الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-541-5
الصفحات: ٤٢٩

المعنى وأوفق لامتثال الأمر الوارد بقوله ( فَاسْتَعِذْ ) (١) لنكتة دقيقة هي أنّ السين والتاء شأنهما الدلالة على الطلب ، فوردتا في الأمر إيذانا بطلب التعوّذ ، فمعنى استعذ أي اطلب منه أن يعيذك ، فامتثال الأمر أن يقول : أعوذ بالله ، أي ألتجئ إليه ، لأنّ قائله متعوّذ قد عاذ والتجأ ، والقائل : أستعيذ ، ليس بعائذ ، إنّما هو طالب العياذ به كما يقول : أستخير الله ، أي أطلب خيرته ، وأستقيله أي أطلب إقالته ، وأستغفره أي أطلب مغفرته ، لكنها قد دخلت هنا في فعل الأمر وفي امتثاله بخلاف الاستعاذة.

وبذلك يظهر الفرق بين الامتثال بقوله : أستغفر الله ، دون أستعيذ بالله ، لأنّ المغفرة إنّما تكون من الله فيحسن طلبها ، والالتجاء يكون من العبد فلا يحسن طلبه ، فتدبّر ذلك ، فإنّه لطيف.

ويظهر منه أنّ كلام الجوهري ليس بذلك الحسن ، وقد ردّه عليه جماعة (٢) من المحقّقين ( وروى ) حنان ـ بالتخفيف ـ بن سدير عن أبي (٣) عبد الله عليه‌السلام ( الجهريّة ) وأنّه سمعه عليه‌السلام حين صلّى خلفه يتعوّذ بإجهار ثمّ جهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ويحمل على الجواز.

( وإحضار القلب ) حال القراءة ( ليعلم ما يقول ) ويتدبّره ، فإنّ المقصود بالذات من تلاوة القرآن تدبّره ، قال الله سبحانه ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٤) ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (٥).

__________________

(١) « النحل » ١٦ : ٩٨.

(٢) لم نعثر على من تعرّض للردّ على الجوهري في كتب اللغة والتفسير ، المتوفّرة لدينا ، ولعلّ مراد الشارح من المحققين أصحاب الكتب المؤلّفة في الردّ على الجوهري ونقد آرائه ، ومنها :

١ ـ « قيد الأوابد » لأحمد بن محمد الميداني النيسابوري. ٢ ـ « الإصلاح لما وقع من الخلل في الصحاح » لجمال الدين أبي الحسن عليّ بن يوسف القفطي. ٣ ـ « نقود على الصحاح ». ٤ ـ « نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم ».

٥ ـ « غوامض الصحاح ». ٦ ـ « نور الصباح في أغلاط الصحاح » وغيرها من الكتب ، التي هي غير متوفّرة لدينا.

(٣) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٨٩ ـ ١١٥٨.

(٤) « محمّد » ٤٧ : ٢٤.

(٥) « النساء » ٤ : ٨٢.

١٨١

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها » (١).

وليخصّص نفسه بكلّ خطاب في القراءة من أمر ونهي ووعد ووعيد ، ويقدّر أنّه هو المقصود به ، وكذلك إن سمع قصص الأوّلين والأنبياء عليهم‌السلام علم أنّ مجرّد السماع غير مقصود ، وإنّما المقصود الاعتبار ، وليعلم أنّ القرآن كلّه نزل من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جاره » (٢) ، فلا يتّخذ مجرّد الدراسة عملا ، بل يجعلها قراءة كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتدبّره ويعمل بمقتضاه.

( والشكر والسؤال والاستعاذة والاعتبار عند النعمة والرحمة والنقمة والقصص ) على طريق اللفّ والنشر المرتّب ، أي يجعل الشكر عند آية النعمة ، والسؤال عند آية الرحمة وهكذا ، وحينئذ فيتأثّر القلب بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كلّ فهم حال ووجه يتّصف به عند ما يوجّه نفسه في كل حالة إلى الجهة التي فهمها.

( واستحضار التوفيق للشكر عند أول الفاتحة و ) عند ( كلّ شكر ) ، لأنّ التوفيق بقوله : الحمد لله ، المشتمل على غرائب المعاني ، وجعل الشكر نعمة من الله تعالى على القارئ وفّقه لها ، بتعليمه له الشكر له بهذه الصيغة الشريفة. وليستحضر أنّ جملة الأفراد المحمود عليها والنعم الظاهرة والباطنة عليه كلّها من الله تعالى إمّا بواسطة أو غير واسطة ، فإنّ الواسطة فيها رشحة من رشحات جوده ونفحة من نفحات فضله ، ليناسب كون جملة الحمد لله الجواد ويطابق المعنى المدلول عليه الاعتقاد.

( و ) استحضار ( التوحيد عند قوله : ربّ العالمين ) حيث وصفه بكونه ربّا ومالكا لجميع العالمين من الإنس والجنّ والملائكة وغيرهم.

( واستحضار التمجيد ) وهو النسبة إلى المجد والكرم ( وذكر الآلاء ) وهي هنا النعماء

__________________

(١) « عوالي اللآلي » ٤ : ١١٢ ـ ١٧٣.

(٢) « المستقصى في أمثال العرب » ١ : ٤٥٠ ـ ١٩١١ ، وصدر البيت :

أصبح يهوى حرّة معطارة

......................

١٨٢

مطلقا ( على جميع الخلق عند : الرحمن الرحيم ) الدالّين على إفاضة النعم الدقيقة والجليلة على القوابل في الدنيا والآخرة ، إذ كلّ من تنسب إليه الرحمة فهو مستفيض من لطفه وإنعامه ، ومرجع الكلّ إلى ساحل جوده وإكرامه ، وعند ذلك ينبعث الرجاء ، وهو أحد المقامين القلبيّين.

( و ) استحضار ( الاختصاص لله تعالى بالخلق والملك عند : مالك يوم الدين ) فإنّه وإن كان مالكا لغيره من الأيّام وغيرها إلّا أنّه ربّما يظهر على الجاهل مشاركة غيره بواسطة تغلّب ظاهري ، بخلاف ذلك اليوم ، فإنّه المنفرد فيه بنفوذ الأمر وحقيقة الملك بغير منازع ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ ) (١).

( مع إحضار البعث والجزاء والحساب وملك الآخرة ) الواقعة في ذلك اليوم ، فينبعث لذلك الخوف ، وهو المقام الثاني ، ويثبت في القلب ، لطروّه وعدم المعارض له فيغلب على الرجاء ، وهو الحالة اللائقة بالسالكين عند المحقّقين ، وفي هذا الترتيب العجيب إشارة إلى برهانه.

وليعلم أنّ هذه الأوصاف الثلاثة جامعة لمراتب الوجود من ابتدائه إلى انتهائه متّصلا باليوم الآخر الذي هو الغاية الدائمة ، فالأول إشارة إلى وصف الإبداع والإيجاد ، وهو أوّل النعم المستحقّة للحمد ، والوصفان الوسطان إشارة إلى حالة دوامه وما يشتمل عليه من النعم في حالة بقائه ، والثالث إشارة إلى آخر حالاته ونهاية أمره ، التي لا آخر لها.

وحقيق بمن جرت عليه هذه الأوصاف ـ من كونه موجدا منعما بالنعم كلّها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها على جميع العالمين ، مالكا لأمورهم يوم الدين من ثواب وعقاب ـ أن يكون مختصّا بالحمد لا أحد يشاركه فيه على الحقيقة.

وإذا أحطت بذلك وفزت بفضيلتي الرجاء والخوف فترقّ منه إلى ( استحضار الإخلاص والرغبة إلى الله وحده عند : إيّاكَ نَعْبُدُ ) حيث قد خصصته تعالى بالعبادة التي

__________________

(١) « غافر » ٤٠ : ١٦.

١٨٣

هي أقصى غاية الخضوع والتذلّل ـ ومن ثمّ لم يستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى ـ والتفتّ من مقام البعد عن مقاربة جنابه إلى مقام الفوز بلذيذ خطابه.

( والاستزادة من توفيقه وعبادته واستدامة ما أنعم الله على العباد عند : وإيّاكَ نَسْتَعِين ) حيث قدّمت الوسيلة على طلب الحاجة ، ليكون ادعى للإجابة ، واستعنت به في جميع أمورك من غير التفات إلى فرد منها ولا إلى جميعها ، لقصور الوهم عن الإحاطة بتفاصيل ما يحتاج إليه تعالى فيه ، ويفتقر إلى عونه عليه.

( و ) استحضار ( الاسترشاد به والاعتصام بحبله والاستزادة في المعرفة به سبحانه والإقرار بعظمته وكبريائه عند : اهدنا الصّراط المستقيم ).

وأشار ـ بكون طلب الهداية متناولا للاسترشاد والاعتصام والاستزادة من المعرفة والإقرار بالعظمة ـ إلى مطلب شريف ، وهو أنّ هداية الله تعالى تتنوّع أنواعا كثيرة يجمعها أربعة أجناس مترتّبة :

أوّلها : إفاضة القوى التي بها يتمكّن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواسّ الباطنة والمشاعر الظاهرة.

وثانيها : نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى بقوله ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) ، وقال تعالى ( فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٢).

وثالثها : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإليه أشار تعالى بقوله ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (٣) ، وقوله تعالى ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٤).

ورابعها : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء بالوحي الإلهي كما هي ، أو بالإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا القسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء ، وإليه

__________________

(١) « البلد » ٩٠ : ١٠.

(٢) « فصّلت » ٤١ : ١٧.

(٣) « الأنبياء » ٢١ : ٧٣.

(٤) « الإسراء » ١٧ : ٩.

١٨٤

أشار تعالى بقوله ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٢).

ف « الاسترشاد به » إشارة إلى الجنس الأول ، وهو واضح.

و « الاعتصام » إلى الثاني ، فإنّ أصله الامتناع بالشي‌ء (٣) ، ولا شكّ أنّ نصب الأدلّة وإقامة السبل الفارقة بين الحقّ والباطل والصلاح والفساد عصمة لمن تمسّك بها من الهلكة وجنّة له من الضلالة.

و « الاستزادة في المعرفة » إلى الثالث ، فإنّ العقل وإن كان دليلا على الله تعالى بآثاره الظاهرة وآياته الباهرة المتظافرة ، إلّا أنّ الأنبياء والرسل عليهم‌السلام والكتب المطهرة تهدي للتي هي أقوم ، وتزيد في المعرفة على الوجه الأتمّ وترشد إلى ما لا يفي العقل بدركه.

و « الإقرار بعظمته وكبريائه » إلى المقام الرابع ، فإنّ من ارتقى إلى تلك الغاية ، ووصل إلى شريف تلك المرتبة ، وانغمس في أنوار تلك الهيبة ، واغترف من أسرار تلك البحار الإلهيّة ، اعترف بمزيد الكبرياء والعظمة ، بل اضمحلّ وفني في تلك المرتبة ، وعرف أنّ كلّ شي‌ء هالك إلّا وجهه ، فإذا طلب العارف الهداية إلى الصراط المستقيم ، فمطلبه هذه المنزلة ، لتمكّنه ممّا سبق والناس فيها على حسب مراتبهم ، والصراط المستقيم المستوي مشترك بين الجميع.

( و ) إذا توجّه المصلّي إلى ذلك الجناب العليّ وسأل ذلك المطلب السنيّ فليترقّ إلى استحضار ( التأكيد في السؤال والرغبة والتذكير ، لما تقدّم من نعمه على أوليائه ، وطلبه مثلها عند ) قوله : ( صراط الّذين أنعمت عليهم ) من النّبيين والصدّيقين والصالحين.

وإنّما طلب الهداية إلى سلوك طريق المذكورين ، التي هي نعم أخروية أو ما كان وسيلة إليها ، صرفا لما سواها من النعم الدنيوية عن درجة الاعتبار ، وتحقيقا وتفخيما

__________________

(١) « الأنعام » ٦ : ٩٠.

(٢) « العنكبوت » ٢٩ : ٦٩.

(٣) « المصباح المنير » ٤١٤ ، « عصم ».

١٨٥

لها من بين سائر الأغيار ، فإنّ أصل النعمة : الحالة التي يستلذّها الإنسان.

ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال تعالى ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١) تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي.

والأوّل قسمان : موهبي وكسبي.

والموهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالّة فيه والهيئات العارضة له من الصحّة وكمال الأعضاء.

والكسبيّ : تزكية النفس وتخليتها عن الرذائل ، وتحليتها بالأخلاق والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلّي المستحسنة وحصول الجاه والمال.

والثاني : أن يرضى عنه ويغفر ما سلف منه ويؤديه في أعلى علّيّين مع الملائكة المقرّبين أبد الآبدين.

والمراد من النعمة المطلوبة هنا ، التي تؤكّد الرغبة فيها وسؤال مثلها هو القسم الأخير ، وما يكون وصلة إلى نيله من القسم الأول ، وما عدا ذلك يشترك في نيله المؤمن والكافر.

( و ) استحضار ( الاستدفاع لكونه من المعاندين الكافرين المستخفّين بالأوامر والنواهي عند الباقي ) من السورة ، والمعنى طلب سبيل من أفاض عليهم نعمة الهداية دون الذين غضب عليهم من الكفّار والزائغين من اليهود والنصارى وغيرهم من الضالّين.

وجملة ما فرّقه رحمه‌الله على الفاتحة من سنن الاستحضارات القلبيّة رواه الفضل بن شاذان في علله ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « أمر الناس بالقراءة في الصلاة ، لئلا يكون القرآن مهجورا مضيّعا ، وليكون محفوظا مدروسا ، وإنّما بدأ بالحمد ، لأنّه ليس شي‌ء من القرآن والكلام جمع فيه جوامع الخير والحكمة ما جمع في

__________________

(١) « النحل » ١٦ : ١٨.

١٨٦

سورة الحمد ، وذلك أنّ قوله تعالى ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) إنّما هو أداء لما أوجب الله على خلقه من الشكر ، وشكر لما وفّق عبده من الخير.

( رَبِّ الْعالَمِينَ ) (١) توحيد له وتمجيد وإقرار بأنّه الخالق المالك لا غيره.

( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) (٢) استعطاف وذكر آلائه ونعمائه على جميع خلقه.

( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (٣) إقرار بالبعث والحساب والمجازاة. وإيجاب ملك الآخرة له كإيجاب ملك الدنيا.

( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) (٤) رغبة وتقرّب إلى الله تعالى وإخلاص له بالعمل دون غيره.

( وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) (٥) استزاده من توفيقه وعبادته ، واستدامة لما أنعم عليه.

( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (٦) استرشاد واعتصام بحبله ، واستزاده في المعرفة لربّه عزوجل ، ولعظمته وكبريائه.

( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (٧) توكيد في السؤال والرغبة ، وذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه ، ورغبة في مثل تلك النعم.

( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) (٨) استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفّين به وبأمره ونهيه.

( وَلَا الضّالِّينَ ) (٩) اعتصام من أن يكون من الذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة فهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. » (١٠).

( والترتيل ) ، لقوله تعالى ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) ( وهو ) بناء على أنّ الأمر هنا

__________________

(١) « الفاتحة » ١ : ٢.

(٢) « الفاتحة » ١ : ٣.

(٣) « الفاتحة » ١ : ٤.

(٤). « الفاتحة » ١ : ٥.

(٥). « الفاتحة » ١ : ٥.

(٦) « الفاتحة » ١ : ٦.

(٧). « الفاتحة » ١ : ٧.

(٨). « الفاتحة » ١ : ٧.

(٩). « الفاتحة » ١ : ٧.

(١٠) « الفقيه » ١ : ٢٠٤ ـ ٩٢٧.

« المزّمّل » ٧٣ : ٤.

١٨٧

للندب ( تبيين الحروف بصفاتها المعتبرة ) عند علماء (١) التجويد وأهل (٢) العربيّة ( من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنّة وغيرها ) من الصفات وأضدادها ، ( والوقف ) عطف على تبيين ، لأنّه أحد شقّي الترتيل ، فإنّه كما روي عن عليّ عليه‌السلام : « حفظ الوقوف وبيان الحروف » (٣) ، وليس المراد مطلق الوقف ، بل الوقف ( التامّ ) هو الذي لا يكون للكلام قبله تعلّق بما بعده لفظا ولا معنى ، ( والحسن ) وهو الذي يكون له تعلّق من جهة اللفظ دون المعنى ، ومن ذلك يعرف وجه الوصف بالتامّ والحسن ، فإنّ الوقف على الحسن حسن في نفسه مفيد لحسن النظم وسهولة الفهم ، لكن لا يحسن الابتداء بما بعده للتعلّق اللفظي فهو دون التامّ.

( و ) الوقف ( عند فراغ النفس مطلقا ) سواء كان حينئذ أحدهما أم غيرهما من الأنواع المرخّصة أم الممنوعة.

ومن هنا يعلم أنّ مراعاة صفات الحروف المذكورة وغيرها ليس على وجه الوجوب كما يذكره علماء فنّه ، مع إمكان أن يريدوا به تأكيد الفعل كما اعترفوا به في اصطلاحهم على الوقف الواجب ، فإنّهم قالوا : إنّ الوجوب فيه ليس بالمعنى المصطلح شرعا بحيث يأثم بتركه ولو حمل الأمر بالترتيل على الوجوب ، كأنّ المراد ببيان الحروف : إخراجها من مخارجها على وجه يتميّز بعضها عن بعض بحيث لا يدمج بعضها في بعض ، وبحفظ الوقوف : مراعاة ما لا يحيل المعنى ، ويفسد التركيب ، ويخرج عن أسلوب القرآن الذي هو معجز بغريب أسلوبه وبلاغة تركيبه.

( وفي الفاتحة أربعة ) وقوف ( توأم ) على البسملة ، و « مالك يوم الدين » ، و « نستعين » ، وآخرها. وعشرة حسنة على « بسم الله » ، وعلى « الرحمن » ، وعلى « الحمد لله » ، وعلى « ربّ العالمين » ، وعلى « الرّحمن » ، وعلى « الرّحيم » ، وعلى « إيّاك نعبد » ، وعلى « المستقيم » ، وعلى « أنعمت عليهم » ، وعلى « غير المغضوب » ، ( وعلى أواخر

__________________

(١) « شرح المقدّمة الجزرية » ٥١.

(٢) « النهاية في غريب الحديث » ٢ : ١٩٤ ، « رتل ».

(٣) ذكره في « بحار الأنوار » ٦٧ : ٣٢٣.

١٨٨

آي الإخلاص ) أي كلّ واحدة من آيها الخمس.

( وتعمّد الإعراب وحركات البناء ) أي إظهار حركاتهما بحيث يتميّز بعضها عن بعض ( من غير إفراط ) ، لئلّا تخرج الحركة إلى الحرف المجانس للحركة.

ويمكن أن يريد بتعمّد الإعراب أن لا يكثر الوقف فيؤدّي إلى ترك الإعراب ، إذ لا يكون الوقف إلّا على ساكن أو ما في حكمه خصوصا الوقف على ما لا ينبغي الوقف عليه ، فإنّه وإن كان جائزا إلّا أنّ تركه مستحبّ ، تخلّصا من المرجوح.

( والمدّ المنفصل ) وهو ما كان حرف مدّ آخر الكلمة ، وشرطه أول كلمة أخرى ، فإنّه حينئذ يجوز القصر والمدّ ، وهو أفضل ، لما فيه من تحقيق الحرف.

( وتوسّطه مطلقا ) سواء كان مدّا منفصلا أم غير منفصل واجب المدّ أم جائزة ، فإنّ زيادته عن التوسّط ـ كمدّ ورشّ ـ يكاد يخرج عن حدّ الفصاحة ، وتفوت لذاذة استماعه ومحاسن أدائه. ودون التوسّط لا يبين معه حرف المدّ بيانا شافيا ، ولا يتّضح معه إيضاحا كافيا وخير الأمور أوسطها.

ولا يشكل بأنّ الجميع متواتر ، إذ لا بعد في تفضيل بعضه على بعض وإن اشترك الجميع في أصل البلاغة ووصف الفصاحة ، ومن البيّن أنّ في بعض تركيب القرآن العزيز ما هو أفصح من بعض وأجمع لدقائق البلاغة ومزايا الفصاحة.

( والتشديد ) للحرف المشدّد ( بلا إفراط ) والسنّة هنا هي ترك الإفراط به ، أما أصله فواجب ، لأنّه قائم مقام الحرف.

( وإشباع كسرة كاف ملك ) للانتقال بعدها إلى فتحة ، فيخاف بسببها من الإجحاف بها.( وضمّة دال نعبد ) ، لتوالي الضمّتين وأتباعهما الواو المجانس لها ، فلا بدّ من إعطاء كلّ واحدة حقّها.

( والإتيان بالواو بعدها سلسا ) ، فإنّه مظنّة التشديد عند الغفلة ، من حيث إنّ الضمّتين قبله بمنزلة واو ، فيصير كاجتماع مثلين. ( وإخلاص الدال في الدين ، والياء في إيّاك ، وإخلاص الفتحة في الكاف من إيّاك بلا إشباع مفرط ) لئلّا يبلغ الألف فتفسد.

( والتحرّز من تشديد الباء في نعبد ونحوه ) من نونها ودالها ، فكثيرا ما يقع فيه من يبالغ

١٨٩

في تجويده من غير معرفة. ( و ) التحرّز من تشديد ( التاء في نستعين ) أي التشديد الذي هو بدل حرف داخل في الحرف المشدّد لا التشديد الوصفي ، فإنّ التاء حرف شديد قد حرص علماء التجويد على التحفّظ بتشديده ، لئلّا يصير رخوا كما ينطق به كثير ، حتّى أدخلها لذلك سيبويه (١) في حروف القلقلة.

( وتصفية الصاد في الصراط لمختاره ) أي لمختار الصاد ، فإن اختار السين فليحافظ على تسفّله وانفتاحه ، لئلّا يلتبس بالصاد ، فإنّه يشاركه مخرجا ورخاوة وصفيرا ، وعلى همسه ، لئلّا يلتبس بالزاي المشاركة له في جميع ما ذكر. وإن اختار إشمام الصاد زايا فيخلصها من تمحّضها حقيقة وصفة.

( وتمكين حروف المدّ واللين ) ، وهي الألف ، والواو والياء الساكنتان بعد تحريك مجانس لهما كياء العالمين والرحيم والدين ونستعين ، ونظائرها ، فإن كان مخالفا فهما حرفا لين فقط.

وعلى التقديرين فليحافظ على تمكينها ، لأنها حروف جوفية خفيّة تضمحلّ عند التقصير في تحقيقها ، ومن ثمّ وجب مدّها عند الهمز أو يرجّح ، محافظة على بيانها ( بغير إفراط ) كغيرها ، فإنّ الحرف كالميزان لا يطغى فيه ولا يخسر.

( وفتحه طاء صراط الذين بلا إفراط ) وكذا المعرفة قبلها ( وكذا فتحه نون الذين واجتناب تشديد تاء أنعمت وضاد المغضوب ) تشديدا لا يبلغ حدّه ليدخل الحكم في السنن ، وإنّما خصّهما ، لأنّها مظنّة ذلك عند غفلة المجود لهما.

( و ) اجتناب ( تفخيم الألف ) في جميع محالّ القراءة.

هذا هو المشهور (٢) بين أئمّة القراءة ، وكأنّهم أرادوا التحذير ممّا يفعله بعض الأعاجم من المبالغة في لفظها إلى أن يصيّروها كالواو ، وإلّا فالتحقيق الذي اختاره فضلاؤهم ونقّحه محقّقوهم كابن الجزري (٣) وغيره أنّها لا توصف بترقيق ولا تفخيم ،

__________________

(١) انظر « كتاب سيبويه » ٢ : ٣٤١ ، ٥٠٥.

(٢) « النشر في القراءات العشر » ١ : ٢١٥.

(٣) « النشر في القراءات العشر » ١ : ٢٠٣ ، ٢١٥.

١٩٠

بل بحسب ما يتقدّمها ، فإنّها تتبعه ترقيقا وتفخيما.

والمراد بحروف التفخيم : الحروف المستعلية السبعة ، وأقواها تفخيما حروف الإطباق. فعلى هذا ألف ( الضّالِّينَ ) مفخّمة ، وما قبلها من ألفات الفاتحة مرقّقة ، وقس على ذلك غيرها.

ولا يجوز كون قوله : « وتفخيم » عطفا على « اجتناب » ، ليكون مأمورا بتفخيم الألف ، ويكون المراد الألف التي بعد ضاد ( الضّالِّينَ ) ، لأنّ ذلك وإن صحّ هنا ، لكن يفسد قوله بعد ذلك : « وإخفاء الهاء » بل تكون ظاهرة ، فإنّه معطوف على ما أضيف إلى الاجتناب ليدخل في غيره قطعا.

( و ) اجتناب ( إخفاء الهاء ، بل تكون ظاهرة ) ، لأنّها حرف خفيّ بعيد المخرج فينبغي المحافظة عليها ، فكم من مقصّر فيها سيما إذا كانت مكسورة كـ ( عَلَيْهِمْ ) ، أو جاورها ما قاربها صفة أو مخرجا كـ ( اهْدِنَا ) و ( وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) (١) ، و ( مَعَهُمُ الْكِتابَ ) (٢) ، أو وقعت بين ألفين كـ ( بَناها ) (٣) و ( ضُحاها ) (٤) لاجتماع ثلاثة أحرف خفيّة ، فليكن التحفّظ ببيانها خصوصا مع سكونها كـ ( اهْدِنَا ) أثبت.

( وترك الإدغام الكبير ) وهو ما كان الحرف الأول فيه ـ سواء كانا مثلين أم جنسين أم متقاربين ـ متحرّكا.

سمّي كبيرا ، لكثرة وقوعه ، إذ الحركة أكثر من السكون ، أو لتأثيره في إسكان المتحرّك قبل إدغامه ، أو لما فيه من الصعوبة ، أو لشموله نوعي المثلين والجنسين والمتقاربين.

ومثاله في الفاتحة ( الرَّحِيمِ مالِكِ ) بإدغام الميم في الميم في قراءة أبي عمرو ويعقوب (٥) ، وإنّما كان تركه أفضل ( في الصلاة ) ، لأنّ التفكيك أفصح وأكثر حروفا فيكثر

__________________

(١) « يونس » ١٠ : ٥٥.

(٢) « الحديد » ٥٧ : ٢٥.

(٣) « الشمس » ٩١ : ٥.

(٤) « النازعات » ٧٩ : ٢٩.

(٥) « النشر في القراءات العشر » ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

١٩١

معه ثواب القراءة ، ولأنّ فيه إيتاء كلّ حرف حقّه من إعرابه أو حركته التي يستحقّها.

والإدغام يلبس على كثير من الناس وجه الإعراب ، ويوهم غير المقصود من المعنى في نحو قوله تعالى ( يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) (١) ، ( الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) (٢).

وأكثر القرّاء تركوه ، وبعضهم ـ وهو أبو عبيد القاسم بن سلام ـ لم يذكره في مصنّفاته ، لكراهته له ، وقال في بعض كتبه : « القراءة عندنا هي الإظهار ، لكراهتنا الإدغام إذ كان تركه ممكنا ».

( وإسماع الإمام ) قراءته من خلفه ، لعموم قول الصادق عليه‌السلام في رواية أبي بصير : « ينبغي للإمام أن يسمع من خلفه كلّ ما يقول » (٣) ( ما لم يعل ) ، للنهي (٤) عن العلوّ في القراءة.

وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (٥) : أنّ الجهر رفع الصوت شديدا (٦). والمخافتة ما لم تسمع أذنيك.

ويقرأ قراءة وسطا ما بين ذلك.

( وتوسّط المنفرد ، وقراءة الإمام وناسي الحمد في ) الركعتين ( الأوليين في ) الركعتين ( الأخيرتين ) الحمد.

أمّا الأوّل فهو المشهور (٧) ، وفيه جمع بين أخبار دلّ بعضها على أفضليّة القراءة مطلقا ، كرواية محمّد بن حكيم ، عن الكاظم (٨) عليه‌السلام. وبعضها على التسبيح مطلقا ،

__________________

(١) « لقمان » ٣١ : ١٢ ، « النمل » ٢٧ : ٤٠.

(٢) « الحشر » ٥٩ : ٢٤.

(٣) « تهذيب الأحكام » ٣ : ٤٩ ـ ١٧٠.

(٤) « الكافي » ٣ : ٣١٧ باب قراءة القرآن ، ح ٢٧.

(٥) « الإسراء » ١٧ : ١١٠.

(٦) « تفسير القميّ » ٢ : ٣٠.

(٧) « الاستبصار » ١ : ٣٢٢ ، « قواعد الأحكام » ١ : ٢٧٣ ، وقال في « جامع المقاصد » ٢ : ٢٥٨ : « ويلوح من عبارة ابن الجنيد مثل قول الاستبصار ».

(٨) « الاستبصار » ١ : ٣٢٢ ـ ١٢٠١.

١٩٢

كرواية الحلبي عن الصادق (١) عليه‌السلام ، وبعضها على قراءة الإمام فيهما كرواية منصور بن حازم (٢) ، ومعاوية بن عمّار (٣) عن الصادق عليه‌السلام : « يقرأ الإمام ويتخيّر المنفرد ».

ولا شكّ أنّ حمل إطلاق القراءة على الإمام والتسبيح على المنفرد طريق الجمع ، وتقييد للمطلق منهما بما قيّد في الروايتين الأخيرتين. لكن يبقى في الباب رواية عمر بن حنظلة (٤) ، عنه عليه‌السلام : « هما والله سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت » (٥) مع أنّه سأله عن الأفضل.

ويمكن حملها على المنفرد أيضا ، لكن يبقى فيه التنافي ظاهرا بين التسوية بينهما وأفضليّة التسبيح له كما في الرواية (٦) الأخرى.

ويمكن أن يكونا سواء في الإجزاء ، وفيه عدول عن السؤال بغرض من الأغراض. أمّا التخيير السابق فغير مناف للأفضليّة.

وأمّا الثاني وهو حكم ناسي الحمد في الأوليين ، فلئلا تخلو الصلاة من الفاتحة ، ولا صلاة إلّا بها ، وللأمر به في بعض (٧) الأخبار حتّى قيل (٨) بتعيّن القراءة حينئذ عليه ، والمشهور (٩) الاستحباب.

ومثله المؤتمّ في الركعتين الأخيرتين من الرباعية أو الأخيرة من الثلاثية خاصّة إذا لم يقرأ فيها الإمام.

__________________

(١) « الاستبصار » ١ : ٣٢٢ ـ ١٢٠٣.

(٢) « الاستبصار » ١ : ٣٢٢ ـ ١٢٠٢.

(٣) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ـ ١١٨٥.

(٤) الرواية وردت عن عليّ بن حنظلة ، ولعلّ ما ورد من ذكر « عمر بن حنظلة » قد وقع سهوا ، فإنّ موسى بن بكر رواها عن عليّ بن حنظلة كما بيّن ذلك المحقّق السيد الخوئي في « معجم رجال الحديث » ١١ : ٣٩٩ ، الرقم : ٨١٠١.

(٥) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٩٨ ـ ٣٦٩ ، « الاستبصار » ١ : ٣٢١ ـ ١٢٠٠.

(٦) « الفقيه » ١ : ٢٠٢ ـ ٩٢٥.

(٧) « الاستبصار » ١ : ٣٥٥ ـ ١٣٤٢ ، « تهذيب الأحكام » ٢ : ١٤٨ ـ ٥٧٩.

(٨) « الخلاف » ١ : ٣٤١ ، المسألة : ٩٣.

(٩) « المبسوط » ١ : ١٠٦.

١٩٣

( والتسبيح ثلاثا ) بالتسبيحات الأربع في الأخيرتين ( إذا لم نوجبه ) كما ذهب إليه الشيخ (١) رحمه‌الله ، إمّا للخروج من خلافه ، وإمّا للأخبار (٢) الواردة به التي أقلّ مراتبها الاستحباب. ( وضمّ السورة ) إلى الفاتحة ( في النفل ) وخلاف المندوب هنا الاقتصار على الفاتحة ، إذ لا تصحّ النافلة بدونها في أصحّ القولين ، أمّا الاقتصار عليها فيها فجائز إجماعا (٣).

( والجهر في ) النافلة ( الليليّة ، والسرّ في غيرها ) من النوافل الراتبة وغيرها على المشهور (٤) ، لقول الصادق عليه‌السلام : « السنّة في صلاة النهار بالإخفات ، والسنّة في صلاة الليل بالإجهار » (٥).

( والجهر بالبسملة في السرّيّة ) سواء في ذلك الأوليان والأخيرتان على أصحّ القولين ، والأخبار (٦) به متظافرة. وفي بعضها : « أنّه من علامة المؤمن » (٧) بل أوجبه بعض (٨) الأصحاب.

( وإسرار النساء في الجهرية ) وإن جاز لهنّ الجهر فيها إذا لم يسمعهنّ من يحرم إسماعه ، لأنه أدخل في الستر ، وهو أوفق بحالهنّ ( والسكوت بعد قراءة الفاتحة وبعد السورة كلّ سكتة بقدر نفس ) روي ذلك من فعل النبيّ (٩) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا فرق في ذلك بين الأوليين والأخيرتين ، لإطلاق النصّ ، واستحبّ المصنّف (١٠)

__________________

(١) « النهاية » ٧٦.

(٢) « الفقيه » ١ : ٢٥٦ ـ ١١٥٨.

(٣) « المعتبر » ٢ : ١٨١ ، وذكر فيه اتّفاق العلماء على ذلك.

(٤) ادّعى المحقّق في « المعتبر » ٢ : ١٨٤ إجماع علمائنا على ذلك.

(٥) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٨٩ ـ ١١٦١.

(٦) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٦٨ ـ ٢٤٦ ، ٢٨٨ ـ ١١٥٥.

(٧) « تهذيب الأحكام » ٦ : ٥٢ ـ ١٢٢.

(٨) « المهذّب » ١ : ٩٧ ، « الكافي في الفقه » ١١٧.

(٩) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٩٧ ـ ١١٩٦.

(١٠) « الذكرى » ١٩٢.

١٩٤

السكوت بعد التسبيح فيهما أيضا.

( والتخفيف ) في القراءة ( لخوف الضيق ) احتياطا في الوقت ، أمّا مع ظنّه فيجب.

( والاقتصاد ) وهو التوسّط في القراءة ( للإمام ) ، تخفيفا على المأموم ، بل الاقتصار على السور القصار مع احتياج بعض المأمومين إلى التخفيف بها ، لرواية إسحاق بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « ينبغي للإمام أن تكون صلاته على أضعف من خلفه » (١).

( و ) قراءة السور ( المطوّلات من المفصّل (٢) في ) صلاة ( الصبح كالقيامة وعمّ ) وهي حدّها الأخير. واختلف في حدّها من الجانب الآخر ، فالمشهور (٣) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

( و ) كذا يستحبّ قراءة طوال المفصّل في ( نفل الليل والمتوسّطات ) منه ( في الظهر والعشاء كالأعلى والشمس ) وما بينهما وفوقهما إلى عمّ ( والقصار ) منه ، وهي ما بعد الضحى إلى الآخر ( في العصر والمغرب ونفل النهار ) سمّي بذلك ، لكثرة الفصول بين سوره.

وليس في أخبارنا تصريح بهذا الاسم ولا تحديد ، وإنّما الموجود ما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا من أمثلة السور ونحوها في تلك الصلوات.

( و ) قراءة ( الجمعة والأعلى في عشاءيها ) أي عشاءي الجمعة على طريقة الاستخدام ، من قبيل :

فسقي الغضا والسّاكنيه وإن

هم شبّوه بين جوانح وقلوب (٤)

إذ المراد من الجمعة أوّلا السورة ، وبضميرها اليوم ، والمعنيان مستعملان للفظ الجمعة.

__________________

(١) « الفقيه » ١ : ٢٥٥ ـ ١١٥٢.

(٢) سمّي المفصّل مفصّلا ، لكثرة الفصول بين سورها ببسم الله الرحمن الرحيم. انظر : « التبيان في تفسير القرآن » ١ : ٢٠.

(٣) قال الشيخ في « التبيان » ١ : ٢٠ : « وقال أكثر أهل العلم : أول المفصّل من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سورة الناس ».

(٤) « ديوان البحتري » ١ : ٢٠١ ، وفيه : « والنّازلية » بدل « والسّاكنيه ».

١٩٥

وقد سبقه إلى هذا الاستخدام المحقّق في النافع (١). ونبّه عليه الصفيّ (٢) في شرح بديعيّته.

( والجمعة والتوحيد في صبحها مع السعة ) أي سعة الوقت. أمّا مع ضيقه فالسنّة الجحد والتوحيد كما سيأتي (٣) ( والجمعة والمنافقون فيها ) أي في صلاة الجمعة ، وهو استخدام آخر ( وفي ظهريها ) أي ظهرها وعصرها ، ثنّاهما باسم إحداهما ، قاعدة مطّردة مع تساويهما تذكيرا وتأنيثا وخفّة وثقلا وإلّا اختصّ به أوّلهما.

وكذا القول في عشاءيها سابقا (٤).

وأوجب المرتضى (٥) قراءتهما فيها وجماعة (٦) فيها وفي ظهرها ، والأخبار (٧) بالحثّ عليهما هنا كثيرة وفي بعضها : « أنّ من تركهما متعمّدا فلا صلاة له » (٨) وفي بعض : « أعاد الصلاة » (٩) وهما حجّة الموجب لهما ، وليس في الأخبار ولا الفتوى تعيّن إحداهما لركعة مخصوصة فيتخيّر فيهما.

( والعدول عن غيرهما إليهما ) لو شرع فيه عمدا أو سهوا ( ما لم ينتصف ) وإن لم يتجاوز النصف ، ( و ) العدول ( إلى النفل ) وإكماله ركعتين ( إن تنصّفت ) سواء في ذلك الجحد والتوحيد وغيرهما.

( وروى ) الكناني ، عن الصادق (١٠) عليه‌السلام : ( أنّ مغربها وعصرها كصبحها ) في استحباب قراءة الجمعة والتوحيد فيهما.

__________________

(١) « المختصر النافع » ٥٥.

(٢) « شرح الكافية البديعيّة » ٢٩٦.

(٣) « سيأتي في الصفحة : ١٩٧.

(٤) في الصفحة : ١٩٥.

(٥) « جمل العلم والعمل » ضمن « رسائل الشريف المرتضى » ٣ : ٤٢.

(٦) منهم أبو الصلاح الحلبي في « الكافي في الفقه » ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٧) « الكافي » ٣ : ٤٢٥ باب القراءة يوم الجمعة ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ٣ : ٥ ـ ٦ ـ ١٣.

(٨) « الكافي » ٣ : ٤٢٥ باب القراءة يوم الجمعة ، ح ٤ ، « تهذيب الأحكام » ٣ : ٦ ـ ١٦.

(٩) « الكافي » ٣ : ٤٢٦ باب القراءة يوم الجمعة. ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ٣ : ٧ ـ ٢١.

(١٠) « تهذيب الأحكام » ٣ : ٥ ـ ٦ ـ ١٣.

١٩٦

( و ) روى حريز وربعي مرفوعا إلى أبي جعفر عليه‌السلام : ( أنّ صبحها كظهرها ) (١) في استحباب قراءة الجمعة والمنافقين.

قال في المعتبر : « وهذا مقام استحباب فلا مشاحّة في اختلاف الروايات ، إذ العدول إلى غيره جائز » (٢).

( و ) قراءة سورة ( الإنسان والغاشية في صبح الاثنين والخميس ) فقد روي : « أنّ من قرأهما فيهما وقاه الله شرّ اليومين » (٣).

( و ) قراءة سورة ( الجحد في ) الركعة ( الأولى ) في سبعة مواطن : في الأولى ( من سنّة الزوال والمغرب والليل والفجر في الطواف والإحرام وفرض الغداة مصبحا ، وفي ) الركعة ( الثانية ) أي من هذه المواطن ( التوحيد ) ، رواه معاذ بن مسلم ، عن الصادق (٤) عليه‌السلام.

والمراد بالمصبح أن يفعل بعد انتشار الصبح وظهوره كثيرا ، إذ قبله يستحبّ قراءة طوال المفصّل فيها.

والظاهر أنّ حدّ الإصباح ظهور الحمرة أو ما قاربه بحيث تطلع ولمّا يفرغ ، لأنّ تأخيرها إلى ذلك الوقت مكروه ، فإذا خاف الوصول إليه خفّفها. وكذا إذا وصل إليه بالفعل.

( وقراءتها ) أي التوحيد ( ثلاثين ) مرّة ( في أوليي ) صلاة ( الليل ) أي في كلّ واحدة من الركعتين الأوليين ( أو في الركعتين السابقتين ) عليهما ، فإنّه يستحبّ صلاة ركعتين قبل الشروع في صلاة الليل ، وإنّما ردّد المصنّف بينهما ، لما تقدّم من استحباب قراءة الجحد في أوّل صلاة الليل ، فاستحباب قراءة غيرها فيها يظهر منه التنافي ، فحمله

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ٣ : ٧ ـ ١٨ ، « الاستبصار » ١ : ٤١٤ ـ ١٥٨٥.

(٢) « المعتبر » ٢ : ١٨٣.

(٣) « الفقيه » ١ : ٢٠١ ـ ٩٢٢.

(٤) « الكافي » ٣ : ٣١٦ باب قراءة القرآن ، ح ٢٢.

١٩٧

بعضهم على الركعتين السابقتين عليها ، ونقله المصنّف (١) في بعض فوائده ، عن شيخه عميد الدين.

والواقع في الرواية (٢) إنّما هو صلاة الليل فردّد المصنّف لذلك ، مع أنّه يمكن دفع المنافاة بكون كلّ واحد منهما مستحبّا ، فيتخيّر المصلّي فيهما أو بأن يجمع بينهما ، فإنّ غايته القرآن ، وهو في النافلة جائز بغير خلاف (٣) ، بل غير مكروه.

ورواية الثلاثين ذكرها الشيخ في التهذيب (٤) ، والصدوق في الفقيه بصيغة : « وروي أنّ من قرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الليل في كلّ ركعة الحمد مرّة وقل هو الله أحد ثلاثين مرّة انتقل وليس بينه وبين الله ذنب إلّا غفر له » (٥).

قال المصنّف في الذكرى ـ بعد حكمه بحسن جميع ما وردت به النصوص في ذلك ـ : « وينبغي للمتهجّد أن يعمل بجميع الأقوال في مختلف الأحوال » (٦).

( والقراءة بالمرسوم في النوافل ) إذ قد وردت في كثير من النوافل سور مخصوصة ، فالفضل في مراعاة المنقول.

ويفهم من العبارة أنّه لو خالف أو اقتصر فيها على أقلّ ما يجزئ في النافلة تأدّت الوظيفة.

ويشكل ذلك في الصلوات المخصوصة التي لم ترد مشروعيّتها إلّا بتلك السور كصلاة عليّ وفاطمة وجعفر عليهم‌السلام ، والغدير ، وقد تقدّم (٧) في صدر الرسالة ذلك مرّة أخرى.

( و ) إعادة ( الفاتحة للقائم عن سجدة ) التلاوة ( آخر السورة ) ، ليركع عن قراءة ، رواه

__________________

(١) لم نعثر على هذا النقل ضمن ما لدينا من مصنّفات الشهيد الأول.

(٢) تقدّمت في الصفحة السابقة ، الهامش (٤).

(٣) « الخلاف » ١ : ٣٣٦ ، المسألة : ٨٧ ، « نهاية الإحكام » ١ : ٤٦٨ ، « الذكرى » ١٩١.

(٤) « تهذيب الأحكام » ٢ : ١٢٤ ـ ٤٧٠.

(٥) « الفقيه » ١ : ٣٠٧ ـ ١٤٠٣.

(٦) « الذكرى » ١١٦.

(٧) تقدّم في الصفحة : ٣١.

١٩٨

الحلبي عن الصادق (١) عليه‌السلام ، إلّا أنّه لم يقيّد بالنافلة ، وهو محمول عليها ، إذ قراءة العزيمة محرّمة في الفريضة ومبطلة بخلاف النافلة ، والمطلق محمول على المقيّد.

( والتغاير في السورة ) في الركعتين. ( وروي كراهة تكرار الواحدة ) فيها إذا أحسن غيرها ، وإن لم يحسن غيرها فلا بأس. روى ذلك كلّه عليّ بن جعفر ، عن أخيه (٢) عليه‌السلام.

وفي عدم اكتفاء المصنّف باستحباب تغاير السورة عن حدّ كراهة تكرار الواحدة تنبيه على أنّ ترك المستحبّ لا يكون مكروها ، وإنّما المكروه ما نصّ على عينه بالمرجوحيّة لا على استحباب نقيضه.

ويطلق على ترك المندوب خلاف الأولى. وقد يطلق عليه المكروه إذا كان فعلا ، وكثيرا ما يستعمله المصنّف في هذه الرسالة.

وربّما استثني من تكرار الواحدة التوحيد ، لرواية زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أصلّي بـ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (٣) فقال : « نعم ، قد صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلتا الركعتين بـ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) لم يصلّ قبلها ولا بعدها بـ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) أتمّ منها » (٤).

ولعلّ استثناءها من البين ، لاختصاصها بمزيد الشرف.

ويمكن حمل فعله عليه‌السلام على بيان الجواز ، فلا ينافي الكراهة.

قال في الذكرى : « وأمّا كون السورة الثانية بعد الأولى على ترتيب المصحف فلا يعرفه الأصحاب فلا يكره عندهم التقديم والتأخير ، نعم الروايات المتضمّنة للتعيين غالبها على ترتيب القرآن. وقد روي تقديم التوحيد على الجحد في المواضع السبعة المتقدّمة » (٥).

__________________

(١) « الكافي » ٣ : ٣١٨ باب عزائم السجود ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٩١ ـ ١١٦٧.

(٢) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٧١ ـ ٢٦٣ ، « قرب الإسناد » ٢٠٦ ـ ٨٠١ ، « مسائل عليّ بن جعفر » ١٦٤ ـ ٢٦١.

(٣) « التوحيد » ١١٢ : ٢.

(٤) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٩٦ ـ ٣٥٩.

(٥) « الذكرى » ١٩٣.

١٩٩

( ويكره القران ) وهو قراءة أزيد من سورة في الركعة الواحدة ( في الفريضة ) على أصحّ (١) القولين ، لأنّ فيه جمعا بين الأخبار التي دلّ بعضها على النهي عنه (٢) ، وبعضها على نفي البأس (٣) ، وهذا في غير ما نصّ فيه على استحباب قراءته (٤) ، فقد ورد ذلك في كثير من الصلوات.

( والعدول عن السورة ) التي شرع فيها ولم يبلغ نصفها ( إلى غيرها عدا المستثنى ) فيما سبق ، والجحد والتوحيد ، فإنّه لا يعدل عنهما مطلقا إلّا إلى الجمعتين ( وإبقاء المؤتمّ آية ) من قراءته حيث يقرأ خلف الإمام جوازا أو استحبابا ( يركع بها ) ، لرواية زرارة عن الصادق عليه‌السلام قلت : أكون مع الإمام فأفرغ من القراءة قبله؟ قال : « أمسك آية ومجّد الله تعالى واثن فإذا فرغ فاقرأ الآية » (٥).

وفيه دليل على استحباب التسبيح والتحميد في الأثناء ، ودليل على جواز القراءة خلف الإمام.

وكذا يستحبّ إبقاء آية لو قرأ خلف من لا يقتدى به.

( وعدول المرتجّ عليه ) أي المغلق عليه بحيث لا يحسن إكمال القراءة. قال الجوهري : « أرتجت الباب أغلقته وأرتج على القارئ على ما لم يسمّ فاعله إذا لم يقدر على القراءة كأنّه أطبق عليه كما يرتج الباب » (٦) فإذا أرتج على القارئ في السورة انتقل إلى غيرها وإن كان قد تجاوز نصفها.

ويستحبّ عدوله ( إلى الإخلاص ) أي سورة الإخلاص ، لرواية إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام قال : « من غلط في سورة فليقرأ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ثمّ

__________________

(١) « الاستبصار » ١ : ٣١٧ ، « المعتبر » ١ : ١٧٤ ، « شرائع الإسلام » ١ : ٩٩ ، « السرائر » ١ : ٢٢٠ ، « الذكرى » ١٩٠ ، « البيان » ١٥٨ ، « الدروس » ١ : ١٧٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٧٠ ـ ٢٥٤.

(٣) « تهذيب الأحكام » ٢ : ٢٩٦ ـ ١١٩٢.

(٤) « الفقيه » ١ : ٣٠٧ ـ ١٤٠٣ ، ١٤٠٤ ، « أمالي الشيخ الصدوق » ٤٦٢ ـ ٥.

(٥) « الكافي » ٣ : ٣٧٣ باب الصلاة خلف من لا يقتدى به ، ح ١.

(٦) « الصحاح » ١ : ٣١٧ ، « رتج ».

٢٠٠