الشيخ محمد تقي فلسفي
المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علمالنفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٨٤
|
«كل هذه النواقص وما يشبهها يمكن أن تؤذي الإِنسان طيلة عمره وتجعله تحت ضغط (عقدة الحقارة) وقد تؤدي به إلى الجنون والانتحار . «لا مناص للطفل الضعيف أو المصاب بنقص في بدنه من تحمل سخرية أقرانه وتحقيرهم إياه ، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه للنقص الموجود فيه إلا بعدم الاعتناء بسخريتهم . ولكن هذا بحد ذاته مدعاة للذلة له ، وكبت لغرائزه وجرح لمشاعره ، ويسبب الشقاء والقلق له فيما بعد . لأن مشاعره المتألمة التي لم تجبر بشيء وغرائزه المكبوتة لا بد أن تؤدي في النتيجة إلى القلق واضطراب الفكر» . «يشير التحليل الذي أُجري على أستاذ جامعي إلى أن عقدة الحقارة التي كان يكابدها قد نشأت منذ دراسته الإِبتدائية ، وذلك أنه كان أطول التلاميذ قامة في الصف وكان يلوح دائماً ـ عند اللعب والإِستراحة ـ لأعين المعلمين قبل غيره ، ولذلك فانه كان يخرَج من الصف عند وقوع حادثة ليعتبر به الآخرون . وبالرغم من أن ذلك كان يحدث في أحيان قليلة جداً فانه ظل يحس بأنه قد ظُلم كثيراً ، وليس إلا لطول قامته فحسب»(١) . |
التحقير والسخرية :
يتألم الأطفال أو الكهول الذين يكابدون من نقص عضو أو عيب في بناء أجسامهم من جهتين : الأولى ـ النقص والحرمان الذي يلاحظونه في أنفسهم . والثانية ـ استهزاء الآخرين بهم وسخريتهم منهم .
فمثلاً يرى الأبكم أن الآخرين يتكلمون ويلتذون من محاوراتهم فيما بينهم لكنه بسبب العيب الموجود في لسانه عاجز عن النطق ، فشعوره بهذا
____________________
(١) عقدهٔ حقارت ص ١٢ .
العجز يجعله تحت ضغط روحي فيحس بالضعة والحقارة ، ويتألم من حرمانه هذا وتألمه الآخر ناتج من تحقير الأفراد السالمين إياه واستهزاءهم منه . . . ذاكرين عجزه ذاك بصورة إهانة وتحقير . ولعل هذا الألم الناشىء من استهزاء الناس منه أكثر من ألمه الناتج من شعوره بالنقص والحرمان .
عاش الجاحظ(١) في القرن الثالث الهجري ، وله كتب وآثار كثيرة . ولقد كان قبيح المنظر جداً ، مقرباً عند الخلفاء العباسيين لعدواته لعلي بن أبي طالب عليهالسلام . وقد قال يوماً لتلاميذه : إنه لم يخجلني طيلة عمري أحد كما فعلت امرأة ثرية ، فقد لقيت امرأة في بعض الطرق وسألتني في أن أصحبها ففعلت . حتى أتت بي إلى محل صائغ للتماثيل ، وقالت له مشيرة إلي : كهذا الشيطان . . . فبقيت حائراً من أمرها ، ولما انصرفت سألت الصائغ عن القصة ، فقال : لقد استعملتني هذه المرأة لأصوغ لها تمثال شيطان . فقلت لها : إني لم أر الشيطان كي أصوغ تمثاله ، فطلبت مني أن أنتظر حتى تجيء لي بتمثاله . . . واليوم جاءت بك إليّ وأمرتني أن أصوغه طبق منظرك»(٢) .
القاضي الدميم :
ونموذج آخر في السخرية بالأشخاص المصابين ببعض العيوب الظاهرية نجده في قصة القاضي المصري رشيد بن الزبير . فقد كان من القضاة الماهرين والكتّاب العظام في عصره ، وكان ذا خبرة كافية في علوم الفقه والمنطق والنحو والتأريخ . . . عاش في القرن السادس الهجري . لقد كان ذا قامة قصيرة ، أسود اللون ، ذا شفتين غليظتين ، وأنف كبير ، ومنظر قبيح جداً ، وكان يعيش في شبابه في القاهرة ، ويسكن مع عبد العزيز الادريسي وسليمان الديلمي في بيت واحد .
فخرج يوماً وتأخر في العودة إلى منزله ، وعندما عاد سأله زملاؤه عن سبب تأخره فأبىٰ يجيبهم حتى ألحوا عليه فقال : كنت أعبر من المحل
____________________
(١) سمي بذلك لجحظ في عينيه .
(٢) تتمة المنتهى ص ٣٧٠ .
الفلاني فصادفت امرأة ذكية جميلة ، كانت تنظر إلي بعين الرأفة والعطف ، فذهلت من شدة الفرح ، وبتّ أرقب سيرها فأشارت إليّ بطرف عينها فتبعتها في السكك الواحدة بعد الأُخرى ، حتى انتهينا إلى دار ، ففتحت الباب ودخلت ، وأشارت إلي بالدخول فدخلت ، فكشفت النقاب عن وجهها وإذا به قطعة من القمر . . . لم تمض فترة طويلة حتى صفقت بيدها ونادت باسم فتاة ، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت من الطابق العلوي ، فخاطبتها المرأة قائله : لو تبولت في فراشك هذه المرة فسأعطيك إلى هذا القاضي ليأكلك ، فبلغ الخوف والهلع من الطفلة مبلغة وبلغ الإِرتباك والاضطراب مني مبلغه أيضاً . ثم إلتفتت إليّ قائلة : لا أعدمني الله إحسانَه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه . . . فخرجت من الدار مطأطئاً برأسي خجلاً ، ولفرط ما أصابني من خجل وذهول ، ولشدة تأثري تهت الطريق إلى البيت ، وبقيت أجوب الأزقة . . . ولهذا تأخرت في العودة»(١) .
لقد تمكن العلم الحديث في تقدمه وازدهاره من اصلاح بعض العاهات العضوية كإرجاع العيون التي بها حول إلى وضعها الطبيعي ، وردّ الأنوف القبيحة جميلة ، وتقويم السيقان المتقوسة ، وترميم شقوق الشفاه . والخلاصة : إن الجراحين يجرون عمليات جراحية على بعض الأعضاء بحيث تأخذ شكلاً طبيعياً جميلاً ، ويرتاح المصاب ببعض العيوب الظاهرية من الشعور بالحقارة والتعاسة . في حين توجد عيوب ونقائص لم يتوصل العلم الحديث إلى علاجها وإصلاحها .
تدارك النقص :
على الأفراد الذين يكابدون نقصاً لا يقبل العلاج ويبعث فيهم الشعور بالألم والإِحساس بالحقارة أن يستفيدوا من سائر أعضائهم السليمة أكبر حد ممكن ، ويسعوا وراء تحصيل علم من العلوم المهمة أو فنٍ يحتاجه المجتمع بحيث يتمكنون من إحرازه ونيل مقام شامخ فيه ، وعندئذ لا شك في أن الكمال
____________________
(١) قاموس دهخدا الفارسي ص ١٢٢٤ .
الذي يحصلون عليه بواسطة العلم يكون سبباً لجمالهم الإِجتماعي ، ويخفي نقصهم العضوي ، ويمنع من انتباه الناس إلى عيوبهم .
فكم من أفراد حرموا نعمة البصر أو السمع أو النطق ، أو كانت فيهم نقائص أُخرى لم يلتفتوا إلى ذلك وراحوا يجدّون بكل رغبةٍ وشوق وراء الثقافة حتى أحرزوا مكانة سامية في المجتمع وعاشوا حياتهم بكل عز وفخر . فلقد تمكن هؤلاء بفضل مثابرتهم من إنقاذ أرواحهم من الشعور بالحقارة ، أو الحدّ من هذا الشعور نسبياً .
إن المصيبة العظمىٰ لذي النقائص والعاهات إنما هي تحقير الناس واستهزاءهم ، فإن السخرية والإِهانة والتقريع والكلمات البذيئة تعتبر سهاماً مسمومة تصيب قلوب هؤلاء وتزيد من الإِحساس بالحقارة فيهم ، وبالتالي تجعل العيش عليهم مراً وجحيماً لا يطاق .
. . . والحل الوحيد للتخلص من ذلك كله تهذيب أخلاق المجتمع وإيجاد السجايا الفاضلة فيه .
في البلاد التي يتحلى شعبها بالصفات الفاضلة ، والشعوب التي يقوم الأفراد فيها بواجباتهم الخلقية خير قيام لا يحتقر الأعمىٰ أو الأبكم أو الأشل أو غيرهم من أصحاب الأمراض والآفات ، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم ، فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرهم على قلوب المصابين الجريحة فانهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم أكثر .
النظرة المؤلمة :
لقد منعت التعاليم الخلقية في الإِسلام الاستهزاء والإِهانة واللوم والشماتة مطلقاً وحذّر علماء المسلمين الناس من هذه الصفات الذميمة . ولقد وردت أخبار في خصوص المصابين وذوي العيوب والنقائص الجسمية ، وفي أسلوب المعاشرة معهم ، بحيث لو طبقت وروعيت لما تأثر المصابون في المجتمع ، ولما شعروا بالحقارة .
١ ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تُديمِوا النظر إلى أهل البلاء والمجذومين ، فإن ذلك يحزنهم»(١) .
٢ ـ عن الإِمام الصادق عليهالسلام : «لا تنظروا إلى أهل البلاء فإن ذلك يحزنهم»(٢) .
٣ ـ وعنه عليهالسلام : «إسماع الأصم من غير تضجر صدقة هنيئة»(٣) .
٤ ـ وعنه (ع) أيضاً : «من نظر إلى ذي عاهة ، أو من قد مُثّل به ، أو صاحب بلاء فليقل سراً في نفسه من غير أن يسمعه : الحمد لله الذي عافاني»(٤) .
إن الأعور أو المجذوم يتألم في باطنه ويحس بالحقارة ، فلو أن أحداً أطال النظر إلى عضوه الناقص كان ذلك سبباً في زيادة حزنه وشعوره بالضعة . وكذلك الأصم أو ضعيف السمع فانه يتألم في نفسه ويحس بنقص كبير ، فلو كلمه المتكلم بلهجة شديدة زاد تألمه أما لو كلمه بطلاقة وجه وابتسام ، رافعاً صوته لإِسماعه من غير أن يزجره ، فذلك يترك أثراً طيباً في نفسه ، أو يقلل من تأثره الشديد .
. . . وقد عرّف الإِمام الصادق عليهالسلام هذا الفعل بالصدقة الهنيئة .
٥ ـ عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : «كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه ، أو يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه ، أو يؤذي خليله بما لا يعنيه»(١) .
إن النظر الدقيق المؤذي إلى نقائص الناس لا نفع فيه ، لكنه يسبب في
____________________
(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٦ ص ١٢٢ .
(٢) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٦ ص ١٢٣ .
(٣) المصدر السابق ج ١٦ ص ١١١ .
(٤) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٣ ص ٢٠٩ .
(٥) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٤٥٩ .
ذي البلاء تضجراً وضغطاً روحياً وألماً . ومن عامل جليسه بهذه الصورة أظهر له بذلك سوء خلقه .
لقد ظهرت بقع بيضاء في وجه (يونس بن عمار) أحد أصحاب الإِمام الصادق عليهالسلام ، وآلمه ذلك ، إلا أنه كان يضيق ذرعاً بالكلمات المسمومة الصادرة من الناس تجهه ، فقد كانوا يقولون له : لو كنت أهلاً لفضل الله وكان الدين الحق بحاجة إليك لما ابتليت بهذا الداء . فتألم يونس من ابتلائه بالمرض وكذلك من تحقير الناس وإهانتهم إياه تألماً شديداً وجاء إلى الإِمام الصادق عليهالسلام وقال : «إن هذا الذي ظهر بوجهي يزعم الناس أن الله لم يبتل به عبداً له فيه حاجة ، قال : فقال لي : لقد كان مؤمن آل فرعون مكنّع الأصابع فكان يقول هكذا ويمدّ يديه ويقول : يا قوم اتبعوا المرسَلين»(١) .
في هذا الحديث نجد الإِمام الصادق عليهالسلام يردّ على كلام الناس الركيك بجملة قصيرة ، ويفهم يونس بن عمار ضمناً أنه يتمكن ـ كمؤمن آل فرعون ـ أن يخدم شريعة الله ، وأن يكون داعيه خير وصلاح بين الناس على ما هو عليه من النقص . . . وطبيعي أن يخفف هذا الكلام من ألم الشعور بالحقارة فيه من جهة ، ويبعث فيه رجاء خدمة دين الله من جهة أُخرى .
والنتيجة : إن العاهات والنقائص التي لا تقبل العلاج عامل كبير للشعور بالحقارة في الأطفال والكبار . فلو كان المجتمع الذي يعيش فيه أفراد مصابون منحطاً خلقياً ، وفاقداً للتربية السليمة بحيث يحتقر أولئك الأفراد فان شعورهم بالحقارة سيتحول إلى عقدة نفسية موغلة في التعقد ، ويقعون فريسة لمشاكل كثيرة .
البحث عن عيوب الناس :
لقد حذر الإِسلام في تعاليمه الأخلاقية الناس من اللمز . وقد ورد ذلك بصورة صريحة في القرآن الكريم : ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ .
____________________
(٢) المصدر السابق ج ٢ ص ٢٥٩ .
وعلاوة على ذلك فانه أكد على مراعاة الآداب العامة والأخلاق الفاضلة مع ذوي العاهات والنقائص . فالمسلم الواقعي لا يحتقر ولا يهين بلسانه وحركاته أحداً ، ولا يؤلم قلب شخص أصلاً . فعن الإِمام الصادق عليهالسلام : «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد»(١) .
الاسم القبيح :
والعلة الأُخرى من علل الشعور بالحقارة التي يبدأ من دور الطفولة ومن الممكن أن تكون سبباً لنشوء عقدة الحقارة والتعاسة : الاسم القبيح ، واللقب الكريه . إن الاسم الذي يضعه الوالدان للطفل يبقى معه إلى آخر لحظة من حياته ، فإن كان قبيحاً أو منكراً كان سبباً لإِيذائه في كل آن ، ومعرضاً إياه لسخرية الأطفال والكبار واستهزائهم به .
يحب كل فرد أن يكون جميل الوجه ، حسن الهندام ، متزن الملامح ، نظيف الملابس ، حتى لو التقط مصور صورة جميلة له طبع منها مائة نسخة أو تزيد ، ووزعها على جميع أصدقائه للتذكار . . . وبالعكس لو أخذت له صورة مشوشة لم يسمح بطبعها وليس ذلك فحسب ، بل انه يسعى لتحطيم الزجاجة السوداء ، كي يمحو هذا الأثر السيء تماماً . . .
وكذلك عندما يريد أن يطبع بطاقة شخصية فانه يصرف مبلغاً من النقود في سبيل أن يكون الخط جميلاً ، والكليشة واضحة ، والورق صقيلاً إلى غير ذلك من المحسنات . . ثم يطبع على ذلك آلاف النسخ .
كل هذا يدلنا على أن الجمال من أهم عوامل المحبة ، وهو رمز السعادة والنجاح .
الاسم الجميل :
من المظاهر المهمة لدى كل إنسان اسمه واسم عشيرته . فكما أن صورة
____________________
(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٢٤٧ .
كل شخص سبب لاستحضاره في أذهان الناس ، كذلك اسمه فانه يحكي عن صاحبه ويعطي صورة عنه ، وكما أن الإِنسان يلتذ من صورته الجميلة ، ويتألم ان كانت قبيحة ، كذلك يستر من الاسم الجميل ويتأذى من الاسم القبيح له أو لعشيرته . في حين أن الصورة القبيحة يمكن تمزيقها ومحوها بكل سهولة أما تغيير الاسم واللقب فهو صعب جداً .
إن الذين يمتازون بأسماء جميلة أو ينتمون إلى عشيرة ذات اسم جميل يفتخرون بذلك ويذكرونه بكل إرتياح وطلاقة دون شعور بالحقارة ، ولربما تفأل السامع وذكر بالمناسبة كلاماً يليق ويتلاءم مع جمال الاسم . ومثل ذلك نجده في القصة التالية :
فقد النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أُمه في أيام رضاعه ، ولم يقبل ثدي مرضعة قط ، وكان هذا مبعث حزن وألم في البيت الهاشمي . . . إلى أن جاءت حليمة السعدية فعرضت ثديها عليه فقبله وتكفلت برضاعه ، عندئذ عم البيت السرور والفرح إلى أقصىٰ حد فقال عبد المطلب مخاطباً إياها .
ـ من أين أنتِ ؟
قالت : امرأة من بني سعد .
قال : ما اسمك ؟ .
قالت : حليمة .
قال : بخٍ بخٍ ، خُلقان حسنتان . . . سعدٌ وحلم(١) .
أما الذين يحملون أسماء مستهجنة أو ينتمون إلى عشيرة ذات نسبة قبيحة فطالما يأبون عن ذكر ذلك ، وإن التجأوا إلى ذكره في مناسبة ما شعروا بالخجل والضعة . إنهم يسرّون كثيراً عندما يبدل اسمهم إلى اسم حسن .
عندما نلقي نظره عابرة على الأسماء المتداولة في المجتمع بين المتجددين والمتحضرين ممن يعيش في القرى والمدن نجد فيها أسماء وألقاب
____________________
(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٦ ص ٩١ .
قبيحة قد يؤدي ذكرها والتصريح بها في هذا المجلس المزدحم إلى السأم والضجر بالنسبة إلى البعض ، ولكني أذكر على سبيل التمثيل نموذجاً من أهل القرى والأرياف .
هناك بعض العوائل في الأرياف تسمى المولود الجديد باسم اليوم الذي ولد فيه كالجمعة والسبت . فان بقي هذا الطفل إلى آخر عمره في القرية يشتغل بالرعي فلا شيء عليه ، أما لو دخل المدرسة وهاجر إلى المدينة ، ثم مارس الحياة الجامعية ، وحصل على شهادة علمية ونال مقاماً فإن ذلك الاسم القبيح يلازمه ويولد فيه عقدة الحقارة ، وكلما نادوه باسم (جمعة) أو (سبت) تألم لذلك بلا شك .
اختيار الاسم :
من الحقوق الدينية للأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء جميلة غير مستهجنة . وقد ورد الحديث على هذا في الروايات كثيراً :
١ ـ قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه»(١) .
٢ ـ قال رجلٌ : يا رسول الله ما حق ابني هذا ؟ قال : «تحسن اسمه وأدبه . وتضعه موضعاً حسناً»(٢) .
٣ ـ في حديث آخر عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلمه الكتابة ، ويزوجه إذا بلغ»(٣) .
٤ ـ عن أبي الحسن عليهالسلام ، قال : «أول ما يبرّ الرجل ولده ، أن يسميه باسمٍ حسن . فليحسن أحدكم اسم ولده»(٤) .
____________________
(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ ص ٦١٨ .
(٢) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ١١٤ .
(٣) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ ص ١١٥ .
(٤) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٦ ص ١٨ .
٥ ـ في وصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلي عليهالسلام : «يا علي ، حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه»(١) .
٦ ـ وفي حديث آخر : «إن أول من ينحِل أحدكم ولده : الاسم الحسن»(٢) .
تبديل الأسماء القبيحة :
إن الشقاء المتسبب من عقدة الحقارة لا يزول إلا بانحلال تلك العقدة حتى يتحرر الضمير الباطن من الضغط الذي يلاقيه . فالذي يحمل إسماً قبيحاً يشعر بالضعة بلا شك ، والعلاج الوحيد له تغيير ذلك الاسم ، فإذا وفق لذلك زال الضغط النفسي لوحده .
لقد كان الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم يغير الأسماء المستهجنة للأفراد ، وكذا الاسم القبيح للبلد الذي طالما تألم المنتسب له ، وبهذه الطريقة كان يتحرر الأشخاص من العقدة التي يكابدون منها الأمرّين ، ويعيشون حياة ملؤها الإِرتياح والسكينة .
١ ـ عن الإِمام الصادق عن أبيه عليهماالسلام : «إن رسول الله كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان»(٣) .
٢ ـ عن ابن عمر : «أن ابنةً لعمر كان يقال لها عاصية ، فسماها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : جميلة»(٤) .
٣ ـ عن أبي رافع : «إن زينب بنت أم سلمة كان اسمها برّة ، فقيل : تزكي نفسها فسماها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : زينب»(٥) .
____________________
(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي .ج ٢٣ ص ١٢٢ .
(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ ص ١١٥ .
(٣) قرب الإِسناد ص ٤٥ .
(٤) صحيح مسلم ج ٦ ص ١٧٣ .
(٥) نفس المصدر .
ولقد كانت العادة جارية في القبائل العربية قبل ظهور الإِسلام بتسمية أولادهم بأسماء الوحوش والجوارح . وقد كانت هذه العادة البذيئة باقية بعد الإِسلام أيضاً عند بعض القبائل . وفي حديث يسأل أحمد بن هيثم من الإِمام الرضا عليهالسلام عن سبب ذلك قائلاً : «قلت له : لِمَ تسمي العرب أولادهم بكلب وفهد ونمر وما أشبه ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب وكانت تهول على العدو بأسماء أولادهم»(١) .
وبالرغم من أن تلك الأسماء المستهجنة كانت شايعة ومتداولة بينهم ، فانها كانت في بعض الأحيان ذريعة قوية للطعن والتحقير في أصحابها ، فكان الواحد يلوم الآخر بسببها . من ذلك القضيتان الآتيتان :
بين معاوية وجارية :
كان أحد رؤساء عشاير الشام يسمى بـ (جارية)(٢) وكان رجلاً قوياً صريح اللهجة ، وكان يبطن لمعاوية حقداً وعداءً ، وسمع معاوية بذلك فأراد أن يحتقره أمام ملأٍ من الناس ويتخذ اسمه وسيلة للاستهزاء به والسخرية منه ، وصادف إن التقيا في بعض المجالس فقال له معاوية :
ـ ما كان أهونك على قومك أن سموك جارية ؟
فقال له جارية : وما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية ، وهي الأنثى من الكلاب .
قال : أسكت لا أم لك !
قال : لي أم ولدتني . أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا ، وإنك لم تهلكنا قسوة ، ولم تملكنا عنوة . . . ولكنه أعطيتنا عهداً وميثاقاً ، وأعطيناك سمعاً وطاعة ، فإن وفيت لنا وفَينا لك ، وإن نزعت إلى غير ذلك فانا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وأسنة حداداً .
____________________
(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ ص ١١٥ .
(٢) من معاني (جارية) : الحية من جنس الأفعى ، كما في (أقرب الموارد) .
فقال معاوية : لا أكثر الله في الناس مثلك يا جارية(١) .
قبح الاسم والمنظر :
وكان شريك بن الأعور سيداً في قومه وكبيراً عليهم ، عاصر معاوية . . . وفي أحد الأيام دخل مجلس معاوية فأراد هذا أن يحتقره ويسخر به لقبح اسمه واسم أبيه وللنفص الذي فيه فقال له :
ـ والله إنك لشريك وليس لله من شريك ، وأنك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور ، وإنك لدميم والوسيم خير من الدميم ، فبِمَ سوّدك قومك ؟! .
فقال له شريك : والله إنك لمعاوية وليست معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية ، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنك ابن أُمية وما أمية إلا أمة صغرت فسميت أمية ، فكيف صرت أمير المؤمنين ؟ .
فقال له معاوية : أقسمت عليك إلا ما خرجت عني(٢) .
ولهاتين القضيتين نظائر وقعت في الماضي والحاضر . فكما أن الهندام غير المتزن ، والأعضاء الناقصة ، والمنظر الكريه سبب للشعور بالحقارة ، ويؤدي ذلك غالباً إلى نشوء عقدة نفسية ، كذلك الاسم القبيح واللقب الكريه ، والنسبة المستهجنة فان ذلك كله يدعو إلى نشوء عقدة الحقارة . ولو فرضنا أن ٩٩% من أفراد المجتمع كانوا خليقين متزنين لا يجرحون عواطف هؤلاء ولا يحتقرونهم ، فإن الـ ١% الباقية لم تُربّ تربية حسنة تكفي في إيذائهم بالاستهزاء والإِهانة .
العيوب غير القابلة للعلاج :
عندما يتولد الطفل على أساس قوانين الخلقة ذا عاهة غير قابلة للعلاج
____________________
(١) المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج ١ ص ٥٨ .
(٢) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج ١ ص ٥٩ .
فإن مصيبة الحقارة قطعية بالنسبة إليه ولا يمكن التخلص منها . هذا الطفل لا بدّ له من تحمل الألم الداخلي مدى العمر ، وليس للآباء والأُمهات في هذه الحالات إلا الصبر والتحمل . إذ أن رفع هذه العاهات والنقائص الطبيعية ليس بيدهم ، في حين أن إنتخاب الاسم الحسن في مقدورهم ، وهو من حقوق الأولاد الواجبة على الآباء . إنهم يتمكنون من القيام بواجبهم على خير وجه في تسمية أطفالهم ، وباستطاعتهم إجتباء أسماء لأطفالهم لا تصير سبباً للحقارة والضعة مدى العمر .
إن الطفل الذي يستهزأ به من قبل سائر الأطفال لإِسمه المستهجن أو لانتسابه إلى عشيرة ذات اسم قبيح يخسر ويسير دوماً إلى اضمحلال وإنهيار ، فيتجنب من الألعاب الجماعية للأطفال ، ويخاف من معاشرتهم ، ويخفي نفسه قدر المستطاع في ساحة المدرسة ، ويقف في صف التلاميذ وقفة لا يراه معها مدير المدرسة أو المشرف ، حذراً من أن ينادي باسمه من بين الأطفال وتتجدد عليه الكارثة .
|
«تشمل عقدة الحقارة جميع المظاهر التي يظهر بها عدم الاعتماد على النفس ، والشعور بضعف الشخصية ، وعدم الكفاءة ، وفقدان الإِرادة . إن الطفل الذي يبتلى بالشعور بالحقارة عندما يشب يلزم سيرة الوحدة والإِنزواء أو لا أقل من أن يوجد عنده الشعور بالغربة والإِبتعاد عن أقرانه ، لأن الوقائع والحوادث في دور الطفولة أفهمته أن الألفة والإِجتماع مع الغير هو الذي جلب له السخرية والإِنتقاد . إن الذي يتجنب أقاربه وأترابه يقودنا إلى أنه معذّب من الشعور بحقارة وجدت فيه من تجاربه في الطفولة . ولهذا ـ وبناء على قواعد علم النفس ـ فإن كل حادثة تضعف أو تعدم عزة النفس عند الإِنسان ، وتقلّل من طموحه عامل مهم لتوسعة (عقدة الحقارة) وتقويتها ، ووسيلة لجعله بين الأعضاء المختلين وضعاف النفوس في المجتمع»(١) . |
____________________
(١) عقده حقارت ص ٦ .
تخليد أسماء العظماء :
من الأسماء المحبذة والمرغوبة في الشرق أسماء وألقاب الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهم السلام . إن أذواق الملايين من المسلمين وطباعهم تستلطف الأسماء التالية : محمد ، أحمد ، محمود ، مصطفى ، علي ، مرتضىٰ ، حسن ، حسين ، كاظم ، رضا . . . وأمثالها ، ومن كان قد سمّي باسم من هذه الأسماء لم يشعر في نفسه بالحقارة والتعاسة ، ولم يأبَ من أن يعرّف نفسه به .
لقد أوصىٰ أئمة الإِسلام أتباعهم بتسمية أولادهم بأسماء القادة الإِلٰهيين العظماء . ففي الحديث عن الإِمام الصادق عليهالسلام : «إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : من وُلد له أربعة أولاد ولم يسمّ أحدهم باسمي فقد جفاني»(١) .
إن إحياء أسماء الرجال العظماء أمر يهتم به الشرق والغرب ، وتحاول الحكومات استخدام جميع الوسائل لذلك ، فتسمى الإِكتشافات والإِخترعات العلمية والفنية باسم المكتشف والمخترع كي يبقى هذا الاسم خالداً على مر الأجيال ، يتلفظ الأساتذة والطلبة والمهندسون والعمال الفنيون آلاف المرات يومياً بأسمائهم في الجامعات والمختبرات والمؤسسات الصناعية في العالم .
لقد سميت بعض المدن الكبيرة باسم الرجال العظماء في قسم من الدول كما سميت الساحات والشوارع باسم الشخصيات البارزة في تلك البلدة . وفي إيران سمّيت ساحات وشوارع عديدة باسم : حافظ ، سعدي ، خيام ، فردوسي ، أبو علي ، أبو ريحان ، وغيرهم ، وبهذه الطريقة خلّدوا أسماءهم .
ومن وسائل تخليد اسم النبي العظيم والأئمة عليهمالسلام تسمية المسلمين أولادهم بأسمائهم . فالآباء والأُمهات الذين يهتمون بهذا الأمر ويسمّون أطفالهم بأسماء القادة الإِلٰهيين قد أدّوا حق أولادهم في انتخاب الاسم الحسن لهم ، وحفظهم بذلك من الإِحساس بالحقارة . . . هذا من جانب ومن
____________________
(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٦ ص ١٩ .
الجانب الآخر يكونون قد أظهروا بذلك ولاءهم لقادتهم ، ويستحقون الأجر بذلك من الله بلا ريب . وقد ورد في حديث عن الإِمام الصادق عليهالسلام يسأل الراوي فيه : «إنا نسمي بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فينفعنا ذلك ؟ فقال : إي والله»(١) .
الكنية :
لم تكن قيمة الكنية الجميلة فيما مضى ـ والاسم الجميل للعشيرة في عصرنا ـ أقل من قيمة الاسم الجميل ، فكم من أفراد يحملون أسماء حسنة ولكنهم انتخبوا اللقب العائلي غريباً ، نراهم غير مرتاحين . وقد اتخذ بعض الأشخاص لقباً سيئاً لنفسه من دون روية ، فجاء أولاده بعد سنين طويلة متأثرين لسوء إختيار والدهم ، شاعرين الحقارة عند ذكر تلك الكلمة . لقد أردف في بعض الروايات ضرورة تحسين اسم الطفل ، بضرورة تحسين كنيته أيضاً . فعن الرضا عليهالسلام : «سمّه بأحسن الأسماء ، وكنّه بأحسن الكنى»(٢) .
وعند استعراضنا لبعض النصوص نجد قادة الإِسلام يتأثرون من سماع الكنى القبيحة التي يتخذها بعض الأشخاص لأنفسهم ، وينبهون في بعض الأحيان على ذلك حفظاً لمكانة أصحابها .
«عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إن رجلاً كان يغشى علي ابن الحسين عليهالسلام وكان يكنى : أبا مرّة . فكان إذا استأذن عليه يقول : أبو مرّة بالباب . فقال له علي بن الحسين عليهالسلام : بالله إذا جئت إلى بابنا فلا تقولن أبا مرة(٣) لأن (أبا مرة) كنية الشيطان ، فمن اختار لنفسه هذه الكنية عرف نفسه بأنه متصف بصفة الشيطان ، ونيّته كنيته ، ولسوء إختياره هذا جعل نفسه معرضاً لتحقير الآخرين وإهانتهم .
____________________
(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٢٣ ص ١٢٢ .
(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ ص ٦١٨ .
(٢) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٦ ص ٢١ .
الأثر النفسي للاسم واللقب :
واللقب أيضاً مثل الاسم ، والاسم العائلي ، يعرّف صاحبه . وهو ذو أثر نفسي فعال ، فإن كان قبيحاً صار سبباً للشعور بالحقارة وطالما حمل صاحبه ـ كالاسم واسم العائلة القبيحين ـ على الضجر والسأم .
لقد كان المواطنون فيما سبق يهتمون باللقب . وكانت الألقاب عندهم معروفة للمكانة والمنزلة الإِجتماعية للأفراد ، فكان لكل من الرجال العظماء في العلم أو السياسة ، والشخصيات العسكرية أو المدنية لقب مخصوص يتناسب ومنصبه ومنزلته .
وعلى رغم الاختلاف الكبير بين مجتمعنا الحالي والأوضاع السابقة في موضوع الألقاب وفقدان كثير منها قيمتها السابقة ، فانه توجد ألقاب في مجتمعنا يسبب بعضها الفخر والعظمة لصاحبه . ويورث بعضها الألم الروحي والشعور بالحقارة له . ثم إن لبعض الألقاب جهة عمومية فانه يتبع الشغل أو الرتبة أو المقام ، ومن كان حائزاً على الشروط المطلوبة نودي بذلك اللقب . . . كما أن بعض الألقاب يختارها الشخص لنفسه ولأولاده كما يختار الاسم ، ثم يشهر به شيئاً فشيئاً في المجتمع .
وربما تقع قضايا وحوادث طيبة أو سيئة للأشخاص في أيام عمرهم فترك أثراً حسناً أو قبيحاً في الأذهان ، ثم يلخص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة ويجعلونها لقباً لصاحبه . ومن هذا القبيل ما نلاحظه في قصة عبيد الله بن الزبير ، حيث كان والياً على المدينة من قبل أخيه عبد الله ، وقد شغل المنصب المعهود به إليه بكل سيطرة وكفاءة . . . وفي يوم من الأيام أخطأ في كلامه أمام جمع غفير من الناس وهو على المنبر ، فبينما كان يعظ الناس تطرق لقصة ناقة صالح وظلم قومه لها ، فقال لهم : قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم ، فسمّي (مقوّم الناقة)(١) .
____________________
(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٨٧ .
لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة إلا أن تقويمه للناقة كان خطأ ، فلقبه الناس بـ (مقوم الناقة) ، وشاع هذا اللقب ، ولهج به الناس ، وأورد نقصاً عظيماً في شخصيته ، فخلعه عبد الله بن الزبير ، وولّى مكانه مصعباً .
في هذا المثال نجد أن والي المدينة يسقط عن أنظار الناس على أثر سبق لسان بسيط ، ولقبه الناس بمقوّم الناقة مستهزئين به وذاكرين ذلك في كل منتدى ومجلس .
إن الوالي الذي يتعرض لتحقير الناس وإهانتهم ، ويشعر في نفسه بالحقارة لا يتمكن من ممارسة السلطة والحكم مهما كان ذا سطوة وقوة .
الألقاب المحتقرة :
في المجتمعات المختلفة أُناس كثيرون اتخذوا لأنفسهم ألقاباً قبيحة بسوء إختارهم ، أو أن سلوكهم المنحرف طيلة الحياة هو الذي أوحى للناس بتلقيبهم بلقب قبيح . . . وتكون النتيجة أن يعيش هؤلاء حياة ملؤها التعاسة والشقاء والحقارة .
وفي مجتمعنا الحاضر توجد بين الطبقات المختلفة ألقاب كثيرة في هذا القبيل ، وها أنذا أتكلم إليكم وببالي أمثله منها بحيث لو نطقت بكلمة واحدة انتقلت أذهان المستمعين فوراً إلى شخص معين ، لكن القوانين الإِسلامية لا تسمح لي بذكر شيء منها وإن كان ذلك على سبيل الشاهد .
الحذر عن تحقير الناس :
لقد نهى الإِسلام عن ذكر الناس باسم أو لقب يشينهم ويكون سبباً لإِهانتهم وتحقيرهم وقد حذرت التعاليم الإِسلامية الناس عن هذا العمل المنكر الذي بعث البغضاء والحقد في المجتمع . قال الله تعالى : ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ .
لقد ذكر في مجلس الإِمام علي بن موسى
الرضا عليهالسلام
شاعر ، فذكره أحد الحاضرين بكنيته ، فقال له الإِمام عليهالسلام
: «هاتِ اسمه ودَعْ عنك هذا . إن
الله عز وجل يقول : ولا تنابزوا بالألقاب ، ولعل الرجل يكره هذا»(١) .
وفي الحديث : «حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه»(٢) .
يجب على عامة المسلمين أن يجتنبوا عن ذكر أسماء وألقاب تسبب إنزعاجاً وإيلاماً لأصحابها ، وألا يدعوهم بتلك الأسماء والألقاب كيلا يوجب ذلك التأثر والتألم فيهم . ولكن كثيراً من الناس لا يراعون هذا الواجب المقدس . فبعضهم لسوء خلقه وعدم العناية بواجباته ، وبعضهم لعدم فهمه وقصور إدراكه يذكر الناس بأسماء وألقاب قبيحة ، فيحتقرهم بعمله السيء هذا .
كان في أوائل القرن الثالث الهجري رجل في العراق يكنى بـ (أبي حفص) ، ولبعض أعماله لقبه الناس بـ (اللوطي) فكانا يحقّرونه بهذا اللقب في غيابه . ولقد أدّت شهرته هذه بين الناس إلى تأثره الشديد ، وأوردت على شخصيته نقصاً غير قابل للتدارك ، فتمرض جارٌ له ، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف ، فسأله أبو حفص عن صحته ، وقال له : أتعرفني ؟ فأجاب المريض بصوت خافت جداً : ولمَ لا أعرفك ؟ أنت أبو حفص اللوطي ، فدهش أبو حفص من هذا اللقب ومصارحة المريض به ، فقال له : لقد جاوزت حد المعرفة ، أرجو أن لا تقوم من مرضك هذا أبداً . . ثم قام من عنده وخرج(٣) .
السمعة السيئة والحرمان :
ما أكثر الرجال العلماء والمثقفين الذين كانت لهم الكفاءة لتسلّم مناصب عالية في الدولة ، والحصول على مقامات شامخة في المجتمع لكنهم فقدوا جميع قيمهم الإِجتماعية على أثر لقب قبيح أو شهرة سيئة ، وأخذ الناس ينظرون إليهم بنظر الإِنتقاص والإِحتقار . . . وبالتالي لم يستفيدوا من المواهب
____________________
(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ ص ١١٦ .
(٢) مجمع البحرين ـ مادة نبز .
(٣) قاموس دهخدا الفارسي ص ٢٢٢٥ .
التي كانت تميزهم ، بل لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد اعتياديين فهؤلاء يكابدون الضغط الروحي دائماً ، ويقضون حياتهم في حرمان وشعور بالحقارة والدناءة .
وكمثل على ذلك نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد . فقد كان إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن النديم من العلماء الذين قلّ نظراؤهم في عصره ، وكان قد أجهد نفسه في علوم كثيرة كالكلام والفقه والنحو والتاريخ واللغة والشعر ، وبرع في جميع ذلك براعة تامة . وكان عملاقاً عظيماً في المناظر العلمية ، وكثيراً ما كان يتغلب على فضلاء عصره . وله في مختلف العلوم ما يقرب من أربعين مجلداً ، وآثاره المهمة باقية حتى اليوم .
كان ابن النديم ذا صوت جميل ، ورغبة شديدة في الغناء . وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طرب الخلفاء ورجال الدولة ، ويؤنس الحاضرين بغنائه المطرب ، ويجذب قلوبهم نحوه . . . ولاستمراره في هذا العمل ضؤلت قيمة ثقافته العلمية شيئاً فشيئاً بالنسبة إلى غنائه حتى عرف في المجتمع بهذه الصفة ولقبه الناس بـ (المغنّي) و (المطرب) .
لقد أوردت هذه الشهرة ضربة قاصمة على شخصيته ، ولم يتمكن فيما بعد أن يعدّ نفسه في المجتمع كرجل عالم مطلع ، وأن يظهر كفاءته العلمية . . . وبالرغم من قربه لدى الخلفاء والشخصيات فانهم لم يعهدوا إليه بمهمة أو عمل خطير في الدولة ، وذلك حذراً من اضطراب الرأي العام .
وبهذا الصدد كان المأمون العباسي يقول : لو لم يكن يشتهر ابن النديم بالطرب والغناء لولّيته القضاء ، لأنه يفوق جميع قضاة الدولة الموجودين من حيث الفضل والعلم ، وأكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب(١) .
نستنتج مما تقدم أن الاسم المستهجن ، أو اسم العائلة القبيح أو اللقب الشنيع ، أو الشهرة السيئة تسبب الشعور بالحقارة ، وتأزم عقدة
____________________
(١) قاموس دهخدا الفارسي ص ٢٢٢٥ .
الحقارة ، مما يؤدي إلى تنغّص الحياة على الإِنسان .
إن الشعور بالحقارة المنبعث من الاسم يلازم الطفل من أولى أدوار حياته . ومن الحقوق الدينية للأولاد على أوليائهم إنتخاب الاسم واللقب الحسنين للطفل . على الآباء والأُمهات المسلمين الإِهتمام بهذا الواجب بأن يؤدوا حقوق الأولاد على أحسن ما يرام ، ويختاروا لأولادهم الأسماء والألقاب المناسبة الجميلة ، وألا يكونوا سبباً ـ من غير ضرورة ـ لشعورهم بالحقارة والخسة والضعة طيلة أيام عمرهم .