ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الاقتراض منهم. وكان بالإمكان التخلص من كل هذه المساؤى لو أنشئ بنك للدولة يلزم بأن يفتح لصالح الحكومة حساباً جارياً دائماً يؤمن لها المبالغ الضرورية لتغطية المصاريف المعتادة طيلة الموسم الذي تتوقف فيه إيرادات الخزينة.

يضاف إلى كل هذه الإعتبارات الاخفاق الذي أصاب رجال المال العثمانيين عندما زاروا في ١٨٦٠ العاصمة الفرنسية لعقد قرض خارجي، الأمر الذي أقنع الحكومة نهائياً بضرورة أن يكون لها في محادثاتها مع الرأسماليين الأوروبيين وسيط يتمتع بثقة وتقدير أوروبا. وطبيعي أن بنكاً عثمانياً للدولة كان بإمكانه أن يلعب هذا الدور بنجاح.

وبعد أن قررت الحكومة تحويل (١) (Ottoman) الانجليزي إلى بنك دولة رأت بأن من الضروري أن تجذب إلى هذه القضية الرأسماليين الفرنسيين بحيث تكون حصتهم مساوية لحصة الانجليز، ذلك أن الدولة العثمانية كانت قد استفادت في قروضها السابقة من خدمات لندن وباريس على السواء. بيد أن نسبة مشاركة الرأسماليين الفرنسيين في البنك الأمبراطوري العثماني عند تأسيسه كانت بمقدار ٨:٥ بالمقارنة مع نسبة مشاركة الانجليز. ولم يتساو مساهمو باريس مع زملائهم مساهمي لندن في الحصص إلا في ١٨٦٥ عندما زيد الرأسمال الأساس للبنك المذكور بدرجة ملحوظة.

وفي ١٨٧٥ إنضم إلى هذه المجموعة الأساسية من الرأسماليين الانجلو ـ فرنسيين، النمساويون أيضاً وذلك بفضل اندماج ما يسمى بـ ( Banque Anstro- Ottomane) مع البنك الامبراطوري. وكانت مؤسستا

______________________

(١) البنك العثماني ـ المترجم.

١٤١

الاعتماد (Creditanstalt) و (Bankverein) في فيّنا قد انشأتا ذلك البنك النمساوي في ١٨٧١ أي عندما وصلت المشاريع النمساوية ذروتها في الدولة العثمانية بعد الحرب الفرنسية ـ البروسية غير أن هذا البنك تحتم عليه أن يتخلى عن وجوده المستقل بسبب الأزمة الصناعية الحادة التي أصابت النمسا في ١٨٣٧.

وقد زاد رأسمال البنك الامبراطوري بعد الأندماج زيادة كبيرة بحيث بلغ ٢٥٠ مليون فرنك كما مددت الامتياز من ثلاثين سنة كما كانت في البداية إلى خمسين سنة ثم مددت مرة أخرى لذا فإن عقد البنك مع الحكومة العثمانية ليس من المقدر أن ينتهي إلا في عام ١٩٢٥ هذا إذا لم يمدد مرة أخرى.

وفي الوقت نفسه توسعت بشكل ملحوظ حقوق البنك الامبراطوري نفسها بحيث تحول من مجرد مؤسسة أقراض فأصبح الخزينة الحكومية للامبراطورية العثمانية. لقد ارتأت الحكومة أن تحول إليه جميع إيراداتها وفي الوقت نفسه ألقت على عاتقه مسؤولية دفع جميع ما تنفقه من أموال في أوجه الصرف المختلفة ضمن الكشوفات وإيرادات الميزانية. وقد زيد في مقابل ذلك الحساب الجاري الذي فتحه البنك للحكومة من ٥و٢ مليون فرنك إلى ٥و٦٧ مليون فرنك.

وقد تأكدت مرة أخرى امتيازات البنك السابقة وهي حقه في احتكار إصدار النقود الورقية وإعفاء البنك وفروعه من أي نوع من أنواع الضرائب وحقه في أن تخصص له مجاناً الأراضي اللازمة لإقامة ما يلزمة من منشآت. وفضلاً عن ذلك سمح للبنك بأن يفتح له فروعاً داخل الامبراطورية وخارجها على حد سواء حسب رغبته هو مع الاستمرار في اعتباره الوسيط الرسمي الوحيد في عقد وإطفاء القروض العثمانية

١٤٢

الخارجية والداخلية. وقد منح البنك في مقابل قيامه بالتزامات خزينة الدولة عمولة مقدارها ١٥% من جميع المبالغ الواردة والمصروفة. هذا وقد استحدثت في البنك وظيفة خاصة باسم المراقب الحكومي وذلك لمراقبة صحة الحسابات.

وتتألف إدارة البنك الامبراطوري في اسطنبول من مدير وإثنين من المساعدين ومجلس من ثلاثة أعضاء تعينهم لجان خاصة من مساهمي البنك العشرين. وهناك لجنة خاصة تتألف من أربعة من الماليين الانجليز وأربعة من الفرنسيين مهمتها تنفيذ قرارات الادارة. وكان للبنك الامبراطوري في الدولة العثمانية حتى بداية القرن العشرين ستة وعشرون فرعاً إضافة إلى مركزه في اسطنبول. أما في الخارج فإن له فرعاً في كل من باريس ولندن إضافة إلى فروعه في كل من بورسعيد والاسكندرية والقاهرة.

وقد أفلح البنك الامبراطوري منذ افتتاحه في ١٨٦٣ في أن يصبح ضرورياً للحكومة العثمانية إلى درجة بحيث أن أياً من مشاريع هذه الحكومة لم يكن من الممكن أن يتم دون مشاركته. وقد عقد الجزء الأغلب من قروض الدولة العثمانية الخارجية اعتباراً من ١٨٦٣ بمساعدة منه. ولم يكن البنك يرفض إنجاد الحكومة في جميع الأوضاع الحرجة التي كانت تتعرض لها كما حدث مثلاً في ١٨٧٧ في ذروة الحرب مع روسيا عندما لم يتسن للحكومة الحصول على النقود في الخارج حيث بادر البنك فأقرض الباب العالي المبالغ اللازمة لمواصلة الحرب. كما أن إدارة ( Dette Publique) التي تعلب حالياً كما سنرى دوراً مهما في الاقتصاد الحكومى العثماني تدين بقيامها لمبادرة البنك نفسه.

وإلى جانب مشاريع الامبراطورية العثمانية ذات الصفة المالية البحتة

١٤٣

تلك المشاريع التي لم يكن بمقدورها الاستغناء عن مساعدة البنك المذكور فإن هذا الأخير شارك بنشاط حتى في قضية بناء السكك الحديد في الدولة العثمانية فقد أنهى في ١٨٨٨ بمساعدة (Comptoir d , Esvompte) خطين فرعيين مخصصين لربط السكك الحديد التركية، مع البلغارية والصربية عن طريق بيلوف وأسكوب. وفي ١٨٩٢ هب هذا البنك لمساعدة المصرفي الفرنسي (Rene Bandony) الذي كان قد حصل على امتياز لبناء سكة حديد « سالونيك ـ اسطنبول ». وأخيراً كان للبنك في بداية القرن العشرين يد بشكل غير مباشر في سكة حديد بغداد حيث أخذ على عاتقه مهمة تمثيل مساهمة شركة سكك الحديد سميرنا (١) ـ كسبة الفرنسيين في المحادثات التي جرت مع شركة سكك حديد الأنضول تلك المحادثات التي انتهت في أيار ١٨٩٨ بالاتفاق على توحيد هاتين المؤسستين. وعلى أساس هذا الاتفاق جرى في ١٩٠١ في أفيون قره حصار اتصال قضبان خطوط السكك الحديد المذكورة الأمر الذي جعل من الممكن اعتبار الطريق الفرنسي مقدمة لسكة حديد بغداد نظراً للأفضليات الأكيدة التي تتمتع بها سميرنا من وجهة نظر التجارة الأوروبية بالمقارنة مع حيدر باشا نقطة الانطلاق السابقة لسكة حديد بغداد (٢).

وإذا أضفنا إلى كل ما تقدم أن البنك الامبراطوري عمد ابتداء من ١٨٩١ إلى إنشاء صناديق للتوفير في فروعه كافة داخل الدولة العثمانية نكون قد صورنا بدرجة كافية النشاط المتعدد الجوانب لهذه المؤسسة المصرفية.

______________________

(١) سميرنا هو الاسم القديم لمدينة أزمير التركية ـ المترجم.

(٢) A. Cheradame, Le Chemin de Fer de Bagdad Paris. ١٩٠٣ PP. ٤٤. ٤٨.

١٤٤

كان البنك الامبراطوري العثماني قد افتتح فروعه في العراق الجنوبي منذ وقت قريب نسبياً وكان ذلك في آب ١٨٩٣ بالنسبة لبغداد وفي بداية ١٨٩٤ بالنسبة للبصرة، فحل بذلك محل بنك فارس الشاهنشاهي هناك (١). لقد كان البنك العثماني ينوي في البداية أن ينقل منافسته للبنك الشاهنشاهي إلى داخل فارس نفسها، لكن هذا الأخير تناول فأغلق فروعه في العراق العربي وألزم البنك العثماني بالتخلي عن مد نشاطه إلى فارس. ومنذ ذلك الوقت يقوم البنك العثماني بكل عملياته مع فارس من خلال البنك الشاهنشاهي كما يقوم البنك الشاهنشاهي بعملياته في العراق العربي من خلال البنك العثماني وفي كلا الحالتين لا تتعدى العمولة المتفق عليها ٨/١%.

كان فرع البنك العثماني في البصرة كما هي الحال بالنسبة لفرعه في بغداد يدار من قبل شخص اوروبي لكنه مات في سنة ١٨٩٤ نفسها ولم يكن هناك، بسبب المناخ القاتل، من يرغب في اشغال هذا المنصب فاضطر البنك إلى إغلاق فرعه وأبقى في البصرة مراسلاً بسيطاً من الأهالي. وأعيد فتح فرع البصرة في ١٩٠٤ فسدت بذلك الحاجة الملحة التي كان التجار والبيوت التجارية الملحية يستشعرونها لمؤسسة مصرفية.

لقد انعكس ظهور البنك العثماني في العراق الجنوبي بشكل حسن على التجارة بالدرجة الأولى حيث قلل من شهية المصرفيين المحليين أي الصرافين الذين استغلوا فرصة عدم وجود منافسة أجنبية فاتفقوا فيما بينهم وأخذوا يفرضون فائدة عالية جداً على الأشخاص الذين يلجأون إلى مساعدتهم المالية. ويمكن أن نأخذ مثلاً على ذلك كبار المزارعين

______________________

(١) كان فرع البنك الشاهنشاهي في البصرة قد افتتح في ١٨٩١.

١٤٥

البصريين الذين كانوا بسبب حياتهم الباذخة يحسون بالحاجة إلى النقود في أغلب الأحيان فيقترضون من الصرّافين بفائدة لا تقل عن ٢٤% في السنة. لقد أناخت الفوائد العالية التي يأخذها الصرافون بثقلها على مصدري الخامات المحليين بشكل خاص. فهؤلاء لا يملكون رأسمال متداولاً كبيراً لذا فإنهم يقومون بكل تجارتهم بالدين فيكون والحالة هذه انخفاض نسبة الفائدة على القروض التي ياخذونها من الصرافيين بكفالة وثائق شحن البضائع التي أرسلوها إلى الخارج قضية حيوية بالنسبة لهم. إن تلك القروض ضرورية لهم لكي يستطيعوا أن يفوا بديونهم لمجهزيهم. وقد أبدى البنك العثماني في هذا المجال خدمة كبيرة لرجال الأعمال المحليين هؤلاء.

ويمكننا أن نكون لأنفسنا تصوراً معيناً حول حجم النشاط الذي يمارسه البنك الامبراطوري في العراق الجنوبي، باعتباره خزينة للدولة العثمانية يقوم بعمليات الايراد والصرف لجميع واردات الخزينة في هذه المنطقة إذا علمنا بأنه يرد إلى الخزينة في كل سنة ما يقرب من ٤،٣٠٠،٠٠٠ روبل بالمعدل في ولاية بغداد وما يقرب من ١،٦٣٠،٠٠٠ روبل في ولاية البصرة وبأن البنك يدفع مثل هذا المبلغ في مجموعه العام لتغطية مصاريف المؤسسات الحكومية في كلا الولايتين المذكورتين (١).

أما المؤسسة الأوروبية الثانية من حيث الأهمية بعد هذا البنك في الدولة العثمانية فهي: “Administration de la Dette Publique” التي تتألف

______________________

(١) لقد استخلصنا أرقام الايرادات والمصروفات هذه على أساس المعطيات الواردة في السالنامات أي الحوليات العثمانية الرسمية الخاصة بولايتي بغداد والبصرة في سنوات مختلفة.

١٤٦

من ممثلين عن سديكاتات دائني الامبراطورية العثمانية من مختلف الجنسيات والتي تتصرف بربع إيرادات الحكومة العثمانية. وينظر رجال المال الأتراك إلى هذه المؤسسة على أنها وصاية دولية مقنعة على ماليات دولتهم ولهذا فإنها تستحق لهذا السبب أن نتعرف عليها بشكل مفصل.

لقد قامت هذه الوصاية نتيجة للافلاس الذي أصاب الدولة العثمانية بسبب عدم استعدادها للقروض الخارجية وهو عدم استعداد حتمته نواقص التنظيم المالي السابق في الامبراطورية العثمانية. فالدولة التي لا يوجد فيها كشف رسمي للإيرادات والمصروفات وتنعدم فيها بالتالي السيطرة على أوجه الصرف والتي تكون كل وزارة فيها غير مقيدة باعتمادات معينة وتقوم بالصرف دون اعتبار للحالة المالية ولواقع ورود المدخولات تكون محكوماً عليها بالعجز الدائم. لم تكن الدولة تستطيع أن توازن بين الدخل والمصروف وقد ارتبكت حساباتها النقدية نهائياً بعد أن أثقلت ميزانيتها بالقروض الخارجية الكثيرة العدد (١).

لقد لجأت الدولة العثمانية إلى مساعدة أوروبا المالية لأول مرة في ١٨٥٤ بسبب حرب القرم، حيث عمدت فرنسا وبدرجة أكبر انجلترا اللتان كانتا قد عقدتا حلفاً هجومياً ودفاعياً مع السلطان إلى مساعدته على عقد أول قرض بمبلغ ٥،٠٠٠،٠٠٠ جنيه إستراليني مضموناً بما كان على مصر أن تدفعه للدولة العثمانية.

غير أن النقود المقترضة كانت بعيدة عن أن تكفي لتغطية مصاريف الحرب لذا وفرت الدولتان الحليفتان نفساهما للدولة العثمانية إمكانية عقد قرض جديد في ١٨٥٥ بمبلغ مماثل وذلك بأن تعهدتا بدفع النسبة المئوية

______________________

(١) A. du velay: op. cit. p. ١٣٤ FF.

١٤٧

على أن يكون ضمان القرض الجديد مدخولات كمارك سميرنا وسوريا التي استعيض عنها بعد أن استولت بريطانيا على قبرص بمدخولات هذه الأخيرة.

ولم يساعد القرض الجديد الخزينة العثمانية على التخلص من المصاعب التي كانت تعانيها لأن المصاريف الهائلة التي تطلبتها الحرب مع روسيا أضرت بمالية البلد، تلك المالية التي كانت مرتبكة أصلاً، كما أن الاسراف في إصدار النقود الورقية خرق هو الآخر أي توازن في الميزانية. في مثل هذا الظرف الحرج رأى كبار الماليين العثمانيين آنذاك أن إنقاذ الحالة يكمن في عقد قرض خارجي جديد بمبلغ ٥،٠٠٠،٠٠٠ جنيه إسترليني وقد عقد القرض بالفعل في ١٨٥٨. لقد عقدت الصفقة هذه المرة دون مشاركة من حكومتي بريطانيا وفرنسا وإنما اسندها فقط البيت المصرفي الانجليزي (Dent Palmer and C) الذي أمن لنفسه كضمان للقرض إيرادات كمارك اسطنبول التي اشترط العقد أن تجبى بإشراف مباشر من يفوضهم المكتتبون في القرض.

ومنذ ذلك الوقت أصبح إعطاء هذا المرفق أو ذاك من مرافق إيرادات الدولة كضمان للقروض التي تعقدها الدولة العثمانية في الخارج ظاهرة معتادة. وكانت الحكومة العثمانية بموافقتها على منح مثل هذه الضمانات لدائنيها الأوروبيين، كما لو أنها تدعو بنفسها هؤلاء لأن يعتبروا أن أي وسيلة لأقراض الدولة العثمانية المال ليست مضمونة بما فيه الكفاية.

ولقد اعتاد رجال المال العثمانيين بلجوئهم إلى القروض الخارجية عند أول فرصة تسنح لذلك، على هذه الوسيلة السهلة لتغطية العجز المالي وأصبحوا يلجأون إلى الاقتراض من أوروبا حتى في عمليات بسيطة مثل

١٤٨

دفع فوائد القروض السابقة.

وكانت الخزينة التركية في حالة فشلها في الحصول على الأموال في الخارج تلجأ إلى مصرفي گلطة فتستدين منهم ما تحتاجه من نقود بشروط مجحفة جداً بالنسبة لها.

كان وزراء المالية في الامبراطورية العثمانية في بحثهم عن النقود يسعون إلى البحث عن مصادر جديدة باستمرار للقروض التي يحتاجونها. فلقد استغلوا مثلاً حقيقة أن الدولة العثمانية التي بدأت تسير في طريق الاصلاحات أصبحت تجذب مختلف رجال الأعمال الأوروبيين فأخذوا يمنحونهم امتيازات لبناء سكك حديدية أو موانئ أو ما أشبه بشرط أن يعقد معهم من يأخذ الأمتياز مسبقاً قرضاً كبيراً كان أو صغيراً ودخل رجال الأعمال من مختلف الأمم الذين جذبهم إلى الدولة العثمانية التعطش للربح، بدورهم، في منافسة حامية فيما بينهم فكانوا يوافقون عن طيب خاطر على أقراض الخزينة العثمانية الأموال لمجرد أن يختطفوا من منافسيهم إمتيازاً ما يتوقعون الريح من وارئه.

وكان أصحاب الامتياز من مختلف الأمم يتفوقون في هذا المجال تبعاً للوضع الذي تحتله في اللحظة المعنية هذه الدولة الأوروبية أو تلك عند الباب العالي.

وهكذا ففي العقد الأول الذي تلا حرب القرم كان الانجليز في مقدمة رجال الأعمال هؤلاء فهم الذين ساندوا الدولة العثمانية في إصدارها لأولى قروضها وهم الذين أسسوا أولى البنوك الأوروبية في اسطنبول وهم الذين حصلوا على أولى الامتيازات لبناء السكك الحديد. ومع موت اللورد بالمرستون في ١٨٥٦ ضعف نفوذ بريطانيا وانتقلت الأولوية إلى فرنسا التي احتفظت بدورها السائد في هذا المجال حتى الحرب الفرنسية ـ البروسية

١٤٩

في ١٨٧٠ ـ ١٨٧١ عندها ظهر على المسرح الراسماليون النمساويون والألمان ومعهم عدد كامل من المشاريع المصرفية ومشاريع السكك الحديدية (١).

تميز تدفق رؤوس الأموال الأجنبية الجديدة بازدهار المشاريع والامتيازات من مختلف الأنواع وأدى إلى أن تفتتح في عاصمة الامبراطورية العثمانية بنوك كثيرة العدد أهلية وأجنبية. وقد بدا كما لو أنه قد حان وقت انبعاث مالية الدولة العثمانية وتجارتها وصناعتها. غير أن الواقع كان غير ذلك فقد ظل كل شئ على حاله فالحكومة ظلت كالسابق تعاني الحاجة إلى النقود وتقترض المبالغ التي تحتاجها بفوائد عالية في الوقت الذي كانت فيه مؤسسات الأقراض المختلفة تعطي لمساهميها فوائد لم يسبق لها مثيل علماً بأن أرباحها لم تكن تأتي من المشاريع التجارية أو الصناعية وإنما وبشكل كلي من القروض التي كانت تمد بها الخزينة العثمانية بشكل مكثف.

ولم يعد لدى الحكومة في نهاية المطاف من مرافق إيرادات الدولة ما هو حر لضمان القروض الجديدة، وذلك نتيجة لنظام الضمان المعمول به. وبسبب من توزيع تلك المرافق على المقرضين القدماء تحتم الدخول مع هؤلاء في اتفاقية تقضي باقتطاع جزء معين من الايرادات التي سبق التنازل عنها لهم لمصلحة المقرضين الجدد.

وطبيعي أن فرص الدولة العثمانية للاقتراض من أوروبا كانت في ظل مثل هذه الأوضاع تتقلص باستمرار، خصوصاً بعد أن أخذت الصحافة الأجنبية التي كانت منذ نهاية الستينيات تقرع ناقوس الخطر مشيرة إلى

______________________

(١) A. du velay. Op. cit. p. ٢٩٣ FF.

١٥٠

وضع مالية الدولة العثمانية الميؤوس منه، تشن حملة جديدة وتتنبأ لجميع دائني الباب العالي بحتمية الافلاس.

ولم تستطع حتى لجنة خاصة تشكلت في اسطنبول، قبل أن تحل الأزمة، من الماليين الفرنسيين والانجليز والنمساويين أن تقضي على المصاعب المالية التي وقعت فيها الحكومة العثمانية نتيجة لشغفها المفرط بالقروض الخارجية. لقد كانت اللجنة ترمي إلى إعادة تنظيم مالية الدولة العثمانية على أسس أوروبية، غير أنها اصطدمت منذ خطواتها الأولى بسوء ظن ظاهر من جانب الأدارات التركية المختلفة. الأمر الذي اضطرها لان تغلق أبوابها دون أن تتمكن من عمل شيء باستثناء توصلها لوضع الخطوط العامة لأول ميزانية حكومية عثمانية، غير أن أياً من الوزارات العثمانية لم تر ضرورة العمل بهذه الميزانية (١).

وهكذا كانت اللحظة الحرجة بالنسبة للدولة العثمانية تقترب بخطى حثيثة. ففي بداية ١٨٧٤ احتج اصحاب السندات المالية الفرنسيون أمام حكومتهم بسبب امتناع الباب العالي عن دفع القسيمة الدورية الأمر الذي أدى إلى أن يفرض حجز موقت على جميع مبالغ الحكومة العثمانية المودعة في فرع البنك العثماني في باريس.

لقد كانت هذه الحادثة نذيراً للزوبعة التي هبت في السنة التالية عندما تبين أن دخل الحكومة الذي كان مقدراً له أن يصل في السنة المالية ١٨٧٤ ـ ١٨٧٥ إلى ٥٧٠،٥ مليون فرنك لم يتجاوز في واقع الأمر ٣٨٠ مليون فرنك، في حين كان يتوجب أن يدفع كأقساط للقروض الخارجية فقط ما لا يقل عن ٣٠٠ مليون فرنك ذلك أن دين الدولة الخارجي كان قد بلغ

______________________

(١) Ch. Morawitz. Op. cit/ p/٢٦ FF.

١٥١

حتى ذلك الوقت ٤ مليارات و ٨١١ مليون فرنك إضافة إلى ١٨٥ مليون أخرى كانت الحكومة قد اقترضتها من البنك العثماني ومن المصرفين المحليين في اسطنبول (١).

ولم تنجح محاولات الباب العالي لحل المشكلة باللجوء إلى قرض خارجي جديد لذا وجدت الحكومة نفسها مضطرة لأن تعلن إفلاسها في بلاغ رسمي صدر في ٦ تشرين الاول ١٨٧٥. فبحجة ضرورة إعادة التوازن إلى الميزانية أعلن الباب العالي على رؤوس الأشهاد قراره القاضي بأنه سيعمد طيلة السنوات الخمس القادمة إلى دفع نصف ما كان يدفعه سابقاً كفوائد وأقساط للقروض و وعد بأن يطرح في المستقبل القريب مقابل النصف الذي لم يدفع سندات بفائدة مقدارها ٥% (٢).

أن الانتفاضة التي اشتعلت في البوسنة والهرسك في تلك السنة ذاتها والحرب التي أعقبت ذلك مع صربيا والجبل الأسود أعاقت الدولة العثمانية عن أن تدفع لدائنيها حتى النصف الذي وعدت به، وكانت النتيجة أن الدائنين الأجانب لم يتسلموا اعتباراً من نيسان ١٨٧٦ ولا كبيكاً واحداً في مقابل الأموال التي كانوا قد اقرضوها للحكومة العثمانية.

في هذا الوقت بالذات اعلنت روسيا على الدولة العثمانية الحرب التي انتهت في غير صالح هذه الأخيرة وأضافت إلى ديونها الكثيرة السابقة غرامة حربية مقدارها ٣٠٠ مليون روبل. وقد أثار ذلك لدى دائني الباب العالي الوطنيين الأجانب مخاوف غاية في الجدية حيث خشوا أن توجه الحكومة جميع مصادرها المالية لدفع هذه الغرامة متخلية عن ديونها

______________________

(١) A. du Velay. Op. cit. p. ٣٢٤ FF. Ch. Morawitz, op. cit p. ٥١ FF.

(٢) A. du Velay: op. cit. p. ٣١٦ FF.

١٥٢

السابقة. وهكذا نسي الدائنون الانجليز والفرنسيون تنافسهم الدائم وأسرعوا بالإتحاد في سنديكات واحد ووجهوا إلى ممثلي الدول الأوروبية المجتمعين في مؤتمر برلين مذكرة طلبوا فيها حماية مصالح حملة السندات العثمانية الأجانب. وحذا مصرفيو اسطنبول حذوهم فأرسلوا إلى برلين مندوبين عنهم للغرض نفسه.

وقد لاقت الالتماسات المشار إليها اهتماماً وعطفاً من جانب المؤتمرين فأعلن الكونت كورتي ممثل ايطاليا بتخويل من زملائه بأن «الدول الممثلة في المؤتمر ترى بأن من الضروري أن تنصح الباب العالي بأن يؤلف في اسطنبول لجنة مالية من المختصين الذين تعينهم الدول المعينة تناط بها مهمة النظر في مطالب دائني الدولة العثمانية والبحث عن أكثر الاجراءات فعالية لتطمين هذه المطالب بما يتفق وحالة مالية الدولة العثمانية، وقد أيد ممثلو الدولة كافة اقتراح المندوب الايطالى هذا بما في ذلك ممثل روسيا لكن ممثل الدولة العثمانية اعتبر تأليف لجنة دولية أمراً مهينا لكرامة الامبراطورية فأسرع وقد باسم حكومته وعداً مهيباً بأن الباب العالي لن يتوانى عن الاتفاق مباشرة مع دائنيه وسيبذل جهده لإرضائهم بالقدر الذي تسمح به حالته المالية.

ومنذ ذلك الوقت أخذ شبح السيطرة الدولية يطارد بإلحاح الماليين العثمانيين الذين كانوا يجهدون بالبحث عن وسائل لإنقاذ الدولة العثمانية من مهانة كهذه.

وانبرى البنك الامبراطوري العثماني لسماعدتهم فتزعم مصرفيي گلطه وقدم للحكومة مشروعاً بدا كما لو أنه يدرأ الخطر المذكور (١).

______________________

(١) A. du Velay. Op. cit. p ٣٩٧ FF: Morawitz. Op. cit. p. ٥٥ FF.

١٥٣

وهكذا قضت الاتفاقية التي وقعت في ١٠ تشرين الثاني ١٨٧٩ بأن تؤجر الحكومة لهذه البيوت المصرفية لمدة عشر سنوات، احتكاري التبغ والملح ورسوم الدمغة وإيرادات الضرائب المفروضة على المشروبات الروحية وصيد الأسماك في مياه اسطنبول وضريبة العشر المفروضة على الحرير في ادرنه وبروصة وسامسون.

وقد خصص مبلغ ١،١٠٠،٠٠٠ ليرة عثمانية أي ٩،٣٥٠،٠٠٠ روبل من هذه المدخولات لإطفاء الدين المستحق للبنك نفسه ولمصرفي كلطة، أما الباقي فكان يجب أن يدفع للدائنين الأجانب. وقد سارع المتعهدون بالمباشرة في إدارة الايرادات التي تنازلت لهم الدولة العثمانية عنها وشكلوا لهذا الغرض :

Administration des six Contributions indirectes” (١).

الذي كان الشكل الأولى لـ (Dette Publique) الذي قام فيما بعد.

غير أن آمال الحكومة العثمانية في أن تقضي التدابير المذكورة على كل سوء تفاهم كانت سابقة لأوانها. فقد اعتبر دائنو الامبراطورية العثمانية الأجانب أنها قد تخطتهم، فتوجهوا إلى الحكومات المعنية يطلبون حماية مصالحهم الأمر الذي أدى إلى عدة اتصالات رسمية قام بها مع الباب العالي سفيرا بريطانيا وفرنسا. وقد رأت الحكومة العثمانية في هذه الخطوة تهديداً جديداً بالتدخل الدولي في شؤون الدولة المالية فأسرعت بإصدار مذكرة خاصة في ٣ تشرين الأول ١٨٨٠ دعت فيها ممثلين عن دائنيها الأجانب للمجيئ إلى اسطنبول لوضع اتفاقية نهائية ووعدت بأن تخصص لهم بعض الموارد الأخرى عددتها في المذكرة إضافة إلى الفائض من

______________________

(١) إدارة الاسهامات الستة غير المباشرة ـ المترجم.

١٥٤

الايرادات التي كان قد جرى التنازل عنها لصالح مصرفيي گلطة المحليين.

وانصاع الدائنون الأجانب لإلحاح البنك الامبراطوري العثماني فإتحدوا في سنديكاتات شكلوها على أساس قومي وأسرعوا بالاستجابة لهذه الدعوة، وهكذا افتتحت لجنة مالية مؤلفة من ممثلين عن سنديكاتات فرنسا وبريطانيا والنسما ـ المجر وايطاليا ومن خسمة مندوبين عثمانيين جلساتها في ايلول ١٨٨١ في عاصمة الامبراطورية العثمانية. وقد توصلت اللجنة إلى عقد اتفاقية مع الباب العالي أكدها مرسوم ٢٨ محرم ١٢٩٩ هـ (٨ كانون الأول ١٨٨١م)، نصت على تأليف إدارة (Dette Publique Ottomane) على أن يقتصر نشاط وحقوق هذه المؤسسة المالية الدولية الدائمة على الأراضي العثمانية فقط (١).

وقد جابهت اللجنة أثناء وضعها لبنود الإتفاقية أكبر المصاعب من جانب «إدارة الضرائب الست غير المباشرة» التي سبق ذكرها ذلك أن مصرفي گلطة رفضوا أن يتنازلوا عن الإمتيازات التي منحتها لهم الحكومة وأصروا على ما أعترف لهم به من حق بالتقدم على غيرهم من الدائنين. وبعد محادثات طويلة جرى الإتفاق على أن يأخذ البنك العثماني على عاتقه تطمين جميع مطالب الأشخاص الموقعين على اتفاقية ١٨٧٩ من الحكومة على أن توضع تحت تصرف البنك لتغطية هذه الديون التي اعتبرت ديوناً ممتازة ٥٩٠،٠٠٠ ليرة عثمانية ( ٥،٠٥١،٠٠٠ روبل) فقط وليس ١،١٠٠،٠٠٠ ليرة (٩،٣٥٠،٠٠٠ روبل) كما كان مقرراً في البداية.

وقد حصل البنك إضافة إلى ذلك على أن يكون من حقه أن يمثله

______________________

(١) A. du Velay. Op. cit. p. ٤٢١ FF.

١٥٥

في مجلس (Dette Publique) مندوب واحد بهيئة مفوض من قبل حملة السندات المالية العثمانية الممتازة. وقد أقر الباب العالي من جانبه بهذه الاتفاقية وألغى اتفاقه مع البنك ومصرفيي گلطة وبذلك انتقلت «إدارة الضرائب الستة غير المباشرة» إلى يد: “Administration de la Dette Publique Ottomane” وبعد أن انتهت اللجنة من هذه القضية الصعبة انهمكت بتوزيع قروض الدولة العثمانية الداخلية والخارجية على أساس القوة التي توفرها الضمانات التي أعطيت لكل منها. ونتيجة لذلك استثنيت قروض ١٨٥٤ و ١٨٧١ من دائرة نشاط إدارة (Dette publique) باعتبار أنها ضمنت بالإيرادات المتأتية من مصر، وكذلك فرض ١٨٥٥ الذي ضمنته بريطانيا وفرنسا إلى (Dette Flottmane) (١) والغرامة الحربية التي ينبغي دفعها لروسيا، علماً بأن البندين الأخرين قد فصلا عن دين الإمبراطورية العام رغم إرادة وإصرار الأعضاء العثمانيين في اللجنة.

ونتيجة لفصل الغرامة الحربية عن الدين العام أبعدت روسيا عن المشاركة في إدارة (Dette Publique Ottonane) ذلك أن الدولة العثمانية لم تلجأ إلى الأقتراض منها عند عقدها لأي من قروضها الخارجية. وهكذا تالف مجلس إدارة (Dette Publique) من مندوبي بريطانيا وفرنسا والمانيا وإيطاليا والنمسا ـ المجر علماً بأن المندوب الإنجليزي يعتبر ممثلاً للأراضي المنخفضة وبلجيكا، إضافة إلى مندوب عن دائني الدولة العثمانية المحليين وأحد أعضاء إدارة البنك العثماني الذي كان كما أشرنا يمثل حمل السندات المالية العثمانية الممتازة.

ولم يكن بإستطاعة أعضاء المجلس هؤلاء أن يشغلوا في الوقت نفسه أي منصب دبلوماسي أو قنصلي ولا أية وظيفة رسمية أخرى في

______________________

(١) الدين العائم ـ المترجم.

١٥٦

الدولة العثمانية وهم لا يعينون من قبل حكومات الدول المعنية بالقضية وإنما ينتخبهم لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد حملة الأوراق العثمانية أنفسهم ممثلين بالبيوتات المصرفية ومؤسسات الأقراض (١) من أمثال :

“Council of foreign Bondholders” (٢) في بريطانيا والستديكات المؤلف من: (٣) “Banque de Paris et des Pays Bas” و (٤) “Credit Luonnais و (٥) “Comptoir Natinal d, Escompte” و “Generale (٦) Societe” و Bamque Lmperiale Ottomane” في فرنسا واتحاد “Credit Ansalt” و “Credit Foncier و “Banque anglo – antrichienne” في النمسا ـ المجر والسنديكات المؤلف من البيت المصرفي “Bleichtoder” و “Deutsche Bank” والمؤسسة الحكومية “Deehamdlung” في المانيا وأخيراً مجلس روما التجاري في ايطاليا. أما في الدولة العثمانية فإن الجهة التي تضطلع بهذه القضية هي مجلس الدائنين العام في حين يعين البنك العثماني كما ذكرنا مندوباً عن حملة السندات الحكومية العثمانية الممتازة.

ويقوم مجلس إدارة (Dette Publique) بجمع الإيرادات بواسطة الموظفين التابعين له ويراقب صحة دفع الفوائد والديون ويضع قبل بداية السنة المالية كشفاً خاصاً يصبح بعد أن تصادق عليه الحكومة عاماً لكل الأمبراطورية. هذا إضافة إلى أنه يقدم للباب العالي تقارير شهرية عن

______________________

(١) Ch Morawitz. Op. cit. p. ٢٢٥FF.

(٢) مجلس حاملي السندات الأجانب ـ المترجم.

(٣) بنك باريس والأراضي المنخفضة ـ المترجم.

(٤) اعتماد ليون ـ المترجم.

(٥) المؤسسة الوطنية للحسم ـ المترجم.

(٦) الجمعية العامة وهو اسم لبنك فرنسي ما زال قائماً ـ المترجم.

١٥٧

عملياته المالية. وللمجلس سلطة غير محدودة في مجال تحسين إدارة الإيرادات الموضوعة تحت أو إدخال الجديد فيها بشرط أن لا تتعارض التغييرات والتحسينات التي يدخلها مع القوانين النافذة ولا تؤدي إلى فرض ضرائب جديدة وإلا فيتحتم عليه في هذه الحالة أن يحصل على موافقة الحكومة مسبقاً.

وتتحقق سيطرة الحكومة على نشاط إدارة (Dette Publique) بأسلوبين: بمساعدة المفتشين وبواسطة مفوض خاص من قبلها. يخول المفتشون بفحص السجلات وتفتيش الخزائن أو استجواب الموظفين وعموماً جميع الأعمال التي تساعد على معرفة الوضع دون أن يكون لها طابع التدخل المباشر في شؤون الإدارة. أما عن المفوض الحكومي فإنه يحضر اجتماعات المجلس بصفة إستشارية فضلاً عن أنه يقوم بدور الوسيط خلال الاتصالات المباشرة بين الحكومة وإدارة (Dette Publique).

والمجلس مستقل تماماً في جميع النواحي الأخرى فهو يعين وينقل ويفصل الموظفين كافة بمن فيهم المدير دون أي تدخل من جانب الحكومة. وتتجسد السلطة المطلقة. التي يتمتع فيها المجلس فيما يتعلق بملاك الإدارة يشكل أكثر وضوحاً إذا علمنا بأن موظفي مؤسسة (Dette Publique) يعتبرون موظفين حكوميين عثمانيين يصل عددهم إلى ٥٠٠٠ شخص موزعين على فروع إدارة الدين البالغ عددها ٧٢٠ فرعاً وأغلبيتهم الساحقة مسلمون. ومما يزيد من تأكيد الوضع المتميز الذي تشغله إدارة ( Dette Publique) في الإمبراطورية العثمانية أن المادة التاسعة عشرة من مرسوم محرم نصت على أن جميع المنازعات والخلافات بين الإدارة المذكورة والحكومة تحل عن طريق مجلس تحكيمي قراراته غير قابلة للاستئناف.

١٥٨

وقبل أن ننتقل على الحديث عن الإيرادات الحكومية التي وضعت تحت تصرف إدارة (de la dette Publique Ottomane) ينبغي أن نتعرض باختصار للاجراءات وضعتها اللجنة المالية الدولية التي سبقي ذكرها بهدف تسهيل تسديد ديون الدائنين العثمانين.

لقد رأت اللجنة قبل أي شيء بأن العدل يقضي بتخفيض حجم الدين العثماني الحكومي إلى النصف تقريباً آخذه بالحسبان لا القيمة الأسمية لكل قرض وإنما المبلغ الحقيقي الذي استلم من الاكتتاب فيه. إن الفرق الكبير بين الدين الاسمي والحقيقي يفضح الشروط المجحفة التي تحتم على الباب العالي أن يستفيد في ظلها من المساعدة المالية للمصرفين الأجانب.

وبعد أن توصلت اللجنة إلى تعيين مقدار الدين عملت على تحديد أسلوب إطفاء القروض المختلفة فقسمتها إلى المجموعات الأربع التالية :

١ ـ المجموعة (أ) وتضم قروض ١٨٥٨ و١٨٦٢ ومقدارها ٧،٩٠٢،٢٦٠ ليرة عثمانية (٦٧،١٦٩،٢١٠ روبل).

٢ ـ المجموعة (ب) وتضم قروض ١٨٦٠ و ١٨٦٣ ـ ومقدارها ٢٦٠ و ١٨٧٣ ومقدارها ١١،٢٦٥،١٥١ ليرة عثمانية (٩٥،٧٥٣،٧٨٣ روبل).

٣ ـ المجموعة (ج) وتشمل قروض ١٨٦٥ و ١٨٦٣ ـ ١٨٦٤ ـ ١٨٧٢ ومقدارها ٣٣،٩٠٥،٧٦٢ ليرة عثمانية (٢٨٨،١٩٨،٩٧٧ روبل).

٤ ـ المجموعة (د) وتشمل :

١ ـ الدين المدور ومقداره ٤٨،٣٦٥،٢٣٦ ليرة عثمانية.

٢ ـ القرض الداخلي مع الفوائد ومقداره ١٥،٦٣٢،٥٤٨ ليرة عثمانية.

وبذلك يكون مقدار هذه المجموعة ٦٣،٩٩٧،٧٨٤ ليرة عثمانية ( ٥٤٣،٩٨١،١٦٤ روبل).

١٥٩

المجموع: ١١٧،٠٧٠،٩٥٧ ليرة عثمانية (٢/٤ ،١٩٩٥،١٠٣،١٣ روبل).

وکان إطفاء هذه المجموعات يجري في بداية الأمر على النحو التالي: بعد أن يحسم من إيرادات السنة المعينة مبلغ ٥٩٠،٠٠٠ ليرة عثمانية (و٥٠١٥،٠٠٠ روبل) وهو المبلغ المستحق للبنک العثماني يدفعه لحملة السندات الممتازة تخصص أربعة أخماس المبلغ المستحق للبنک العثماني يدفعه لحملة السندات الممتازة تخصص أربعة أخماس المبلغ المتبقي لدفع الفوائد في حين يخصص الخمس الأخير على أن لا تزيد قيمته على ١% من رأس المال لإطفاء مجموعات الديون المذکورة أعلا. وعندما رأت إدارة (Dette Publique) بأن المبلغ المخصص لإطفاء هذه المجموعات کان قليلاً على الدوام يحيث يذهب کله تقريباً لإطفاء المجموعة الأولى عمدت في ١٨٩٠ وبالاتفاق مع البنک العثماني إلى تغيير قائدة السندات الممتازة من ٥% إلى ٤% وخصص المبلغ الذي توفر من هذه العملية ومقداره ١٥٩،٥٠٠ ليرة عثمانية ٧٥٠ و ١،٣٥٥ روبل) سنوياً لإطفاء المجموعات المذکورة بواقع ١١،٠٠٠ ليرة عثمانية (٩٣،٥٠٠ روبل) للمجموعة الأولى و ٤٩،٥٠٠ ليرة عثمانية (٤٢٠،٧٥٠ روبل) لکل من المجموعات الثلاث الأخرى.

وقد أطفأت المجموعة الأولى نهائياً في خلال السنة المالية ١٧٩٨ ـ ١٨٩٩.

أما المجموعة الثانية فکان يفترض أن تطفأ في فترة لا تتعدى عام ١٩١١ في حين من المؤمل أن تطفأ الثلاثة عام ١٩٣٦. أما الرابعة فلم يکن من المؤمل أن تنتهي قبل عام ١٩٤٥.

وعلى هذا الأساس کان من الممکن لإدارة (Dette Publique) التي بدأت عملها في الدولة العثمانية اعتباراً من ١٨٨٢ أن تستمر ثلاثاً وستين سنة لو لم يزدد طول هذه المدة کما سنرى بسبب التوسع الجديد الذي

١٦٠