كتاب في المعدة وأمراضها ومداواتها

أحمد بن ابراهيم بن أبي خالد ابن الجزّار القيرواني [ ابن الجزّار ]

كتاب في المعدة وأمراضها ومداواتها

المؤلف:

أحمد بن ابراهيم بن أبي خالد ابن الجزّار القيرواني [ ابن الجزّار ]


المحقق: سلمان قطابة
الموضوع : الطّب
الناشر: دار الرشيد للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

١
٢

٣
٤

المقدّمة

* اهتم العرب باحياء تراثهم الديني والتاريخي والأدبي ، ولكنهم أهملوا تاريخهم العلمي ، وتركوه لقلة من المستشرقين الذين قاموا ببعض الدراسات وحققوا بعض المخطوطات.

* وهكذا ، وإذا استثنينا بعض الكتب العلمية التراثية القليلة التي نشرت في الاقطار العربية ، فان القليل نشر في الهند وايران ولايدن ولا يبزيغ وباريس.

* ومما يسر النفوس أن الاقطار العربية بدأت تهتم بهذا التراث العلمي ، وكان لتأسيس المعاهد المختصة بالتراث العلمي العربي أثره البعيد والكبير في دفع عجلة الزمن الى الأمام ، إذ لما تمض على وجودها فترة قصيرة ، إلاّ وقد بدأت بالعطاء.

وانه ليشرفني ويسعدني معا ان يكون كتابي هذا الثالث عن التراث الطبي العربي.

وآمل أن أستمر في هذا العمل النبيل المشرّف.

والسلام

حلب ٢٠ / ٦ / ١٩٧٩

المحقق

٥

الإهداء

شاء حسن طالعي أن أعمل في تونس الخضراء أثناء دراستي وتخصصي بأمراض وجراحة الأذن والأنف والحنجرة ، وذلك في مستشفى الرابطة بالعاصمة.

وخلال تلك الفترة القصيرة (بضعة شهور) استطعت أن أتعرف على شعب تونس الشقيق ومثقفيه ، وحاضره وماضيه ، وزرت معظم مدنه.

ولكن القيروان جذبتني اليها بسمعتها التاريخية الشهيرة ، وسحرها الشرقي الجميل وروعة آثارها وبنيانها.

فظلت تلك الذكريات الحبيبة عالقة بذهني حتى اليوم.

لذلك عند ما وجدت الفرصة سانحة لتقديم عربون محبة واخلاص ووفاء لشعب تونس ، بتحقيق مخطوطة لأحد أبنائه العظام ، سارعت دون تردد ، وبكل سعادة وسرور.

فالى شعب تونس الشقيق

أهدي عملي المتواضع هذا ، كعربون حب ومودة واخلاص.

المحقق

٦

لا دليل على سعة علم من يدعي هذه الصناعة الشريفة ، أكثر من اظهاره ، وشرح غوامضه ، وبذله لعامة الناس فضلا عن خاصتهم.

ابن الجزار

٧

عصر ابن الجزّار

٨

٩
١٠

سيرته ابن الجزار

١١
١٢

سيرته

هو أحمد ابن ابراهيم بن أبي خالد بن الجزّار ويكنّى بأبي جعفر.

كان عمه أبو بكر محمد بن أبي خالد بن الجزّار طبيبا أيضا تلقى الطب عن أطباء القيروان ممن سبقوه أمثال اسحق بن عمران (وهو مسلم رغم أن اسمه قد يدل على أنه من أهل الذمة) ، واسحق بن سليمان الاسرائيلي ، وزياد ابن خلفون وغيرهم. ويذكره أحمد مرات عديدة في كتبه ، فيقول في كتاب « في المعدة وأمراضها ومداواتها » هذه صفة شراب (أو لخلخ أو دهون) ألفه عمي محمد بن أحمد ، ويصفه في « نصائح الأبرار » فيقول « كان عمنا عالما بالطب حسن النظر فيه ». (١)

أما أبوه ابراهيم فقد كان طبيبا كحالا زاول المهنة مع أخيه.

ويؤكد هذا ما قاله ابن جلجل في ترجمته لأحمد « هو طبيب بن طبيب وعمه أبو بكر طبيب ».

ولقد عرفه الغرب بسبب ترجمة كتابه الشهير « زاد المسافر » الى اللاتينية والعبرية ، وعرف تحت اسم :

ABURAFAR,YBNEZIZAR,ALGISAR,AHINHALE YBXEYZAR, HAHMECUBINS IBRAFIN,ABINCALI,.

وهو أشهر أطباء مدرسة القيروان التونسية التي ضمت بين جنبيها عددا وافرا من الأطباء الكبار ، أمثال : اسحق بن عمران ، واسحق بن سليمان ، وعائلة الجزار ، وزياد بن خلفون ، والفضل بن علي بن ظفر. (١)

وعند ما يحاول الباحث دراسة سيرة أحد المشاهير العرب يجد نفسه أمام عدة معضلات :

١٣

١ ـ تضارب تواريخ الولادة والوفاة ، وصعوبة التدقيق فيها.

٢ ـ تضارب الحوادث ، وصعوبة تصديقها كما وردت.

٣ ـ تناقل الخبر عن مصدر واحد أو مصدرين مع تكرار القصة نفسها والأخطاء نفسها.

هذه المعضلات الثلاثة توجد أيضا فيما يخص سيرة ابن الجزار.

فاذا أخذنا تواريخ الولادة والوفاة وجدنا ما يلي :

المصدر

تاريخ الولادة

تاريخ الوفاة

(٢) ابن عذارى

ـ

 ٣٦٩ ه‍

(٣) صاعد الاندلسي

ـ

ـ

(٤) ابن جلجل

 ـ

 يذكر أنه عاش ثمانين

(٥) ابن أبي اصيبعة

ـ

يذكر أنه عاش ثمانين عاما ونيفا

(٦) ياقوت

ـ

٣٣٨ ه

(٧) الصفدي

يذكر انه كان موجودا ايام المز في حدود سنة ٣٥٠ او ماقاربها

ـ

(٨) حاجي خليفة

ـ

٤٠٠ ه‍ مقتولا بالاندلس

(٩) لوكلير

ـ

٤٠٠ ه‍

(١٠) سارتون

ـ

٤٠٠ ه‍

(١١) بروكلمان

ـ

٣٩٥ ه‍

(١٢) سيزكين

ـ

٣٦٩ه

(١٣) حسن حسني عبد الوهاب

٢٥٨ه

٣٦٩ه

ثم توجد وقائع أخرى ذات أهمية :

١٤

فقد أكد ابن أبي اصيبعة أنه مات عن سن تناهز الثمانين سنة.

ويروي المقريزي(١٤) وابن الأثير(١٥) الحكاية التالية : « ان المنصور العبيدي اعتل علة شديدة ووصل الى المنصورية فأراد عبور الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر ، فأخذ طبيبه يعالج المرض دون سهر فاشتد ذلك على المنصور ، وقال لبعض خواصه : أما في القيروان طبيب غير اسحاق؟. فأحضر اليه شاب من الأطباء يقال له أبو جعفر أحمد بن ابراهيم ابن أبي خالد الجزّار *. فأمر باحضاره وشكا اليه مما يجده من السهر ، فجمع له أشياء مخدرّة وجعلت فى قنينة على النار وكلفه شمها فنام ، وخرج وهو مسرور بما فعله. فجاء اسحاق ليدخل على المنصور فقيل له : انه نائم ، فقال : ان كان صنع له شيء ينام منه فقد مات. فدخلوا عليه فاذا هو ميت ، فدفن في قصره. وأرادوا قتل ابن الجزار الذي صنع له المنام فقام معه اسحاق وقال : لا ذنب له وانما داواه بما ذكره الأطباء ، غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه ، وذلك أنني في معالجته أقصد تقوية الحرارة الغريزية وبها يكون النوم ، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه مات ».

هذه الحادثة تؤكد على أن ابن الجزار كان قد أصبح طبيبا شابا في مقتبل العمر عام وفاة المنصور أي سنة ٣٤١ ه‍ / ٩٥٢ م ، أي فلنقل أنه كان في العشرين من العمر ، معنى هذا أنه ولد حوالي عام ٣٢٠ ه‍ ، وبما أنه عاش ثمانين عاما فيكون عام وفاته هو ٤٠٠ ه‍ ، كما ذكر حاجي خليفة.

ويؤكد لوكلير(١٦) في كتابه « تاريخ الطب العربي » هذا التاريخ إذ يقول : « يحدد السيد دوسلان عام وفاة ابن الجزّار ، عن الذهبي ، سنة ٣٥٠ هجرية الموافقة لسنة ٩٦١ ميلادية وقد نسي ابن خلكان دون شك أن يذكرها.

أما بالنسبة لنا فاننا نرفض هذا التاريخ وهاكم السبب : رأينا في سيرة اسحق بن سليمان انه كان يعيش عام ٣٤١ هجرية / ٩٥٢ ميلادية وهو عام وفاة مريضه الأمير الفاطمي المنصور ، وانه عاش ، على ما يقال ، أكثر من مئة سنة. ومهما يكن أمر عمره ، فباستطاعتنا بسهولة أن نقبل أن اسحق بن

_______________

(*) ورد هذا الاسم بهذا التفصيل عند المقريزي ، وتحت اسم : ابراهيم فقط عند ابن الأثير (ج ٦ ، ص ٣٤١).

١٥

سليمان قد عاش بضع سنوات بعد وفاة المنصور فوصل الى عام ٩٦١ م (٣٥٠ ه‍) على الأقل. ومن ناحية أخرى ، يبدو لنا من المعقول أن نقبل بأن ابن الجزّار تلميذ اسحق ، قد عاش أكثر من أستاذه بما لا يقل عن جيل. لذا يبدو لنا أنه من الأنسب الاعتماد على التاريخ الذي ذكره حاجي خليفة.

اذن : تأكيد وفاة ابن الجزار بعام ٤٠٠ ه‍ يعتمد على الحكاية التي ذكرها المقريزي. ولكن هذه الحكاية قابلة للطعن من عدة وجوه :

أولا : من الناحية الطبية العلمية. يذكر لنا الدكتور حسن ابراهيم حسن(١٧) أن المنصور « مات في يوم الجمعة آخر شوال سنة ٣٤١ ه‍ ودفن بالمهدية. وقد قيل في سبب موته أنه خرج من المنصورية حاضرة ملكه للتنزه فاشتد هطول المطر وهبوب الريح ، حتى فاجأه المطر ، وأوهن جسمه ، ومات أكثر من كان معه .... » *

والذي نستطيع تشخيصه في هذه الحالة ، وخاصة أن المنصور لما يجاوز الأربعين من العمر ، انها حالة التهاب رئة وقصبات فوق الحاد ، أو حاد.

ونحن نعلم حسب القول الطبي الفرنسي المشهور أنه « عند ما تكون النار في الرئة ، فالخطر يكمن في القلب ».

فلا بد أن سبب موت المنصور هو اختلاط قلبي أودى بحياته كما أودى بحياة « أكثر من كان معه ».

أما دخوله الحمام ، فهو يعتمد على المبدأ البقراطي في المعالجة أي المعالجة بالأضداد. فيما أن سبب اصابته كان البرد ، فيجب مداواته بالحرارة أي بالحمام.

وربما كان دخول الحمام العربي المعروف بارتفاع الحرارة فيه ، وكثرة البخار ، سببا زاد في اضعاف قوى المريض المنصور فأودى بحياته.

أما « القنينة » التي وضعت على النار وفيها « أشياء مخدرة » ليشم منها المريض فهي طريقة كانت مستعملة حتى الى فترة غير بعيدة وهي ترطيب

____________________

(*) ويقول ابن الأثير (ج ٦ ـ ص ٣٤١) « فأصابه في الطريق ريح شديد وبرد ومطر ودام عليه فصبر وتجلد وكثر الثلج فمات جماعة من الذين معه ».

١٦

جو الغرفة وتقطيرها لكي يسكن السعال وألم الصدر ، والأدوية التي تستعمل في مثل هذه الحالات هي أعشاب صدرية عطرية لا خطر منها البتة. والكتب الطبية العربية مليئة بأمثال هذه الوصفات.

أما القول بأن شمها يسبب النوم ، فلدى مراجعة الأدوية المخدرة عند العرب لا نجد من بينها مخدّرا ينوّم المريض بمجرد استنشاقه. فلقد كانت المواد المستعملة أمثال : الشويكران والخشخاش ، والبنج ، وست الحسن ، كلها تستعمل إما موضعيا وإما عن طريق الفم. (١٨)

وأول غاز مخدر اكتشف هو الأثير ETHER من قبل وليام مورتون عام ١٨٤٦ ثم أعقبه سمسبون عام ١٨٤٧ باستعمال الكلوروفورم.

وعلى فرض أن المادة التي احتوتها القنينة هي مادة الأثير ، فهل يعقل أن توضع على النار ، والأثير مادة طيارة متفجرة؟ ..

لا بد أن اسحق بن سليمان الاسرائيلي فوجيء عند ما علم أن الأمير استدعى تلميذه بدلا عنه ، أي أنه فضّله عليه ، مما أثار حفيظة الاسرائيلي الذي عدّ هذا العمل اهانة له ، وربما كان ولا بد ، قد لاحظ نبوغ وذكاء ابن الجزّار ، لذا فقد تحركت الغيرة والحسد في قلبه ، فكان أول رد فعل له هو محاولة ايذاء ابن الجزّار أو على الأقل التقليل من أهميته فقال ما قال. وعند ما رأى أن الأمر انقلب الى جد وأنه سيؤدي بحياة تلميذه تراجع عن اتهامه.

واعتقد أنه ربما كانت القصة كلها مختلقة. فلم يدع ابن الجزار ، ولم يتكلم الاسرائيلي. انما اختلفت هذه الحكاية فيما بعد من قبل زملاء ابن الجزّار الذين ازعجتهم شهرته ، وعلو شأنه وعدد المرضى الكبير الذين كانوا يقصدونه حتى أصبح غنيا موسرا شهيرا.

فاذا أضفنا الى ذلك شأن ابن الجزار كان كشأن كل العلماء الحقيقيين يحبون العزلة والوحدة للانكباب على القراءة والتأليف واقتصار أمرهم على العناية بمرضاهم وتلامذتهم وتأليفهم. كما أنه كان أبيّ النفس فلم يكن من هؤلاء الاطباء الذين يقفون على الأبواب ، ويتمسحون بالأعتاب ، ويمشون في الركاب.

١٧

وربما كانت هذه الطباع الراقية قد فسرت من قبل الكثيرين من الحساد والأعداء على أنها نوع من التكبر والغرور والترفع ، مما زاد في ضغينتهم وحقدهم ، فانبروا يروون أمثال هذه القصص.

وتناقلها المؤرخون واحدا اثر الآخر كنادرة أو ملحة يتنادرون بها ، دون تمحيص أو نقد أو تدقيق ، كما كانت عادتهم في ذلك الزمان ، بل حتى يومنا هذا ، إذ أننا لا نزال نراها تتردد في الكتب الخاصة بحياة ابن الجزار.

وتوجد بضعة أخبار تجعلنا نشك في هذا التاريخ :

١ ـ ان عمرو بن بريق تتلمذ عليه ثم خدم عبد الرحمن الثالث الأندلسي (كما سيأتي فيما بعد) والذي عاش من ٣٠٠ ـ ٣٥٠ ه‍(١٩).

ولنفرض جدلا أن عمرا خدم عبد الرحمن عشرة أو خمسة عشر عاما معنى هذا أنه تتلمذ على ابن الجزار حوالي عام ٣٣٠ أو ٣٣٥ وليس من المعقول أن يكون ابن الجزار قد أصبح علما من أعلام الطب الذين يقصدهم التلامذة من الأندلس إلا إذا بلغ سن النضج من عمره ولنقل على أقل تقدير أربعين أو خمسة وأربعين عاما من حياته ، معنى هذا أنه ولد حوالي عام ٢٩٠ ه‍ أو ٢٨٥ ه‍ وهو التاريخ الذي يحدده المؤرخ التونسي الاستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه ، دون أن يذكر الأسباب والبراهين.

وينتج عن ذلك أن سنة وفاته هي ٣٦٩ ه‍.

٢ ـ ان التميمي ذكره في كتابه ، وكان معاصرا له (توفي عام ٣٧٠ ه‍)(٢٠).

٣ ـ تذكر المصادر أنه خدم أيام المعز (٢١)، وكانت مدة ولاية المعز (معد أبو تميم) من ٣٤١ ه‍ الى ٣٦٥ ه‍.

٤ ـ اطلع ابن الجزار على كتاب الحروف للقزاز وقال عنه « ما علمت نحويا ألف شيئا من النحو على هذا التأليف. » ومؤلف وكتاب الحروف هو القزاز الذي ألفه للمعز ، وأكمله عام ٣٦١ ه‍.(٢٢)

٥ ـ ويقول د. محمد الحبيب بوهيله (٢٣)عن سبب التاريخ الذي أورده

١٨

حاجي خليفة أنه « خلط بين مؤلفنا وبين أبي عثمان الجزّار (أو الخزّار) الطبيب الأندلسي الملقب باليابسة والذي كان من أطباء عبد الرحمن الناصر ، وقد تتلمذ أبو عثمان هذا على نيقولا الراهب الذي وصل الى قرطبة سنة ٣٤٠ ه‍ ».

٦ ـ يذكر كل من ياقوت والصفدي أنه كان حيا عام ٣٥٠ ه‍.

٧ ـ يذكر ابن جلجل في كتابه « طبقات الأطباء » أنه « عاش نيفا وثمانين سنة. ولما مات ». معنى ذلك أنه مات قبل تأليف كتاب الطبقات أي قبل عام ٣٧٧ ه‍ (٢٤).

٨ ـ مدح الشاعر كشاجم * كتابه « زاد المسافر » مخاطبا اياه مباشرة.

وكشاجم توفي عام ٣٦٠ ه‍.

ومن هذه القصص أيضا القصة التي يرويها المالكي في كتابه رياض النفوس(٢٥) « قال الشيخ أبو الحسن : ومرض (الهواري أبو بكر يحيى بن خلفون المؤدب) مرضة شديدة أشرف فيها على الموت ، قال : فأروا ماءه لابن الجزار الطبيب. وكان ابن الجزار على خلاف السنة (أي شيعيا) قال ليس يغلّق الخمسة أبدا ، وهو ميت. فلما رجع الرسول من عنده قال له المؤدب : ما قال لك ابن الجزار؟ فسكت الرسول ، فقال له : أقال لك اني أموت من هذه العلة؟ فقال : يا مؤدب لا تسأل عن هذا. قال : فقال لهم : اشتروا لي لحما بقريا وباذنجانا وقرعا واعملوا سكباجا محمرا واشتروا لي خبزا نقيا. فعملوا له ذلك ، ثم أكل الجميع من الخبز ، ثم قال لهم : دثروني ، فدثروه فعرق عرقا عظيما. فلما كان بعد العصر أفاق من غمرته ووجد الراحة ، فقال لهم : أعطوني قرقي ** وعصاي ، فأعطوه ذلك فمضى الى دار الجزّار ، فقال لي أبي

____________________

(*)

أبا جعفر أبقيت حيا وميتا

مفاخر في ظهر الزمان عظاما

رأيت على زاد المسافر عندنا

من الناظرين العارفين زحاما

فأيقنت أن لو كان حيا لوقته

يحنا لما سمي « التمام » تماما

سأحمد أفعالا لا حمد لم تزل

مواقعها عند الكرام كراما

 (ابن أبي اصيبعة / العيون ص : ٤٨١).

(**) القرق : (بضم القاف وسكون الراء) حذاء مبطن بالفلين كان يستعمله عرب الاندلس والمغرب.

١٩

فأخبرني بعض من كان قال : نحن جلوس معه تلك العشية حتى سمع حس قرق. قال : وثب ابن الجزار وقال : هذا حس قرق الهواري ، وطلع الدرج وردّ الباب ووقف خلف الباب حتى طلع الهواري فقال : أين هذا الجزار ابن الجزار الذي يقطع في حكم الله و (يحكم) عليّ بالموت؟ وحق هذه القبلة لو وجدته جالسا لجعلت عصاي هذه بين أذنيه ، قولوا له : يا كذاب هذا أنا صحيح سوي ، بهذه العصاة أحارب الرجال ، ثم مضى ».

ويقول في ذلك حسن حسني عبد الوهاب(٢٦) « وربما كان ميله هذا لآراء الشيعة هو السبب الذي حمل أصحاب الطبقات من الأفارقة المالكيين على التغافل عن ايراد ترجمته في مصنفاتهم ، لأنّا لم نر من بينهم من تكلم عليه لا بالكثير ولا بالقليل ».

وجدير بنا هنا أن نذكر شهادة ابن جلجل(٢٧) الذي يكذب أمثال هذه القصص « وكان قد أخذ بنفسه مأخذا عجيبا في سمته وهديه ومقوده. ولم تحفظ عليه بالقيروان زلة قط ، ولا أخلد الى لذة ، وكان يشهد الجنائز والعرائس ، ولا يأكل فيها ، ولم يركب الى أحد من رجال افريقية (أي تونس) ولا الى سلطانها ، إلا الى أبي طالب عم معد (أي الملك المعز) ، وكان له صديقا قديما ، وكان يركب اليه كل جمعة لا غير ».

وقال عنه ياقوت (٢٨) « كان أحمد طبيبا حاذقا دارسا ، كتبه جامعة لمؤلفات الأوائل ، حسن الفهم لها ، وكان مع حسن المذهب صائنا لنفسه » وقال أيضا « انه لم يكن يقصد أحدا الى بيته ».

وربما كان لهذا الموقف المنعزل سبب آخر هو الفوضى وكثرة الحروب ، والاضطرابات التي شاهدتها البلاد منذ قيام الدولة الفاطمية في المهدية واستلام أمور الحكم رجال من كتامة ، وهم بربر لا عهد لهم بالحضارة والمدنية ودليلنا على ذلك أنه في كتابه « أخبار الدولة » على ما يذكر ابن أبي أصيبعة (٢٩) وصف رجال دولة الامام أبي عبيد الله المهدي ، على لسان استاذه اسحق بن سليمان فيقول : « فلما وصل أبو عبد الله داعي المهدي الى رقّادة ادناني وقرّب منزلتي ، وكانت به حصاة في الكلى ، وكنت أعالجه بدواء فيه العقارب المحرقة فجلست ذات يوم مع جماعة من كتامة ، فسألوني عن

٢٠