سيّدة عشّ آل محمد صلى الله عليه وآله

السيد أبو الحسن الهاشمي

سيّدة عشّ آل محمد صلى الله عليه وآله

المؤلف:

السيد أبو الحسن الهاشمي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤلّف
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٠

٣ ـ هل تزوجت السيدة المعصومة (عليها السلام)؟

٤١
٤٢

حتى نحصل على إجابة هذا السؤال ، لا بدّ لنا من قراءة متأنّيه في وصيٌتين لأبيها الإمام الكاظم (عليه السلام) وفي روايات اُخرى.

فتعالوا نستطلع الروايات والتأريخ لنحصل على الجواب ، ونعرف حقيقة الأمر.

قال اليعقوبي ـ المؤرِّخ ـ : « أوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته ، فلم تتزوّج واحدة منهن إلا اُم سلمة ، فإنها تزوجت بمصر ، تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد ، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد حتى حَلَف أنّه ما كشف لها كنفاً ، وأنّه ما أراد إلا أن يحج بها (١) » (٢).

ولكن عند الرجوع إلى وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) التالية نرى أنّ الإمام لم يوص بذلك وإنّما اوصى أن يكون أمر زاجهن بيد أخيهن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث إنه قال : « ... وإلى علي أمر نسائي دونهم (٣) ... وإن أراد رجل منهم (٤) أن يزوج أخته فليس له

__________________

(١) أي ، الظاهر أن يكون لها محرماً فيستطيع أن يحجٌ بها ـ وليس بواجب عندنا ـ.

(٢) تاريخ اليعقوبي : ج٢ ص ٤١٥.

(٣) أي دونه بقية إخوته.

(٤) أي من إخوته.

٤٣

أن يزوجها إلا بإذنه وأمره ، فإنه أعرف بمناكح قومه ... » (١).

ثم إنه (عليه السلام) يؤكد على ذلك في موضع آخر من نفس الوصية : « .. ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن ، ولا سلطان ، ولا عمّ ، إلا برأيه ومشورته (٢) ، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله ، وجاهدوه في ملكه ، وهو أعرف بمناكح قومه ، فإن أراد أن يزوج زوج ، وإن أراد أن يترك ترك » (٣).

فالإمام ـ بحسب الوصية ـ لم يمنع بناته من الزواج ـ كما ادّعى اليعقوبي ـ وإنما جعل أمر زواجهن بيد أخيهن الإمام الرضا (عليه السلام).

وفي وصية أخرى له (عليه السلام) لتعيين أوقافه وصدقاته وكيفيّة تقسيمها ، قال : « ... يقسم في مساكين أهل القرية من ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين ، فإن تزوجت امرأه من ولد موسى بن جعفر فلاحق لها في هذه الصدقة حتى ترجع اليها بغير زوج ، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى ... » (٤).

ويبدوا أنّ هذه الوصيّة هي التي جعلت اليعقوبي يقول بأنّ الإمام أوصى أن لا تتزوج بناته من بعده ، ولكن الظاهر منها أن التي تتزوج تكون في كفالة زوجها ، وهو ينفق عليها ، فإن مات أو طلقها رجعت وكان لها مثل حظ التي لم تتزوج.

____________

(١) أصول الكافي : ج١ ص ٣١٦ ، وعيون اخبار الرضا : ج١ ص٣٣.

(٢) أي الا براي ومشورة الإمام الرضا (عليه السلام).

(٣) أصول الكافي : ج١ ص ٣١٧.

(٤) عيون أخبار الرضا : ج١ ص٣٧.

٤٤

ومع ذلك كله فانه لقائل أن يقول : يشم من هذه الوصية ومن سابقتها عدم رغبة الإمام في تزويج بناته ، بل إن الواقع الخارجي يصدق ذلك ، فلا الإمام الكاظم نفسه في زمان حياته زوج واحدة منهن ، ولا الإمام الرضا ، بل كان هذا سائراً في بناتهم ، وقد أوقف الإمام الجواد (عليه السلام) عشر قرى في المدينة أوقفها على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن ، وكان يرسل نصيب الرضائية (١) من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم (٢).

فيستوقفنا ـ هنا ـ سؤال وهو : ـ

رغب الشرع المقدس في الزواج المقدس في الزواج وحث عليه ونفر من العزوبة وحذر منها ، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة فكيف أوصى الإمام الكاظم (عليه السلام) بعدم زواج بناته مع العلم أن الزواج سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ومن المستحبات الأكيدة؟

قد يجاب عن هذا السؤال بأحد الأوجه التالية :

الوجه الأول :

أنّ العزوبة وإن كانت مكروهة عند الشرع المقدس ، لكنها قد ترجح في بعض الأزمنة.

فعن إبن مسعود قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) : « ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه إلا من يفر من شاهق ، ومن جُحر إلى جُحر كالثلب بأشباله.

قالوا : ومتى ذلك الزمان؟

__________________

(١) أي بنات وحفيدات الإمام الرضا (عليه السلام) ، فهنٌ ينسبن إليه فيقال : الرضائية.

(٢) تاريخ قم ـ المترجم ـ ص ٢٢١.

٤٥

قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله ، فعند ذلك حلٌت العزوبة » (١).

فالعزوبة تحل في بعض الأزمنة ، وعليه قد يكون الإمام (عليه السلام) قد مر بما يماثل تلك الأزمنة ، فلا تنافي بين ترغيب الإسلام في الزواج ، وبين عدم تزويج الإمام (عليه السلام) لبناته.

فالحكم الاولي للعزوبة هو الكراهة ، ولكن الحكم الثانوي المستفاد من هذه الرواية هو حليّة العزوبة في بعض الأوقات.

الوجه الثاني :

أنه (عليه السلام) لم يزوجهن لعدم الكفؤلهن ، فإنهن ودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكريماته ، فينبغي أن لا تزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ، ويقدر منزلتهن ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أنكحوا الأكفاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم » (٢).

فلو أنّ الإمام (عليه السلام) قد زوجهن من غير الاكفاء لما عرفت مكانتهن ، ولهدرت حقوقهن ، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وحاشا الإمام أن يفعل ذلك.

بل قد يكون تزويجهن من غير الأكفَاء عامل ضغط على الإمام (عليه السلام) تمارسهُ الحكومة العباسيّة لتكلبيل أشد للإمام ، وتقييد أكثر لحريّته.

__________________

(١) بحار الانوار : ج١٤ ص ٣٥١.

(٢) فروع الكافي : ج٢ ص٥.

٤٦

ولذا نجد أن الإمام (عليه السلام) في وصيته قد جعل أمر تزويج بناته بيد الإمام الرضا (عليه السلام) معللا ذلك بأنه أعرف بمناكح قومه.

الوجه الثالث :

ما أجاب به الإمام (عليه السلام) هارون عندما سأله : « ... قال : فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن واكفائهن؟ قال : اليد تقصر عن ذلك.

قال : فما حال الضيعة (١)؟

قال : تعطي في وقت ، وتمنع في آخر ... » (٢).

فالإمام (عليه السلام) علل عدم تزويجهن لقصر ذات اليد ، وضعف الإمكانات الماديّة.

الوجه الرابع :

نتيجة الضغوطات العنيفة ، والممارسات لتعسفية التي كانت السلطة العبّاسية تنتهجها تجاه الامام (عليه السلام) وشيعته ، ما كان أحد ليجرأ أن يتقدم من الإمام ليطلب كريمته أو أخته.

بل إن الشيعة ـ في فترات مختلفة من الزمن ـ ما كانوا ليتقربوا من دار المعصومين (عليهم السلام) في إستفتائاتهم ، ولذا كان بعضهم يلجأ إلى الحيلة فيلبس ثياب بائع خيار ويحمل سلة الخيار حتى يتمكن من دخول دار الإمام ، فيستفتيه ويخرج.

فإذا كان أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لا يستطيعون استفتاء

__________________

(١) الضيعة : العقار ، والأرض ذات الغلة.

(٢) عيون أخبار الرضا : ج١ ص ٨٨ ح١١.

٤٧

الإمام ، فما ظنك بمن يريد مصاهرة الامام؟!

إنّ الراغبين لشرف مصاهرة الإمام ـ سواء أكانوا من أولاد العمومة أم من خيار الشيعة ـ كان أمرُهم دائراً بين مقتول بأيدي الغدر والعدوان ، وبين معتقل معذب في قعر السجون ، وبين مطارد من جلاوزة السلطة قد استخفى عن أعينهم ...!!

فمن ذا الذي يجرأ ـ بعد هذا ـ أن يطلب الوصلة بالإمام (عليه السلام)؟

النتيجه :

إنّ السيدة المعصومة (عليها السلام) ـ كسائر أخواتها ـ لم تتزوج ، وعدم تزويج الإمام لهن لا ينافي الترغيب والأمر بالزواج.

وظاهرة عدم تزويج اكثر من إمام لبناته أو اخواته لهي ظاهرة تستحق دراسة أكثر ، وبحثاً أعم ، للتعرف على أسباب وملابسات هذه الظاهرة وتحليلها ، فهي حلقة من حلقات معناناة ومعايشة المعصومين (عليهم السلام) لظروف عصيبة ومختلفة. فعسى الله أن يفيض من يبحثها ويكشف عن غوامضها.

٤٨

٤ ـ معاناتها

ا ـ فقد أبيها

ب ـ الجلودي يرعب ودائع آل محمد (صلى الله عليه وآله)

ج ـ السيدة تعايش ترحيل أخيها

٤٩
٥٠

(ا) فقد أبيها

سنة ١٨٣ هجرية

شهر رجب

اليوم الخامس والعشرون (١)

في بغداد ، على الجسر وضعت جنازة الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن دس له سجانه السندي بن شاهك السم في طعامه بأمر من هارون العباسي.

المنادي ينادي : هذا إمام الرافضة فاعرفوه.

ونادى جماعة آخرون من أتباع الظلمة بنداء تقشعر منه النفوس الطيبة.

وعندما رأى سليمان بن أبي جعفر (٢) ذلك ، خرج من قصره ، وأمر غلمانه بأخذ نعش الإمام (عليه السلام) من أيدي الجلاوزة ، فاشتبكوا معهم في عراك وضرب ، ثم أخذوا النعش الشريف من

__________________

(١) مصباح المتهجد : ص ٨١٢. وقيل في اليوم الخامس من رجب ، وقيل في اليوم السادس منه.

(٢) سليمان بن أبي جعفر المنصور ـ عم هارون الرشيد ـ.

٥١

أيديهم ، ووضعوه على مفترق أربع طرق ، أمر سليمان المنادي بان ينادي : الا ومن أراد ان يرى الطيب بن الطيب موسى بن جعفر (عليهما السلام) فليخرج ...

ودفن الإمام (عليه السلام) في مقابر قريش حيث مرقده الآن في بغداد ، رزقنا الله تعالى وإياكم زيارته.

وهكذا انطوت حياة ذلك الإمام العظيم بعد أن عانى ما عانى من ظلم واضطهاد ، ونقل من سجن إلى سجن ، ومن سجّان إلى آخر حتى قبضه الله تعالى إليه (١).

وكان ذلك أوّل ما كابدته وعانته السيدة المعصومة في مقتبل حياتها ، فقد حرمت عطف ورعاية أبيها وهي بعد في سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه. وفي سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه. وفي سن العاشرة صارت ( سلام الله عليها ) يتيمة الأب (٢).

__________________

(١) راجع عيون أخبار الرضا : ج١ ص ٩٩ ، والإرشاد ج٢ ص ٢٤٢.

(٢) وهذا بناء على أن ولادتها كان في سنة ١٧٣ هـ.

٥٢

(ب) الجلودي يرعب ودائع

آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)

سنة ١٩٩ هجرية

المدينة المنوّرة

بعض العلويين يعلنون الخروج على حكم بني العباس في المدينة ، وفي مكة ، وفي اليمن.

وكان محمد بن جعفر قد خرج عليهم في مكة أيام حكومة المأمون ، فأرسل إليه المأمون جيشاً للقضاء عليه بقيادة الجلودي ، وأمره بضرب عنقه إن ظفر به.

ولم يقف أمر المأمون عند هذا الحد ، بل أوعز إليه يغير ويهجم على دور آل أبي طالب في المدينة ، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً.

وحاول الجلودي أن ينفذ الأمر بنفسه ، فهجم على دار الإمام الرضا (عليه السلام) بخيله ، فلمّا نظر إليه الإمام جعل النساء كلهنٌ في

٥٣

بيت (١) واحد ، وكانت السيدة المعصومة (عليها السلام) إحداهن (٢). ووقف الإمام على باب البيت يمنع الجلودي وجنده من اقتحامه.

فقال الجلودي : لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين.

فقال (عليه السلام) : أن أسلبهن لك ، وأحلف أن لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته.

وعلى نفس نهج أسياده العباسيين ظل الجلودي مصرا على سلب عقائل آل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد آثر الجلودي أن يكون ناصبياً (٣) من القَرن الاول الهجري يعيش على مشارف القرن الثالث ، يحمل حقد وكراهية وحسد أولئك الذين هاجموا بيت الوحي والرسالة ، وافتحموا على السيدة الزهراء (عليها السلام) دارها ، وأسقطوا جنينها ، وصنعوا مع إبنة صاحب الوحي ما تقشعر منه الأبدان ، ويندى له جبين التأريخ (٤).

__________________

(١) أي في غرفة واحدة ، وهذا يعني أن الجلودي دخل على الإمام بخيله في ساحة الدار ، وما يواكب ذلك من إرعاب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) حيث إن هذه الحادثة كانت قبيل وفاتها بعامين ـ كما سيأتي ـ.

(٣) الناصبي : هو من نصب العداوة لآل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتظاهر ببغضهم. بل قالوا : إن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعتهم وتظاهر بالوقوع فيهم ، وممن ذهب إلى ذلك الشهيد الثاني (قدس سره) في مبحث الأسآر : ص ١٥٧ من كتابه روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان.

(٤) راجع إثبات الوصية : ص ١٢٤ ، وتاريخ اليعقوبي : ج٢ ص ١٢٦ ، والامامة والسياسة : ص ٣٠ و ٣١ ، كما وتراجع المصادر التالية : لسان الميزان ، الملل والنحل ، أنساب الأشراف ، العقد الفريد ، أعلام النساء ، الوافي بالفويات ، تاريخ أبو الفداء.

٥٤

بهذه النفسية الحاقدة ، وبهذه الروح الشريرة هاجم الجلودي دار الإمام (عليه السلام) ، فحقده على أهل البيت كان الهواء الذي يتنفسه ، ويحفظ عليه حياته ومقامه عند أسياده العباسيين.

ولكنّ الإمام (عليه السلام) يمنعه من اقتحام البيت. وليس الجلودي ـ وأشباهُهُ ـ جديراً ليستجيب للعواطف والتوسلات ، أو ليخضع للمنطق والبرهان ، فهو ممن ملئت قلوبهم بغضا وحنقاً وحسداً لأهل بيت النبوة ، ولا يعرفون إلا لغة السلاح ومنطق القوة والظلم والإضطهاد. فلم يزل الإمام يطلب إليه ويحلف له ، حتى سكن الجلودي ووافق على طلب الإمام.

فدخل الإمام فلم يدع عليهن شيئا إلا أخذه منهن حتى اقراطهن وخلاخيلهن واُزرهن ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.

ويظهر أن هذه الحادثة هي من مسلسل ضغوط المأمون لإرغام الإمام (عليه السلام) وإخراجه من المدينة إلى خراسان حيث يكون تحت منظار المأمون ورقابته ، إذ إن الحادثة كانت بعد سنة من تولّي المأمون للحكم ، فقد خلص الأمر له سنة ١٩٨ هـ ، وتوصل تفكيره الشيطاني إلى القضاء على الإمام (عليه السلام) وتشويه سمعته بجلبه إلى خراسان ، وتسليمه الخلافة أو ولاية العهد ، وللضغط عليه لاستقدامه أنفذ إلى الجلودي بالإغارة على دار الإمام ، وسلب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرعابهنٌ.

ولما رحل الإمام إلى خراسان واُدخل على المأمون قام فرحب به واظهر المحبة والإخلاص له ، وعرض عليه الخلافة فأبى الإمام (عليه

٥٥

السلام) ، فعرض عليه ولاية العهد ، فقبلها الإمام مرغماً بعد تهديد المأمون له (١). عندها أمر المأمون القواد والحجّاب والقضاة وسائر الطبقات بمبايعة الإمام (عليه السلام) بولاية العهد ، ولكن بعض قادة المأمون نقموا البيعة ولم يرضوا بها ، فاعتقلهم المأمون. ثم أمر بإدخالهم عليه منفردين.

وكان الجلودي أحدهم ، فلما اُدخل على المأمون ووقع نظر الإمام عليه قال (عليه السلام) للمأمون : هب لي هذا الشيخ (٢)!!

فقال المأمون : يا سيدي! هذا الذي فعل ببنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعل من سلبهن!!

فنظر الجلودي إلى الاإمام (عليه السلام) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له ، فظن أن الإمام يعين عليه لما كان قد فعله من افتحامه دار الإمام وإرعابه أهل بيته.

فقال الجلودي : يا أمير المؤمنين! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في!!

فقال المأمون : يا أبا الحسن! قد استعفى ، ونحن نبر قسمه.

ثم قال : لا والله لا أقبل فيك قوله. الحقوهُ بصاحبيه (٣).

__________________

(١) راجع تفصيل مسألة ولاية العهد في كل مما يلي :

أصول الكافي : ج١ ص٤٨٨ ، الحديث السابع.

عيون أخبار الرضا : ج٢ ص ١٣٨.

الإرشاد : ج٢ ص٢٥٩.

(٢) أراد الإمام ـ مع كل ما أدخَلَهُ الجلوديّ من رعب على العقائل ـ أراد أن يكافئه على استجابته له وعدم سلبه لهن بنفسه.

(٣) أي علي بن أبي عمران وأبو يونس ، اللذان ضربت عنقاهما قبل الجلودي.

٥٦

فقدم فضربت عنقه (١).

* * *

هذه الحادثة ـ أي حادثة اقتحام دار الإمام الرضا (عليه السلام) ـ إنفرد بذكرها الشيخ الصدوق في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث يقول :

« وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة (٢) ، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه ، وان يغير على دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نساءهم ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً. ففعل الجلودي ذلك ، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ... » (٣).

قد تتسائل ـ أيها القارىء الكريم ـ :

إذا كان الشيخ الصدوق قد انفرد بذكر الحادثة وأنّها كانت في عهد الرشيد ، فكيف تنسب القضية إلى المأمون؟

استميح القاريء عذرا ، وأرجوه أن يمهلني أسطراً حتى تتضح له حقيقة الأمر.

١ ـ أن الحادثة وقعت في زمان هارون.

٢ ـ أن الحادثة تزامنت مع خروج محمد بن جعفر.

__________________

(١) لاحظ عيون أخبار الرضا : ج٢ ص ١٦١.

(٢) سيأتي من الشيخ الصدوق أن خروج محمد بن جعفر كان بمكة ، وهذا ما ذكره غيره أيضاً.

(٣) عيون أخبار الرضا : ج٢ ص ١٦١.

٥٧

ولكن أرباب السير والتاريخ من الفريقين اتفقوا على أن خروج محمد بن جعفر كان في عصر المأمون في سنة ١٩٩ هـ أو ٢٠٠ هـ.

فالشيخ المفيد (قدس سره) يقول في الإرشاد :

« وكان محمد بن جعفر شجاعاً سخياً ، ... وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة ، واتبعته الزيدية الجارودية ، فخرج لقتاله عيسى الجلودي ، ففرق جمعه وأخذه وانفذه إلى المأمون » (١).

كما أن الطبري في تاريخه (٢) وإبن الأثير في الكامل (٣) ذكرا خروج محمد بن جعفر في ضمن حوادث عام ١٩٩ ـ ٢٠٠ هـ ، فراجع.

والجدير بالذكر أن نفس الشيخ الصدوق ذكر ما يوافق ذلك في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث نقل الرواية التالية :

الورّاق ، عن سعد ، عن إبن أبي الخطّاب ، عن إسحاق بن موسى(٤).

قال : « لما خرج عمي محمد بن جعفر بمكة ، ودعا إلى نفسه ، ودعي بـ « أمير المؤمنين » ، وبويع له بالخلافة ، دخل عليه الرضا (عليه السلام ) وأنا معه.

فقال له : يا عم! لا تُكذب أباك ولا أخاك ، فإن هذا الأمر لا يتمّ.

ثم خرج وخرجت معه (٥) إلى المدينة ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى

__________________

(١) الإرشاد : ج ٢ ص ٢١١.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٥ ص ١٢٩ في حوادث سنة ٢٠٠ هـ.

(٣) الكامل في التاريخ : ج ٤ ص ١٥٤ في حوادث سنة ٢٠٠ هـ.

(٤) إبن الإمام الكاظم (عليه السلام).

(٥) أي خرج الإمام الرضا (عليه السلام) وخرج معه أخوه إسحق.

٥٨

قدم الجلودي ، فلقيه فهزمه ، ثم استأمن إليه ، فلبس السواد ، وصعد المنبر فخلع نفسه.

وقال : إن هذا الأمر للمأمون ، وليس لي فيه حق » (١).

وهذه العبارة الأخيرة تدل بكل وضوح أن خروج محمد بن جعفر كان في عهد المأمون ، فالشيخ الصدوق يذكر هنا بأنّ محمد بن جعفر قد خرج في زمان المأمون لا الرشيد (٢).

فلماذا ذكر الشيخ الصدوق في رواية الإقتحام أنّ خروجه كان في زمان الرشيد؟

إن منشأ هذا الإشتباه قد يكون أحد أمرين :

الأمر الأول : الخلط بين هارون الرشيد وبين هارون بن المسيب أحد قادة المأمون زمن حادثة الجلودي.

ففي الكافي : « لما أراد هارون بن المسيب أن يواقع محمد بن جعفر ... » (٣).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ج٢ ص ٢٠٧ ح٨.

(٢) قد يقال : إنه لا مانع من كون خروج محمد بن جعفر في زمان الرشيد ، وكون إلقاء القبض عليه في زمان المأمون.

والجواب :

أولاً : هذا مناف لما ذكره أهل السير والتاريخ من أن محمد بن جعفر خرج في حكومة المأمون.

ثانياً : هذا لا يتناسب مع نفس الحديث الأخير الذي ذكره الصدوق ، إذ فيه : « فلم يلبث إلا قليلاً حتى قدم الجلودي » ، وقد مات الريد في عام ١٩٣ هـ ، وتولى المأمون الحكم في عام ١٩٨ هـ أي بعد ست سنوات ، وهذا لا ينسجم مع قوله : « فلم يلبث إلا قليلا ».

(٣) أصول الكافي : ج١ ص ٤٩١ ح ٩.

٥٩

وفي مقاتل الطالبيين : « أن جماعة من الطالبيين اجتمعوا مع محمد بن جعفر فقاتلوا هارون بن المسيب بمكة قتالاً شديداً ... » (١).

وقال إبن قتيبة : « ووجه الحسن بن سهل هارون بن المسيب إلى الحجاز لقتال العلوية ، فاقتتلوا ، فهزمهم هارون بن المسيب ، وظفر بمحمد بن جعفر ، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته ... » (٢).

وقد مرّ علينا أيضا (٣) أن الذي قاتل محمد بن جعفر هو الجلودي ، والظاهر أنه لا تنافي في ذلك ، فالجلودي يكون قد نفذ أمر المأمون بتوجيه من هارون بن المسيب وتحت قيادته.

بل في شرح الأخبار ما يوضّح ذلك ويرفع التنافي : فقد جاء فيه :

« وقام جماعة من العلويين في سنة المائتين على المأمون ، وكان من قام منهم عليه محمد بن جعفر بن محمد ، قام بمكّة ، فبايعه أهل الحجاز وتهامة على الخلافة .... فأنفذ [المأمون] إليه الحسن بن سهل ، وهارون بن موسى المسيب ، وعيسى بن يزيد الجلودي ، ورقا بن محمد الشيباني وهم من جملة قوّاد المأمون ، وأوقعوا على أصحابه بالمدينة ومكة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وتفرق عامتهم واستامن [محمد بن جعفر] ، واكذ نفسه فيما ادعاه من الإمامة ، فاومن وحمل إلى المأمون إلى خراسان ، فمات بها » (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ص ٣٥٩.

(٢) المعارف : ص ٣٨٩.

(٣) من الإرشاد وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير.

(٤) شرح الأخبار : ج٣ ص ٣٣٦.

٦٠