصلاة وليس أبا بكر ، ومرّة تطلب عائشة من حفصة ذلك ، وأُخرى أنّ أبا بكر طلب من عائشة أن تطلب ذلك وتقوله للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُخرى يؤمر عمر بالصلاة ، فيسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صوته ، فيغضب ويقول : « فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون » (١) ، وأُخرى يقدّم أبو بكر عمر ، فيجيبه عمر : بأنّك أحقّ بها ، ولا يذكر رفض النبيّ لصلاته ، وأُخرى يخرج النبيّ فينظر لهم ويبتسم ويرجع ، وأُخرى يذهب فيصلّي إماماً ، وأُخرى مأموماً خلف أبي بكر ، وهكذا ، فأيّها نصدّق ؟ وهو أمر واحد وحادثة واحدة ، وهذه الأحاديث لا يمكن الجمع بينها ، وكلّها صحيحة عندهم !!

وإجاباتهم عنها بتعدد الأمر والحادثة ، وهذا لا يتلائم ولا يصحّ مهما فعلوا وأوّلوا مع أكثر الروايات ، فمثلاً الرواية التي تذكر إمامة عمر للناس بالصلاة لم يكن أبو بكر موجوداً حينها ، والروايات التي تذكر طلب عائشة وحفصة إمامة عمر بدلاً من أبي بكر لا تذكر أنّ أبا بكر غير موجود ، بل تذكر وجوده وإمامته ، وطلبهن لإمامة عمر إن كان بعد إمامة عمر ، ورفض النبيّ لها ، فذلك لا يعقل ، لأنّ النبيّ أوضح رفضه ، ويكون طلبهن معصية واضحة ، وإن كان طلبهن له قبل إمامة عمر ، فقد بيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه لهن : بأنّ الله

______________________

(١) المحلّى ٤ / ٢١٠ ، مسند أحمد ٤ / ٣٢٢ ، سنن أبي داود ٢ / ٤٠٥ .

١٨٥

يأبى ذلك والمؤمنون ، فكيف اجتهد عمر في مقابل النصّ ؟ وقام بإمامة الناس بعد نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على عدم قبول إمامته للصلاة بالناس .

٢ ـ إنكاره صلى‌الله‌عليه‌وآله على بعض نسائه وهو في تلك الحالة الشديدة إنكاراً لاذعاً ، وهذا يعني فداحة الفعل وخطورته ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهن : « إنّكن صواحب يوسف » (١) ، وهذا التشبيه قال عنه الباجي : « أراد أنّهن قد دعون إلى غير صواب ، كما دعين ، فهن من جنسهن » (٢) .

وقال النووي : « قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « صواحب يوسف » أي في تظاهرهن على ما يردن وإلحاحهن فيه ، كتظاهر امرأة العزيز ونسوتها على صرف يوسف عليه‌السلام عن رأيه في الاعتصام ... » (٣) .

وإمّا قول من قال بأنّ وجه المشابهة في إظهار خلاف ما في الباطن أو لكثرة الإلحاح فقط ، فذلك الفعل لا يستحقّ هذا التشبيه وهذا التوبيخ ، وأخلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع من أن ينكر على نسائه ويشبههن بنساء عاصيات ، وهو على تلك الحال من عدم استطاعته الخروج للصلاة !! وخصوصاً فإنّ نواياهن وما في الباطن الذي كشفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تبح به إحداهن أبداً ، إنّما كان نية حسنة وليس منكراً أو معصية ، وإنّما هو أمر مشروع بل مستحبّ .

والمعروف لدى الجميع ، بأنّ صويحبات يوسف لم يكن منهن خلاف على يوسف ، ولا مراجعة له أو إلحاح في شيء ، وإنّما افتتن بأسرهن بحبّه ، وأرادت كلّ واحدة منهن مثل ما أرادت صاحبتها فأشبهن حالهن ، ولهذا التفسير شاهد يدلّ عليه ، وهو عن ابن عباس قال : « لمّا مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه ، كان في بيت عائشة ، فقال : « أدعو لي علياً » ، قالت عائشة : ندعو لك أبا بكر ، قال : « أدعوه » ، قالت حفصة : يا رسول الله ندعو لك عمر ، قال :

______________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٦٢ .

(٢) تنوير الحوالك : ١٨٨ .

(٣) المجموع شرح المهذّب ٤ / ٢٤٢ .

١٨٦

« أدعوه » ، قالت أُمّ الفضل : يا رسول الله ندعو لك العباس ، قال : « أدعوه » ، فلمّا اجتمعوا رفع رأسه ، فلم ير علياً فسكت .

فقال عمر : قوموا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء بلال يؤذّنه بالصلاة ، فقال : « مروا أبا بكر يصلّي بالناس » ، فقالت عائشة : إنّ أبا بكر رجل حصر ، ومتى لا يراك الناس يبكون ، فلو أمرت عمر يصلّي بالناس ، فخرج أبو بكر فصلّى بالناس ، ووجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من نفسه خفّة ، فخرج يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ... ومات في مرضه ذاك عليه‌السلام » (١) .

فهذا النصّ للحديث يدلّ قطعاً على حال قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهن : « إنّكن صواحب يوسف » ، فطلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً ، وعدم طاعته في ذلك ، وأنّ كلّ واحدة منهن أرادت ما تحبّ وتريد ، لا ما يريده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي كلّ واحدة أرادت لنفسها ما أرادت الأُخرى ، وهذا ما صدر من صواحب يوسف .

أمّا ما أوّله أكثرهم من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد صاحبة يوسف لا الصواحب ، وكذلك قال : « إنّكن » وأراد عائشة ، فهو تحريف واضح ، وخلاف للظاهر ، بل يشهد على بطلانه شاهد واضح ، وهو قول حفصة لعائشة بعد هذا القول من النبيّ : والله ما كنت لأصيبَ منك خيراً .

وقال نفس هؤلاء المؤوّلين : لعلّها تذكّرت من عائشة أيضاً مسألة المغافير ، فهذا القول ألا يعني شمولها بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهل فهمت حفصة منه الإلحاح البريء من الطلب ؟ أم التظاهر وطلب الفضل والاختصاص بخلاف إرادة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصرفه عنها إلى ما يُرِدن .

٣ ـ إنكاره صلى‌الله‌عليه‌وآله لتلك الصلاة ، والاهتمام ببيان ذلك بوسائل متعدّدة على ما كان يعانيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثقل ومرض ، فمرّة يسمع عمر يصلّي فيقول : « فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون » ، ومرّة يسمع أبا بكر يصلّي ، فيخرج يهادى

______________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٥٦ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٩١ ، شرح معاني الآثار ١ / ٤٠٥ ، المعجم الكبير ١٢ / ٨٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٨ / ١٨ .

١٨٧

بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ، ويقولون : وجد في نفسه خفّة ـ فأي خفّة هذه التي لا يستطيع معها لا المشي ولا الوقوف ؟ بل جلس وعزل أبا بكر عن إمامته وبيّن رفضه ـ بسوء حالته وجلوسه مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً وإن يصلّي جالساً فصلّوا جلوساً ، ولا تقوموا وهو جالس ... » (١) .

وتأوّلوا ذلك أيضاً وقالوا : إنّه منسوخ بفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأخير في مرضه ، فهلا بيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك النسخ ، أو فهمه أحد الصحابة ، بل ثبت أنّ أسيد بن حضير ، وجابر بن عبد الله الأنصاري صلّيا بجماعة ، وهم قعود مرضى ، وأمروا جماعتيهما بالجلوس ، واثبتوا الحديث الذي سردناه في وجوب صلاة المأمومين جلوساً أن صلّى الإمام جالساً ، فأيّ بيان بعد هذا يبيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله برفضه لإمامة أبي بكر وإبطال صلاته ، كما فعل مع عمر .

فقد نقل : أنّهم تفرّقوا عن عمر لمّا سمعوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ينكر إمامته ، ونقلوا : أنّ أبا بكر قد أعاد صلاتهم لمّا رجع عن السفح ، الخ .

ويشهد لكلامنا قول السندي عند شرحه حديث مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلاته : « واستدلّ الجمهور بهذا الحديث على نسخ حديث إذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً ... وهذا يفيد الاضطراب في هذه الواقعة ، ولعلّ سبب ذلك عظم المصيبة ، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة لا يخلو عن خفاء ، والله تعالى أعلم » (٢) .

٤ ـ بعض الروايات تصرّح وبعضها تشير إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصدر عنه أمر لأحد معيّن للصلاة بالناس ، فصلاة عمر بالناس بأمر عبد الله بن زمعة لا بأمر

______________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٠٠ ، صحيح البخاري ١ / ١٦٩ ، سنن أبي داود ١ / ١٤٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٣ / ٧٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٢ / ٢٢٤ ، السنن الكبرى للنسائي ١ / ٢٩٢ ، مسند أبي يعلى ٧ / ٤٧٠ .

(٢) حاشية السندي على النسائي ٢ / ١٠٠ .

١٨٨

النبيّ ، وإنّما قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مر الناس فليصلّوا » (١) ، وكذلك الرواية الأُخرى التي يرويها أحمد عن أنس قال : لمّا مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي توفّى فيه ، أتاه بلال يؤذّنه بالصلاة ، فقال بعد مرّتين : « يا بلال قد بلّغت ، فمن شاء فليصل ، ومن شاء فليدع » (٢) ، فجعل روحي فداه بعد تبليغه وإنكاره عليهم ما عقدوه من جماعة بإمامة أبي بكر أو عمر المشيئة لهم بالصلاة ، أو عدم الصلاة ، كما قال تعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٣) .

ويدلّ على إنكاره صلى‌الله‌عليه‌وآله لفعلهم وإصراره عليه رواية البخاري عن أنس : « إنّ المسلمين بينما هم في الفجر يوم الاثنين ، وأبو بكر يصلّي بهم ، ففاجأهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم وهم صفوف ، فتبسّم يضحك ، فنكص أبو بكر على عقبيه ، وظنّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يخرج إلى الصلاة ، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رأوه ، فأشار بيده أن أتمّوا ، ثمّ دخل الحجرة ، وأرخى الستر ، وتوفّي ذلك اليوم » (٤) .

ويتّضح منها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في حالة صحّية أفضل من تلك ، وأنّه قام لوحده ورفع الستر ووجه مستنير ، فلماذا لم يخرج ويصلّي جماعة ؟ وقد صلّى قبلها وهو يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ؟! فإن كان هناك حريص على الجماعة كما تزعمون ، فيجب أن يكون هنا أحرص كما هو واضح ، وإن كان بتلك الحالة يقصد التنبيه إلى إنكاره إمامة أبي بكر للناس ، فهنا الدلالة أوضح ، لأنّه يستطيع الصلاة معهم ولم يصل .

______________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٣٤ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٢٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٠ / ٢٦٣ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ١٧٥ .

(٢) مسند أحمد ٣ / ٢٠٢ ، مجمع الزوائد ٥ / ١٨١ ، مسند أبي يعلى ٦ / ٢٦٤ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٤ ، كنز العمّال ٧ / ٢٦٢ .

(٣) الكهف : ٢٩ .

(٤) صحيح البخاري ٢ / ٦٠ .

١٨٩

وكذلك نكوص أبي بكر ، وافتتان الناس واضطرابهم ، بل يصفهم في رواية : حتّى وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم ... ، ولم يفهموا رضا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على حالهم كما يزعمون ، وإلّا لما نكص وتأخّر أبو بكر لمّا وجد من قدرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أداء الصلاة ، ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن سابقاً ، وأنكر عليهم تلك الصلاة ، وهم بقوا على ما هم عليه مصرّين ، فبيّن لهم إنكار فعلهم بترك الصلاة معهم ، وهو قادر على الأداء ، أرخى الستر ومات من يومه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال ؟

ولكلامي هذا شاهد في عزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد روى سهل بن سعد الساعدي : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلّغه أنّ بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلح بينهم في أُناس معه ، فحبس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحانت الصلاة ، فجاء بلال إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حبس ، وقد حانت الصلاة ، فهل لك أن تؤم الناس ؟ قال : نعم إن شئت ، فأقام بلال ، وتقدّم أبو بكر ، فكبّر للناس ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمشي بين الصفوف حتّى قام في الصفّ ، فأخذ الناس في التصفيق ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ، فلمّا أكثر الناس التفت ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمره أن يصلّي ، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ، ورجع القهقرى وراءه حتّى قام في الصفّ ، فتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى بالناس » (١) .

فهذا الحديث يدلّ على جرأة أبي بكر في إمامة الناس دون أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو حتّى علمه ، وإنكار النبيّ لفعله واضح من شقّه للصفوف ، وعدم إسكاته للناس حين صفّقوا ، وأكثروا التصفيق بل فهموا كلّهم ، وفهم أبو بكر بأنّ النبيّ هو الذي يجب أن يصلّي ، وأنّه غير راضٍ بهذه الصلاة ، بل استعان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمصلّين في الإنكار على أبي بكر ، ولم يحاول الدخول من بيته كما

______________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٦٩ .

١٩٠

تعوّد في سائر أحواله ، بل دخل مسرعاً حتّى لا يشغله شاغل في البيت ، ليبيّن إنكاره بصورة مهذّبة كما عوّدنا دائماً .

٥ ـ وممّا يكذّب التعيين ويصطدم معه مسألة اهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يصلّي هو بنفسه ، وعدم استسلامه للمرض الشديد الذي كان يعانيه ، فقد أُغمي عليه ثلاث مرّات ، وفي كلّ مرّة يصرّ على الخروج والصلاة بالناس ، ويتوضّأ حتّى يغمى عليه من شدّة المرض ، ولم يترك ذلك حتّى سمع أصواتهم يصلّون ، فخرج وأنكر ، وفعل ما فعل بصلاته ، وخروجه وهو يهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان في الأرض ، وعزله أبا بكر ، بل صلّى قاعداً وبقي المسلمون قائمين ، مع قوله لهم مراراً وتكراراً ، وتطبيقاً : « إنّما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً ، وإن يصلّي جالساً فصلّوا جلوساً ، ولا تقوموا وهو جالس ... » (١) .

وبرّروا هذه المخالفة بقولهم : بأنّ أبا بكر كان مأموماً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والناس يأتمّون بأبي بكر ، وهذه المخالفة وهذا التبرير أسوأ من الذنب ، إذ لا توجد لدينا في الإسلام صلاة ذات إمامين ، بل ثبت أنّ هناك مخالفتين عند المسلمين في تصرّفهم ذاك ، لا يمكن تأويله أو قبوله .

فينبغي القول : بأنّ المسلمين اختاروا أبا بكر إماماً برغم إنكار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، كما أنكر إمامة عمر في السابق ، ويأتي أبو بكر بعد ذلك ليقدّمه ، ويجيبه عمر : بأنّك أولى بها منّي ، كما فعلوا في سقيفة بني ساعدة ، حذوَ القذة بالقذةَ ، ويشهد على قولنا هذا ما قاله ابن عمر وابن عباس والإمام علي عليه‌السلام للمسلمين ، حينما كانوا يبلّغون أحكاماً مخالفة للأحكام الصادرة عن الشيخين ، فيقول ابن عباس : « ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض ، أقول

______________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٠٠ ، صحيح البخاري ١ / ١٦٩ ، سنن أبي داود ١ / ١٤٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٣ / ٧٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٢ / ٢٢٤ ، السنن الكبرى للنسائي ١ / ٢٩٢ ، مسند أبي يعلى ٧ / ٤٧٠ .

١٩١

لكم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر » (١) .

ويدلّ أيضاً على تفضيلهم أبا بكر وعمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وميلهم لهما ومن دون دليل ، حديث ابن عمر : « كنّا في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا نفاضل بينهم » (٢) .

وعن ابن عمر أيضاً : « كنّا نقول في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يكون أولى الناس بهذا الأمر ؟ فنقول : أبو بكر ثمّ عمر » (٣) .

وغيرها من أدلّة وافية كافية تدعم ما ذهبنا إليه من ميلهم وانحرافهم عن أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو أبي بكر وعمر .

وأخيراً : فممّا يبطل ذلك الأمر المزعوم هو : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شدّد وأكّد في إنفاذ جيش أُسامة ، وفيه كلّ شيوخ قريش ، حتّى إنّهم اعترضوا كيف يولّي فتى لم يبلغ مبلغ الرجال على شيوخ قريش ؟ واعترضوا وأبوا أن يخرجوا ، وقرعهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مريض يشتكي رأسه ، فخرج معصوب الرأس ، مرتقياً المنبر رادّاً عليهم ، فعن ابن عمر قال : أمّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُسامة على قوم ، فطعنوا في إمارته ، فقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة ... » (٤) .

وهذا الحديث يبيّن أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يخرج الجميع سوى أهل بيته نفيراً عامّاً ، وأمّر عليهم فتى صغيراً ، وكلّ ذلك قبل أن يمرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم

______________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام لابن حزم ٢ / ١٤٨ و ٤ / ٥٨١ و ٥ / ٦٥٠ ، ١١ / ٣٥٥ ، مسند أحمد ١ / ٣٣٧ ، الشرح الكبير ٣ / ٢٣٩ ، المغني لابن قدامة ٣ / ٢٣٩ ، تذكرة الحفّاظ ٣ / ٨٣٧ ، سير أعلام النبلاء ١٥ / ٢٤٣ .

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٠٣ ، فتح الباري ٧ / ١٤ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١٣٨ ، الجامع لأحكام القرآن ٨ / ١٤٨ .

(٣) فتح الباري ٧ / ١٥ ، المعجم الكبير ١٢ / ٢٨٧ .

(٤) صحيح البخاري ٥ / ٨٤ ، صحيح ابن حبّان ١٥ / ٥٣٥ ، مسند أحمد ٢ / ٢٠ ، صحيح مسلم ٧ / ١٣١ .

١٩٢

اعترضوا وأبوا الخروج والانقياد لعبد أسود صغير السنّ ، فمرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يخرجوا ، فأخّروا أنفسهم كثيراً ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يزداد مرضه ، وهو يستصرخهم : « جهّزوا جيش أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (١) ، حتّى خرجوا ورجعوا ، وخرجوا وعسكروا قريباً من المدينة ، ثمّ أصرّوا على المعصية ، وحدث ما حدث من رجوعهم وتركهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مسجّى ، وذهبوا ليتآمروا في السقيفة .

فهذه أحوالهم وهذه طاعتهم ، فانظر بإنصاف لقضية الصلاة وبعث أُسامة ، فسترى ما فيهما من تشابه ، وقارن بين إرادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإرادة البعض من المسلمين .

ولنا هنا أن نسأل : كيف يأمر النبيّ أبا بكر بالصلاة وهو يعلم أنّه بعثه في جيش أُسامة ؟! ثمّ كيف يكون أبو بكر في المدينة ليؤمّ المسلمين في المسجد ، وهو خارجها معسكراً في سرية أُسامة ؟!

______________________

(١) الملل والنحل ١ / ٢٣ .

١٩٣

١٩٤

أبو طالب :

« اللواتي ـ عمان ـ ... »

هو الحجّة قبل النبيّ :

س : يقول المعصوم عليه‌السلام : « لولا الحجّة لساخت الأرض » ، ومن المعلوم أنّ الحجّة في يومنا هذا هو الإمام المهدي عليه‌السلام ، فمن هو الحجّة في الفترة التي قبل أن يكون النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة ؟

ج : قد جاء في رواياتنا ، أنّ الحجّة قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أبو طالب رضي‌الله‌عنه .

قال العلّامة المجلسي قدس‌سره : « وقد أجمعت الشيعة على إسلامه ، وأنّه قد آمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوّل الأمر ، ولم يعبد صنماً قط ، بل كان من أوصياء إبراهيم عليه‌السلام ... » (١) .

ولكنّه كان يعمل بالتقية ، أي لم يظهر أنّه حجّة ، وإلّا لقتل كأهل الكهف .

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان ، وأظهروا الكفر ، فآتاهم الله أجرهم مرّتين ، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان ، وأظهر الشرك ، فآتاه الله أجره مرّتين » (٢) .

______________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ١٣٨ .

(٢) شرح نهج البلاغة ١٤ / ٧٠ .

١٩٥

« إبراهيم عبد الله ـ السعودية ـ ... »

آية عدم الاستغفار للمشركين لم تنزل في حقّه :

س : هل صحيح أنّ آية : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) نزلت في أبي طالب ؟

ج : لا يخفى عليكم : أنّ معاوية بن أبي سفيان انفق الكثير من بيت مال المسلمين في سبيل تزوير الأحاديث ، وتحريف الآيات النازلة في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، فوضع في حقّ الإمام علي عليه‌السلام وأبيه أبي طالب عليه‌السلام الأراجيف والتهم انتقاماً منهما .

ومن تلك التهم التي وضعها هي : أنّ أبا طالب عليه‌السلام مات مشركاً ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستغفر لعمّه ، فنزلت الآية الشريفة لتنهاه عن الاستغفار له ، وذلك من خلال وضع الأحاديث المحرّفة في شأن نزول هذه الآية ، والتي ترويها بعض الكتب السنّية ، منها : ما جاء في « صحيح البخاري » عن ابن المسيّب عن أبيه : إنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة ، دخل عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعنده أبو جهل ، فقال : أي عم ، قل : لا اله إلّا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية : يا أبا طالب ترغب عن ملّة عبد المطّلب ، فلم يزالا يكلّمانه ، حتّى قال آخر شيء كلّمهم به : على ملّة عبد المطلب ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لاستغفرن لك ما لم أُنه عنه ، فنزلت : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (١) .

وبهذا المضمون وردت روايات أُخرى بأسانيد مختلفة .

والجواب عن هذه الشبهة ، تارة يقع عن الحديث ، وأُخرى عن الآية .

أمّا الحديث ففيه : إنّ رواته ورواة الأحاديث الأُخرى بين ضعيف ومجهول ومطعون به ، فالروايات إذاً ضعيفة السند ، خصوصاً وأنّ راويها سعيد بن المسيّب ، الذي اختلف فيه اختلافاً كبيراً ، بين التعديل والتجريح ، ومن

______________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٢٤٧ ، التوبة : ١١٣ .

١٩٦

القادحين فيه ابن أبي الحديد في « نهج البلاغة » (١) ، حيث سلكه في عداد المنحرفين عن علي عليه‌السلام ، وأنّ في قلبه شيئاً منه .

إذاً كيف نستطيع أن نأخذ حديثاً في قدح علي عليه‌السلام من شخص متهم عليه ؟

وإذا عرفنا أنّ سعيداً هو القائل : « من مات محبّاً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وشهد للعشرة بالجنّة ، وترحّم على معاوية ، كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب » (٢) ، فحينئذ نعرف بعد ما أوضح موقفه من معاوية ، قيمة هذا الحديث الذي وضعه في حقّ أبي طالب عليه‌السلام .

وأمّا الآية ففيها :

١ ـ تدلّنا رواية البخاري على أنّ الآية نزلت عند احتضار أبي طالب ، ولكنّا إذا رجعنا إلى نزولها وجدناها مدنية ، فبين وفاة أبي طالب ونزول هذه الآية ، ما يزيد على ثمانية أعوام .

فمجرى الحديث يدلّ على استمرار استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّه ـ وهو كذلك ـ ولم ينقطع إلّا عند نزول هذه الآية : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... ) .

وهنا نتساءل : كيف جاز للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستغفر لعمّه في الفترة التي بعد موته حتّى نزول هذه الآية ؟ وكانت قد نزلت على الرسول آيات زاجرة تنهاه ، وتنهى المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ، قبل نزول هذه الآية بأمد طويل ، من تلك الآيات قوله : ( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) (٣) فهل يجوز للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستغفر لعمّه ، ولديه آيات ناهية وزاجرة عن الاستغفار للمشركين ؟

٢ ـ هناك روايات وأقوال تنقض حديث البخاري وغيره في وجه نزول الآية .

على سبيل المثال :

______________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠١ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٥٩ / ٢٠٧ .

(٣) المجادلة : ٢٢ ، وقوله في سورة النساء : ١٣٩ و ١٤٤ ، وآل عمران : ٢٨ ، والمنافقون : ٦ ، وغيرها .

١٩٧

أ ـ عن الإمام علي عليه‌السلام قال : « سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت الآية المذكورة » (١) .

ب ـ وفي رواية أُخرى : وقال المؤمنون : ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم ؟ فنزلت (٢) .

٣ ـ اختلف في تفسير الآية ، فالبعض قال : تحمل معنى النفي لا معنى النهي ، أي : أن الآية تنفي عن الرسول أنّه كان يستغفر للمشركين ، لا أنّها تنهاه عن الاستغفار .

إذاً كلّ من استغفر له الرسول فهو مؤمن ما دمنا نقرّ له بالنبوّة والعصمة ، والعمل الحقّ .

٤ ـ لو سلّمنا بحديث البخاري ، فإنّ قول أبي طالب : على ملّة عبد المطّلب ، ليس سوى دليل على إيمانه ، أليست ملّة عبد المطّلب هي الحنفية ، ففي الحقيقة آمن أبو طالب طبقاً لهذه الرواية ، وأنّه أعلن عن إيمانه بشكل تورية ، حتّى لا يشعر به الكفّار من قريش آنذاك .

والخلاصة : إنّ الآية لم تنزل بحقّ أبي طالب عليه‌السلام ، وإنّه مات مؤمناً لا مشركاً .

« بدر ـ عمان »

الأدلّة على إيمانه من كتب الفريقين :

س : ما الأدلّة على إسلام أبي طالب ؟

______________________

(١) الغدير ٨ / ١٢ ، مسند أحمد ١ / ٩٩ و ١٣١ ، الجامع الكبير ٤ / ٣٤٤ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣٣٥ ، فتح الباري ٨ / ٣٩١ ، مسند أبي يعلى ١ / ٤٥٨ ، كنز العمّال ٢ / ٤٢١ ، جامع البيان ١١ / ٦٠ ، تفسير القرآن العظيم ٢ / ٤٠٧ ، الدرّ المنثور ٣ / ٢٨٢ ، فتح القدير ٢ / ٤١١ .

(٢) فتح الباري ٨ / ٣٩١ ، جامع البيان ١١ / ٥٧ ، زاد المسير ٣ / ٣٤٥ ، أسباب نزول الآيات : ١٧٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٦ / ٣٢٩ .

١٩٨

ج : فقد أجمع علماء الشيعة على إسلام أبي طالب عليه‌السلام تبعاً لأئمّتهم عليهم‌السلام .

والأحاديث الدالّة على إيمانه والواردة عن أهل بيت العصمة كثيرة ، وقد جمعها العلماء في كتب مفردة ، وكان من الكتب الأخيرة : « منية الراغب في إيمان أبي طالب » للشيخ الطبسي .

وقد أُلّف في إثبات إيمانه الكثير من الكتب ، من السنّة والشيعة على حدّ سواء ، وقد أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كتاباً ، ومنها كتاب : « أبو طالب مؤمن قريش » للأُستاذ عبد الله الخنيزي .

هذا عدا البحوث المستفيضة المبثوثة في ثنايا الكتب والموسوعات ، ونخصّ بالذكر هنا ما جاء في كتاب « الغدير » للعلّامة الأميني قدس‌سره في الجزء السابع والثامن منه .

وقد نقل العلّامة الأميني عن جماعة من أهل السنّة : أنّهم ذهبوا إلى ذلك أيضاً ، وكتبوا الكتب والبحوث في إثبات ذلك ، كالبرزنجي في « أسنى المطالب » ، والاجهوري ، والاسكافي ، وأبي القاسم البلخي ، وابن وحشي في شرحه لكتاب : « شهاب الأخبار » ، والتلمساني في « حاشية الشفاء » ، والشعراني ، وسبط ابن الجوزي ، والقرطبي ، والسبكي ، وأبي طاهر ، والسيوطي ، وغيرهم .

بل لقد حكم عدد منهم كابن وحشي ، والاجهوري ، والتلمساني بأنّ من أبغض أبا طالب فقد كفر ، أو من يذكره بمكروه فهو كافر (١) .

بعض الأدلّة على إيمان أبي طالب :

١ ـ ما روي عن الأئمّة عليهم‌السلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا يدلّ على إيمانه ، وهم أعرف بأمر كهذا من كلّ أحد .

٢ ـ نصرته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحمّله تلك المشاق والصعاب العظيمة ، وتضحيته

______________________

(١) أُنظر : الغدير ٧ / ٣٨١ .

١٩٩

بمكانته في قومه ، وحتّى بولده ، أكبر دليل على إيمانه .

٣ ـ استدلّ سبط ابن الجوزي على إيمانه ، بأنّه لو كان أبو طالب كافراً ، لشنّع عليه معاوية وحزبه ، والزبيريون وأعوانهم ، وسائر أعداء الإمام علي عليه‌السلام (١) .

٤ ـ تصريحاته وأقواله الكثيرة جدّاً ، فإنّها كلّها ناطقة بإيمانه وإسلامه ، ومنها أشعاره التي عبّر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي بقوله : « فكلّ هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر ، لأنّه لم تكن آحادها متواترة ، فمجموعها يدلّ على أمر مشترك ، وهو تصديق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومجموعها متواتر » (٢) .

٥ ـ قد صرّح أبو طالب في وصيّته بأنّه كان قد اتخذ سبيل التقية في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن .

وأوصى قريشاً بقبول دعوة الرسول ، ومتابعته على أمره ، ففي ذلك الرشاد والسعادة (٣) .

٦ ـ ترحّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، واستغفاره له باستمرار ، وحزنه عليه عند موته ، وواضح أنّه لا يصحّ الترحم إلّا على المسلم .

٧ ـ وبعد كلّ ما تقدّم نقول : إنّ إسلام أيّ شخص أو عدمه ، إنّما يستفاد من أُمور أربعة :

أ ـ من مواقفه العملية ، ومواقف أبي طالب قد بلغت الغاية التي ما بعدها غاية في الوضوح والدلالة على إخلاصه وتفانيه في الدفاع عن هذا الدين .

ب ـ من إقراراته اللسانية بالشهادتين ، ويكفي أن نشير إلى ذلك القدر الكثير منها في شعره في المناسبات المختلفة .

ج ـ من موقف النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، فالموقف المرضي ثابت منه صلى‌الله‌عليه‌وآله تجاه

______________________

(١) أبو طالب مؤمن قريش : ٢٧٤ ، عن تذكرة الخواص : ١١ .

(٢) شرح نهج البلاغة ١٤ / ٧٨ .

(٣) روضة الواعظين : ١٤٠ ، الغدير ٧ / ٣٦٦ .

٢٠٠