ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إعطائها للثمر قبل أن تنضج وذلک لکي لا تنهک النخلة قبل الأوان. وتعيش النخلة في الظروف الاعتيادية ما بين ثمانين وتسعين عاماً وتصل إلى أوج ازدهارها في سن الخامسة عشر والسادسة عشرة حيث تعطي آنذاک ما بين ١،١/٢ إلى ٧،١/٢ بود من التمر تبعاً لنوعية الأرض وغير ذلک من الظروف.

وينمو التمر على شکل عناقيد منفردة تتدلى من أعلى النخلة وتأخذ بالطور تدريجياً إلى أن تظهر عليها في شهر أيار الثمار الخضراء التي تعرف باسم «جمري» ثم تأخذ في الاصفرار في حزيران فتسمى في هذه الحالة «خلال» ثم ينضج الثمرة في تموز أو في بداية آب فيطلق عليه إسم «رطب» وبعد أن ينضج الثمر کلياً في نهاية آب وبداية أيلول يسمى «تمراً».

إن زراعة البساتين هي عمل طويل ودقيق وشاق ولهذا فإن الأرض الخالية يتم إعطائها على شکل قطع منفردة إلى الفلاحين فيقوم هؤلاء بشق سواقي الري وزراعة النخل فيها أي إنهم يحولون الأرض الخالية إلى بستان نخيل. ويکافأ الفلاح على هذا العمل الصعب بأن يسمح له بأن يستغل إيراد المزروعات التي يزرعها بين فسائل النخيل لحسابه لمدة سبعة سنوات. وبعد هذه المدة وعندما يبدأ النخل بإعطاء الثمر تتحول الأرض التي کانت خالية في السابق إلى بستان نخيل تعود ملکيته إلى صاحب الأرض الذي يتفق مع الفلاح إما على أساس أن يدفع له مبلغاً محدداً عن کل نخلة زرعها وإما أن يملکه ١/٤ و ١/٢ البستان بحيث ان کل إيراد هذا الجزء يکون من حق الفلاح کلياً.

وتجبى ضريبة العشر المفروضة على بساتين النخيل بطريقتين، فإذا ما کانت مساحة الأرض المعنية معلومة يؤخذ من کل مساحة تزرع فيها مائة نخلة وتساوي ١٦٤،١/١٦ أو ٣ ساجن مربع أي مما يسمى بـ «الجريب »

٢٦١

مبلغ يتراوح ما بين أربعة روبلات وست وعشرين کبيکاً وإثني عشر روبلاً وثمانية وسبعين کبيکاً تبعاً لموقع البستان ونوعية التربة وغير ذلک من الظروف. وإلّا فإن کمية الحاصل يقدرها بواسطة النظر مخمنون خاصون يزورون البستان قبل نضج الثمر بقليل ثم يؤخذ من المالک تعهد خطي يتعهد فيه بأن يدفع للخزينة عند بيع الثمر مبلغاً يعادل قيمة خمس الحاصل على اساس أسعار السنة الماضية.

وتوجد في العراق الجنوبي جميع فروع الزراعة الأخرى کالبستنة وزراعة القطن وتربية دود القز ولکنها غير مزدهرة وخصوصاً زراعة القطن وتربية دود القز اللتان ليس لهما حتى الآن أي أهمية تجارية وتقتصر أهميتها على سد الاستهلاک المحلي المحدود جداً.

أما فيما يتعلق بحرف سکان العراق الجنوبي الأخرى فلا يجوز أن نتحدث عنها کثيراً ذلک أن الصناعة الضعيفة التطور التي تستخدم العمل اليدوي والأدوات البدائية جداً لا توجد إلّا في مدن قليلة في هذه المنطقة فمنتجات الصناعة المحلية تصنع بطريقة يدوية ويقتصر بيعها کلياً تقريباً على الاستهلاک الداخلي. وتتألف قائمة البضائع التي تنتج محلياً من المنسوجات الحريرية والقطنية من مختلف الأنواع والألوان والنقوش، ومناديل الرأس والأحزمة والأحذية على اختلاف أنواعها وأخيراً الأواني النحاسية والفخارية من أبسط الأنواع، الطرحات العربية التي هي بدون أکمام «عبا». إن انعدام استخدام قوة البخار الرخيصة يجرد الصناعة من إمکانية منافسة منتجات غرب أوروبا التي تصنع بواسطة المکائن والتي تؤدي أکثر فأکثر إلى تقليص حجم استهلاک منتجات الصناعة المحلية.

٢٦٢

الفصل الرّابع

لا يمکن توضيح الوضع الحالي ‌للطوائف المسيحية الکثيرة العدد في العراق الجنوبي أو صلاحيات رؤسائها الروحيين وتبعينها للحماية الدينية للدول الأوروبية ثم علاقاتها فيما بينها وموقف الحکومة المرکزية منها إلا بالارتباط مع الوضع العام للـ «رعية» المسيحية في الامبراطورية العثمانية. لذا فإننا سنبدأ الفصل الحالي ببحث هذه النقطة الأخيرة في تسلسلها التاريخي.

لقد أصبح السلاطين العثمانيون المتصرفين بمقدرات الکنيسة الشرقية منذ أن احتل محمد الثاني القسطنطينية واستولى على عرش الأباطرة البيزنطيين في ١٤٥٣.

وقد وقعت على عاتق الفاتح مهمة صعبة هي إرساء العلاقات المقبلة منذ البداية بين المنتصرين والمندحرين الذين کانوا غريبين عن العثمانيين في اللغة والدين والعادات والتقاليد. وقد استند السلطان في هذا الأمر على تعاليم القرآن التي توصي بالإبقاء على الحياة ومنح الدينية لـ "أهل الکتاب" "أهل الکتاب" أي للذين عندهم کتاب مقدس من الشعوب المغلوبة، والمحافظة على ممتلکاتهم شرط أن يخضعوا خضوعاً مطلقاً للحاکم المسلم ويدفعوا الجزية.

لقد عُين کيناديوس وکان قد انتخب بأمر من السلطان محمد الثاني

٢٦٣

لمنصب العرش البطريقي، الذي کان شاغراً منذ مدة طويلة، وسيطاً بين «الرعية» المسيحية والسلطان فأصبح بذلک مسؤولاً عن اخوانه في الدين وعن إخلاصهم للفاتح وعن دفعهم للـ «خراج» (١) أي ضريبة الرأس. لقد أغدق السلطان نعمه على البطريق الجديد وقدم له بيده العصا وألبسه الخاتم، وبذلک يکون السلطان قد التزم بکل الطقوس التي کانت تتبع في مثل هذه الحالات في عهد الأباطرة البيزنطيين (٢). ورقي کناديوس في الوقت نفسه إلى باشا من ذوي الأطواغ الثلاث، ومنح لقب «ملت باشي» أي رئيس طائفة وتسلم «براءت» وهي وثيقة سلطانية تفوضه حکم المسيحيين کافة دون رقيب تقريباً.

وقد أخضعت لصلاحية بطريق القسطنطينية بموجب هذه «البراءت» التي أصبحت مثلاً جرى الالتزام به بالنسبة لجميع البطارقة في المستقبل، جميع الشؤون الکنسية ابتداءً من تعيين واقصاء الأساقفة وغيرهم من رجال الدين وانتهاءً بالدعاوي وشؤون الزواج والطلاق والارث وما أشبه. کما اعترف للبطريق فضلاً عن ذلک بالحق في إصدار القرارات في القضايا المدنية والجنائية التي لا يشترک فيها مسلمون والتي لا يتعدى العقاب فيها السجن أو النفي إلى الگاليرا، علماً بأن الجهة التي تنفذ قرارات البطريق

______________________

(١) لواقع أن التسمية الأصلية لضريبة الرأس التي تؤخذ من غير المسلمين هي «الجزية» لکنها کانت تسمي في بعض الأحيان «خراجاً» أيضاً. وقد ألغيت الجزية في الدولة العثمانية في عام ١٨٥٦ وحلت محلها ضريبة أخرى هي «بدل العسکرية» ـ المترجم.

(٢) F. Van den steen de jehay. De la Situation Legale des Sujets Ottomen non- musulmans Bruxelles. ١٩٠٦. P. ٨٨.

٢٦٤

هذه هي الحکومة نفسها. کذلک ألقيت على عاتق البطريق مهمة توزيع ضريبة الرأس بين أفراد الطائفة ذلک أن السلطات العثمانية کانت تقرر المبلغ الأجمالي لهذه الضريبة مسبقاً. هذا وأن حقوق و واجبات الأساقفة في أسقفياتهم والقسس في أبرشياتهم کانت تماثل ما ذکر أعلاه ولکن في حدود الرتبة التي يشغلها کل من رجال الدين هؤلاء (١).

ولم يکن فاتح القسطنطينية على علم بالمنازعات والاختلافات العقائدية التي کانت تفرق أتباع المسيح فأراد في البداية أن يخضع کل الرعية المسيحية دون تفريق في المذهب لزعامة البطريق اليوناني. وکان مطران الأرمن يواکيم أول من خرج على ذلک، فقد أستطاع في أثناء وجوده مع محمد الثاني في بروصه أن يکسب وده وبعد أن انتقل مع الحاشية المختارة إلى القسطنطينية بعد أن تم الاستيلاء عليها دخل في حظوة السلطان نهائياً. وبذلک أستطاع رئيس «الرعية» الأرمنية أن يحصل لنفسه، دون صعوبة تذکر، على اعتراف بمساواته مع البطريق اليوناني فعين «ملت باشي» أو رئيساً لجميع المسيحين غير السلاف.

ولم تلبث الطائفة اليهودية التي وضعت مع المسيحيين تحت وصاية بطريق لأرمن، أن تحررت من تلک الوصاية فحصل کبير الحاخامات موشي کابسالي من محمد الثاني لقب «حاخام باشي» ومنحت له على أفراد طائفته نفس الحقوق التي کانت قد منحت لبطريقي اليونان والأرمن.

وهکذا تکونت في الامبراطورية العثمانية حتى بداية ستينيات القرن الخامس عشر ثلاث طوائف تتمتع باستقلال ذاتي هي الأرثوذکسية والأرمنية واليهودية. وقد ساعدت الاستقلالية الذاتية التي تتمتع بها هذه

______________________

(١) Th. Lavallee. Histoire de la Turquie. Paris ١٨٥٩. T. ١. p. ٢٥٧.

٢٦٥

الطوائف على تبسيط عمل الحکومة الإداري لدرجة کبيرة جداً وأدت إلى أن يبتعد الرعايا غير المسلمين أکثر فأکثر عن رعايا السلطان الذين يدينون بالاسلام ورسخت لدى الطوائف المسيحية المختلفة بدرجة تزيد عن المعتاد تعلقها بدينها ولغتها وعاداتها وأعرافها باعتبار أن هذه الأمور تشکل الأسس التي توحدها وتجعل منها شعوباً قائمة بذاتها.

لقد اتصلت أوروبا بمسلمي الشرق منذ الحروب الصليبية غير أن تلک العلاقات کانت بعيدة عن الطابع السلمي حيث اعتاد العالم المسيحي أن ينظر إلى المسلمين نظرته إلى أعدائه الألداء. ولم يتورع البابوات ملهمو حملة الصليب، عن استخدام کل الوسائل المتوفرة لهم لتأجيج هذا الحقد ولم يترددوا حتى في أتخاذ إجراءات من أمثال منع أي علاقات تجارية مع المسلمين مهددين المخالفين بالحرمان من الکنيسة وبفرض غرامة عليهم تعادل قيمة کل البضائع التي صدروها إلى ديار الاسلام (١).

وقد شملت هذه النظرة بعد ذلک العثمانيين الذين حلوا على المسرح العالمي محل من کان قبلهم بلعب دور الشعوب الإسلامية علماً بأن الحقد على العدو الجديد ازداد أکثر بسبب الرعب الذي أثاره التزايد السريع والمتواصل للقوة العثمانية التي أخذت تهدد کمال واستقلال أوروبا نفسها. وقد ظل البابوات هنا أيضاً مخلصين لأنفسهم فما أن وصل خبر سقوط القسطنطنية إلى روما حتى أخذ شاغل عرش القديس بطرس البابا نيقولا (٢) وخلفاؤه الأقربون کاليکتوس (٣) وبيوس الثاني يدعون الدول الأوروبية

______________________

(١) P. Arminjon, Etrangers et Poteges dans I, Empire Ottoman, Paris ١٩٠٣. T. ١.

(٢) نيقولا الخامس ـ المترجم.

(٣) کاليکتوس الرابع ـ المترجم.

٢٦٦

بحماس إلى حملة صليبية جديدة ضد الأتراک. ولکن زمن الاثارة الدينية کان قد ولى فلم تؤد جهودهم لإيقاظ الحمية المسيحية المتراخية إلى النتائج المرجوة.

لکن المنع الذي فرضه بابوات روما على التجارة مع المسلمين ظل قائماً، ولم يجرؤ على الخروج عليه وإقامة علاقات تجارية مع العثمانيين إلا الجنويون والبنادقة الذين کان استمرار التجارة مع الممتلکات البيزنطية السالبقة وعلى الأخص مع الشرق الادنى الذي‌کانت الجمهوريتان کلتاهما تحتکران التجارة فيه في‌ القرن الثاني عشر مسألة حيوية للغاية بالنسبة لهم. ولم تکن المعاهدات التي عقدوها مع السلطان محمد الثاني ‌في ١٤٥٤ ـ ١٤٥٥ إلا إعادة للوضع الذي‌کان سائداً في السابق، وباعتبار أن هذه المعاهدات ذات طابع تجاري بحت فإنها لم تضمن حتى ولو إشارة إلى الحماية الدينية.

ولا يصعب علينا، إذا أخذنا بنظر الاعتبار کل ما ورد ذکره أعلاه أن نتصور أي أثر صاعق ترکه على اوروبا الغربية وخصوصاً على البابا رئيسها الديني، الحلف الدفاعي والهجومي الذي عقده الملک الفرنسي فرانسوا الأول مع السلطان سليمان الفخم (١) الذي لم يفعل في هذه الحالة إلا أن قبل

______________________

(١) يطلق المؤرخون عدة ألقاب وصفات على السلطان سليمان منها سليمان العظيم وسليمان الفخم وسليمان المشرع أو القانوني بل حتى ان بعض المؤرخين الأتراک يطلقون عليه أسم سليمان الثاني على اعتبار ان سليمان الأول هو النبي سليمان بن داود ولاعتبارات أخرى أنظر: عبد العزيز محمد الشناوي؛ أوروبا في مطلع العصور الحديثة، الجزء الأول، القاهرة ١٩٦٩، ص٦٥٨ وکذلک الهامش رقم ١ في الصفحة نفسها ـ المترجم.

٢٦٧

الاقتراح الذي قدمه له «الملک المسيحي جدا».

وکان هذا الملک قد دخل في صراع غير متکافئ مع شارل الخامس الذي استطاع أن يوحد تحت سلطته نصف أوروبا تقريباً، فخسر، في ١٥٢٥ معرکة حاسمة في بافيا فأسره خصمه السعيد الحظ وألقاه في السجن. وعندما يأس السجين من خلاصه أسرع بإقامة علاقات سرية مع السلطان العثماني هادفاً إلى دفعه إلى الهجوم على ممتلکات شارل الخامس فيجذب بذلک انتباه عدوه إلى الشرق. وقد استجاب سليمان لدعوة فرانسوا الأول بسرور ذلک لأن شارل الخامس کان عدواً للدولة العثمانية هذا إذا لم نذکر أن توجه الملک المسيحي إليه طلباً للمساعدة کان يداعب غروره وينعش آماله في تبادل المساعدة في إخضاع أوروبا المقبل.

وعلى الرغم من السرية التامة التي جرت فيها المحادثات ورغم أن الملک الفرنسي الذي کان قد تخلص من الأسر کان يحرص على أن ينکر في کل فرصة ملائمة اتفاقه مع السلطان، فإن الحقيقة لم تلبث أن انکشفت فأثار «حلف الزنبق المدنس مع الهلال» (١) کما أخذ يسميه خصوم فرانسوا السياسيون، عاصفة شديدة من الغضب في أوروبا (٢).

وکان شارل الخامس خصم فرنسوا الأول قد استولى في أثناء ذلک

______________________

(١) لقد أطلق البعض آنذاک على التحالف بين فرانسوا الأول وسليمان القانوني هذه التسمية وهي ترجمة العبارة الفرنسية “L,Union Sacrilege du Lis et du Croissant ولفظة Lis بالفرنسية اسم لزهرة الزنبق التي کانت تتخذ قديماً شعاراً لفرنسا. أنظر عبد العزيز الشناوي؛ المصدر السابق ص٧٢٧ وکذلک الهامش رقم ١ على الصفحة نفسها ـ المترجم.

(٢) Th. Lavallee. Op. cit. T.١.p. ٣٠٦ FF.

٢٦٨

على تونس من الأتراک في عام ١٥٣٥ (١) فحرر خلال ذلک عدداً من الأسرى المسيحيين وطهّر البحر من القراصنة المسلمين (٢)، الأمر الذي‌ أعطى أوروبا کلها حجة لأن تهاجم بشکل أکثر ضراوة الملک فرانسوا الأولى لحلفه الشاذ مع عدو المسيحية.

تحت ضغط کل هذا الهجوم وهذه الاتهامات قرر حليف سليمان أن يزکي نفسه أمام العالم المسيحي ويتخذ دور المدافع عن المسيحيين في ممتلکات السلطان.

وهکذا استطاع المبعوث الرسمي للملک الفرنسي (Chevalier Jean de la Foret) في سنة ١٥٣٥ نفسها أن يحصل من سليمان الفخم على أول وثيقة مکتوبة کانت فاتحة لما يسمى بالامتيازات. إن کبرياء وغطرسة السلاطين العثمانيين الذين کانوا آنذاک في‌ أوج قوتهم لم تکن تسمح لهم بأن يربطوا أنفسهم بالتزامات ثنائية مع الکفار لذا فإن الوثيقة المذکورة لم تکن على شکل معاهدة وإنما عبارة عن مرسوم سلطاني منح فرنسا

______________________

(١) لم تکن تونس في ١٥٣٥ قد خضعت للدولة العثمانية بعد، وإنما کانت آنذاک مسرحاً للصراع بين العثمانيين والحفصيين والاسبان حتى استطاع العثمانيون تثبيت أقدامهم فيها عام ١٥٧٤ ـ المترجم.

(٢) لا يمکن أن يوصف النشاط البحري الذي کان العرب المسلمون في شمال افريقيا يمارسونه بالقرصنة بالمعنى المألوف لهذه الکلمة في الوقت الحاضر، ففضلاً عن أن القرصنة کانت آنذاک من أعمال البطولة التي يعتد بها وتثير الاعجاب فإن سکان شمال أفريقيا الذين کانوا ينظرون إلى نشاطهم هذا على أنه نوع من الجهاد لم يکونوا يهاجمون السفن الإسلامية ولا سفن الدول الصديقة بل يرکزون هجماتهم على سفن الأعداء فقط ـ المترجم.

٢٦٩

حقوقاً وأفضليات معينة في الامبراطورية العثمانية (١).

ومن هذه الحقوق :

١ ـ إقامة المحاکم القومية (٢).

٢ ـ حرية التجارة.

٣ ـ حرية الدين وممارسة الشعائر الدينية على أن يشمل هذا الحق جميع رجال الدين يعتنقون المذهب «الفرنسي» مهما کانت القومية التي ينتمون إليها.

٤ ـ حرية التجارة للأمم الأوروبية الأخرى ولکن تحت العلم الفرنسي فقط.

لقد أخذ الممثلون الدبلوماسيون والقناصل الفرنسيون في الدولة العثمانية يتوسعون بالتدريج أکثر فأکثر في تفسير البند الثالث من هذه الأمتيازات وهو البند الخاص بالحرية الدينية ويعطونه طابع الحماية الدينية وأصبحوا يتخذون مواقف رسمية أمام الباب العالي لصالح رعاياه الکاثوليک أو الوحدويين (٣). وقد کان لويس الرابع عشر مستعداً للعمل من أجل فصل من يدينون بمعتقده نهائياً عن الرعوية الثمانية غير أن هذه النظرة

______________________

(١) Th. Lavallee, op. cit. T. ١. p. ٣٢٥.

(٢) يقصد المؤلف بذلک إعفاء الرعايا الفرنسيين من الخضوع للقضاء العثماني وقصر خضوعهم على القضاء الفرنسي حيث تتم محاکمتهم في دور القنصليات الفرنسية ـ المترجم.

(٣) الوحدويين تسمية يطلقها المؤلف على أتباع الکنائس المسيحية غير الکاثوليکية الذين يرضون بزعامة البابا الدينية ويدعون إلى الوحدة مع کنيسة روما ـ المترجم.

٢٧٠

المتطرفة لم تصادف إسناداً ولا استحساناً من جانب سفراء الملک الذي کانوا يدرکون جيداً بأن السلطان لن يتسامح أبداً تجاه مثل هذا الخرق الفاضح لسيادته. أما تدخل الدبلوماسية الفرنسية شبه الرسمي في العلاقات بين السلطان و «رعيته» الکاثوليکية فلم يکن يثير رداً عدائياً من جانب الأتراک بسبب من أن الباب العالي کان ينظر إلى سفراء فرنسا على أنهم ممثلون لدولة صديقة وحليفة.

أما فيما يتعلق باتخاذ الدول الأوروبية الأخرى دور المدافع عن الشعوب المسيحية في الدولة العثمانية فقد کان على تلک الدول أن تهتم أولاً بتحرير نفسها من وصاية فرنسا. وذلک أمر استطاعت أنجلترا أن تحققه في ١٥٨١ وهولندا في ١٦١٢ والنمسا في ١٦١٥ عندما حصلت هذه الدول على الحق في أن تتاجر بحرية تحت علمها الخاص غير أنها لم تستطع مع ذلک أن تصل إلى درجة التساوي مع فرنسا في ما يتعلق بحقوق الحماية الدينية بسبب من أن الدولتين البروتستانتيتين أنجلترا وهولندا لم يکن لديهما من تحميانه في الدولة العثمانية نظراً لأنه لم يکن يوجد آنذاک بروتستانت بين رعايا السلطان المسيحين. أما النمسا وهي الدولة الکاتوليکية فرغم أنها احتفظت بحقها في حماية الکاثوليک. ورجال الدين الکاثوليک في جميع المعاهدات التي عقدتها مع الباب العالي اعتباراً من معاهدة کارلوفتس في ١٦٩٩ إلا أنها لم تتمکن من الاستفادة من هذه الحقوق لأنها کانت في حالة حرب لم تتوقف تقريباً مع الدولة العثمانية. إن روسيا التي أصبحت منذ زمن معاهدة کجک کينارجة في ١٧٧٤ حامية الرعاية الأرثوذکس رسمياً هي وحدها التي استطاعت أن تحتل وضعاً مشابهاً لفرنسا في قضية الحماية الدينية خصوصاً بعد أن انشغلت فرنسا کلياً بالعثمانيين الکاثوليک.

٢٧١

وهکذا ظلت فرنسا الحامي الوحيد لرعايا السلطان الکاثوليک حتى مؤتمر باريس ١٨٥٦ الذي طرحت فيه لأول مرة قضية تدخل الدول بصورة جماعية لصالح الرعايا المسيحيين في الدولة العثمانية ثم دخل هذا المبدأ في الممارسة الدولية نهائياً عن طريق مؤتمر برلين الذي ساوى بين الدول الکاثوليکية والبروتستانتية في حقوق الحماية الدينية، فالمادة الثانية والستون من مقررات هذا المؤتمر تنتهي بالکلمات المهمة التالية :

« يعترف لوکلاء الدول الدبلوماسيين والقنصليين في الدولة العثمانية بحق حماية الشخصيات الدينية والرهبان والحجاج من جميع القوميات وکذلک المؤسسات الدينية والخيرية وغيرها في فلسطين وفي غيرها من الأماکن ».

صحيح أن المادة الثالثة والستين من معاهدة برلين تؤکد احتفاظ فرنسا بحقوقها السابقة في الحماية الکلية للکاثوليک من جميع الأمم الذين يعيشون في الدولة العثمانية لکن المانيا أخذت منذ ١٨٩٢ تحاول أن تعطي لهذه المادة، بمساعدة رجال القانون الأتراک، تفسيراً محدوداً بمعنى عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية للمؤسسات الکاثوليکية التي أنشأت بعد ١٨٧٨ أي بعد مؤتمر برلين والتي لا تعود إلى رعايا فرنسا. وأخيراً حدث في ١٩٠١ بمناسبة الصدام الدموي الذي جرى في القدس بين رهبان يونانيين وکاثوليک من رعايا المانيا وايطاليا، أن هب الممثلون القنصليون لهاتين الدولتين مدافعين عن مواطنيهم الأمر الذي أدى إلى الاعتراف بحق المانيا وايطاليا في حماية رعاياهما الکاثوليک في الدولة العثمانية رسمياً بمرسوم سلطاني خاص. أما النمسا التي لم تکن حتى هذا الوقت لديها القدرة على منافسة فرنسا منافسة جدية في قضية الحماية الدينية للکاثوليک العثمانيين فقد استطاعت خلال القرن التاسع عشر أن تحقق نتائج باهرة في هذا

٢٧٢

الشأن، فقد وسعت حمايتها لتشمل کاثوليک البانيا في ولايات قوصوة يانينا وسکوتاري وکذلک في مقدونيا، وقد اعترف بحق النمسا في هذه الحماية حتى من قبل (Congregatio de Propaganda Fide) (١) الذي اقترح في أمره الدوري في ١٨٨٨ على القاصدين الرسوليين والأساقفة اللجوء في شؤون الکاثوليک الألبان إلى مساعدة القناصل الفرنسيين فقط في الأماکن التي يکون فيها النفوذ الفرنسي هو الراجح وإلى مساعدة الوکلاء النمساويين في جميع المناطق الأخرى (٢).

وبعد أن أوضحنا الدور الکبير الذي وقع على عاتق فرنسا في مسألة الحماية الدينية دعونا نتتبع باختصار النشاط الديني ـ التنويري لهذه الدولة الذي أنتج ثماراً رائعة في العراق الجنوبي، وذلک منذ اللحظة التي ظهر فيها المبشرون الکاثوليک في الدولة العثمانية.

لم يفقد بابوات روما حتى بعد انقسام نهائياً في ١٠٥٤ (٣)، الأمل في إعادة «المنشقين الشرقيين» إلى حظيرتهم ولم يتخلوا، إلى أن سقطت بيزنطة، عن محاولاتهم لإعادة الوحدة الکنسية. وقد وقعت الکنيسة الشرقية منذ أن استبدل الصليب على کنيسة القديسة صوفيا بالهلال، تحت سلطة اولئک الأتراک أنفسهم الذين کان البابوات يدعون ضدهم على

______________________

(١) مجمع انتشار الايمان ويسمى الان مجمع العقائد ـ المترجم.

(٢) P. Arminjon. Op. cit. p. ٣١٧ FF.

(٣) حول الانشقاق النهائي الذي حدث في هذه السنة بين کنيستي روما والقسطنطينية والعوامل التي أدت أليه أنظر: «عبدالقادر أحمد يوسف؛ الامبراطورية البيزنطية، دار المکتبة العصرية صيدا ـ بيروت، ١٩٦٦، ص١٢٨ ـ ١٣٣ »

٢٧٣

الدوام. کذلک اعتاد العثمانيون من جانبهم على النظر إلى البابوات على أنهم أعداؤهم الألدّاء وذلک ما دفع السلاطين إلى اتخاذ إجراءات حازمة لحماية رعاياهم الجدد من المسيحيين من تأثير رئيس الکنيسة الغربية عليهم. ولهذا تحتم على البابا أن يتخلى عن الاتصال المباشر بالمسيحيين الشرقيين ويتجه للبحث عن وسائل جديدة لجذبهم إلى أحضان الکنيسة الکاثوليکية، وقد أفاد في هذا المجال بشکل خاص الحلف الذي عقده فرنسوا الأول مع السلطان سليمان الفخم والنفوذ الکبير الذي حصل عليه الملک الفرنسي في بلاط ذلک السلطان. ولم يکن على البابوات إلا أن يغمضوا عيونهم عن الحلف المدنس مع الکفار لکي يستطيع الملک أن يأخذ على عاتقه تمثيل وحماية المصالح البابوية لدى الباب العالي.

لقد تهيأت لروما بفضل هذا الوضع إمکانية أن تبدأ بتنظيم الدعاية الکاثوليکية بين رعايا الامبراطورية العثمانية المسيحيين تنظيماً صحيحاً. فلم تکن قد قامت قبل ذلک إلا محاولات فردية قام بها رهبان کاثوليک عالو الهمة کانوا يمارسون التبشير في الشرق الأدنى على مسؤوليتهم الخاصة. وبعد مضي أقل من خمسين سنة على منح السلطان لأول امتيازات لفرنسا وفي ١٥٨٣ بالذات ظهر اليسوعيون وبعدهم مباشرة الکبوشيون في أقاليم الامبراطورية العثمانية بشکل رسمي (١).

ولم يکن البابا کريکوري الثاني عشر الذي بارک لهؤلاء المبشرين نشاطهم التبشيري، ولا هم أنفسهم قد فکروا وهم يتوجهون إلى الدولة العثمانية يتحويل المسلمين عن دينهم لأنهم يعلمون جيداً بأن نشاطاً من هذا النوع يقترن بأخطار فائقة قد تصل إلى طردهم من الأراضي العثمانية.

______________________

(١) P. Arminjon. Cit. p. ٢٦.

٢٧٤

لذا فإن الهدف الوحيد لنشاط المبشرين الکاثوليک في ممتلکات السلطان کان المسيحيين الشرقيين.

ولم تلبث الدعاية الکاثوليکية بين هؤلاء أن أخذت تنجح بشکل ملحوظ وقد ساعد على ذلک کثيراً ظروف معينة کانت ملائمة لنشاط المبشرين، فعندما ظهر هؤلاء في الدولة العثمانية کان قد مضى على السلاطين أکثر من مائة سنة وهم يمتلکون بيزنطة وقد استطاعوا خلال هذ المدة الطويلة أن يدرسوا العلاقات القائمة بين الکنيستين الشرقية والغربية دراسة جيدة إلى درجة بحيث أنهم لم يعودوا يخشون من أن يثور المسيحيون الشرقيون الخاضعون لهم بالاتحاد مع البابا وبمساعدة أوروبا الغربية. وبعد أن أطمأن الباب العالي من هذه الناحية غير على الفور موقفه من رعاياه المسيحيين وزعمائهم الروحيين حيث لم يعد يرى أن من الضروري أن يجاملهم، فلم يعد يترک مناسبة ملائمة تمر دون أن يشعرهم فيها بأن الامتيازات الممنوحة للمسيحيين لا تعدو کونها منة من السلطان وان السلطان بإمکانه أن يسحبها في أي وقت.

ولکي نزيح الستار قليلاً عن الوضع الذي کانت تعيشه «رعية» ارثوذکسية واحدة على الأقل تحت النير الترکي نورد فقرة صغيرة مقتبسة من کتاب «ترکيا في اوروبا» الفائق الأهمية حيث يصف مؤلفه الذي تخفى تحت اسم مستعار هو (Odysseus) وضع الکنيسة اليونانية آنذاک بالعبارات التالية: «لقد اعتاد الأتراک تعريض رجال الدين للأذى والاهانة بشکل مکشوف. فالبطارقة کانوا يعزلون ويستبدلون بکثرة قدر الامکان بهدف الحصول على أکثر ما يمکن من الهدايا الخاصة، وقد أعدم ثلاثة منهم على الأقل ... ويکاد لا يثير الدهشة أن هذه الفترة تميزت بالتوجه الواسع نحو الاسلام. ومن السهل أن تفسر هذه الظاهرة بالظروف التعسة التي کانت

٢٧٥

تعيشها الرعية والضرائب الزائدة عن الحد وعجز الکنيسة عن إبداء الحماية ... ويمکن اعتبار استمرار المسيحية بالوجود في ظل مثل هذه الظروف معجزة ... ».

ولهذا فليس هناک ما يدهش في أن تستجيب الرعية المسيحية التي کان يکتنفها الضنک عن طيب خاطر لدعوة المبشرين الذين کانوا يدعونهم إلى الانتقال إلى الکاثوليکية خصوصاً وأن الانتقال إلى کنيسة روما کان بالنسبة للمسيحيين الشرقيين يقترن بفوائد ملموسة تحدث على شکل حماية قوية من جانب الدبلوماسية الفرنسية التي کان تهتم بحرارة بمصير الذين يتحولون إلى المذهب الجديد وتدافع بشکل فعال عن مصالحهم أمام الحکومة العثمانية.

في ظل مثل هذه الظروف يمکن أن يعتبر نجاح الدعاية الکاثوليکية مضموناً ولا يبقى على المبشرين إلا أن يعينوا أساليب تحول «المنشقين» على نطاق واسع، وقد ظهر في البداية أن اکثر هذه الأساليب تحقيقاً لذلک الهدف هو جذب رؤساء طوائف مسيحية منفردة على أمل أن تحذو حذوهم الرعية کلها، غير أن مثل هذه الحسابات تبين أنها خاطئة لأن خضوع هذا البطريق أو الأسقف أو ذاک لروما کان ينظر إليه من قبل مساعديهم المباشرين على أنه التزام شخصي لا يلزم أحداً غير الشخص الذي التزم به، لذا فقد تحتم اللجوء إلى أسلوب أقل بريقاً ولکنه أکثر فعالية ونعني تحويل اعضاء منفردين في الکنيسة الشرقية إلى المذهب الکاثوليکي فوجه المبشرون کل جهودهم نحو زيادة عدد المتحولين إلى الکاثوليکية إلى أقصي حد ممکن.

وقد وضع هؤلاء المتحولون الجدد تحت حماية الممثلين الدبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين فوراً فخرجوا بذلک من دائرة

٢٧٦

اختصاص زعيمهم الروحي السابق البطريق أو الأسقف ولم يعودوا يخضعون له. وقد وقف رؤساء الطوائف المسيحية الشرقية من المبشرين موقفاً يتسم بالصبر طالما لم يتخذ الانتقال إلى الکاثوليکية طابعاً شاملاً، ولکن ما ان أخذت صفوف رعيتهم تتقلص بشدة بسبب نجاح الدعاية حتي تغير موقف ممثلي الکنيسة الشرقية من خصومهم الغربيين بشدة.

وبعد أن قدر البطريقان اليوناني والأرمني وکذلک الأساقفة والقسس الخطر الذي يتهددهم من جانب المبشرين الکاثوليک حق قدره لجأوا إلى حماية الحکومة العثمانية، وکانت الحکومة العثمانية هي نفسها قد أقلقها اتساع الدعاية الکاثوليکية في الامبراطورية بسبب زياده المکانة الروحية للبابا، عدو الأتراک اللدود، بين المسيحيين العثمانيين وتقلص إيرادات الخزينة العثمانية نتيجة لتوقف اليونان والأرمن الذين تحولوا إلى الکاثوليکية عن دفع «الخراج» أو ضريبة الرأس (١). وقد دفعت هذه الاعتبارات العثمانيين إلى التخلي عن موقفهم السلبي من المبشرين الکاثوليک وإلى اتخاذ عدد من الاجراءات تقترب من الاضطهاد الحقيقي ضدهم وخصوصاً ضد الذين تحولوا إلى الکاثوليکية.

لقد بدأت ملاحقة المبشرين في ١٦٠٥ عندما ألقي القبض بأمر من الصدر الأعظم على اليسوعيين الذين کانوا يعملون بنجاح بين يونانيي اسطنبول وألقوا في السجن ثم أخرجهم منه ولکن بصعوبة کبيرة البارون دي سوليناک السفير الفرنسي لدي الباب العالي آنذاک (٢). وقد تعرض اليسوعيون بعد ذلک للملاحقة أکثر من مرة وأغلقت مؤسساتهم الدينية

______________________

(١) P. Arminjon: op. cit. pp.٢٧ – ٢٨.

(٢) Th. Lavallee. Op. cit. T. II. P. ٥٦.

٢٧٧

الخيرية، ولم يکن من النادر أن تحول الکنائس إلى مساجد غير أن جميع إجراءات الحکومة هذه لم يکن لها بالنسبة للمبشرين الأجانب عواقب وخيمة کما کانت بالنسبة لمن حولوهم إلى معتقدهم من الرعايا العثمانيين.

وقد قام باضطهاد هؤلاء الرعايا الذين تحولوا إلى المعتقد الجديد شرکاؤهم في العقيدة الذين وجدوا في ذلک مسائدة فعالة وإسناداً حاراً من جانب السلطات الترکية. فالباب العالي لم يکن يعترف للطائفة الأرمنية ـ الکاثوليکية ولا لأي طائفة أخرى من الوحدويين بالوجود المستقل بل أن هذه الطوائف کلها اعتبرت خاضعة لبطريق الأرمن الکريکوريين باعتباره الرئيس الرسمي لجميع المسيحيين من غير الأرثوذکس. وطبيعي تماماً أن يتخذ هذا الأخير کل ما يمکنه من إجراءات من أجل أن يعيد أفراد طائفته الذين تحولوا إلى الکاثوليکية إلى عقيدتهم السابقة. وکانت غيرة بطريق الأرمن المفرطة من جهة وتعصب المتحولين إلى الکاثوليکية من جهة أخرى تؤدي في بعض الأحيان إلى مصادمات دموية بين الجانبيين کان الحق فيها في نظر العثمانيين دوماً إلى جانب البطريق باعتباره السلطة التي تعترف بها الحکومة.

ولم تکن مسؤولية المبشرين أنفسهم في هذا الاضطهاد بأقل من ذلک، وهذا أمر يؤکده السفير الفرنسي في اسطنبول آنذاک المرکيز (De Bonnac) الذي يصور في رسالة أرسلها على وزير الخارجية الفرنسي في ١٧٢٤ الجانب السلبي للدعاية التبشيرية على النحو التالي (١) : «أعترف بأن قضية توحيد اليونان والأرمن العظيمة والمقدسة لا تجري کما ينبغي وبأن الکثير من أولئک الذين يشتغلون بهذه القضية ليست لديهم لا الموهبة

______________________

(١) D, Avril. Documents relatifes aux Englises de Rorient. Paris ١٨٦٢. p. ١٣٦ FF.

٢٧٨

ولا المعرفة الکافية باللغات وبأن جميعهم تقريباً يأتون إلى الشرق الأدنى بقناعات مسبقة ليست قومية وإنما طائفية بحتة أيضاً وذلک أمر خطر عند التعامل مع منشقي الشرق الأدني، إن القضية هنا هي ليست قضية الاستيلاء على حصن الخصم. من الضروري أن ننظر إلى اليونان والأرمن نظرتنا إلى الحلفاء السابقين الذين انقطعوا عنا وانعزلوا في جيش منفرد... هناک فرق کبير بين التوحيد عن طريق الخضوع الاختياري لرئيس اکنيسة المعنية وبين ابتلاع روما للوحدويين ابتلاعاً تاماً، فإذا کان بالإمکان الاکتفاء بالأول فلماذا السعي إلى الثاني الذي يقلق العقل ويثيره؟».

«يجب على البابا أن يحرص على أن تحتفظ الکنيستان اليونانية والأرمنية بعد أن تعترفا بزعامته بتدرج الوظائف الخاص بهما وبأن تبقى لدى هيأتيهما الکهنوتيتين السلطة التي کانتا تتمتعان بها قبل انشقاق فوتية... وسيکون من المرغوب فيه التقرب من أفراد هاتين الهيئتين إلى الحد الذي‌ يمکن من الحصول على ثقتهم أو على أقل تقدير دفعهم إلى الاعتقاد بصدق نوايانا عند ذلک سيبدأون بالنظر بهدوء إلى تنويرنا لرعيتهم وإلى اشمئزاز هذه الأخيرة من الضلال الذي سيکون وعيهم له أکثر کلما کانوا واثقين من أن أحداً لن يتطاول على دائرة اختصاصهم »...

ويختتم المرکيز (De Bonnac) رسالته بالقول: «أما عن جانب الطقوس فإن على المبشرين أن لا يتکلموا أو يکتبوا ضد صيام أو طقوس الأرمن واليونان وإنما على العکس يجب دفع حتى اولئک الذين انضموا إلى الکنيسة الرومانية إلى الالتزام بطقوسهم وصياماتهم السابقة لکي لا يختلفوا في شيء عن أبناء جلدتهم الذين ظلوا مخلصين لکنيستهم. ربما کان ذلک هو الأکثر أهمية».

إن هذه الرغبات التي أبداها السفير الفرنسي هي عبارة عن تلخيص

٢٧٩

لکل ما قيل وکتب قبله بشان إصلاح وضع الدعاية الکاثوليکية في الشرق. وکان البابوات أنفسهم، وهم ذوو مصلحة قوية في اتساع وترسيخ مکانتهم الروحية بين المسيحيين الشرقيين، قد أقلقتهم وأثارت خشيتهم بوادر العداء الأول تجاه المبشرين فبادروا ابتداء من ١٦٦٩ إلى إصدار عدد کبير من الرسائل والمراسيم منعوا فيها الرهبان الکاثوليک من جذب الوحدويين إلى الکنيسة اللاتينية.

وکانت (Vongregatio de Propaganda Fide) التي أنشأها البابا کريکوري الخامس عشر في ١٦٢٢ خصيصاً لإدارة شؤون المبشرين الکاثوليک ولتوجيه نشاطهم تسعى دون کلل للتخفيف من تزمت وتعصب مندوبيها تجاه المسيحيين الشرقيين. وانطلاقاً من اهتمامها الدائب للقضاء على کل حجة مهما کانت صغيرة للصدام وسوء التفاهم بين هؤلاء وأولئک أصدرت في ١٦٤٥ مرسوماً يحدد العلاقات بين المبشرين والوحدويين الذين لهم سلکهم الکهنوتي الخاص بهم بالنقاط الأربع التالية.

١ ـ في المناطق التي يوجد فيها أکثر من سلک کهنوتي واحد تنتمي إلى مذاهب مختلفة يکون لکل منها سلطة على اتباع مذهبه فقط ويجب عليه أن لا يسمح لغيره ولا يقوم هو بنفسه باستمالة اتباع مذهب آخر إلى طائفته.

٢ ـ للمبشرين الموجودين في المناطق المذکورة الحق في ‌أن تشمل سلطتهم الوحدويين الذين هم ليسوا من اتباع مسلک وحدوي معين.

٣ ـ ينبغي على المبشرين الذين يجذبون المسيحيين الشرقيين إلى الوحدة أن لا يحولوهم إلى الکاثوليکية بل على العکس هم ملزمون بأن يقنعوهم بأن يبقوا في طائفتهم السابقة وأن يستمروا على الخضوع للسلک الکهنوتي الخاص بهم.

٢٨٠