ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

برداي زنزل الذي کان داعية متحمساً للمنوفستية في القرن السادس وحقق نجاحاً کبيراً بين نساطرة ما بين النهرين، ولذا فإنه يعتبر المؤسس الحقيقي للکنيسة اليعقوبية وهو أول رئيس مستقل لها. وقد اختار خلفاء برداي مدينة انطاکيا واعتباراً من القرن الخامس عشر نقل رئيس الکنيسة اليعقوبية مقره إلى دير يقع بالقرب من ماردين هو ديري ـ زفيران ولکن بطارقتهم ظلوا محتفظين بلقبهم السابق.

لقد ظل اليعاقبة، باعتبارهم مسيحيين غير أرثوذکس، حتى الفترة الأخيرة تحت سلطة البطريق الأرمني ولم يتحرروا منها إلّا عندما حصل بطريق اليعاقبة بلروس في ١٨٧٣ على اعتراف الباب العالي به کـ « ملت ـ باشي » مستقل، غير ان ذلک لم يصادف استحساناً من جانب جزء کبير من رعيته وظل هذا الجزء يعتبر نفسه تحت وصاية بطريق الأرمن إلى ١٨٨٣ عندما حصل الانفصال النهائي للکنيسة اليعقوبية.

إن الحقوق والامتيازات التي اعترف بها الباب العالي «للسريان قديم» أي السريان القدماء وهو الاسم الذي يطلق عليهم في الوثائق العثمانية الرسمية مشابهة لتلک التي منحت للطوائف المسيحية الأخرى وهي تتعلق بالاستقلال في إدارة الشؤون المتعلقة بالزواج وما ينجم عنه من التزامات عائلية. ويمثل بطريق اليعاقبة في اسطنبول وکيل عنه ومجلس إداري دنيوي وذلک الدفاع عن مصالح کنيستهم وإدارة شؤون العلاقات مع الباب العالي.

ولم يکن اليعاقبة، شأنهم في ذلک شأن إخوانهم النساطرة، بمنأى عن الدعاية الکاثوليکية، لکن هذه الدعاية لم تفض، على الرغم من أن نشاط المبشرين استمر بينهم عدة قرون، إلى نتائج ملموسة إلّا منذ وقت غير بعيد نسبياً. لقد ظل عدد «السريان الوحدويين» أي السريان الکاثوليک وهو

٣٠١

الاسم الذي أصبح يطلق على اليعاقبة الذين انضموا إلى کنيسة روما الکاثوليکية، غير کبير وباءت بالفشل جميع جهود مجمع انتشار الإيمان في إيجاد ميل راسخ إلى روما بين الطائفة المسيحية المذکورة.

في ١٧٨٣ شعر بطريق اليعاقبة الطاعن في السن کريکوري الثالث بقرب نهايته فألح على رجال الدين المجتمعين حوله وهو على فراش الموت بأن يختاروا رئيس أساقفة حلب ميخائيل جروة خلفاً له. وکان هذا قد قبل في حظيرة الکاثوليکية قبل ذلک ببضعة سنوات، وقد سارع بالتوجه إلى روما بعد أن اختير بطريقاً لليعاقبة تحت اسم أغناطيوس الرابع طالباً المصادفة على اختياره. وما أن عرفت طائفة اليعاقبة بذلک حتى رفضت أغلبيتها الاعتراف بصنيعة البابا واختارت متا أسقف مدينة الموصل بطريقاً لها. ورأى الباب العالي من جانبه عدم إمکانية الاعتراف بأغناطيوس الرابع وصادق على اختيار الأغلبية. وقد تحتم على من اختاره الحزب الکاثوليکي أن يهرب إلى لبنان حيث استقر في دير الشرفة الذي أسسه بنفسه والذي أصبح لبعض الوقت مقراً لبطارقة السريان والکاثوليک. ولم يعد هؤلاء البطارقة إلى ماردين قبل ١٨٥٣. وقد غيروا مقرهم خلال هذه الفترة عدة مرات.

لم يعترف الباب العالي بالانشقاق الذي حصل بين اليعاقبة إلّا في ١٨٣٠ حين أقرت الحکومة العثمانية بإلحاح من السفير الفرنسي في اسطنبول بطريق السريان الکاثوليک کـ «ملت باشي» أي رئيساً لطائفة مستقلة ومنحته نفس الحقوق التي يتمتع بها بطارقة اليعاقبة تقريباً. وفي ١٨٤٥ عقد السريان الکاثوليک بشأن تمثيل وحماية مصالحهم في اسطنبول. لکن هذا الاتفاق انهار مؤخراً ولبطريق السريان الکاثوليک الآن وکيل خاص لدى الباب العالي.

٣٠٢

وينتخب رئيس السريان الوحدويين في اجتماع عام للأساقفة لکنه لا يباشر اختصاصاته إلّا بعد أن يصادق على اختياره البابا الذي يمنحه بالإضافة إلى ذلک لقب بطريق انطاکيا، ويلزم المنتخب الجديد خلال ذلک بأن يوقع على رمز الإيمان الذي وضعه في ١٦٤٢ البابا أوربان الثامن خصيصاً للمسيحيين الشرقيين وعلى وثيقة خاصة تؤکد طاعته للعرش المقدس. أما من حيث التدرج الکهنوتي فإن بطريق السريان الکاثوليک تابع للقاصد الرسولي في حلب ولمجمع انتشار الإيمان.

إن اليعاقبة والسريان الکاثوليک منتشرون في جميع ما بين النهرين وفي الکثير من مدن سوريا ولکن مراکزهم الرئيسية هي حلب وماردين والموصل ودمشق وحمص وحماة وديار بکر. ويصل عدد الجماعة الأولى أي اليعاقبة الصرف في الدولة العثمانية إلى ١٠٠،٠٠٠ نسمة. أما الجماعة الثانية فعددها غير معروف حتى ولو بشکل تقريبي وتشير إحصائيات مختلف الکتاب إلى أنه يتراوح ما بين ٣٠ إلى ٥٠ ألف. وقد کان عدد السريان الکاثوليک بموجب إحصائيات مجمع انتشار الإيمان في عام ١٨٩٨ (٢٢،٧٠٠) نسمة تقلص في سنة ١٩٠١ إلى ١٨،٠٥٠ نسمة علماً بأن نصيب ولاية البصرة منهم ١،٢٠٠ شخص في الحالة الأولى و ٦٠٠ شخص فقط في الحالة الثانية: ولا يعطينا (van den steen de jehav) (١) الذي أخذنا عنه هذه الأرقام مع الأسف أي تفسير لأسباب هذا النقص الکبير في عدد السريان الکاثوليک في بداية القرن العشرين.

الأرمن والأرمن الکاثوليک :

نذکر القارئ بأن السلطان محمد الثاني بعد احتلاله للقسطنطينية

______________________

(١) (f. van den steen dn jehay. op. cit pp ٣٧. ٢٤١ ٢٤٢.)

٣٠٣

مباشرة نقل من بروصه إلى عاصمته الجديدة جالبة أرمنية کبيرة العدد حصل رئيسها وهو رئيس الأساقفة يواکيم على لقب بطريق الأرمن القاطنين في الدولة العثمانية کافة، واعترف به في الوقت نفسه ممثلاً لجيمع الرعية المسيحية غير الارثوذکسية في الامبراطورية العثمانية.

وهکذا احتل رئيس أساقفة أرمني بسيط بإدارة السلطان، مرکزاً أعلى بالمقارنة مع کاثوليکوس کليکا في سيس (في ولاية أدنة حالياً) وکاثوليکوس (١) اکتمار في‌ وان اللذان يعيشان في الدولة العثمانية نفسها ويحتلان مرتبة أعلى في سلم التدرج الکهنوتي. إن إخضاع جميع رعايا الدولة العثمانية المسيحيين من غير الأرثوذکس إلى بطريق الأرمن في اسطنبول رفع ذلک البطريق إلى مستوى يکاد يکون مساوياً للمستوى الذي يحتله جاثليق کل الأرمن وهو الاسم الذي يطلق على رئيس الکنيسة الأرمنية الذي يعيش في أجمادزين والذي يتمتع بالسلطة الدينية على أرمن روسيا واوروبا الغربية وفارس والهند وأمريکا.

ومن الطبيعي أن يحرص بطريق الأرمن على سلطته حرصاً شديداً ضد أي تطاول عليها من الخارج مستغلاً الاسناد الذي يحظى به بشکل مستمر من الباب العالي، لذا فإن المبشرين الکاثوليک الذين استقروا في الدولة العثمانية منذ نهاية القرن السادس عشر وجدوا قي سعيهم لکسب أکبر عدد ممکن من رعايا السلطان المسيحيين إلى الکاثوليکية، خصوماً

______________________

(١) کاثوليکوس هو اللقب الذي أصبح يحمله بطارقة الکنيسة الأرمنية الکريکورية اعتباراً من القرن الرابع وبطارقة کنيسة جورجيا الأرثوذکسية اعتباراً من القرن الخامس تذکره الکتب العربية باسم جاثليق وهو ما سنفعله من الآن فصاعداً ـ المترجم.

٣٠٤

عنيدين في شخص هذا البطريق ورجال الدين الخاضعين له.

وهکذا قام بين المبشرين الکاثوليک ورجال الدين الأرمن صراع يمکن الحکم على شدته من الفقرة التالية المقتبسة من تاريخ (hammer) (١) «إن البطريق الأرمني أفتيک الذي رقي إلى هذه المرتبة بفضل مساعي اليسوعيين الذين اعتمدوا على وعده بحماية الکاثوليک کشف عن نفسه بعد کعدو لدود لهؤلاء الآخرين. وفي مقابل ذلک وبإلحاح من حماته في الماضي القريب اختطف عندما کان في جزيرة خيوس ووضع في سفينة حربية فرنسية ونقل إلى فرنسا حيث سجن مدى الحياة. وقد اعطى اختفاء أفتيک دون أثر حجة لممارسة اضطهادات جديدة ضد الأرمن الکاثوليک الذين صدر مرسوم سلطاني بوضعهم تحت الحراسة، کذلک نفي أسقفا اسطنبول والقدس الذين سمحا للمبشرين بالوعظ بحرية إلى الکاليرا على أثر شکوى من رجال الدين الأرمن ـ الکريکوريين. وأخيراً منع اليسوعيون أنفسهم من ممارسة أي نشاط. ولم يکتف الصدر الأعظم بذلک فأمر بإعدام بطريق الأرمن الکاثوليک ساري وستة من مساعديه وکانوا قبل ذلک رهن الاعتقال وقد أنقذ بعضهم حياته باعتناق الإسلام. أما الأسقف (comidas) الذي رفض الارتداد عن الکاثوليکية وإثنان آخران من الأرمن الکاثوليک فقد قطعت رؤوسهم علناً».

يظهر مما ذکرنا أن الاضطهاد الذي کان يمارس ضد المتحولين الجدد وبالدرجة الأولى ضد الأرمن الذين اعتنقوا الکاثوليکية لم يمر دون ضحايا، وقد ازداد عدد هؤلاء الضحايا أکثر في أثناء حملات الاضطهاد

______________________

(١) (hammer histoire de ? empire ottoman trad de ? allemande par doehe?) (t. III. paris ١٨٤٤ pp. ٣٣٤ ٣٣٥).

٣٠٥

التي قامت في ١٦٩٩ و١٧٥٩ و١٧٨٢ و١٨٢٨. ولقد ازداد الوضع الصعب الذي يعيشه المتحولون إلى الکاثوليکية وحماتهم المبشرون سوءاً من أن الباب العالي رفض أن يعترف بالأرمن الکاثوليک کطائفة مستقلة وأن يدخل معهم في أي محادثات إلّا عن طريق خصمهم الرئيس بطريق الأرمن.

وبسبب ذلک لم يجلب لروما النصر الذي تريده حتى تحول افرام أسقف مدينة حلب إلى الکاثوليکية. وقد استطاع هذا الأسقف أن يؤمن اختياره لمنصب جاثليق سيس في ١٧٤٠، لکن ما ان تأکدت الطائفة الأرمنية في سيس بأن الجاثليق الجديد صنيعة للبابا وحصل منه على لقب بطريق کليکا، إلّا وبادرت إلى اختيار جاثليق جديد، فاضطر الجاثليق السابق الذي اتخذ لنفسه، لاسترضاء روما، اسم بطرس الأول، في آخر الأمر وبعد أن فشل في الحصول على الاعتراف به من قبل الأغلبية الساحقة من الأرمن بل ومن الباب العالي نفسه، إلى الهرب إلى لبنان والاعتکاف في دير القرين (١).

لفتت ملاحقة الأرمن الکاثوليک في آخر الأمر انتباه فرنسا فکانت حافزاً لتدخل نشيط قام به ممثلوها لدى الباب العالي. وکانت الحجة التي استغلها هؤلاء هي المرسوم الذي أصدره السلطان محمود الثاني في ٨ کانون الثاني ١٨٢٨ رداً على اشتراک أساطيل فرنسا وبرطانيا وروسيا في تدمير الأسطول العثماني في خليج نافارينو، والذي قضى بطرد جميع المبشرين الکاثوليک ومن تبعهم من الأرمن من الدولة العثمانية. وقد تمکن

______________________

(١) (m. c. famin. Histoire do la rivalite et du  proteorate des eglises chetiennes en orient Paris. ١٨٥٣.  p. ١٠٧.)

٣٠٦

سفير شارل العاشر الجنرال (guilleminot) الذي أرسل إلى الدولة العثمانية بعد عودة العلاقات الدبلوماسية معها مباشرة من أن يحصل من السلطان على أمر لم يقض بإلغاء المرسوم السابق فقط بل قضى أيضاً بإخراج الأرمن الکاثوليک من دائرة اختصاص بطريق الأرمن الکرکوريين فوضعوا في القضايا المدنية تحت حماية موظف عثماني خاص اسمه «ناظر»، أما في القضايا الدينية فقد أصبحوا يتبعون القاصد الرسولي في اسطنبول (١).

لقد استبدل الناظر في ١٨٣١ بأسقف وکانت الـ «براءت» التي أعطيت لهذا الأخير اعترافاً رسمياً من الباب العالي بـ «طائفة الأرمن الکاثوليک». وقد صدر مرسوم بابوي منح فيه الأسقف الجديد رتبة رئيس أساقفة ـ بريماس (٢). وبإلحاح من السفارة الفرنسية في اسطنبول جرت في ١٨٧٥ مساواة البريماس رئيس أساقفة الأرمن الکاثوليک ببطريقي اليونان والأرمن الکريکوريين من حيث الحقوق والامتيازات بل واعترف له بالحق في أن يمثل مصالح الوحدويين من جميع الطوائف الأخري.

بعد أن استطاعت الدبلوماسية الفرنسية أن تؤمن الاستقلال لطائفة الأرمن الکاثوليک أصبح وجود بطريقية کليکا التي أسسها البابا بنديکتوس الرابع عشر لا معنى له. فرجال الدين الذين أشغلوا هذا المنصب لا يمکن أن يکونوا خاضعين للبريماس رئيس أساقفة اسطنبول لأنهم أعلى منه منزلة ولا يمکنهم في الوقت نفسه أن يصبحوا رؤساء لطائفة الأرمن الکاثوليک لأن الباب العالي لم يعترف بهم. وقد أمکن التخلص من هذا

______________________

(١) (p. arminjon op. cit. pp. ٣٣ – ٣٤.)

(٢) (primas) کلمة لاتينية تعني الرئيس الأول وهي في الکنيسة الکاثوليکية والانکليکانية تعني الأسقف الأول من حيث المرتبة والامتيازات ـ المترجم.

٣٠٧

الإشکال بنجاح في ١٨٦٦ عندما توفي بطريق کليکا بطرس الثامن وذلک بأن انتخب خلفاً له ربيب مجمع انتشار الإيمان حسون الذي کان قد أصبح رئيس أساقفة بريماس في القسطنطينية منذ ١٨٤٦. وقد سارع البابا باستغلال هذا الاتحاد للوظيفتين في شخص واحد والذي نظم بشکل مقصود فأصدر مرسوماً بابوياً خاصاً يبدأ بکلمة (reversurus) الغي فيه منصب رئيس أساقفة بريماس مکتفياً من الآن فصاعداً برئيس واحد يلقب ببطريق الأرمن الکاثوليک وجاثليق کليکا (١).

وکان هذا المرسوم البابوي (reversurus) الذي أصدر في ١٢ تموز ١٨٦٧ سبباً في انقسام الأرمن الکاثوليک وکاد يؤدي إلى أن يبتعد عن روما القسم الأغلب من الوحدويين. وخلاصة القضية أن روما کانت قد أوصلت حسون في ١٨٤٦ إلى منصب رئيس أساقفة بريماس دون أن تشترک الطائفة في ذلک، وفي ١٨٥٠ اختار البابا منفرداً خمسة أساقفة قام حسون هذا بعد ذلک بتکريسهم وفي المرسوم البابوي المذکور اکد البابا نهائياً حقه في التدخل في الشؤون الداخلية للکنيسة الأرمنية ـ الکاثوليکية وخصوصاً في اختيار وتعيين الأساقفة وفي الاشراف على الطائفة. وقد بادر حسون وأنصاره إلى مساندة البابا فوراً لکن خصومهم الذين أطلق عليه إسم «خصوم حسون» والذين کانوا في السابق أيضاً يعتبرون أطماع البابا هذه خرقاً لحريتهم واستقلالهم القومي هبوا بشکل حازم للدفاع عن حقوقهم التي جرى انتهاکهاً.

ولا يسعنا، من أجل أن نفسر مثل هذا التوتر في المشاعر القومية لدى الأرمن الکاثوليک، إلّا أن نذکر بأن هذا الوقت بالذات هو الذي قامت

______________________

(١) ed. Engelhardt. Op. cit. t. IIp. ٥٩).

٣٠٨

فيه بين الأرمن العثمانيين حرکة قومية ترمي إلى إنشاء «أرمينيا الکبرى» المستقلة. لقد أخذ حزب «أرمينا الفتاة» الذي تشرب بالأفکار الليبرالية في المدراس الفرنسية، يسعى لأن يقيم هذه الأفکار على أساس عثماني وبدأ يعمل على إثارة الوعي القومي لدى قومه. وقد نجحت جهودهم في هذا المجال في آخر الأمر وادت إلى سن ما يسمى بـ «الدستور الأرمني لسنة ١٨٦٠» الذي نظم الادارة الداخلية للطائفة الأرمنية على النمط الديمقراطي بحيث يتفوق الأساس الانتخابي وتستبدل السلطة الفردية بالجماعية. إن هذا النظام القومي الذي صادق عليه الباب العالي في ١٨٦٣ لم يوجد بالطبع استقلالاً داخلياً حقيقياً لرعايا السلطان الأرمن ولکنه حدد بدقة حقوق وواجبات کل عضو منفرد تجاه «أمته» وبالعکس، فکان بذلک بمثابة الاسمنت اللاصق الذي کان يکتل الأرمن العثمانيين في کل قومي واحد قائم بذاته (١).

في ظل مثل هذه الميول الفکرية للطائفة الأرمنية ليس هناک ما يدهش في أن يشعر حتى الأرمن الکاثوليک بنهوض الروح القومية فهبوا يصدون بحزم مطامع البابا التي سبق ذکرها. وهکذا رفض «خصوم حسون» الاعتراف بحسون رئيساً دينياً لهم واختاروا بدلاً منه أسقفاً يتفق معهم في الرأي معتمدين على إسناد الباب العالي الذي لم يکن بمقدوره إلّا أن يعترف بعدالة احتجاجهم على خرق البابا للحقوق التي منحها لطائفة الأرمن الکاثوليک حاکمها الشرعي السلطان.

وقد رد البابا على ذلک بأن اعتبر «خصوم حسون» وأسقفهم مارقين، وبذا بدت القطيعة التامة حتمية الأمر الذي کان يهدد بأن يبتعد عن روما

______________________

(١) (adyssens. Op. cit. p. ٤٣٧.)

٣٠٩

مئات الألوف من الوحدويين فلقد ثار على موضوعات المرسوم البابوي (١) (reversurus) أيضاً المارونيون في لبنان والملکيون سنتحدث عنهم فيما بعد بالإضافة إلى الأرمن الکاثوليک، فکان ذلک من جهة والاسناد الحازم لـ «خصوم حسون» من جانب الباب العالي من جهة أخرى مما کسر إصرار روما وأجبر البابا على التراجع، فاستدعي حسون إلى روما وتسلم لقب کاردينال وظل هناک. غير أن الصلح النهائي، مع ذلک لم يتحقق إلّا في ١٨٨٨ عندما توصل الحزبان إلى وفاق أديإلى إنشاء تنظيم جديد لطائفة الأرمن الکاثوليک (٢).

کان التنظيم الجديد هذا مماثلاً في خطوطه العامة للأسس التي وردت في «النظام القومي لسنة ١٨٦٠»، حيث يقف على رأس الطائفة بطريق يتبعه مجلسان الأول للشؤون الدينية يتألف من ممثلي رجال الدين والثاني للشؤون المدنية ويتألف من الأرمن. وتدير الطائفة بالاتفاق مع البطريق جميع ممتلکاتها المنقولة وغير المنقولة وکذلک المعاهد التعليمية والتربوية حيث يؤسس لهذا الغرض عدد من المجالس الثانوية واحد لکل فرع من فروع الادارة. ويطبق النظام نفسه ولکن بشکل مصغر على الأسقفيات والابرشيات (٣).

لقد ألغيت نهائياً في الوفاق المذکور الادعاءات التي عبر عنها البابا في مرسوم (reversurus) للتدخل في‌ انتخاب البطريق والأساقفة. فعلى الرغم من رغبة البابا باشتراک أساقفة معينين في انتخاب البطريق فأن

______________________

(١) کلمة لاتينية تعني العودة ـ المترجم.

(٢) (ed. Engelhardt. T. IIp. ٥٨ ff.)

(٣) (f. van den steen de jehay. Op. ٢٥٣ ff.)

٣١٠

الانتخاب أصبح من اختصاص الطائفة کلها ممثلة بستين منتخب (ثمانية عن رجال الدين وإثنان وخمسون عن الأرمن). حيث ينبغي على مجمع الأساقفة أن يختار البطريق من بين خمسة مرشحين يقدمهم هؤلاء الستون، وأن يخبر الباب العالي وروما بهذا الاختيار للعلم فقط. أما عن تعيين الأساقفة فإن البابا کان قد قضى بأن يبقى له الاختيار النهائي من بين مرشحين ثلاثة بقدمهم له السينودس (١)، لکن القواعد الجديدة قضت بأن يسمى اجتماع مشترک لمجلسي الأسقفية المعنية الديني والمدني ثلاثة مرشحين يختار نجمع الأساقفة أحدهم ويصادق البطريق عليه دون أن يأخذ موافقة البابا مسبقاً. وتؤلف هذه القواعد على الرغم من أن الباب العالي لم يصادق عليها وأن روما لم توافق عليها الأسس التي تدار بموجبها طائفة الأرمن الکاثوليک.

من بين ١،٦٨٠،٥٠٠ نسمة من الأرمن العثمانيين وهو العدد الذي ذکره بطريق الأرمن الکرکوريين لمؤلف کتاب: (de la situation legale des sUjets ottomans non-musulmans) يؤلف الأرمن الکاثوليک بموجب إحصائيات مجمع انتشار الايمان لسنة ١٩٠١ التي أوردها هذا المؤلف أيضاً ٩٠،٠٠٠ نسمة منهم ما يقرب من ١٦،٠٠٠ من الوحدويين يعيشون في اسطنبول نفسها (٢).

ويوجد في ولايات بغداد والموصل والبصرة في الوقت الحاضر ما لا يزيد عن ٥،٠٠٠ من الأرمن الکريکوريين والأرمن الکاثوليک. لقد کان

______________________

(١) السينودس هنا هو المجمع الکنيسي الذي يضم رجال دين وأشخاصاً مدنيين ومهمته معالجة الشؤون الکنيسية المختلفة ـ المترجم.

(٢) (f. van den steen de jehay: op. cit. ٥١-٥٢ ٢٦١.)

٣١١

الأرمن في القرن التاسع عشر کثيري العدد لکن الطاعون المخيف في ١٨٣١ أباد أعداداً کبيرة منهم، ثم انتقل بعد ذلک القسم الأغلب ممن بقي حياً منهم إلى الهند وغيرها من الأقطار.

وإذا ما قارنا بين الوضع الحالي لکل من الأرمن الکاثوليک والأرمن الکريکوريين في الامبراطورية العثمانية لا بد أن نتصول إلى الاستنتاجات التالية: لقد تعرض الأرمن الکاثوليک في البداية لعدد من الاضطهادات من جانب أخوانهم الذين کانوا يعتمدون على إسناد السلطات العثمانية لکنهم وصلوا أخيراً بفضل العون الذي أبدته لهم الدبلوماسية الفرنسية إلى مرفأ هادئ. أما الأرمن الکريکوريون فإنهم ظلوا حتى منتصف القرن التاسع عشر يتمتعون بعطف دائم من جانب الباب العالي الذي کان ينظر إليهم على إنهم «ملتي صديقة» أي «طائفة مخلصة من الرعية» لکنهم أصبحوا حالياً يتعرضون للاضطهاد والکل لا يزال يذکر المجاوز المريعة التي ارتکبت ضد الأرمن الکريکوريين في ١٨٩٤ ـ ١٨٩٦ حيث سفح الدم المسيحي في جميع ممتلکات السلطان تقريباً، حتى اسطنبول نفسها کانت مسرحاً لمذبحة رهيبة.

أما في العراق الجنوبي فقد أمکن بفضل الاجراءات التي اتخذتها السلطات المحلية في الوقت المناسب تجنب إراقة الدماء بحيث أن الخطر الذي تعرض له الأرمن العثمانيون اقتصر في هذه المنطقة على کثرة الأيتام الذين تحتم على کل عائلة موسرة من الأرمن العراقيين تقريباً أن تؤيهم.

الملکيون :

بقي علينا لکي ننتهي من استعراض مجال نشاط المبشرين الکاثوليک في العراق الجنوبي أن نتحدث باختصار عن الملکيين الذين يعيش قسم من جاليتهم الصغيرة في بغداد والقسم الآخر في البصرة.

٣١٢

إن أصل اسم الملکيين هو من الکلمة العربية «ملک» وقد أطلق هذا الاسم على المسيحيين السريان الذين لم يعتنقوا هرطقة نسطور ويوتيخوس بل کانوا يطيعون وينفذون أوامر الامبراطور مارکيان الموجهة ضد تلک التعاليم الکاذبة، وذلک للسخرية بهم (١).

وبعد فتح العرب لسوريا أصبح أسم الملکيين يطلق في بعض الأحيان على مسيحيي أنطاکيا الذين احتفظوا بالمذهب الأرثوذکسي واستخدموا اللغة العربية بدل اليونانية في إداء الطقوس الدينية واعتباراً من منتصف القرن الثامن عشر أصبح اسم الملکيين يطلق على مسيحي سوريا ومصر الذين انضموا إلى روما والذين حافظوا، رغم اعترافهم بزعامة البابا، على مذهبهم واستمروا على إداء طقوسهم الدينية باللغة العربية (٢).

لقد بدأت محاولات جذب الملکيين إلى حظيرة الکنيسة الکاثوليکية منذ ١٨٥٣ عندما أرسل البابا سکستوس الخامس إلى الشرق الأدنى بعثة خاصة لهذا الغرض ولکنها لم تحقق أي نجاح. ولم يکن بالأمکان اعتبار نجاح الدعاية الکاثوليکية بين هذا الشعب اليوناني ـ السرياني مضموناً إلّا اعتباراً من ١٧٤٤ بعد أن توجه بطريق الملکيين إلى البابا بنديکتوس الرابع عشر طلباً للمصادقة على تعيينه. وقد تحتم على هذا البطريق المنضم إلى روما في البداية أن يجابه صعوبات من جانب الباب العالي الذي رفض أن يسمح له بالعيش في دمشق التي کانت قد أصبحت اعتباراً من ١٥٣١ المقر الرسمي لبطارقة الملکيين، محتجاً بعدم وجود قنصل فرنسي في هذه المدينة. وقد تحتم على صنيعة روما بسبب ذلک أن يغادر العاصمة السابقة

______________________

(١) (m. c. famin. Op. cit. pp. ٧٢-٧٣.)

(٢) (f.van dan steen de jehay. Op. cit. p. ٢٧٠-ff.)

٣١٣

للخلفاء الأمويين ويستقر في لبنان ولم يرجع خلفاؤه إلى دمشق ثانية إلّا في ١٨٤١.

وقد ظل اليونان ـ السريانيون، بسبب عدم اعتراف الباب العالي لهم بالوجود المستقل، تابعين للکنيسة اليونانية حتى ١٨٣١، ولم يصبحوا تحت حماية بطريق الأرمن الکاثوليک الذي کان قد حصل لتوه من الحکومة العثمانية على اعتراف بحقه في الوجود المستقل، إلّا في السنة المذکورة. ومن أجل أن تزداد أهمية الرؤساء الدينين الملکيين منحهم البابا الکريکوري السادس عشر في ١٨٣٨ لقب بطريق انطاکيا وبطريق الاسکندرية وبطريق القدس على رغم من أنهم لم يتمکنوا من التحرر من الوصاية الخارجية نهائياً إلّا بعد عشر سنوات وذلک بموجب مرسوم سلطاني خاص. عند ذلک عين البطارقة الملکيون ممثلاً خاصاً لهم في اسطنبول ومنحوه لقب «وکيل» وذلک للاتصال بالباب العالي في الشؤون التي تخص الطائفة.

وقد عقدت طائفة الملکيين خلال القرن التاسع عشر عدة مؤتمرات، اجتمع آخرها في ١٨٤٩ في القدس لوضع قواعد الادارة الذاتية الداخلية للطائفة، لکن قرارات هذه المؤتمرات لم تحظ بمصادقة البابوات الذين اعتبروها عقبة تعيق إخضاع هذه الطائفة نهائياً لسلطتهم. والواقع أن نفوذ روما بلغ في الفترة الأخيرة من السعة بحيث أن مندوباً بابوياً کان يحضر في انتخاب البطريق على الرغم من کل احتجاجات الباب العالي ضد التدخل الخارجي.

وينبغي ألا نخلط بين الملکيين أي اليونان ـ السريانيين واليونان ـ الوحدويين أي اليونان الصرف الذين انضموا إلى روما، فالدعاية الکاثوليکية بين سکان عاصمة الامبراطورية العثمانية والولايات المجاورة

٣١٤

لها لم تحقق قبل ١٨٦١ النجاح. ومنذ هذه السنة الأخيرة تکونت طائفة غير کبيرة من اليونان ـ الوحدويين تتبع في الشؤون الدينية أسقف اللاتين في اسطنبول وتخضع في الشؤون المدنية لديوان اللاتين أو لبطريق الأرمن الکاثوليک (١).

يصل عدد الملکيين حسب إحصائيات مجمع انتشار الايمان لسنة ١٩٠١ إلى ١٢٦،٢٠٠ شخص علماً بأن مراکزهم الرئيسية هي ولايات بيروت في لبنان وحلب ودمشق في سوريا. ويوجد منهم في ولاية بغداد ما يقرب من ٥٠ شخصاً أما في البصرة فلا يزيد عددهم على بضعة أشخاص.

أن الحرکة المضادة للأکليروسية في فرنسا نفسها وبالشکل الرئيسي نشاط المبشرين البروتستانت المتزايد أکثر فأکثر بين المسيحيين العثمانيين يمکن أن تکون جزئياً عقبة أمام استمرار نجاح الدعاية الکاثوليکية، في الامبراطورية العثمانية.

ان الأثر الذي ترکته لا أکليروسية فرنسا في الشرق الأدني لا يزال في بداية ظهوره وقد انعکس حتى الآن في مشروع تأسيس سلسلة کاملة مما يسمى بالارساليات الدنيوية (missions laiques) التي تخلت عن أية دعاية دينية وانهمکت کلياً في‌ قضية تعليم رعايا السلطان، فکان عليها بذلک أن تصبح منافساً جدياً للمؤسسات التعليمية التابعة للارساليات الدينية الکاثوليکية. وکانت أول تجربة لتنفيذ هذا المشروع عملياً هي «الليسية في سالونيک» التي افتتحت في ١٩٠٧ والتي تتألف من مدرسة للتجارة وقسم ثانوي للبنين والبنات کان فيه في بداية ١٩٠٨ (٤٢٠) دارساً من کلا

______________________

(١) (f. van den steen de jehay. Op. cit. pp. ٢٦٦-٢٦٧.)

٣١٥

الجنسين (١).

کانت منافسة المبشرين البروتستانت تؤلف خطراً أکثر جدية، فقد ظهر هؤلاء في الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن التاسع عشر ووضعوا نصب أعينهم مهمات أوسع مما کان يضعها الرهبان الکاثوليک من مختلف الفرق. فأولئک الرهبان کما يظهر مما عرضناء سابقاً کانوا يهدفون کلياً إلى إعادة المسيحيين الشرقيين إلى حظيرة کنيسة روما في حين أن ممثلي جمعيات الکتاب المقدس في بريطانيا وأمريکا کان هدفهم توعية المسلمين أنفسهم بنور التعاليم المسيحية أما تحويل المسيحيين العثمانيين إلى البروتستانتية فکانوا يهتمون به کقضية ثانوية.

أن الدوافع التي دفعت المبشرين البروتستانت لأن يوجهوا نشاطهم هذه الوجهة هي تحول بعض المسلمين عرضاً في الهند والظروف غير المواتية التي حصلت في بداية عملهم بين المسيحيين واليهود.

ففي الهند کان من بين المتحولين إلى البروتستانتية بضعة مسلمين دفعوا حياتهم مقابل ارتدادهم عن الاسلام. وقد ألهمت هذه الحقائق أحد رجال الدين الانکليکان وهو المدعو (claudius Buchanan) فکرة توجيه جهود المبشرين البروتستانت نحو المسلمين، فألقي في ١٨٠٩ في برستول خطابه الذي أثار في حينه ضجة کبيرة والذي عرض فيه بشکل فصيح ومقنع حججه لصالح ضرورة الاهتمام بتحويل المسلمين إلى المسيحية (٢).

وقد وجدت دعوته الملحة هذه صدى لها بين المبشرين الامريکان الذين قرروا نذر أنفسهم لهذا النوع من النشاط فاستقروا في سوريا

______________________

(١) (bulletin do comite de rasie francaise. ١٩٠٨ pp. ١٠٩-٢٧٣.)

(٢) (rav. S.m. zwemer: op. p. ٣١٥.)

٣١٦

يحدوهم هدف خاص هو دراسة اللغة العربية واتقانها والتمکن من جوهر الدين الاسلامي وأسسه. وکانت النتائج الاولى لهذه الدراسة هي‌ترجمة الکتاب المقدس إلى اللغة العربية ووضع عدد کبير من المؤلفات التي حاولوا فيها دحض تعاليم الاسلام. ومن أجل أن تطبع هذه المؤلفات أسسوا لهم مطبعة خاصة في مالطة نقلت في ١٨٣٣ إلى بيروت. وهکذا أعدت الارسالية السورية غير قليل من المبشرين الذين قرروا نذر أنفسهم کلياً لمسألة نشر المسيحية بين أتباع الدين الاسلامي.

وفي الوقت نفسه وبالتوافق مع هذه الجهود جرب المبشرون الانجليز والامريکان أن يعملوا على تحويل المسيحيين واليهود العثمانيين إلى البروتستانتية. حيث تخصص الامريکان بالدرجة الأولى بالعمل بين الأرمن في حين وجه الانجليز اهتمامهم إلى اليهود. وقد تحتم على المبشرين البروتستانت أن يصطدموا في خطواتهم الأولى في هذا السبيل بمقاومة عنيدة من جانب رجال الدين الأرمن والحاخامات اليهود وأن يصادفوا عداءاً ظاهراً من جانب المبشرين الکاثوليک يضاف إلى ذلک الشک والريبة الذي جابهتهم به السلطات التي منعت البروتستانت حتى من بيع الکتاب المقدس (١)، ثم جاءت الضربة النهائية التي وجهها لنجاح الدعاية البورتستانتية بين المسيحين العثمانيين المرسوم السلطاني لعام ١٨٣٤ الذي صدر بإلحاح من بطريقي اليونان والأرمن في اسطنبول والذي منع الانتقال من طائفة مسيحية إلى أخرى.

ونتيجة لذلک جرى التضييق على الدعاية التي کان المبشرون البروتستانت يقومون بها وتعرض من استجاب لهم إلى ملاحقات متکررة

______________________

(١) (s. descombaz. Histoire des missions evangaliques. Paris. ١٨٦٠.p. ١٣٦ ff.)

٣١٧

من جانب شرکائهم في الدين سابقاً وکذلک من جانب السلطات العثمانية إلى حد قامت معه أمام الدول المعنية ضرورة ملحة هي الدفاع عن مصالح الطائفة البروتستانتية امام الباب العالي. وقد قامت بريطانيا العظمى بالخطوة الأولي في هذا المجال عندما عمدت في ١٨٤٠ بإسناد من بروسيا إلى الطلب من الباب العالي بأن يسمح ببناء کنيسة بروتستانتية في القدس. وقد رفضت الحکومة العثمانية هذا الطلب في أول الأمر لکنها اضطرت بسبب عدم مساندة أية دولة أخرى لها في هذا الأمر، إلى التراجع فافتتح أسقف أنکليکاني جاء من لندن أول مصلى للبروتستانت في القدس عام ١٨٤٢ (١).

وفي ١٨٥٠ اعترف رسمياً بوجود الطائفة البروتستانتية وذلک بفضل الجهود المشترکة التي بذلها ممثلو بريطانيا وبروسيا والولايات المتحدة الامريکية. وأصبح لها الحق بموجب المرسوم السلطاني الذي صدر في السنة المذکورة في أن يکون لها مندوبها الخاص أي «وکيل» في اسطنبول. کما تألف مجلس إداري تابع للـ «وکيل» يتألف من إثني عشر عضواً. ونظمت على هذا الغرار تقريباً الطوائف البروتستانتية في الأقاليم. وينبغي أن نلاحظ في هذا المجال بأن فرمان السلطان وکذلک السلطة العثمانية، لم تفرق بأي شکل من الأشکال بين الکنائس المختلفة مثل اليرسبتيرية والأسقفية والميثودستية ... الخ ولهذا فإن اسم «بروتستانت» يشمل أتباع کل من هذه الکنائس وکذلک الذين تحولوا إليها دون تفريق على اساس القومية (٢).

وبعد أن أمنت بريطانيا العظمي بهذا الشکل شرعية تمثيلها لرعايا السلطان البروتستانت، قررت أن تستحصل من الحکومة العثمانية الموافقة

______________________

(١) (ED. ENGELHARDT: OP. CIT. T. L. P. ٦١FF.)

(٢) (f. van den steen de jehay. Op. cit. p. ٢١٩ff.)

٣١٨

على أن يزاول المبشرون البروتستانت تبشيرهم بحرية بين المسلمين أنفسهم. وقد بدا أن الوقت الذي اختير لمثل هذه المبادرة کان موفقاً نظراً لما شمل الدولة العثمانية من حرکة إصلاحية تهدف إلى إصلاح أنظمة الدولة وتحسين وضع الشعوب الخاضعة للسطان.

وهکذا فبعد ان توصل ممثل بريطانيا لدي الباب العالي اللورد ( stattford ) يسانده السفير الفرنسي، إلى إلغاء الفرمان الذي يمنع الانتقال من طائفة مسيحية إلى أخرى في ١٨٤٤ بدأ محاولاته في الالحاح على رفعت باشا الصدر الأعظم آنذاک من أجل أن يُلغى رسمياً الاعدام المفروض على کل من يرتد عن الاسلام (١).

وفي عام ١٨٥٥ في خلال المفاوضات التي سبقت عقد معاهدة باريس (٢) طلب (stattford) هذا من السلطان أن يعترف بصراحة لرعاياه المسلمين بالحق في الانتقال إلى المسيحية بحرية. غير أن ممثلي فرنسا وروسيا والنمسا لم يساندوا هذا الطلب لأنهم لم يروا أن هناک فائدة تجنيها المسيحية من وراء هذا التوسيع لمفهوم الحرية الدينية. أما المندوب العثماني فقد رفض بشکل قاطع مناقشة اقتراح السفير الانجليزي هذا مشيراً إلى أن أمراً مثل هذا يقوم به السلطان سيوجه إلى مکانته باعتباره خليفة للمؤمنين (٣) ضربة لا يمکن تلافي نتائجها.

______________________

(١) (ed. Engelhardt. Op. cit. t. ١. p. ١٢٩ff.)

(٢) المقصود هنا هو المعاهدة التي أنهت حرب القرم (١٨٥٣ ـ ١٨٥٦) والتي‌ وقعها في باريس في آذار ١٨٥٦ ممثلو بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وسردينيا وبروسيا والدولة العثمانية ـ المترجم.

(٣) يعني أميراً للمؤمنين وخليفة لرسول الله ـ المترجم.

٣١٩

وقد هدد إصرار سفير بريطانيا العظمى وتصلب الأتراک أعمال المؤتمر التمهيدي بالانقطاع نهائياً لو لا أن توصل الجانبان إلى إتفاق وسط صيغ بقرار صدر على النحو التالي: «بما أن اعتناق أي دين يعتبر في ترکيا قضية حرة فإن أياً من الرعايا العثمانيين لا يمکن أن يلاحق أو يجري التضييق عليه بسبب دينه ولا ان يجبر على ترکه». وقد أقام المبشرون البروتستانت حقهم في التبشير بالمسيحية بين المسلمين على هذه العبارة الغامضة.

لقد ازداد الخطر المقترن بنشاط من هذا النوع بسبب من أن المبشرين المتحمسين لم يشاؤوا أبداً أن يحسبوا الحساب لعدم احتمال رجال الدين المسلمين وتعصب السکان الجهلة. فهم لم يکتفوا بأن يقوموا هم أنفسهم بمهاجمة الاسلام في مواعظهم وإرشاداتهم بل دعوا المسلمين الذين تحولوا عن الاسلام حديثاً إلى أن يفعلوا ذلک أيضاً. وقد هدد اسطنبول في ١٨٦٤غضب عارم أصاب العامة؛ لأن خمسة من المسلمين الذين تحولوا إلى البروتستانتية واحدهم کان ملّا سابق أخذوا يشتمون دينهم السابق علناً وبعبارات مهينة. ولم تتمکن الحکومة من أخماد الحريق الآخذ بالاشتعال إلّا بعد أن اعتقلت المرتدين فوراً ومنعت الاجتماعات العامة التي‌ يقوم بها البروتستانت وأغلقت الدکاکين التي يباع فيها الکتاب المقدس (١).

إن سفير بريطانيا العظمي آنذاک (sir h. bulwer) ليس فقط لم يحتج على أوامر السلطات العثمانية هذه وإنما قدر في رسالة کتبها إلى وزير الخارجية الانجليزي تسامح العثمانيين حق قدره واتهم في ذلک کله

______________________

(١) (ed. Englhardt. Op. cit. T. II. P. ٨١ ff.)

٣٢٠