ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ساعتين من البصرة تقريباً. فإن جميع السفن القادمة من هناک بما في ذلک سفن البريد تتعرض للحجر والمراقبة لمدة عشرة أيام ويعزل رکابها في مرکز الحجر الصحي ويجري تعقيم أمتعتهم في الغرف التابعة للمحطة. أما السفن القادمة من أوروبا فإنها تتعرض أيضاً للحجز والمراقبة غير إنها لا تبقى في مرکز الحجر إلّا وقتاً لا يصل إلى عشرة أيام کاملة اعتباراً من يوم مغادرتها لأخر ميناء من موانيء الخليج (١).

ومع ذلک لا يسعنا إلّا أن نلاحظ بأن إقامة مرکز للحجز الصحي في البصرة لا يحقق إلا جزئياً الهدف المقصود وهو منع انتشار الطاعون من الهند والکوليرا من موانئ الخليج إلى ما بين النهرين. فالبصرة تقع على بعد مائة فرست تقريباً من الخليج وبامکان السفن القادمة إليها من البحر أن تتصل بکل حرية بميناء المحمرة الواقع في منتصف المسافة بين مصب شط العرب والبصرة لذا فإن رکاب السفن يستطيعون إذا أرادوا، وخصوصاً رکاب السطح الذين تکون مراقبتهم أصعب من رکاب القمرات، أن يتجنبوا المکوث في مرکز الحجر في البصرة وذلک بأن ينزلوا في المحمرة حيث يکون الطريق إلى البصرة بواسطة النهر أو في اليابسة مفتوحاً أمامهم (٢).

______________________

(١) لقد تغيرت هذه القواعد في ١٩٠٩ بحيث أصبح بإمکان السفن القادمة من الهند مواصلة السير رأساً بعد إجراء الکشف الطبي، إذا کان قد قضى عليها في الطريق أکثر من عشرة أيام. أما السفن التي مضى عليها أقل من عشرة أيام فإنها تظل في مرکز الحجر الصحي حتى تکمل الأيام العشرة، کما إن السفن التي تحمل الحجاج الهنود تکون مدة حجزها خمسة أيام.

(٢) بخصوص تجنب اللورد کرزن لمرکز الحجر الصحي في البصرة وذلک بنزوله في المحمرة أنظر کتابه :

Persia and the Persiam Questimn London ١٨٩٢ Vol II. P. ٣٣٧ FF.

١٨١

إن من غير الممکن وضع حد لمثل هذا الالتفاف على مرکز الحجر الصحي في البصرة طالما انّ مدينة المحمرة الفارسية الموجودة على الجوار والواقعة على شط العرب أيضاً لا تقيم هي أيضاً مرکزاً ممائلاً للحجر الصحي، وإلّا فإنه يتحتم أن يقام على جانبي النهر وفي الصحراء المحيطة بالبصرة نطاق صحي دائم لا يقل عدد المشتغلين فيه عن ١٠٠٠ ـ ١٥٠٠ شخص، وطبيعي أن دائرة الحجر الصحي ليس في طاقتها إقامة مثل هذا النطاق.

إن مرکز الحجر في الصحي الرئيسي الذي قضي بإقامته مؤتمر باريس الصحي في الفاو کان يمکن أن يکون أکثر فعالية على ما يبدو وذلک لأنه سيکون من الأصعب على رکاب السفن التجارية والشراعية أن يتسللوا إلى البصرة خفية لان الفاو تقع عند مدخل شط العرب مباشرة وهو موقع تسهل منه مراقبة الصحراء. بيد أن محطة الحجر الصحي هذه لا تحقق هدفها بشکل تام إلّا إذا اقترنت بإقامة حماية صحية دولية للخليج نفسه. هذا ويوجد في الفاو في الوقت الحاضر مرکز للمراقبة الصحية يتألف من ناظر وإثنين من الحراس.

إن محطة الحجر الصحي في البصرة والکادر الطبي الذي يديرها تقع، شأنها في ذلک شأن کل مؤسسات الحجر الصحي في الامبراطورية العثمانية تحت إدارة «المجلس الصحي الدولي الأعلى» الموجود في اسطنبول وفي تبعية مباشرة له. ويتألف المجلس المذکور من ثمانية ممثلين عن الدولة العثمانية وممثل واحد عن کل من روسيا وفرنسا وألمانيا والنمسا ـ المجر وبريطانيا العظمى وبلجيکا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا واليونان والسويد والنرويج وفارس والولايات المتحدة الأمريکية.

ويعود تأسيس هذا المجلس إلى سنة ١٨٣٨ عندما قرر السلطان

١٨٢

محمود متأثراً بالطاعون الذي کان قد اجتاح اسطنبول في السنة السابقة فأعاد إلى الذاکرة الأوبئة المخفية السابقة التي محقت سکان عاصمة الامبراطورية أکثر من مرة، اللجوء إلى مساعدة ممثلي الصحة العالميين لاتخاذ الاجراءات الکفيلة بمنع انتشار الأمراض الوبائية في الدولة العثمانية (١). ومنذ ذلک الوقت ظلت هذه المؤسسة الدولية قائمة حتي إنها اصبحت واحدة من أکثر مؤسسات الامبراطورية العثمانية ازدهاراً. ويعود السبب في هذه الظاهرة إلى أن الادارة الصحية لا تکلف الدولة مصاريف کبيرة ذلک إن جميع إيرادات مراکز الحجر الصحي في الامبراطورية تذهب إلى تلک الادارة.

وتتألف الايرادات المذکورة من الضرائب التالية :

١ ـ من الرخص الصحية التي تمنح للسفن حيث تدفع کل سفينة ٢٠ بارة (٤ کوبيکات) عن الطن الواحد إذا لم تکن حمولتها تزيد على ٥٠٠ طن و١٢ بارة (٢،٤ کوبيک) إذ کانت الحمولة ما بين ٥٠٠ ، ١٠٠٠ طن و ٨ بارات (١،٦ کوبيک) إذا زادت عن الألف طن.

٢ ـ الضرائب التي تؤخذ من السفن مقابل مکوثها في مرکز الحجر الصحي ويتراوح مقدارها ما بين ٤٠،١٠ قرشاً (ما بين ٨٠ کوبيکا وثلاثة روبلات و ٢٠ کوبيکاً) لليوم الواحد تبعاً لمقدار حمولة السفينة، فضلاً عن ٢٥ قرشاً أخرى (روبلان) في اليوم تذهب لصالح حرس مرکز الحجر الصحي وضريبة خاصة أخرى تؤخذ مقابل تعقيم البضائع.

٣ ـ ضريبة مقدارها ثمانية قروش (٦٤ کوبيکاً) في اليوم تؤخذ من کل حاج يقضي مدة الحجر الإلزامية في مرکز الحجر الصحي.

______________________

(١) Ch. Morawitz: Op. Cit. P. ٢١٨.

١٨٣

ويمکننا ان نحکم على قيمة المبلغ الاجمالي لإيرادات دائرة الصحة إذا ما علمنا بأن هذا الإيراد وصل في السنة المالية ١٨٧٤ ـ ١٨٧٥ إلى ٣٨،٣٥٦ ليرة عثمانية (٠٢٦ ـ ٣٢٦ روبل) وارتفع في ١٩٠٠ ـ ١٩٠١ إلى ٨٠،٠٠٠ ليرة عثمانية (٦٨٠،٠٠٠) وتسهم مصلحة الحجر الصحي في البصرة في هذه الايرادات بالدرجة الأولى عن طريق الضرائب التي تفرضها على السفن والرکاب وقد بلغ المعدل السنوي للحمولة المسجلة للسفن في الفترة من ١٨٩٠ إلى ١٩٠٠ کما يلي :

٤١،٩٩٤ طن بالنسبة للسفن الشراعية و ١٤٩،٩٦٣ طن بالنسبة للسفن البخارية کما بلغ العدد الاجمالي للمسافرين ما يقرب من ٩،٠٠٠ شخص.

أما في الفترة من ١٩٠٠ إلى ١٩٠١ فقد کان المعدل السنوي لحمولة السفن ٢٩،٤٧٠ طناً بالسنبة للسفن الشراعية و ١٩١،٠٧٠ بالنسبة للسفن التجارية في حين بلغ معدل عدد الرکاب ١١،٠٠٠ شخص في السنة، وإذا ما أضفنا إلى الضرائب التي تؤخذ على حمولة السفن والضرائب التي تؤخذ مقابل السفن والرکاب في مرکز الحجر الصحي في ميناء البصرة إيرادات مرکز الحجر الصحي في خانقين، الذي يمر من خلاله سنوياً ما بين ٥٠ إلى ٦٠ ألف حاج بالمعدل يدفع کل منهم عشرة قروش (٨٠ کوبيکاً) إضافة إلى ما لا يقل عن ٥٠٠٠ جثة يدفع عن کل منها خمسون قرشاً (٤ روبلات )، فإننا نستطيع أن نستنتج بأن ما يقرب من نصف إيرادات مصلحة الدولية في اسطنبول يأتي من مراکز الحجر الصحي في العراق الجنوبي.

ولا يسعنا ونحن نختتم هذا الفصل إلّا أن نتحدث باختصار عن إحدى المؤسسات التي تعمل، على الرغم من إنها لا تتمتع بصفة دولي، بشکل مستقل عن إدارة العراق الجنوبي کما لو أنها تتمتع بنفس الحقوق

١٨٤

التي يتمتع بها في الدولة العثمانية السفارات والبعثات والمؤسسات الأخرى التابعة للدول الأوروبية. إن هذه المؤسسة التي تعرف باسم «أراضي السنية» أي إدارة ضياع السلطان تستحق اهتماماً خاصاً باعتبارها حامل لواء الاعمار في هذه الأصقاع.

لم تبدأ أراضي السنية بالتوسع في شراء الأراضي البور والمتروکة أو التي قلت خصوبتها سواء کانت أميرية أو مملوکة ملکاً خاصاً في العراق الجنوبي إلّا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وبعد أن تحصل الادارة المذکورة على مثل تلک الأراضي العقيمة الفائدة بثمن بخس تکرس لها جهوداً ورؤوس أموال غير قليلة وذلک لتعميرها ورفع إنتاجيتها ولا يعيقها عن ذلک شيء حتى لو اضطرت لاتخاذ إجراءات غالية التکاليف کفتح قنوات ري جديدة أو تعمير القنوات القديمة. هذا وقد ازدادت قيمة الضياع السلطانية زيادة هائلة کما حدث مثلاً بالنسبة لضيعة جحلة في سنجق العمارة التي ارتفع ثمنها من ٥،٠٠٠ إلى ٥٠،٠٠٠ ليرة عثمانية. إن طرق الاستثمار النموذجية المستخدمة في هذا الضياع أصبحت تقلد من قبل الملاکين المحليين ومن قبل الجهات التي تدير أراضي الوقف بل ومن قبل الزراع العاديين.

لقد استطاعت إدارة الأراضى السلطانية أن تحقق مثل هذه النتائج الباهرة بفضل ما تتمتع به من حرية العمل والاستقلال التام عن الادارة العثمانية المحلية بالدرجة الأولى. حيث لم يکن لهذه الأخيرة أي الادارة العثمانية المحلية أي إمکانية للتدخل في شؤون إدارة أراضي السنية ذلک إن الأراضي العائدة للسلطان لا تخضع لأي ضرائب أو فروض حکومية کما عن جميع الضرائب والاتاوات التي تؤخذ من القبائل الرحالة التي تنتقل فيها کالضريبة التي تؤخذ على الماشية أو التي تؤخذ على الخيام وما

١٨٥

أشبه تذهب مباشرة إلى خزينة إدارة أراضي السنية. هذا فضلاً عن إن موظفي هذه الادارة مشمولون بـ «حصانة» خاصة بحيث لا يستطيع البوليس ولا السلطات القضائية أن تتخذ ضدهم أي إجراء دون علم وموافقة الأشخاص الذين يقفون على رأس إدارة أراضي السنية. ولهذا فليس هناک ما يدهش في أن تکون ظروف الزراع البسطاء والفلاحين العاملين في خدمة تلک الادارة أفضل بما لا يقاس من ظروف نظرائهم العاملين لدى الملاک الخاصين بحيث تعتبر الطبقات العاملة من السکان المحلين الانضمام إلى مستخدمي هذه المؤسسة ذات الامتيازات نجاحاً خاصاً.

على إن إدارة الضياع السلطانية لم تقتصر على التوسع في شراء الأراضي الخالية والموجودة بالقرب من المدن والمراکز المأهولة وإنما تعدت ذلک إلى الأراضي التي تتنقل فيها أکثر القبائل وحشية وعدوانية في العراق الجنوبي حيث السبيل إليها مغلق تماماً بالنسبة للبسطاء من عامة الشعب. وهکذا قامت الادارة بشراء أراضي واسعة في سنجق العمارة، وعمدت من أجل أن تجذب الرحل المحليين إلى العمل بالزراعة ولکي تؤمن حماية الضياع السلطانية الجديدة من نهب عصابات البدو إلى اتخاذ إجراء ذکي حيث أجرت کل تلک الأراضي للشيوخ المحليين هناک. وبعد أن استأجر هؤلاء الشيوخ قطع الأرض بشروط ملائمة أصبحوا ذوي مصلحة مادية في زراعتها فأخذوا يسعون على استخدام قبائلهم لزراعتها ولقد منح هؤلاء الشيوخ مع الايجار الالقاب الرسمية المختلفة فأصبحوا مديرين أو قائمقامين وما اشبه فألقي ذلک على عاتقهم مسؤولية المحافظة على النظام والهدوء في المناطق الخاضعة لسلطتهم. وهکذا وضعت بفضل هذا الاجراء الناجح البداية لعملية انقراض الکثير من القبائل ذات النزعة الحربية المتنقلة في سنجق العمارة وللتوسع الکبير في مساحة الأرض المزروعة في

١٨٦

ذلک السنجق الذي لم يکن حتى ذلک الوقت قد استثمر إلّا قليلاً.

وقد انعکس نشاط إدارة أراضي السنية بشکل إيجابي في العراق الجنوبي في مجال آخر ايضا ونعني القضاء على المجاعات المتکررة التي کانت تحدث بسبب المضاربة. ذلک إن محتکري الحبوب في سباقهم من أجل الربح کانوا يتوسعون في تصدير الحبوب إلى الخارج الأمر الذي کان يؤدي رأساً وبسبب محدودية احتياطات الحبوب إلى ارتفاع أسعار هذه المادة الضرورية وإلى حدوث مجاعة مصطنعة بين الطبقات الفقيرة من السکان.

وکانت الوسيلة الوحيدة لمکافحة التهريب في السابق وهي منع تصدير الحبوب فيقوم مجلس الولاية بأخطار جميع المراکز الکمرکية بذلک لکي تعمد تلک المراکز إلى إصدار التعليمات بهذا الشأن لکن مع قيام إدارة الأراضي السلطانية في العراق الجنوبي وتحولها في وقت قصير إلى أکبر مالک محلي للأرض ورفعها لإنتاجية الأرض بدرجة کبيرة، أصبحت المجاعات المذکورة من حکايات الماضي بحيث لم تظهر ضرورة لإيقاف تصدير الحبوب إلى الخارج خلال العشرين سنة الأخيرة.

ونظراً لعدم توفر أية معلومات عن مقدار الأراضي التي اشترتها إدارة أراضي السنية وعن إنتاجية هذه الأراضي ومقدار الايرادات المتأتية منها إلى خزينة السلطان ينبغي أن نکتفي بإحصاءات تقريبية يعود بموجبها إلى السلطان في ولاية البصرة ما لا يقل عن ٤٠% وفي ولاية بغداد ما لا يقل عن ٣٠% من جميع الأراضي المزروعة.

أما عن الجانب الآخر من نشاط إدارة أراضي السنية ونعني امتلاکها للملاحة العثمانية في نهر دجلة، فإننا سنتحدث عنه بالتفصيل في الفصل الأخير من هذا الکتاب وذلک عند حديثنا عن وسائل المواصلات في العراق الجنوبي.

١٨٧
١٨٨

الفصل الثالث

لا يمكن تحديد عدد سکان ولاية البصرة بدقة حتى ولو بشکل تقريبى وذلک لعدم وجود إحصائيات حول عدد أفراد بعض القبائل البدوية التي لا يمکن إحصاؤها بسبب حياة التنقل التي تحياها. أما عن السکان العرب الحضر فإن الولادات والوقيات تتميز حتى بالنسبة لهم بالقصور وذلک بسبب تهرب المسلمين من إعطاء المعلومات الصحيحة عن عدد أفراد عوائلهم لاعتقادهم بأن مثل هذا الاحصاء سيؤدي حتماً إلى موت أحد أفراد العائلة (١).

ولهذا فإن الأرقام الواردة التي تشير إلى عدد سکان بعض السناجق والمأخوذة من النشرة العثمانية الرسمية الخاصة بولاية البصرة لسنة ١٨٩٨ ـ ١٨٩٩ ينبغي اعتباراه أرقاماً تقريبية وهي على أية حال أقل من الواقع (٢).

______________________

(١) إن إمتناع السکان عن إعطاء المعلومات الصحيحة بهذا الخصوص مبعثه أيضاً رغبتهم في التهرب من الخدمة العسکرية بعد أن أقر التنجيد الالزامي ـ المترجم. لعل ما ذکره المترجم هو ما کان يرمي اليه المؤلف من قوله سيؤدي إلى موت أحد العائلة والا من أين للمؤلف هذا الاطلاق والتعميم في قوله بسبب تهرب المسلمين إلى قوله لاعتقادهم. حميد الدراجي

(٢) السالنامة الخاصة بالسنة المذکورة، ص١٧٠.

١٨٩

السنجق

عدد الرجال

عدد النساء

المجموع

البصرة

٦٠،٧٣٠

٩٩،٨٥٠

١٨٠،٥٨٠

المنتفك

١٢١،٢١٠

١٢٥،١٦٠

٢٤٦،٣٧٠

العمارة

١٠٩،٨١٠

١١٣،٢١٠

٢٢٣،٠٢٠

الحسا

١٣٨،١٨٥

١٤٧،٤٤٠

٢٨٥،٦٢٥

٤٤٩،٩٣٥

٤٨٥،٦٦٠

٩٣٥،٥٩٥ (١)

أما من حيث المعتقد فإن السکان يتوزعون على النحو التالي تقريباً :

السنة ٢٦١،٨٥٠ نسمة.

الشيعة ٦٦٢،٨٤٥ نسمة.

الأرمن الکريکوريين ١٥٠٠ نسمة.

الکاتوليک ١٣٠٠ نسمة.

الصائبة ٣٠٠٠ نسمة.

اليهود ٥٠٠٠ نسمة.

ذوو معتقدات أخرى ١٠٠ نسمة.

وسکان الولاية المسلمون فيما عدا عشرة الآف من الموظفين والعسکريين الأتراک والأکراد والألبانيين وباستثناء بضعة آلاف من الفرس القاطنين في المدن هم بأجمعهم من العرب الذين يؤلفون لهذا السبب ما لا يقل عن ٨٥% من مجموع السکان.

وينقسم العرب إلى: «أهل البيت» و «أهل الحيط» أي ساکني الخيام أو الرحل وسکان الجدران أي الحضر. ولقد احتفظ عربي الصحراء المتنقل

______________________

(١) يذکر V Cuinet في کتابه :

“La Turquie d, Asie. Geographie Adminstrative. Paris ١٨٩٤ T. III. P. ٢٢٠.

١٩٠

أي البدوي (مأخوذة من کلمة «بادية» التي تعني الصحراء وقد تحرف نطقها لدى الأوروبيين فأصبح بدوين) بالعادات والأعراف العربية القديمة بکمالها ونقائها الأول بحيث أن حياته الحالية لا تکاد تختلف عن حياة أسلافه في عصر التوراة. أما العربي الحضري فقد تخلي بتأثير الحضارة وظروف الحياة الأفضل، عن الکثير من عادات حياة التنقل السابقة وفقد لدرجة ملحوظة الخصائص المميزة لعرقه وهذا هو السبب في کونه قليل الشبه بأصله البدوي.

والبدو حتى الآن هم العنصر الغالب بين العرب من سکان العراق ولهذا ينبغي أن يفرد «لأبناء الصحراء هؤلاء» المحل الأول في الوصف الاتنوغرافي لمدينة البصرة وأن تدرس حياتهم بشکل أکثر شمولاً.

يتميز البدو عادة بطول القامة ورشاقة الجسم وشدة النحافة رغم کونهم ضخمي العظام مفتولي العضل. والبدانة بينهم ظاهرة نادرة إلى درجة حيث تعتبر من صفات القبح وتصبح مثاراً للسخرية. إن الشعر الطويل الکثيف الذي يکون أسوداً في العادة وأشقراً أو أحمراً في حالات نادرة والمجدول في بضعة ضفائر تنسدل على جانبي الوجه يعطي البدوي مع اللحية الطويلة على وطراز الملبوس الفضفاض المتدلي حتى الأقدام والمهابة الهادئة هيئة شيخ من شيوخ التوراة وعيون البدو في الغالب سمراء داکنة تقرب من السواد وزرقاء في أعيان نادرة ونظرتهم نفاذة فاحصة وتعبير وجوههم صارم وجاد يشويه الکثير من الدهاء.

والبدو على العموم يتميزون دون شک بجمال الطلعة لکنهم يشيخون بسرعة حتى أن الواحد منهم عندما يصل الثلاثين من العمر يعتبر أن شبابه قد ولي منذ زمين طويل، ففي مثل هذا العمر تکون عيونهم قد أحاطتها تجاعيد عميقة نظراً لأنهم مضطرون لأن يضيقوا عيونهم باستمرار حماية

١٩١

لها من تأثير أشعة الشمس الساطعة، کما أن خدودهم تکون قد غارت ولون وجوههم قد علته مسحة بنية داکنة بتأثير الشمس التي لا ترحم. وعندما يبلغ البدوي الـ ٤٠ ـ ٤٥ من العمر تشيب لحيته نهائياً وفي سن الخامسة والخمسين يکون قد أصبح شيخاً طاعناً على الرغم من أنه يحتفظ في العادة بحرکتة وبانتصاب قامته وتناسقها حتى نهاية حياته.

وملابس البدوي غاية في البساطة فهي تتألف من قميص طويل حتى الکعب ويکون لونه أبيض في الغالب يلبس فوقه الموسورن منهم کاستثناء رداءً مخططاً ترکماني الطراز. ويلقي أبناء الصحراء على أکتافهم، اتقاءً للبرد والمطر، «عباءة» وهي رداء من الصوف يستخدم أثناء النوم أيضاً بدلاً من اللحاف. والبدو لا يلبسون السراويل فهي تعيق الحرکة وأقدامهم عارية وإن کانوا يلبسون النعال في بعض الأحيان، ورؤوسهم تغطي بمنديل قطني أو حريري مطوي على شکل مثلث بحيث تحيط قاعدته بالوجه ويتدلى جانباه على الکتفين ورأسه على الظهر. ويثبت هذا المنديل أو «الکوفية» على الرأس بواسطة «العقال» وهو عبارة عن ضفيرة طويلة من وبر الجمال يلف حول الرأس على شکل دائرتين. وغالباً ما يتمنطق البدوي فوق القميص بحزام من الجلد بسيط الصنع أما عرب المدن فإن الرداء والسروال يعتبران عندهم من لوازم البدلة الضرورية، کما أنهم يستعملون الستر من الطراز الأوروبي على نطاق واسع کلباس خارجي في الشتاء.

ويؤلف السلاح الذي لا يفارقه البدوي الحقيقي تتمة لا غنى عنها للمظهر الخارجي لابن الصحراء بحيث لا يکون تصور مظهره الخارجي کاملاً من دونه وشغف البدوي بالسلاح الأوروبي الحديث عظيم إلى درجة بحيث انه يعاني العوز ويحرم نفسه طوعاً من الکثير لا لشيء إلا لکي

١٩٢

يمتلک بندقية جيدة أو قربينة (١) مارتيني، من التي بکميات کبيرة إلى بلاد العرب عن طريق مسقط والکويت وإذا ما کان الرحالة الأوروبيون القليلون الذين تغلغلوا في أعماق شبه جزيرة العرب قد لا حظوا في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن وجود البنادق الشطف (٢) عند البدو يعتبر ظاهرة غير إعتيادية فإن مثل هذا السلاح يعتبر الإن حتى في‌ الصحراء سلاحاً قديماً فقد نصف قيمته السابقة.

وتنتشر بين البدو على نطاق واسع، إلى جانب الأسلحة النارية الحديثة، أسلحتهم القديمة ومنها رمح من القصب يتراوح طوله ما بين ١،١/٢ و٢ ساجين (٣) يثبت في نهايته العليا رأس مدبب من الحديد على شکل مثلث وتکون نهايته الدنيا مدببة ليسهل غرزه في الأرض. ويستخدم هذا الرمح لرمي العدو الهارب عند الاقتراب منه أثناء تعقبه وکذلک لاضاقة حصان العدو في حالة کون العدو هو الذي يتعقبهم. وذلک بتوجيه الرماح الحادة إلى وجهه. ومن الأسلحة العربية القديمة الأخرى السيف والخنجر وأخيراً ترس بدائي مصنوع من وبر الجمل. ويکتفي الفقراء جداً من البدو بهراوة (دبوس) أو مجرد مقلاع وهذا الأخير يکون أيضاً في سن الطفولة اللعبة المفضلة لصبيان البدو.

والنساء بوجه عام أقل جمالاً من الرجال على الرغم من حسن تکوينهن وسلامة ملامح وجوهن. فالقوة الرجولية البحتة التي تعبر عنها ملامح وجوهن وحرکاتهن التي تتسم بالخشونة ومشيتهن الثابتة تجردهن

______________________

(١) بندقية قصيرة ـ المترجم.

(٢) تسمي بالعامية «أم جداحةً» ـ المترجم.

(٣) الساجين مقياس روسي للطول مقداره متر واحد و ١٣ سنتمتراً ـ المترجم.

١٩٣

من کل أنوثة. إضافة إلى أنهن، من وجهة النظر الأوروبية، يشوهن أنفسهن بالوشم الذي يرسمنه على وجوهن وصدورهن وأيديهن وأرجلهن وکذلک بتعليقهن لحلقات خاصة في الأنف ولبسهن لعقود وما أشبه ذلک من الحلي. وفوق ذلک کله تکاد البدويات يذوين أسرع من الرجال وذلک أمر تحتمه ظروف حياتهن الصعبة. فإذا ما کان ممثلو الجنس الخشن في الصحراء محکوم عليهما منذ أن يولدوا إلى أن يموتوا بالعوز الدائم والمصائب المستمرة فإن الجنس اللطيف يتحتم عليه أن يعيش حياة أصعب وذلک لأن جميع أشغال البيت وأعمال تدبيره ملقاة کما سنرى على عاتق النساء البدويات.

وسنحاول في السطور التالية أن نرسم صورة تقريبية للحياة البدوية بکل ما تمتاز به من سوء ابتداء من طعام العربي المتنقل الثقيل العسر الهضم وانتهاء بکفاحه المستمر من أجل البقاء وهو الکفاح الذي يتحتم عليه أن يخوضه لا ضد الطبيعة التي يعيش فيها فقط وإنما ضد أبناء جلدته أيضاً.

يتألف طعام العربي المتنقل من التمر والرز والدخن والشعير أو الحنطة وهو يحصل على هذه المنتجات مرة أو مرتين في السنة من المدن حيث يستبدلها بالمنتجات الحيوانية.

ويحضر العجين من الحبوب بعد طحنها برحى يدوية ثم يخبز إما على أحجار محمية أو بإلصاقه على جدران حفر خاصة تحفر بالأرض بعد أن يشعل فيها الشوک البابس أو روث الجمال المجفف. والخبز الذي يحضر بهذه الطريقة هو عبارة عن أرغفة نصف ناضجة يصعب مضغها. وتکون مائدة البدوي في القبائل التي تمتلک الماشية غنية بالکثير من حليب النوق إضافة إلى حليب الغنم والماعز والزبدة المستخرجة منهما. ويصنع

١٩٤

البدو للشتاء الذي يعتبرونه «فصل الجوع» کرات صغيرة من حليب النوق تنشف جيداً وتکبس ثم تجفف في الشمس (١) ويحتفظون بها أشهراً.

وتعطي هذه الکرات بعد أن تذاب بالماء شراباً أشبه بالحليب الحامض وإذا ما کان التمر يؤلف الغذاء الرئيسي بل والوحيد في بعض الأحيان بالنسبة للأعراب في جنوب العراق الجنوبي. فإن استهلاک ثمار النخيل هذه إذا زاد عن الحد يعتبر في ولاية بغداد أي إلى الشمال أکثر أمراً مضراً بالصحة بحيث أن السکان هناک يعمدون من أجل القضاء على الدزانتري الذي تسببه تلک الثمار إلى شرب القهوة سوداء قوية بدون سکر.

ويستهلک هذا المشروب أي القهوة على نطاق واسع بين سکان المدن العرب وکذلک لدى البدو الذين يقدمونه لضيوفهم قبل أي شيء آخر کما أن رفض الضيف لتناوله يعتبر إهانة مقصودة لصاحب الخيمة. وإلى جانب هذا الأثر النافع للقهوة يعتقد البدو أن لها خصائص علاجية أخرى كتحسين النظر وتقوية الذاکرة وما أشبه ولهذا فإنها تتمتع بالاکبار بين البدو، حتى أن تحضيرها يحاط بطقوس خاصة. حيث يقوم بذلک خادم خاص لهذا العمل أو رب الدار نفسه بأن يغلي الماء في الدلة ثم يبدأ بتحميص البن وهو أمر يجري دوماً قبل تقديم القهوة مباشرة. تحمص حبوب البن في مغرفة حديدية کبيرة على نار هادئة إلى أن تحمر ثم تبرد وتطحن في جرن خاص ويوضع المسحوق في الدلة التي يکون الماء فيها آخذ بالغليان. ويضيف البدو إلى القهوة في العادة قليلاً من الزعفران أو جوز الطيب ويشربون هذا الشراب العطر بلا سکر لأنهم يعتقدون بأن

______________________

(١) بقصد المؤلف ما يسمى بالعامية بـ «الجثي» ـ المترجم. يسميه البدو بلهجتهم (المَگُل)

١٩٥

السکر يفسد مذاقة.

ويأکل البدو بين الحين والآخر لحم الغنم أو الابل لکن مثل هذا الطعام يعتبر ترفاً لا يقدمون عليه إلا في المناسبات المهمة وبالأخص أثناء المناسبات العائلية الزواج والختان وکذلک عند استقبال کبار الضيوف. ويعتبر لحم الابل وعلى الأخص الصغيرة منها طعاماً شهياً جداً بحيث أنهم بمجرد أن تکسر رجل حيوان منها في الطريق يبادرون إلى نحره رأساً ويقيمون منه وليمة حقيقية. ويأکل البدو مرتين في اليوم حيث يتناولون طعاماً خفيفاً في الصباح ووجبة أدسم في المساء بعد غروب الشمس. ولا بد أن تدخل في الوجبة المسائية الأکلة التي يطلق عليها اسم «عيش» وهي عبارة عن عجينة تصنع من الطحين وحليب النوق الحامض بعد أن تغلي سوية ودون أن تضاف اليها أية توابل أخرى.

وإذا ما کان مثل هذا الغذاء مضراً للبالغين بحيث أن من النادر أن نجد بدوياً في سن الأربعين أو الخمسين لا يعاني من سوء الهضم، فإنّ تاثيره على الأطفال وبيل أيضاً، وکل من تأتّى له أن يزور مضارب البدو أدهشته رغماً عنه بطون الأطفال المنتفخة انتفاخاً مرضياً ونسبة الوفيات بين الأطفال کبيرة إلى درجة بحيث يمکننا القول دون مبالغة بأنه لا يعيش منهم إلا شديد والقوة الذين يستطيعون التکليف لظروف الحياة القاسية في الصحراء.

وينشأ أطفال البدو على الحرية التامة يمنحونها لأنفسهم کلياً دون أي إشراف او عناية من جانب الکبار، ففي أي من مضارب البدو يمکن أن نلاحظ أطفالاً عراة يمرحون حول الخيام مختلطين بالخيل والکلاب والماشية البيتية، حيث نجد الأولاد دون السادسة والبنات دون الخامسة من العمر يتراکضون عراة حاسري الرؤئس. إذ أنهم لا يرتدون القمصان إلا

١٩٦

بعد أن يتعدوا هذا السن.

وفي ظل غياب التربية من أي نوع کان تأخذ جميع صفات الطفل وميوله الفردية سواء کانت حسنة أم سيئة بالتطور والترسخ دون عائق فتکون في نهاية المطاف مجمل السجايا التي يتميز بها البدوي الذي تتوائم فيه بشکل لا ينفصل متناقضات متعارضة. فلکي نصف أخلاق البدوي يتحتم علينا أن نضيف إلى صفاته الايجابية کالطيبة واللياقة في المعاملة والکرم والشهامة غير قليل من الصفات السلبية ونعني الريبة والجشع والمکر والغطرسة والشهوانية.

ورغم أن الأب لا يعني بتربية أولاده فإنه يعتبر الطفل الجرئ الفطن والشاطر إبناً مثالياً ويفتخر به. والبدوي يحب الأطفال ولکنه لا يظهر في تعامله معهم أي رقة ولا يتنازل للطفل مهما کان لمجرد کونه طفلاً. لذا يتحتم على الأطفال في ظل معاملة الکبار هذه أن يعتمدوا على أنفسهم وعلى شطارتهم فقط في کل شيء ولهذا السبب يترک أطفال البدو في سن مبکرة حياة الطفولة الخلية وهم لا يکادون يعرفون العاب الطفولة الحقيقية. وبفضل الحياة المشترکة مع الکبار في خيمة واحدة يتعرف أطفال البدو في وقت مبکر عن طريق أحاديث أولئک على کل الجوانب القبيحة للحياة البشرية بحيث أنهم يبدون وهم في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر وکأنهم أناس ناضجون، حيث يکون البدوي حتى هذه السن قد أتقن فهم العلاقات البشرية بکل تفاصيلها وأدرک کلياً قوانين الکفاح من أجل البقاء ودرس بشکل ممتاز الصحراء بعاداتها ودسائسها وسياستها مع بقائه في کل ما عدا ذلک ابتداء من القراءة والکتابة جاهلاً جهلاً مطلقاً.

وبمجرد أن ينهي الغلام البدوي مدرسة الحياة هذه ويتقن أساليب الحصول على رزقه اليومي ويتعلم مختلف أساليب الدفاع عن الذات يعتبر

١٩٧

الأب أن التزاماته تجاه ابنه قد انتهت فيحمله على أن ينفصل عنه بعد أن يعطيه جملاً أو حصاناً ليبدأ حياته بهما وليصبحا منذ تلک اللحظة المرافقين الأمينين لعضو القبيلة الجديد الکامل الحقوق في بنائه لحياته المستقلة اللاحقة.

ولا يعيش من أطفال البدو کما سبق أن ذکرنا ألا أقواهم وأکثرهم تحملاً وهذا هو السبب في أن البدو يتميزون بشکل عام بالصحة الجيدة ولا يمرضون إلا نادراً ولکنهم عندما يصابون بالمرض جدياً فإنهم لا يتمانلون للشفاء لأنهم في الصحراء لا يعرفون أساليب الطب المعقدة لذا فإنهم يترکون الجسم يصارع المرض وحده. إن کل ما تعرفه بلاد العرب بهذا الشان يقتصر على تحضير عقاقير بسيطة من بعض الأعشاب لا يمکن أن يکون لها أي تأثير على سير المرض أما الجراحة اليدوية فإنها ليست أفضل من علاج الأمراض الباطنية فهي لا تسمح بإجراء أية عمليات جراحية فيما عدا إخراج الدم بواسطة سکين اعتيادية (١) أو وخز أعضاء الجسم المصابة بالروماتيزم أو عرق النسا بإبرة محمية أو إحراق الجروح التي يسببها السلاح الأبيض والناري بدهن مغلي.

ونادراً ما يتمتع المريض بالهدوء الذي يحتاجه ذلک أنه يتحتم عليه بالرغم من إرادته أن يتبع قبيلته في کل تحرکاتها حيث لا أحد يفکر براحته، في تلک الحالة. فبعد أن يضعه أهله على الجمل لا يعودون يهتمون إلا بالحرص على أن لا يقع من جمله المنهک أثناء السير. وهکذا يستمر هيکل المريض نصف الميت بالتأرجح على «سفينة الصحراء» تغذيه الريح والغبار والقيظ إلى أن يصل إلى المحل المنشود.

______________________

(١) يشير المؤلف هنا إلى الحجامة ـ المترجم.

١٩٨

ويأخذ الجدري والطاعون الذي ينتشر أحياناً في الصحراء أکبر عدد من الضحايا. أما الأمراض الجلدية کالدمل والقرح المختلفة فإنها ظاهرة اعتيادية تسببها القذارة التي تشيع بين البدو الذين لا يغسلون ملابسهم وإنما يستمرون على لبسها إلى أن تتهرأ، وذلک بسبب ندرة المياة وقيمتها العالية. وأمراض العيون واسعة الانتشار في الصحراء وفي المدن على السواء فهناک في البصرة مثلاً ما بين عشرين إلى ثلاثين أعور أو أعمي أو يشوب عينيه نقص ما من بين کل مائة شخص. ويجدر بنا أن نضيف إلى الأمراض المذکورة أمراضاً أخرى کالحمى ومرض الاستسقاء وتکون الحصا في الکبد أو الکلي أو المثانة وکذلک بفضل ما يتمتع به البدو من عفة کبيرة بالمقارنة مع أبناء جلدتهم في المدن کما أن ظروف حياة التنقل نفسها لا تساعد على الفساد لأنها تحتم على النساء أن يکن على الدوام على مرأى من الجميع وان يعشن في محيط قبيلتهن الضيق حيث يصعب إخفاه أي شيء عن ساکني الخيمة الآخرين.

لکن ظروف حياة التنقل تحتم أن تتمتع البدويات بحرية کبيرة بالمقارنة مع نساء المدن، ذلک أن أنعدام البيوت الدائمة يؤدي إلى انعدام الحياة المغلقة حيث يکون من المفهوم تماماً أن يتعذر في ظل العيش تحت الخيام إفراد جزء خاص للنساء منفصل تمام الانفصال کما تصعب اکثر من مراعاة الصرامة المطلقة في حجز الحريم في ظل حياة التنقل الدائم ومع وجود المناوشات الحربية بين القبائل المعتادية.

وبسبب هذه الظروف الاستثنائية يحتل حريم البدوي عادة نصف الخيمة الواقع إلى يمين المدخل ولا يفصله عن الجزء الخاص بالرجال إلا ستارة خفيفة من وبر الابل.

هذا ولا يمکن للبدوي أن يخفي زوجته عن أعين رجال قبيلته

١٩٩

بسبب من أن النساء يضطلعن بجميع الاهتمامات المادية ويقمن بأصعب وأثقل الأعمال البيتية فهن ينصبن الخيام ويرفعنها ويجلبن المياه ويجمعن الشوک الجاف للوقود ويجلبن الماشية ويسقنها إلى المرعى والمورد ويستخرجن الزبدة ويطهين الطعام ويغزلن، وباختصار ترتکز عليهن بشکل کلي حياة العائلة بأجمعها. وفي ظل مثل هذه الحياة الحافلة بالعمل والنشاط لا يمکن إطلاقاً تحويل البدويات کما جرى بالنسبة للعربيات من سکان المدن إلى مخلوقات عاجزة لا تکاد تستطيع تحريک أرجلها تحت عدد لا يحصى من الحجب والأغطية.

إن ملابس البدويات ملائمة تماماً لنمط حياتهن وهي تتألف من قمصان عريضة واسعة الأکمام وطويلة تصل حتى أخمص القدمين تلبس النساء فوقها «عبا» کتلک التي يلبسها الرجال. أما الأرجل فتبقى حافية في حين يغطى الرأس بمنديل من القطن أو الحرير من ألوان مختلفة بما فيها الأحمر والأسود علماً بأن الصارخة تفضل بالنسبة للفتيات والمعتمة بالنسبة للعجائز. والبدويات شأنهن في ذلک شأن النساء الشرقيات کافة يحببن جداً. أن يتزين بالأشياء التافهة کالأسورة والحجول التي تکون إما زجاجية بسيطة أو فضية وذهبية تحيط بأيديهن وأرجلهن في حين تتدلى على جباههن شنوف من العملة أو قطع من القصدير إذا کن فقيرات، وتحيط العقود بأعناقهن. ولا تفترق النساء في الصحراء عن هذه الحلي کلها أبداً وهن يتنافسن مع صديقاتهن وقريباتهن بعدد هذه الحلي ونوعيتها، ولهذا يعتبر کل بدوي أن من واجبه أن يشتري لزوجته أکثر ما يمکن من الحلي حيث يجد في ذلک إرضاءً لغروره لأنه هو نفسه قليل الاهتمام بمظهره ولباسه.

ونساء القبائل المتنقلة في شبه جزيرة العرب أقل من الرجال من

٢٠٠