ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حيث المستوى العقلي وذلک أمر لا يعيقهن عن التمتع بنفوذ کبير في العائلة وعن أن يکون للبعض منهن من خلال ازواجهن تأثير على قبيلتهن بأجمعها. على أننا يجب أن لا نستنتج مما ورد أعلاه بأن حرية البدويات غير محدودة فعلى الرغم من أنهن يتواجدن مع الرجال في نفس الخيمة إلا أنهن يعشن بصورة منفصلة تماماً عنهم ولا يسمح لهن أن يخالطن أو يلتقين إلا بأقاربهن المقربين أما أکلهن مع الرجال حتى ولو کانوا من أفراد عائلتهن فإنه يعتبر من أعلى درجات التبذل.

وبعد أن ألقى الرجال بکل ثقل الأعمال اليومية على عاتق النساء بحجة أن العمل البدني والسلمي بما فيه الزراعة مهين للبدوي الحر، لم يبقوا لأنفسهم إلا الغارات الوحشية والأعمال الحربية والصيد. وما حياة البدوي خارج نطاق هذه الاعمال التي يعتبرونها أعمالاً شريفة إلا خمول تام وبطالة، حيث يقضي الرجال الجزء الأغلب من النهار متمددين على أرض الخيمة يتجاذبون مع بعضهم احاديث لا تنتهي. أما في الأمسيات فيجتمعون في خيمة الشيخ التي تکون مفتوحة للجميع وهناک يناقشون بحرارة کل القضايا المتعلقة بالصحراء وسکانها وکذلک الشؤون الخاصة بالأقطار المجاورة فيظهرون خلال ذلک دراية بحوداث العالم الخارجي مدهشة بالنسبة لأناس منعزلين في الصحراء. إن جميع ما يحدث في الصحراء کالصلح أو القطيعة بين القبائل والعلاقات القائمة بين مختلف الشيوخ والوضع في هذا الجزء أو ذاک من بلاد العرب وکذلک في المدن المجاورة حيث يوجد لکل شيخ عين موثوق.

کل ذلک معروف للجميع بأدق تفاصيله. إن أي خبر أو إشاعة ينقل على الفور من فم إلى فم وينتشر بسرعة في المضارب المجاورة ولهذا السبب يمکن التأکيد بشکل قاطع بأنه لا وجود للأسرار في الصحراء.

٢٠١

وغالباً ما يصل الأمر إلى حد أن خبر عزم إحدى القبائل على شن هجوم مباغت على الأعداء يصل إلى أولئک الأعداء قبل أن تنتهي الاستعدادت للحملة وهي استعدادات تجري في غاية السرية.

إن ولع العرب بمثل هذه الأخبار والنمائم والاشاعات کبير إلى درجة بحيث أنهم لا يستطيعون التخلي عن هذه العادات حتى في المدن حيث يجتمعون مرة عند هذا ومرة عند ذاک لکي ينهمکوا في الحديث والاستماع إلى مختلف الأخبار وهم يتناولون القهوة. وتکون هذه الاجتماعات عادة مملة في الصحراء ولا تخرج عن رتابتها إلا نادراً عندما يغني موسيقي بدائي على آلة الصحراء الموسيقية «الربابة» (نوع من الکيتار) يصاحبها الطبل «الدمام» أو عند رمي الکعاب وهي لعبة يحرص عليها البدو الشغوفون باللعب بفطرتهم.

إن قدوم ضيف أو عابر سبيل وهو أمر يدخل بعض التسلية على حياة البدوي الرتبية والکثيبة بشکل عام، يقابل دائماً بالترحيب الحار ويبادر الجميع إلى استضافته من صميم قلوبهم. وبالإضافة إلى ذلک فإن الحفاوة الدائمة التي يصادفها القادم أو عابر السبيل لدى البدو تفسر أيضاً بحقيقة أن البدو لو لم يرفعوا الضيافة إلى مرتبة القانون فإنه لا أحد منهم يستطيع أن يتنقل منفرداً أو على شکل جماعات صغيرة في الصحراء حيث لا يوجد منزل بشري غير المخيمات وحيث يحکم على الانسان بالموت المحتم إذا لم يستطع أن يلجأ إلى ضيافة الآخرين. ولهذا السبب يفرض العرف الاعتيادي للصحراء على کل واحد التزاماً مقدساً هو أن يؤوي ويطعم الغريب بدون أي مقابل على الاطلاق.

وقد تغلغل هذا العرف الذي کونته قرون طويلة من الزمن في لحم البدوي ودمه إلى درجة بحيث أن أعظم الاهانات التي يمکن أن يصاب بها

٢٠٢

الشخص هي وصمه بالتقصير في أکرام الضيف وحسن معاملته فالضيوف يعتبرون بمثابة أفراد العائلة التي استضافتهم بل من أفراد القبيلة ککل. غير أن مثل هذه النظرة للضيف خصوصاً إذاً لم يکن عربياً لم تبق سائدة إلا لدى القبائل الکبيرة والقوية مثل عنزة وشمر فمثل هذه القبائل ترى أن سرقة الغريب الذي يتمتع بضيافتها أو الاساءة إليه عار. لکن مثل هذه المعاملة السيئة للأوروبيين تعتبر عند بعض القبائل الصغيرة ظاهرة عادية نوعاً ما. تؤکد ذلک الحادثة التي رواها الرحالة الروسي البارون نولده وهو أحد القلائل الذين زاروا نجد وقد ترک لنا وصفاً شيقاً لرحلته باللغة الالمانية.

يحدثنا البارون نولده في کتابه (١) بأنه لم يصادف بعد وصوله إلى حائل (عاصمة نجد) استقبالاً بارداً من جانب السکان فحسب وإنما قابلوه بعداء صريح. ولم يتأخر عن أبناء جلدته في ذلک حتى حمود ابن عم محمد بن رشيد أمير نجد آنذاک الذي کان يحکم حائل في غياب أميرها المذکور. فقد أرسل إلى القادم صورة الرحالة الفرنسي (Hunert) الذي کان قد ذُبح في نجد. ولکن من حسن حظ نولده أن المطر بدأ بالسقوط بعد وصوله مباشرة واستمر لمدة ست وثلاثين ساعة ثم أصيب حمود ربما بسبب تبدل الطقس بسعال ظل يعذبه طيلة ثمانية اشهر وفي أثناء ذلک وصل إلى حائل خبر النصر الباهر الذي أحرزه محمد بن رشيد على قبيلتي عتيبة ومطير حيث ظهر أن العدو بادر إلى الفرار في اللحظة التي دخل فيها صاحبنا إلى المدينة بالضبط. إن توافق کل هذه الظروف المواتية صدفة دفع النجديين

______________________

(١) Baron Eduard Nolde Reise nach Innerarabien, Kurdistan und Armenien ١٨٩٢, S. ٤٦-٤٧.

٢٠٣

إلى أن ينظروا إلى ضيفهم نظرتهم إلى شخص يجلب السعد الأمر الذي غير موقفهم منه وهو الموقف الذي کان حتى ذلک الوقت معادياً (١) (٢).

إن هذا المثل يمکن أن يکون أيضاً شهادة بليغة على مدى إيمان البدو بالخرافات على الرغم مما تؤکده الرحالة الانجليزية المشهورة (Lady Anne Blunt) التي تحاول في الصفحة ٢٢٣ من الجزء الثاني من کتابها: “ Bedouin Tribes of the Enphrates” أن تبرز لهم ذلک، فجميع الأوروبيين الذين تعاملوا مع البدو بهذا الشکل او ذاک يمکنهم التأکيد بأنهم يؤمنون باللقاء المشؤوم وأيام النحس وعين الشؤم وما شابه ذلک. فمصادقة الضبع أو الأرنب على العکس علامة شؤم. کما أن البدو يعتبرون الثلاثاء والأحد من أيام النحس بعکس الخميس والسبت اللذين هما في رأيهم ملائمان للشروع بأي عمل، کذلک تحمل البدويات ويقلدن أطفالهن بل ويقلدن الحيوانات أيضاً تمائم تقيهم من إصابة العين. وأخيراً فإن من الحقائق المعروفة للجميع أن البدوي مستعد لأن يبيع بثمن بخس أحسن مهر لديه إذا ما ظهرت عليه علائم تشير في اعتقاده إلى النحس کالنجمة تظهر على عنق الفرس أو قوائمه مثلاً أو ما شابه ذلک (٣).

______________________

(١) يثبت الرحالة الفرنسي Dennis de Rivoyre حقيقة مماثلة في الصفحة ١٩٥ ـ ١٩٦ من کتابه: “Les Vrais arabebes et leur Pays”

(٢) غير بعيد أن هذا التعامل مع هؤلاء کان نابعاً من اعتبارهم جواسيس فهم ينظرون اليهم بعين الريبة وکانت ظاهرة الجاسوسية قد تمادت يشکل کبير في القرن التاسع عشر علماً ان عدداً منهم کان يحتمي ببعض الامراء والشيوخ في تلک المنطقة. حميد الدراجي

(٣) J. L. Burckhardt. Notes on the Bedouins and Wahabys, London, ١٨٣١, Vol. ١. PP. ٢١٣-٢١٤.

٢٠٤

وبالإضافة إلى الضيوف يجلب إلى المخيم الکثير من الانتعاش أيضاً قدوم بائع متجول حيث يقوم أثناء تجواله ببضائعه بين القبائل بجمع الأخبار المختلفة ونشرها في أنحاء الصحراء فيلعب بذلک دور الجريدة البدوية الواسعة الانتشار. و « المحدث » يعتبر هو الآخر زائراً مرغوباً فيه فهو يشد انتباه مستمعيه بقصائد رائعة ينشدها حول هذا البطل البدوي أو ذاک يختمها بمديح يرتجله بحق القبيلة المضيقة له وشيخها، أو أنه يثير إعجاب «إبناء الصحراء» بأنغام عربية فريدة في حزنها تؤثر ألحانها بشکل لا يمکن مقاومته حتى على الأوروبي.

وبعد أن بينا بوجه عام کيف يقضي البدوي وقته في أيام السلم سننتقل إلى وصف لحظات حياته المترعة بالخطر والحرمان والمليئة بالقلق والاضطراب التي تجعل من عربي الصحراء مقاتلاً شجاعاً صبوراً لا يعرف الخوف.

والواقع البدوي يعي وحشيته التي يولدها موطنه الموحش القاسي المفقر حتى أنه يتباهى بها. أنه على أية حال يفخر بأنه الوحيد الذي يستطيع العيش في الصحراء ويتوائم معها ولا يخافها. وبوعي تام بتفوقه في هذا المجال هو يعمد إلى إخافة الغرباء مصوراً الصحراء وسکانها أکثر رعباً وقبحاً وقساوة مما هم في الواقع. وتظهر في هذا التخويف خشية البدوي الخفية الدائمة من العدوان الأجنبي خشيته على حريته وعلى کل نمط حياته التي لم يستطع مرور آلاف السنين أن يغيره.

والبدو الذين يعيشون نمط حياة رعوي يتنقلون في بحثهم عن العشب لماشيتهم، من مکان إلى آخر باستمرار. والبدو الرحل لا يتحرکون من أماکنهم طالما أن ماشيتهم تجد العشب ولا تشعر بالنقص في الماء ولکنک لا تجد بعد أن يرفع مخيم البدو لا عشباً ولا حتى شوکاً کما لو أن

٢٠٥

الجراد قد اکتسح المکان، فکل شيء أجرداً وکل شيء يکون قد أکل وأتلف وأبيد. وبمجرد أن تظهر الحاجة للبحث عن مرعى جديد يجتمع وجهاء القبيلة في خيمة الشيخ للتداول فيتفقوا على تعيين يوم يرفع فيه المخيم ويحددوا محل نزولهم الجديد. وبمجرد أن يتم ذلک تبدأ القبيلة بالاستعداد بنشاط للانتقال حيث يقتصر دور الرجال على نقل أوامر الشيخ إلى النساء اللواتي تقع بعد ذلک على عاتقهن کل أعباء العمل في إعداد عوائلهن للمسير.

وقبل أن تبدأ القبيلة تحرکها ببضع ساعات ترسل في البدء الأغنام إن وجدت يرافقها الرعاة وعدد کبير من الکلاب وکذلک النوق وأبناؤها وضعاف الابل. وتلافياً لأي عارض يقوم فرسان مسلحون بحراسة جناحي القطيع ومؤخرته، أما في المقدمة فيسير بضعة أشخاص من الأدلاء. وبعد القطيع ترسل الجمال بأحمالها الثقلية التي تتألف من متاع البيت وأکياس الطعام ثم الخيام التي کانت النساء قد طوينها، ثم بعد ذلک تسير القبيلة نفسها حيث تحمل النساء على الجمال أيضاً علماً بأن نساء الشيخ وأغنياء البدو يجلس أحياناً فيما يسمى بـ «شبراي» (١) وهي محفات تغطيها الستائر لکن الأغلبية يکتفين بـ «شکدوف» (٢) وهي عبارة عن سلال کبيرة معلقة على جانبي الجمل يجلس فيها أيضاً الاماء والأطفال، أما الفقيرات جداً فيجلسن مباشرة فوق الحمل على الجمل بعد أن يجلسن أطفالهن في أقفاص صغيرة مجدولة من الأغصان ومثبتة على جل الجمال. ولا تبدأ القبيلة بالمسير دفعة واحدة في العادة وإنما تنفصل عنها حسب انتهاء

______________________

(١) الصحيح «شوداي» وهي لفظة يطلقها البدو على الهودج ـ المترجم.

(٢) اسمها عند البدو هو «لبيد» ـ المترجم :

٢٠٦

استعداداتها للمسير مجموعات صغيرة تتألف الواحدة منها من بضع عوائل معها عدد من الراجلين يسوقون الابل.

وتحاول هذه المجموعات أن تسير إلى يمين أو إلى شمال الطريق الذي اتبعه من سبقوها في السير وذلک لکي تؤمن لحيواناتها أثناء السير العشب الذي ترعاه والذي لا يمکن توفره طبعاً في حالة السير على نفس هذا الأسلوب في الحرکة تنتشر القبيلة من مکان إلى آخر في مسافة تمتد لعدة فرستات طولاً وعرضاً وتزحف ببطء نحو محل النزول الذي کان قد حدد سلفاً بالقرب من المياه أو أحد الأبار.

وتحدد المسيرة اليومية عادة بـ١٠ ـ ١٢ فرستاً وتأخذ القبيلة من حين لآخر فترة راحة تستغرق من يومين إلى ثلاثة ولکن الأمر في کلا الحالين يعتمد مباشرة على مکان وجود الماء. لذا يتحتم في بعض الأحيان استمرار السير لأکثر من يوم قبل الوصول إلى مکان الماء. وفي مثل هذه الحالة يسبق قسم من الفرسان المسلحين على جمال أو خيول سريعة. القبيلة ويحتلون مورد المياه لکي يؤمنوا الماء لذويهم. إن ضرورة البقاء بدون ماء لعدة أيام لا تقلق البدو ذلک أن البشر والحيوانات في الصحراء قد اعتادوا على الصبر على العطش. وهم يکتفون أثناء الأسفار الطويلة في مناطق معدومة المياه بحليب الابل ولهذا فإنهم لا يقومون برحلائهم الطويلة جداً الا في الربيع بعد أن تلد النوق والبدوي البالغ الصحيح الجسم يستطيع على ما يقوله البارون نولده (١)، أن يستغني عن الماء على الرغم من الحر اللافح لمدة ست وثلاثين ساعة على أن تحسب على أساس ليلتين ونهار واحد. وتعتبر الفرس جيدة إذا استطاعت أن تسير يومين بدون ماء. أما الجمل فلا

______________________

(١) Eduard Nolde. Op. cit. S. ٣٠

٢٠٧

ينبغي أن نتحدث عنه ذلک أن قوة تحمله معروفة للجميع.

وعندما تصل القبيلة أخيراً إلى الهدف الذي تقصده، يختار الشيخ مکاناً ليقام فيه المخيم ويعينه بأن يغرز رمحاً في الأرض ويربط به حصانه. ثم يعين کل بدوي موضع خيمته بالطريقة نفسها تارکاً للنساء تدبير الشؤون الأخرى. وأول عمل تقوم به البدويات في هذا المجال هو نصب الخيمة وإعداد الغذاء للعائلة ثم الاهتمام بعد ذلک بالحيوانات کسقيها الماء و وضعها في محل تبيت فيه إلى جوار الخيمة. وبعد الانتهاء من هذه الواجبات تشرع البدويات بترتيب الأمتعة التي تمتاز بالبساطة فيضعن في القسم الخاص بالرجال البنادق والسروج وفي هذا القسم تبيت أيضاً الحيوانات الضعيفة. أما الجزء الخاص بالنساء فإنه يکون محلاً للنوم وللأطفال ومطبخ ومستودع في الوقت نفسه. ولهذا تخزن فيه أکياس المؤونة وتوضع فيه کل لوازم البيت وهي: جرن خشبي للقهوة وبضعة دلال وعدة فناجين وعدد من الملاعق وأواني خشبية وطست نحاسي ورحي يدوية ومجمرة صغيرة وقرب للماء والحليب ولمخاض الزبدة. وهکذا فإن أثاث البدوي، کما يظهر من هذا التعداد بسيط ومتواضع کحياته نفسها.

إن الانتقال بالطريقة التي وصفناها تقوم به القبائل الکبيرة في وقت محدد من السنة وباتجاهات معلومة. فعنزة مثلاً تهبط في الشتاء إلى الجنوب فتصل إلى حبل شمر تقريباً وتتجه مع الربيع بحثاً عن المرعى إلى الشمال مرة أخرى فتقترب من حلب. ويقطع هؤلاء البدو بهذا الشکل على ما تذکره الرحالة الجريئة السيدة (Anne Blunt) حفيدة اللورد بايرون، سنوياً فيما بين تشرين الثاني وأيار ما يقرب من ألفي ميل. أن مثل هذه المسيرات الطويلة تقوم بها القبائل التي تشتغل بتربية الابل بالدرجة الأولى ،

٢٠٨

أما القبائل التي تربي الأغنام فإنها لا تستطيع الاستغناء عن الماء، ولهذا فإنها لا تقطع مسافات کبيرة في تنقلاتها.

وهکذا فإن المراعي بالنسبة للبدو هي قضية حياة أو موت لذا فمن الطبيعي تماماً ان يعادي بعضهم بعضاً من أجل امتلاکها وإن تستمر عداوتهم سنين طويلة حتى يفقرهم ذلک الصراع إفقاراً تاماً. ويبدأ النزاع عادة عندما تعمد إحدى القبائل بعد أن تعجز عن إطعام ماشيتها التي ازدادت أعدادها کثيراً بتأثير جملة من العوامل الملائمة في الأماکن المعتاد لها. إلى احتلال مراعي تعود إلى قبيلة اخرى تحاول هذه الأخير أن تستعيد حقوقها بقوة السلاح فيقوم صراع دموي يتسع بالتدريج فيشمل قبائل متزايدة باستمرار لأن الجانب المنکسر يعمد فوراً إلى طلب المساعدة والاسناد من القبائل الصديقة التي‌ ترى ضرورة الاستجابة للطلب على اساس قانون المبادلة بالمثل.

وإذا ما اندحرت القبيلة التي امتلکت مراعي الغير بالقوة اندحاراً تاماً لا يبقى أمامها إلا الهرب وذلک لکي لا تفقد کل ما تملک. إن تراجعاً مثل هذا يجري تحت ضغط الخصم وملاحقته، لا يشبه بالطبع الانتقال السلمي ذلک أن النجاة في مثل هذه الحالات تکمن في سرعة الحرکة فقط.

وتحمي القبيلة المتراجعة نفسها من الخصم بفصيل من الـ «مردوف» وهي جمال سريعة الحرکة يرکب على کل منها إثنان من المحاربين (١) (٢)

______________________

(١) المعروف ان «المردوف» کلمة تطلق على الراکب الثاني الذي «يردفه» الراکب الأصلي خلفه على الحصان أو الجمل ـ المترجم.

(٢) المردوف هو الدابة التي يرکب عليها والراکب الاول هو المردوف يضم الميم وفتح الدال ويمکن تسميته مردوفاً إذا کان خلفه راکب آخر هذا الراکب الأخر يسمى الردف والرادف والرديف والمرتدف لا ما ذکره المترجم. حميد الدراجي.

٢٠٩

وتستمر بالهرب تخلصاً من المطاردة، دون أن تعرف الراحة ودون أن تتوقف لإعداد الطعام أو للمبيت فهم ينامون أثناء السير وذلک بأن يتمددوا على طول ظهر الجمل ويدخلوا أرجلهم في أکياس مثبتة في عنقه کي لا يسقطوا أثناء النوم. وقد أوجدت الممارسة أيضاً وسيلة للطهي لا تتطلب التوقف وتقوم على مبدأ تقسيم العمل بين عدة نساء حيث تقوم واحدة منهن بطحن الحنطه المعدة سلفاً برحى يدوية دون أن تترجل عن جملها ثم تعطي الطحين إلى أمراة أخرى تقوم وهي على الجمل أيضاً بتحضير العجين منه وذلک بأن تسکب عليه الماء من قرب معلقة بجل الجمل. وأخيراً تقوم راکبة أخرى بخبز العجين على مجمرة (١) منقولة صغيرة بعد إحمائها بروث الابل المجفف. ثم تخلط الأرغفة نصف الناضجة التي تحضر بهذه الطريقة بحليب الابل الذي يستحضره الرجال أثناء السير أيضاً.

وحتى مثل هذا التراجع السريع لا يؤدي في بعض الأحيان إلى النجاة من أيدي العدو الذي يلحق بالمؤخرة فيقضي عليها ويدرک الهاربين فيأخذ منهم جميع ما يملکون ابتداءً من الابل. وتعتبر الخيول من الغنائم المفضلة أکثر من غيرها حيث أن لها في نظر البدو قيمة کبيرة إلى درجة بحيث أن العرف السائد يقضي بأن يرجم المنتصر العدو الذي يعطيه إياها اختياراً. ويکون فقدان الحيوانات السبب الرئيسي في فقر وإملاق القبائل وذلک لأن حياة البدو الرحل برمتها تستند بشکل کلي کما رأينا على الماشية وعلى المنتجات الحيوانية.

وعلى الرغم من احتمال الوصول إلى مثل هذه الحالة فإن المنازعات الداخلية في الصحراء لا تتوقف تقريباً حتى أنه من المشکوک فيه أن تکون

______________________

(١) إن اسمها هو «تاوة» أو «صاج» ـ المترجم.

٢١٠

هناک اوقات يسود فيها بين القبائل البدوية جميعاً دون استثناء السلام والهدوء والاطمئنان. إن السعي إلى الغنائم والأمل في الانتفاع على حساب الأقرباء يتغلبان عادة على التعقل والحذر فيلجأ البدو إلى السلاح بمجرد أن تسنح لهم الفرصة. ويعتبر الأخذ بالثأر والحسابات القديمة بين قبيلتين والکراهية الموروثة بين الشيوخ وأخيراً النزاع بسبب المراعي أو الآبار، حجة کافية لإعلان الحرب.

لقد کانوا في الماضي يعلمون العدو بالقطيعة لکن هذه العادة أخذ استعمالها يبطل في الوقت الحاضر أکثر فأكثر بحيث أصبحت الغارات المفاجئة الهادفة إلى أخذ العدو على غرة، التکتيک المفضل للبدو في الوقت الحاضر، کما يلاحظ الرحالة المختلفون.

ويمکن أن تقسم الحروب، تبعاً للأسباب التي تثيرها إلى سياسية وغير سياسية؛ الأولى يکون أساسها صراع بين قبيلتين أو تنازع الشيوخ على السلطة ولا يتنهي الصراع إلا بعد أن يندحر أحد الخصمين نهائياً ويتمزق بحيث يفقد فترة طويلة أية قوة أو أهمية. إنهم لا يلتفتون في مثل هذه الحروب إلى غزارة الدم المسفوک فتسقط آلاف الضحايا من کلا الجانبين. ويمکن أن يکون مثلاً على ذلک النزاع الأخير بين أمير نجد الراحل عبد العزيز بن متعب من جهة والأمير الوهابي عبد الله بن مسعود (١) وشيخ الکويت مبارک بن صباح من جهة أخرى.

أما الحروب غير السياسية وهي التي لأي سبب کان فإنها أکثر اعتدالاً لأن هدفها الرئيسي يکون الاستيلاء على ممتلکات العدو وليس

______________________

(١) الصحيح انه عبد العزيز آل سعود وسيأتي ذکر احداث النزاع في الجزء الثاني من الکتاب. حميد الدراجي

٢١١

القضاء على حياته.

ولهذا فإن سفک الدم يکون في هذه الحالة ظاهرة نادرة واستثنائية علماً بأن مثل هذه النزعة الانسانية غير المعتادة في أبناء الصحراء مع ما يتميزون به من مزاج حاد سريع التأثر واحتقار تام للحياة عموماً ولحياة الأغراب على وجه الخصوص مردها قانون انتقام الدم (الثأر) الصارم.

إن مبدأ «العين بالعين» الثابت يرجع في اصله إلى قرون طويلة سابقة. فقبل ظهور محمد بفترة طويلة کان من الحقائق الثابتة لدى الناس أن دم الضحية لا يغسله إلا دم القاتل الذي سقطت تلک الضحية بيده. وقد تغلغلت هذه العادة بين سکان شبه جزيرة العرب إلى درجة بحيث أنها وردت في القرآن (١) فجرت بذلک المحافظة عليها حتى وقتنا الحالي وتقضي الأعراف التي تکونت عبر القرون بأن لا يجري الانتقام من القاتل نفسه فقط وأنما يقع الثأر على أقاربه المقربين أيضاً. أما الذين يأخذون بالثأر فهم جميع أقارب المقتول. ولکي لا يفسر هذا المبدأ تفسيراً واسعاً وتلافياً للاستمرار في إراقة الدماء دون طائل يحدد العرف المعتاد في الصحراء بدقة درجة القرابة بالنسبة للذين يأخذون بالثأر وبالنسبة للذين يؤخذ منهم الثأر حيث يقضي بأن يشمل الثأر جميع أفراد العائلة الرجال حتى الجيل الخامس صعوداً ونزولاً. ويعبر البدو عن ذلک بصيغة مجازية قصيرة هي: «الثأر في الخمسة» ولأرقاب القاتل طبعاً الحق في الاتفاق مع

______________________

(١) ما ورد في القرآن الکريم من أحکام القصاص لا يلتزم بها البدو وهي أحکام في غاية الاتقان والعدالة إذ انها من لدن المولى عز وجل العلم والحکم والفقه الإسلامي تکفل ببيان ذلک يوجه تام اذ ان البون شاسع بين التعاليم القرآنيه وجاهلية الاعراب. حميد الدراجي

٢١٢

أقارب القتيل حول دفع ثمن الدم «الدّية» لکن أولئک قلما يوافقون على مثل هذه الصفقة ويفضلون في أغلب الأحيان تنفيذ قانون الثأر حرفياً. فيحل بذلک بالنسبة للقاتل وأقاربه وقت عصيب ويتحتم عليهم البحث عن النجاة بالهرب والانتقال إلى قبيلة أخرى حيث يستخدمون عرفاً مقدساً آخر عند البدو هو حق اللجوء (دخيل) (١).

والامتناع عن قبول الدخيل محرم حتى لو کان عدواً إذا استطاع أن يتسلل خفية إلى خيمة الشيخ ويتشبث بعمودها أو أن يصيب الشخص الذي يبحث عنده عن الحماية بحجر صغير يرميه عليه أو بلعاب ببصقة عليه (٢) أو بأن يعقد طرف کوفيته على أن يردد في کل حالة من هذه الحالات عبارة «أنا دخيلک» أي أنا تحت حمايتک. ولهذا بإمکاننا أن نجد في کل قبيلة تقريباً عوائل کاملة ملتجئة هرباً من الثأر وهناک اصطلاح خاص يطلق على مثل هؤلاء الهاربين هو «جيلاوي» (٣).

وحتى الذين يسقطون في ساحة المعرکة يؤخذ بثأرهم إذا کان القاتل معروفاً بشکل مؤکد غير أن القضية في مثل هذه الحالات تنتهي بالصلح على أساس أن يدفع خسمون جملاً عن کل قتيل. وعندما تتصالح قبيلتان متعاديتان يحاول شيخاهما قبل کل شيء تصفية مثل هذه الحسابات ثم يحفران حفرة يدفنان فيها سبعة أحجار علامة على الصلح التام ونسيان الخلافات السابقة.

______________________

(١) تطلق کلمة «دخيل» على الشخص الذي يتمتع بحق اللجوء هذا ـ المترجم.

(٢) لا تستخدم البصقة في طلب اللجوء عند البدو على حد علمنا ـ المترجم.

(٣) اعتقد أن الکلمة التي تستخدم في هذه الحالة هي «مجلي» من «يتجلى» التي تعني يرحل. وتطلق على من يرحل عن عشيرته غضبها عليه ـ المترجم.

٢١٣

وتفسر لنا موضوعات قانون الثأر الأساسية السبب الحقيقي الذي يجعل الحروب البدوية العادية عديمة القتلى نسبياً. فالواقع أن المهاجمين يحاولون، بسبب المسؤولية التي أشرنا إليها والتي تترتب على کل قتيل، أن يتجنبوا قدر الامکان أن يسببوا جروحاً قاتلة لأعدائهم الذين يتبعونهم أيضاً الأعتبارات نفسها (١) لذا فإن القضية برمتها تحل في بعض الأحيان عن طريق المبارزة التي يقوم بها البعض والتي يحب البدو أن يظهروا فيها شجاعتهم وحذقهم وفطنتهم، وتختتم المبارزة في العادة باشتباک عام. وکل مقاتل يشعر بعدم مقدرته على مواصلة القتال ينطلق هارباً فيعمد المنتصر إلى تعقبه إلى أن تخور قوى الهارب فيترجل ويرتمي على الارض معلناً الاستسلام، فيلقي المنتصر عقاله، وهو ضفيرة من وبر الابل وظيفته تثبيت الکوفية فوق الرأس، على عنقه ويجعل منه أسيراً له، وتصبح فرس الأسير وسلاحه ملکاً للمنتصر في حين يبقى هو في الأسر إلى أن يتسلم الاسر فدية عنه. ويعامل هؤلاء الأسرى في الوقت الحاضر معاملة إنسانية لکنهم کانوا في العصور السابقة يعرضونهم لکل أنواع التعذيب والآلام وذلک بهدف الحصول على الفدية بسرعة.

وبسبب الطابع الرياضي للمنازعات غير السياسية لا يعتبر الهرب عاراً وإنما مجرد وسيلة لأرجاء الاستسلام الذي ينظرون إليه بدوره نظرتهم إلى الاستسلام في جولة من اللعب اعتبرت خاسرة.

على أية لا تثير الحرب لدى البدوي ذلک الاهتمام الأخاذ الذي يثيره «الغزو» أي الغارات الوحشية على الجيران التي يستطيع البدوي فيها أن يظهر بسالته ويستخدم فائض قواه وطاقاته، ولهذا فإنهم ينصرفون إليها

______________________

(١) (denis de rivoyre. Op. cit. p. ١٧٦ff.)

٢١٤

بشغف خاص ويستعدون لها بعناية وبسرية تامة وذلک لکي يضمن تماماً نجاح الغزو. ويرسل في مثل هذه المهمات عادة شباب البدو على شکل عصابات تختلف في عدد أفرادها لکن الواحدة منها لا تقل بأية حال عن ثلاثة أشخاص لأن أحدهم يجب أن يجذب انتباه کلاب المخيم في حين يتولى الآخر الحراسة في مدخل الخيمة بينما يقوم الثالث بحل الابل والخيول الموجودة في تلک الخيمة. ويشترک في مثل هذه الحملات أحياناً جميع رجال القبيلة فلا يبقى في المخيم غير النساء والأطفال والشيوخ والعجزة، ويحدث أحياناً أن تعود القبيلة من الغزو فلا تجد من مخيمها إلّا آثاراً قليلة حيث يکون قد تعرض أثناء غياب أصحابه لهجوم مضاد من جيرانهم استولوا فيه على کل ما يسهل حمله واخذوه معهم ولم يرحموا إلّا النساء والأطفال والشيوخ والعبيد لأن هؤلاء لا تجيز قوانين الصحراء أسرهم.

ولا تسلم من هذا «الغزو» حتى المدن فالبصرة مثلاً تعرضت في الفترة التي بقيتها فيها للهجوم عدة مرات وترکزت الغارات في أغلب الحالات على ضواحي المدينة المتآخمة للصحراء حيث يستطيع المهاجمون أن يختفوا بسرعة وبدون عقاب قبل أن يطلق الانذار. فالغارات على مرکز المدينة کان تقترن بخطر الصدام مع حاميتها الترکية ولهذا فإنها کانت أندر حدوثاً ولکنها أکبر حجماً. حيث يحتل قسم من العصابة جميع مداخل ومخارج هذا الحي أو ذاک يحرسها بانتباه بينما تنهمک بقية المشارکين بالغزو في النهب حيث بتوجهون إلى الموسرين والتجار ويجبروهم عن طريق تهديدهم بالذبح على أن يتخلوا لهم عن نقودهم وحليهم. وقد دفع بعض العنيدين الذين لم يريدوا أن يتخلوا عن ممتلکاتهم حياتهم في حين کان المستطرقون الذين أوقعتهم الصدفة في

٢١٥

الحصار ينجون إلا من جروح بعضها خطير وبعضها الآخر بسيط وکانت العصابة في العادة تنسحب دون عقاب وتأخذ معها غنائم کانت تقدر في بعض الأحيان بعشرات الألوف من القروش.

ولا يرحم الشجعان الذين يخرجون إلى الغزو ويغيرون على المخيمات قوافل الحجاج والمسافرين المنفردين الذين يصادفونهم في الطريق ولهذا فإن مصادفة الناس في الصحراء تثير دائماً القلق فبمجرد أن تظهر من بعد مجموعة من الفرسان أو المشاة يتيقظ الجميع ويستعدون لکل الاحتمالات. ولهذا السبب أيضاً يرتاب العربي الذي يصادف في الصحراء دائماً في الأسئلة التي توجه له عن الطريق أو عن مکان هذه القبيلة أو تلک فيحتج عادة بالجهل أو يعطي متعمداً معلومات مغلوطة، وبسبب هذا الخوف من التعرض لهجوم عصابة تجوس الصحراء لأجل «الغزو» لا تبيت القبائل المتنقلة أبداً قرب الماء أو البئر أو في طريق الذي يؤدي إليهما وإنما تختبئ في موضع يمتاز بالتموج أو وراء رابية ويتجنب أفرادها إشعال النار في الليل. وبسبب ذلک يستحيل تقريباً معرفة مکان وجود أية قبيلة في الصحراء دون إدلاء وذلک على الرغم منت اتساع مدى الرؤية.

والصحراء جميعها يقطنها من وجهة نظرنا وحوش غير أن البدوي ينظر إلى هذا الاستنتاج على أنه إساءة کبيرة له. إنهم شديد والاحتقار للصوص (حرامي) أي الأشخاص الذين تثبت سرقتهم لذويهم، وهم يقطعون يد السارق اليمنى إذا لم يستطع أن يدفع خمسة من الابل کغرامة، ويطردون المجرمين من القبيلة دون أسف، ويتحد جميع هؤلاء المطرودين على ما تقوله (١) (Anne Blunt) فيشکلون قبائل قائمة بذاتها تتألف کلياً من

______________________

(١) Anne blunt: op. cit. vot. II. P. ٢٢٥.

٢١٦

اللصوص.

أما الغزو أي نهب الجيران الذي تقوم به جماعة کبيرة فإنه لا يعتبر لصوصية وإنما على العکس ينظرون إليه على أنه عمل شريف کرسته القرون بل على أنه عمل شرعي ذلک أن الصحراء يسود فيها نظام کامل «للغزو» يقضي «بحق النهب» إذا صح التعبير. ويبرر البدو ذلک خصوصاً تجاه الأجانب بان اراضيهم قاحلة، الأمر الذي يعطيهم الحق في أن يکافئوا أنفسهم بالقوة على حساب سکان الأقطار الغنية.

وقد أدى «حق النهب» هذا بدوره إلى ظهور نظام الأفتداء من غارات النهب ومفاده أن يدفع الشخص الراغب في أن يؤمن لنفسه سفراً آمناً في الصحراء إلى شيوخ القبائل التي سيتحتم عليه المرور بالقرب من مخيماتها مکافأة معينة مقابل تخليهم عن ممارسة «حق النهب» هذا.

وبهذه الطريقة نفسها تکون عرف خاص يقضي أن تدفع القوافل التجارية السائرة خلال بلاد العرب جزية محددة للشيوخ الذين يمدونها بالادّلاء وبالحرس المسلمين لحمايتها من «الغزو» أو من غارات القبائل الأخرى التي لم تأخذ التعويض. وتعمد القوافل السائرة من حلب أو دمشق إلى بغداد وبالعکس إلى تسوية مثل هذه الحسابات مع جمعيات من وکلاء الشيوخ المعنيين تتألف في المدن المذکورة لضمان أمن الحرکة التجارية. وتأخذ القبائل التي تقع مخيماتها على طريق سير القوافل المذکورة قسماً معلوماً من التعويض المدفوع.کما أن الجمعيات المذکورة تعين من بين أعضائها وکيلاً عنها يعرف باسم «کروان باشي» أي قاد القافلة يکون مسؤولاً عن أمن وسلامة هذه الأخيرة، وتقع على عاتقه مهمة اختيار طريق السير وإرسال الکشافة وتعيين موضع المبيت والحرص على الانتهاء من الأکل قبل مغيب الشمس وإطفاء النيران کلها تلافياً للتعرض لغارة ليلية.

٢١٧

وبسبب الحر الشديد الذي لا يحتمل تبدأ القوافل في الصيف سيرها مع المساء وتنتهي منه قبل منتصف الليل.

وقد أخبرني بعض المسافرين بأنهم لکي يسيروا إلى بغداد بأمان کانوا يدفعون في حلب جزية معينة لممثل الشيوخ البدو هناک فيعطيهم ذلک الممثل رسائل توصية خاصة ممهورة باسمه، وفي بعض الأحيان کان يعطيهم مجرد عصا عليها حزوز غامضة. لقد کانت هذه العصا السحرية بالنسبة لهم جواز مرور يکاد يکون أفضل من الرسالة نفسها.

وتفتدي نفسها من هجمات البدو، إلى جانب القوافل التجارية والمسافرين المنفردين کثير من المدن الصغيرة مثل هيت الواقعة على الفرات والفلوجة وغيرها.

فکل من هذه المدن تدخل مع القبيلة القوية المجاورة في أخوة (خوّة) لکي تحميها من هجمات ونهب القبائل الرحالة الأخرى مقابل مبلغ معين يفوق في أحيان کثيرة مجموع الضرائب الحکومية.

ولا تقل عن ذلک الفدية التي کانت تدفعها حتى وقت قريب قوافل الحجاج الفرس التي تتوجه سنوياً من بغداد إلى مکة والمدينة بعد زيارة مرقد الحسين في کربلاء وعلي في النجف، ويمر طريق هذه القوافل من خلال حائل عاصمة نجد حيث يأخذ أمير نجد منها مبلغاً کبيراً ثم يجعلها تواصل سيرها بعد أن يجهزها بتوصيات إلى شيوخ الحربيين الذين تربطهم به علاقات وديةز لقد کان الحجاج الفرس يستطيعون بفضل هذه الحماية أن يؤدوا حجهم بأمان نسبياً إلى أن قام منذ وقت قريب الصراع المستمر والقاسي بين أمير نجد وزعيم الوهابيين عبد الله بن سعود وحليفه مبارک شيخ الکويت فتوقفت حرکة قوافل الحجاج على الطريق المذکور نهائياً. والآن ومع استقرار أبن سعود في حائل يصعب أن نأمل بعودة السفر إلى

٢١٨

الحج من طريق الصحراء ذلک أن الوهابيين کما هو معروف أعداء لدودين للحج (١).

أما بخصوص ما يسمى بـ «القافلة المقدسة» التي تتوجه سنوياً من دمشق وتنقل منها إلى مکة باسم السلطان «مخمل» وهو ستارة من القطيفة الموشاة بالفضة للکعبة المقدسة فإن الحجاج السائرين معها يتعرضون عادة للغارات والنهب. فمع کثرة الحجاج المنضمين إلى هذه القافلة والذين ينتشرون بإهمال على مسافات کبيرة تکون الحراسة العسکرية غير کافية لحماية القافلة کلها ويستغل البدو ذلک وعلى الأخص أولئک الحربيون الذين سبق ذکرهم فيقومون بغارات ليلية مباغتة ويسلبون المتخلفين والمتوانين من الحجاج ثم يختفون في ظلام الليل بسرعة قبل أن تستطيع القوات الترکية إنجاد من وقع عليهم الهجوم.

ويصيب المصير نفسه القوافل التجارية المسافرة من العجير ميناء الحسا إلى عاصمتها الهفوف، فرغم أن الجنود الأتراک يحمون هذه القوافل إلّا انها تتعرض بانتظام للنهب، کلياً أو جزئياً من قبل القبائل البدوية المجاورة التي تکون مثل هذه الغنيمة بالنسبة لها ثمينة إلى درجة بحيث تدفعها إلى أن تخاطر بتبادل النيران مع الحفنة من الجنود الأتراک.

وإذا ما کان حب «أبناء الصحراء» للسلب يبرر لحد معين غاراتهم على القوافل التجارية والمسافرين الانفراديين وعلى المجتمعات المجاورة

______________________

(١) الحقيقة إن الوهابيين ليسوا ضد الحج کفريضة من فرائض الإسلام ولکنهم لا يعتبرون زيارة قبل الرسول الکريم من متطلبات الحج کما أنهم منعوا المظاهر الاحتفالية التي کانت تصاحب مواکب الحجاج القادمة من مصر والشام مثلاً ـ المترجم.

٢١٩

فإن الحجاج المسلمين الذين يؤدون إحدى فرائض الإسلام الأساسية بصعوبات کبيرة وخسائر مادية ملحوظة کانوا يستطيعون على ما يبدو أن يأملوا باحترام کبير من جانب البدو إخوانهم في الدين. وحتى في عصور الوثنية قبل محمد بوقت طويل کانت هناک أربعة أشهر في السنة اعتبرت أشهراً مقدسة يمتنع العرب خلالها عن الغارات والعمليات الحربية وذلک لکي يستطيع من يرغب الحج بسلام إلى معبد الأصنام في مکة ويستطيع المشارکة في البيع والشراء في السوق المحلي.

أما سلب البدو في الوقت الحاضر لحجاج مکة فإن تفسيره يکمن في حقيقة أنّ إسلام هؤلاء البدو لا يمت بصلة إلّا قليلاً للدين الذي يعتنقه أتباع النبي محمد (١) فالبدوي يعترف بإله حقيقي واحد وهو الخالق القادر على کل شئ يملک مصير الانسانية کله ويجب أن تخضع له الخلائق بأجمعها.

إن هذا الإيمان المقتضب هو في واقع الأمر کل اعتقاد البدوي بالإسلام فالبدو لا يؤدون لا الصلوات الخمسة التي يجهد المسلمون في الاقطار الإسلامية کافة على تأديتها بعناية ولا الطقوس والالتزامات الدينية الأخرى فهم يتميزون على العموم بالکثير من اللامبالاة تجاه کل القضايا المتعلقة بالدين ولا يهتمون بالقضايا المجردة إلّا قليلاً. فليس لدى البدوي، في ظل عيشه الدائم على مرأى من الناس وتنقلاته المستمرة و وطيس منازعاته التي لا تنتهي، وقت لأن يستسلم للتفکير. إنه منهمک بکليته في الحاضر ويعيش ليومه هذا إضافة إلى أنه لا يوجد من بين سکان الصحراء إلّا القليل ممن يعرفون القراءة ولهذا ظل القرآن بالنسبة للأغلبية الساحقة

______________________

(١) Palgrave: op. cit. vol l. p. ٩. FF.

٢٢٠