الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة ، والقصر والإتمام ، وأورد عليه باستلزام التكليف المجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فردٍ معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ، تأخير البيان عن وقت الحاجة قال ما لفظه :

( نعم ، لو فرض حصول الإجماع ، أو ورود النصّ على وجوب شي‌ءٍ معيّن عند الله مردّد عندنا بين أمور من دون اشتراطه بالعلم به ، المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين ، لتمّ ذلك ، ولكن لا يحسن حينئذٍ قوله : فلا يبعدُ حينئذٍ القولُ بالوجوب ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ) (١) .. إلى آخر كلامه.

وأراد بقوله : ( لتمّ ذلك ) وجوب الإتيان بالجميع ، وبالضمير في ( قوله ) المحقّق الخونساري.

وهو صريحٌ في موافقتنا في هذه الصورة ، وإنْ كان ما أورد به على المحقّق المذكور مِنْ استلزام تأخير البيان عن وقت الحاجة في غاية الضعف والقصور ، وكذا ما احتجّ به من استلزام تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراطه بالعلم إسقاط قصد التعيين في الطاعة :

أمّا الأول : فلعدم مدخليّته في المقام ؛ لعدم الإجمال في الخطاب ، وإنّما طرأ الاشتباهُ في المكلّف به ؛ لتردّده بين أمرين. وإزالة هذا التردّد العارض من جهة اختفاء الأحكام غيرُ واجبٍ على الحكيم العلّام ليقبح تأخيره عن وقت حاجة الأنام ؛ لأمره بالرجوع في كلِّ قضيّة إلى ما قرّره الشارع من القواعد الكلّيّة.

وأما الثاني : فلأنّ سقوط قصد التعيين أنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا بالبراءة أو الاحتياط ، وليس ناشئاً عن تنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم ليتمّ ما ذكره.

وتمامُ الكلام موكول إلى غير هذا المقام ؛ لأنّ المقصود أنّما هو بيان الوجه فيما نقلناه من الاحتياط ، وأنّه ليس ناكباً عن سواء الصراط.

إذا تحقّق هذا ، فنقول : حيث علم اشتغال الذمّة يقيناً بالإتيان بالبسملة ، وكانَتْ ذات فردين جهراً وإخفاتاً ، وكان القول بوجوب كلٍّ منهما موجوداً ، فَمَن حصل له طريقٌ

__________________

(١) القوانين : ٢٧٩.

٨١

شرعي إلى أحد الفردين اجتهاداً أو تقليداً معتبرين وجبَ عليه اتّباعه.

ومَنْ تردّد ولم يجزم بأحد الأمرين ؛ فَمَنْ أجرى أصل البراءة لم يُوجِب الجمع بين الكيفيتين ، ومَنْ أجرى أصل الاحتياط أوجب الجمع بتكرارِ الصلاة أو البسملة مرّتين.

فإن قيل : كيف يجتمع هذا مع القول باشتراط القَصْد والتعيين ، ونيّة الوجه في صحّة العبادة ؛ لاحتمال كون المأمور به واقعاً ما أتى به بقصد القربة ، فيستلزم الإخلال بنيّة الوجه المعتبرة في الصحة؟.

قلنا : أوّلاً : إنّ هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لا بدّ منه قطعاً.

وثانياً : إنّ نيّة الوجه فيما يؤتى به احتياطاً ساقطةٌ إجماعاً حتّى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ؛ لأنّ لازم قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط لغويّته وعدم مشروعيّته ، ولم يلتزمُه سوى ابن زهرة في ظاهر غُنيته (١).

وثالثاً : إنّا نمنع عدم تحقّق الإطاعة بدون الوجه ؛ لقطع العقلاء بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنيّة الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعاً وإنْ لم يعرفه تفصيلاً.

ورابعاً : إنّ لمقام الاحتياط طريقاً آخر ، وهو قصد القربة المطلقة الشاملة لوجوه المكلّف به ، المختلفة باختلاف أحوال المكلّف ، من غير قصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل إجمالاً.

فإن قيل : هذا أنّما يتمُّ على القول بسقوط اعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط ، وأمّا على منعه فبأيّ الفردين ينوي الوجوب والقربة؟.

قلت : قد ذكر الأصحاب فيه حينئذٍ طريقين :

الأوّل : أنْ ينوي بكلٍّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّباً إلى الله ، فيفعل كلّاً منهما ، فيحصل الواجبُ الواقعي ، وتحصيله لوجوبه والتقرّب به.

وثانيهما : أنْ ينوي بكلٍّ منهما الوجوب والقربة ؛ لكونه مأموراً بالإتيان بكلٍّ منهما ، إلّا إنّ الأوّل أوْلى.

__________________

(١) الغنية ( ابن زهرة ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٢ : ٣٨٤.

٨٢

ولا يرد عليه : أنّ المعتبر قصد التقرّب بالمأتيّ به بالخصوص مع أنّ كلّاً من الفردين عبادة ، فلا معنى لكون الداعي في كلٍّ منهما التقرّب المردّد بين تحقّقه به أو بصاحبه.

لأنّا نقول : إنّ التقرّب من حيث الخصوصيّة أنّما اعتبر في العبادات الواقعيّة ، لا المقدميّة.

نعم ، يرد على الأوّل : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي المتعلّق بأحدهما العيني الشخصيّ ، مع أنّ المنويّ على ذلك الوجه أنّما هو الوجه المقدّمي ، وهو لا يستلزم قصد الواقعي ، فلم يحصل التقرّب بنفس فعل أحدهما ولو لوحظ الوجوبُ الظاهري ؛ لأنّ مرجعهُ إلى الوجوب الإرشادي.

فإن قيل : إنّ الجمع بين المحتملين يستلزم فعل غير الواجب على جهة العبادة ، للزوم مراعاة القربة في الواجب الواقعي في كلا المحتملين ، فيلزم من الإتيان بكليهما بعنوان العبادة التشريعُ بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي ، فيكون محرّماً ، فلا يمكنُ الاحتياط.

قلنا : أوّلاً : إنّما يردُ هذا على مَنْ اعتبر في كلٍّ من المحتملين قصد التقرب والتعبّد به بالخصوص ، وأمّا على ما قلناه من قصد التقرّب بالواجب الواقعي المردّد بينهما ، بأنْ يقصد في كلٍّ منهما فعله ؛ ليتحقّق به أو بصاحبه التقرُّب بذلك الواجب الواقعي ، فلا.

وثانياً : إنّ إشكال التشريع يرتفع بحكم العقل الكاشف عن حكم الشرع بالمطلوبيّة من جهة توقّف تحصيل العلم بفعل الواجب عليه ؛ لوجوب تحصيل اليقين بفعل الواجب ، ويلزم من ذلك وجوب ما يتوقّف عليه اليقين ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الواجب فهو واجبٌ.

وثالثاً : إنّ التشريع المحرّم أنّما هُوَ إدخال ما ليس في الدين بقصد أنّه منه ، وأمّا الإتيانُ بما يحتمل أنّه منه رجاءً لتحصيل المصحلة الواقعية ، فهو جائز خالٍ عن وصمة التشريع بالكلّيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الاحتياط بالجمع والتكرار بناءً على دخولها تحت قاعدة

٨٣

الشكّ في الواجب المردّد بين فردين أو أكثر لإجمال الخطاب ، لما مرّ عليه الاستدلال مشفوعاً بالقيل والقال.

وأمّا لو قلنا بدخولها تحت قاعدة الشكّ في الواجب لدوران الأمر فيه بين الشرطيّة والمانعيّة ، أو الزيادة والجزئيّة ، فلا يتعيّن الاحتياط بالجمع والتكرار ، بل يحتمل التخيير بين الكيفيّتين كما احتمله أيضاً بعضُ علمائنا الأبرار.

أمّا على إجراء أصالة البراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئية فظاهرٌ بلا مرية لذي رويّة ؛ لأنّ المانع من إجرائها ليس إلّا لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ، وغاية ما يلزم هنا المخالفةُ الالتزاميّة ؛ لعدم انفكاك العبادة عن واحدٍ من فعل ذلك الشي‌ء وتركه ، ولأنّ قصارى ما علم ترتّب العقاب على تركه أنّما هو الأجزاء والشرائط المعلومة الجزئيّة والشرطيّة ، دون المتردّدة بين الفعل والترك.

وأمّا على إجراء قاعدة الشغل ؛ فلتخصيص أدلّة الأجزاء والشرائط بحالِ العلم ؛ لاستلزام التعميم لحالة الجهل إلغاء شرطيّة الجزم بالنيّة ، واقتران الواجبات الواقعيّة بنيّة الإطاعة بها من حيث الخصوصيّة.

إلّا إنّه لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف والاضمحلال :

أما أوّلاً ؛ فللالتزام بقبح المخالفة الالتزاميّة كالعمليّة.

وأمّا ثانياً ؛ فلعدم الفرق في استحقاق الذمّ بين ترك الأجزاء والشرائط المعلومة والمتردّدة.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ مرجع الشكّ هنا إلى المتباينين ؛ لمنع جريان أدلّة نفي الجزئيّة والشرطيّة عند الشكّ في المقام المذكور.

وأمّا رابعاً ؛ فللالتزام بإلغاء الجزم بالنيّة ، ولا ضير فيه ، وإلّا لما وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، والجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالماءين عند اشتباه المطلق بالمضاف مع وجودهما ، والجمع بين الوضوء والتيمّم مع فقد أحدهما.

فعليك بالتأمّل التامّ في هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقلام ومزالق الأقدام ، وطالما انتصلت فيه سهامُ النقض والإبرام بين علمائنا الأعلام.

٨٤

وحيثُ قد ظهر وجهُ القول بالاحتياط المذكور ظهورَ النارِ على العلم ، فلنمسك عنان القلم حامدين لله الذي ( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) مصلّين على محمّد مخمد نار العدم ، وآله المنتجبين في القدم.

حرّره فقيرُ ربِّه المنّان أحمد ابن المرحوم المبرور الشيخ صالح بن طعّان ، ختم اللهُ أعماله بالصالحات ، وجعلها مكفّرةً لما عليه من السيّئات ، باليوم السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى من السنة ١٢٨٢ ، الثانية والثمانين بعد المائين والألف من هجرة خير البريّات ، عليه وآلهِ الطاهرين أفضل الصلوات وأجمل التحيّات.

٨٥
٨٦

الرسالة العاشرة

أجوبة مسائل الشيخ جعفر البحراني

٨٧
٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

وَبِهِ نَستَعِينُ

الحمدُ للهِ مجيبِ السؤال ، ومثيبِ النوال ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ وآلِه الأبدال ، الجامعين لصفاتِ الكمال ، والنابعينَ من ينبوعِ الجمال ، والنابغين في ذَرْوة الجلال ، وعلى جماعتِهم المتابعين لهم في جميع الأحوال.

أمّا بعد

فهذا جوابُ ما سألني عنه الولدُ العزيزُ الروحاني ، ذبالةُ (١) سراج نورِ العلم الشعشعاني ، الشابُّ الأزهر الأسعد ، الشيخ جعفر ابن الأمجد الشيخ محمد خلف العالم الأوّاه ، المرحوم الشيخ عبد الله ابن المقدّس الأوحد الشيخ أحمد البحراني ، ذلّل اللهُ له شوامس (٢) المعاني.

قال ساعده اللهُ وأسعدَهُ وأيَّدهُ وسدّدهُ ـ : ( لو حضر عيدٌ وجمعةٌ ، وصلّيت العيدُ على جهة الوجوب ، فهل يجبُ على مَنْ حضرها ما عدا الإمام الحضورُ للجمعة أم لا؟ وعلى كلا التقديرين : لو حضر العددُ المعتبر في وجوبها به ، وكان ممّن صلّى العيد ، فهل تبقى واجبةً ، أم لا؟ وعلى الأوّل فهل تسقط الظهرُ ، أم لا؟ ).

الجواب ومنه سبحانه استفاضَةُ سلسبيلِ الصواب ـ : أمّا أصلُ التخييرِ في الجملة

__________________

(١) الذبالة : الفتيلة ، والجمع الذُّبالُ. الصحاح ٤ : ١٧٠١ باب اللام / فصل الذال. لسان العرب ٥ : ٢٦ ، ذبل.

(٢) شوامس : من شَمَسَت الدابّة : شردت وجمحت ومنعت ظهرها. لسان العرب ٧ : ١٩٣ شمس.

٨٩

لمن صلّى العيد بين الحضور للجمعة وعدمه ، فهو المشهورُ شهرةً محقّقةً بين فقهاء الفرقة المحقّة المحقّقة. بل في ( الخلاف ) (١) عليه إجماعُ الفرقة. وعن ( المنتهى ) (٢) نسبتُه إلى علمائنا إلّا أبا الصلاح مشعراً بالإجماع ، للعلم بالمخالف. وسيأتي الخلافُ أيضاً من ابن البرّاج (٣) كما نقله عنه في ( المختلف ) (٤) ، ومن السيّد ابن زهرة في ( الغنية ) (٥).

وفي ( التذكرة ) : ( ذهب إليه علماؤنا ما عدا أبا الصلاح ، وبه قال عليّ عليه‌السلام ، وعمر ، وعثمان ، وسعيد ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي ، وعطا ، وأحمد ) (٦). انتهى.

وهو كالأوّل في الظهور في دعوى الإجماع ، وإنّما الخلافُ في اختصاص التخيير بالبعيد ، أو شمولِه للقريب.

وتنقيحُ الجواب ، وتمييزُ القشر من اللباب ، يتمُّ برسم مسائل ، ينكشفُ بها حجابُ الارتياب :

المسألة الأُولى : مَنْ لم يحضرْ صلاةَ العيد ، قريباً ، أو نائياً.

المسألة الثانية : مَنْ حضرها نائياً.

المسألة الثالثة : مَنْ حضرها قريباً.

المسألة الرابعة : لو لم يجب حضورُ المأمومين ، فهل يجبُ على الإمام الحضور ، أم لا؟

المسألة الخامسة : لو كان العددُ المعتبرُ في وجوب الجمعة مِمّن حضَر صلاةَ العيد ، إماماً ومأموماً ، فهل تجبُ بهم الجمعة ، أم لا؟

أمّا المسألة الاولى : فلا خلافَ ولا إشكالَ في وجوب الحضور للجمعة ، مع استكمال شروطِه المعتبرة.

ويدلُّ عليه : كلُّ ما دلّ على وجوبها عند اجتماع شروطها ؛ لوجود المقتضي وزوالِ

__________________

(١) الخلاف : ١ : ٦٧٣. (٢) المنتهى ١ : ٣٤٨.

(٣) المهذّب ( ضمن الينابيع الفقهية ) ٣ : ٤٤٢. (٤) المختلف ٢ : ٢٦٠.

(٥) الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٥٠٠.

(٦) تذكرة الفقهاء ٤ : ١١٤.

٩٠

المانع ، وكلّما وجدَ المقتضي وزالَ المانع صحّ تنجّزُ التكليف قطعاً ؛ عقلاً ، وشرعاً.

وهذه المسألةُ خارجةٌ عن فرض السؤال ، وإنّما ذكرناها لاستيفاء القسمة والإكمال.

وأمّا المسألةُ الثانية : فلا خلاف أيضاً ممّن قال بالتخيير للقريب في سقوط الوجوب العيني عن البعيد بالطريق الأولى ، وبقاء الوجوب التخييري بينها وبين الظهر.

ويدلُّ عليه مضافاً لأدلّةِ نفي العسر والحرج آيةً وروايةً أُمورٌ :

[ الأمر ] الأوّلُ : ما رواه الشيخ رحمه‌الله في ( التهذيب ) عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن الحسن بن موسى الخشّاب ، عن غياث بن كَلُّوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام : « إنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول : إذا اجتمعَ عيدانِ للنّاس في يومٍ واحدٍ ، فإنّه ينبغي للإمامِ أنْ يقول للنّاسِ في خطبته الاولى : إنّه قد اجتمع لكم عيدان ، فأنا أُصلّيهما جميعاً ، فمنْ كانَ مكانه قاصياً فأحبَّ أنْ يَنْصرفَ عن الآخر ، فقد أذنتُ له ».

قال محمّد بن أحمد بن يحيى : وأخذتُ هذا الحديث من كتاب محمد بن حمزة بن اليسع ، رواه عن محمّد بن الفضيل ، ولم أسمع أنا منه (١).

[ الأمر ] الثاني : ما رواه ثقةُ الإسلام في ( الكافي ) عن الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن أَبَان بن عثمان ، عن سَلَمَة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « اجتمع عيدانِ على عهد أمير المؤمنين صلوات الله عليه فخطبَ النّاسَ ، فقال : هذا يومٌ اجتمع فيه عيدانِ ، فَمَنْ أحبَّ أنْ يجمّع معنا فليفعل ، ومنْ لم يفعل فإنَّ له رخصة يعني : مَنْ كان متنحّياً » (٢) بناءً على أنّ هذا القيد من كلام الإمام ، أو من كلام الراوي ، لفهمه إيّاه منه عليه‌السلام.

ويؤيّدُ الأوّلَ : أوّلاً : نقله في ( التهذيب ) كذلك ؛ لأنّ المعروف منه نقله الروايات ، لا فتاوى الرواة ، لكنّه في ( الخلاف ) (٣) نقله بغير هذه الزيادة ، ولعلّه تركها اختصاراً ، فتأمّل.

وثانياً : أنّ في حكايته عليه‌السلام لفعل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقوله البليغ الثمين ، إشعاراً بأنَّ

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٣٧ / ٣٠٤. (٢) الكافي ٣ : ٤٦١ / ٨.

(٣) الخلاف ١ : ٦٧٤.

٩١

مرادَه عليه‌السلام الإخبارُ بمضمون الخبر السابق ، المشتمل على الحكاية عن سيّد الموحّدين ، الظاهر في ترخيصه عليه‌السلام للنائين ، دون القريبين.

لكن فيه : أنّ صحيح الحلبي (١) المطلق قد اشتمل أيضاً على حكاية فعله الحق.

النقاش في السند

والكلامُ في هذين الخبرين ، إمّا من حيث السند ، ففي الأوّل :

أبو جعفر محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري القمّي ، وهو ثقةٌ في نفسه ، جليلُ القدر ، كثير الرواية ، لكن طُعن عليه بروايته عن الضعفاءِ ، واعتماده المراسيل ، وأنّه لا يبالي عمّن أخذه. واستثنى محمّد بن الحسن بن الوليد ، وأبو جعفر محمّد بن بابويه روايته عن جماعةٍ مذكورين في كتب الرجال ، وما قال : في كتابٍ ولم أروه (٢).

وما هنا ليس فيه جماعة من المستثنين ، ولا الكتاب المستثنى ، لتنبيهه على أنّه أخذه من كتاب محمّد بن حمزة بن اليسع ، عن محمّد بن الفضيل.

ومحمّد بن حمزة بن اليسع هو أبو طاهر الأشعري ، الثقة ، الذي روى عن زكريّا بن آدم ، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى ، بقرينة ما عن ( ثواب الأعمال ) حيث قال : أبي رحمه‌الله ، قال : حدّثني سعدُ بن عبد الله ، قال : حدّثني أحمد بن الحسين بن الصقر ، عن أبي طاهر محمّد بن حمزة بن اليسع (٣).

وأمّا محمّد بن الفضيل فهو وإنْ قيل باشتراكه بين ثقةٍ وضعيف ، إلّا إنّ الضعفَ غيرُ ثابتٍ في مَنْ رُمي بالتضعيف. ويستفادُ من تنبيه محمّد بن أحمد بن يحيى على هذا ومثلِهِ تورّعُه في الرواية ، وإنّ أخذه من تلك الكتب للاستكثار لا للاعتماد ، فلا يلزم منه إغراءٌ بالجهل ، للتنبيه على القرينة المنافية للاستناد ؛ فلذا قال علماءُ الرجال : إنّه لا طعن عليه في نفسه (٤).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٢٣ / ١٤٧٧.

(٢) رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩.

(٣) ثواب الأعمال : ٨٣ / ٥.

(٤) التذكرة : جوابات أهل الموصل ( سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ) ٩ : ٢٥ ، ٤٤.

٩٢

وفيه أيضاً ـ : الحسن بن موسى الخشّاب ، وهو وجهٌ من وجوه أصحابنا ، مشهورٌ ، كثيرُ العلم والحديث ، من أصحاب الكتب والمصنّفات ، ومنها كتاب ( الردِّ على الواقفة ) (١).

وقد ذكرنا في كتابنا ( زاد المجتهدين ) أنّ وصف الرجل بكونه ذا أصلٍ وكتاب ، لا يفيد مدحاً ملحقاً له بالحسن الاصطلاحي وإنْ نقله الآقا رحمه‌الله عن جدّه وخاله المجلسيّين (٢) وإنْ أفاد مدحاً ، كما حقّقناه في الكتاب المذكور (٣).

وفيه أيضاً ـ : غِياث بكسر الغين المعجمة ، ثمّ ياء مثنّاة تحتيّة ، ثمّ ثاء مثلّثة بعد الألف بن كلُّوب كتنّور بن فَيْهَس رحمه‌الله الفاء مفتوحة ، فياء مثناة تحتية ساكنة ، ثمّ هاء مفتوحة ، ثمّ سين مهملة لا فنيس ، كما قاله ابن داود تبعاً للنّجاشي (٤) ، في ترجمة الحسن بن موسى المذكور ، مع عدوله عنه في ترجمة غياث المزبور.

ويظهر من الشيخ رحمه‌الله في عدّته أنّه من رجال العامّة ، لكنّه ممّن يعملُ الأصحاب بأخباره المرويّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام ؛ كالسكوني ؛ وحفص بن غياث ؛ ونوح بن درّاج (٥).

وقد فهم بعضُ المحقّقين إطلاقه قدس‌سره العمل بما يرويه هؤلاء عن أئمّتنا عليهم‌السلام (٦).

ولكنّ التدبّر في كلامه المنقول عنه اشتراط العمل بما لم ينكره أئمّتنا عليهم‌السلام ، ولم يُرْوَ عنهم خلافهُ ، لا مطلقاً. بل كلامُهُ صريحٌ في تخصيص العمل بما يروونه عن عليّ عليه‌السلام خاصّة ؛ لاستناده في ذلك لما أرسله عن الصادق عليه‌السلام

إذا نزلتْ بكم حادثةٌ لا تجدونَ حكمَها فيما رووا عنّا ، فانظروا فيما رووه عن عليّ عليه‌السلام ، فاعملوا به (٧).

اللهُمَّ إلّا أنْ يسري في باقي الأئمّة عليهم‌السلام بتنقيح المناط. ولا يخفى ما فيه من عدم الانضباط.

ولم يُذكر من حال غياث إلّا قولهم : له كتاب (٨).

__________________

(١) النجاشي : ٤٢ / ١٥. (٢) رجال الخاقاني ( فوائد الوحيد البهبهاني ) : ٣٥.

(٣) زاد المجتهدين ١ : ١٦٦.

(٤) لا يوجد فيما بين أيدينا من نسختي النجاشي وابن داود ذكر له في ترجمة الحسن بن موسى الخشاب.

(٥) عدّة الأُصول ١ : ٣٨٠. (٦) الفوائد المدنية : ٨٣.

(٧) عدّة الأُصول ١ : ١٤٩ ، البحار ٢ : ٢٥٣. (٨) النجاشي : ٣٠٥ / ٨٣٤.

٩٣

وذكره الشيخ رحمه‌الله في رجاله في : باب مَنْ لم يرو (١).

ولكن قيل (٢) : في روايته عن إسحاق بن عمّار دلالةٌ على أنّه من رواة الكاظم عليه‌السلام.

وفيه : أنّه رحمه‌الله يريد أنّه لم يروِ إلّا بالواسطة. ومثلُه عن الشيخ رحمه‌الله كثيرٌ. قد ذكرناه في كتابنا المذكور ، ونبّهنا على الجواب عنه ، والإيراد عليه (٣). كما أنّ في رواية محمّد بن الحسن الصفّار الثقة الجليل عنه إشعاراً بمدحه ، واللهُ العالم.

وأمّا إسحاق بن عمّار : فأكثرُ علمائنا ، ومنهم السيّدُ أحمد بن طاوس (٤) ، وتلميذه العلّامة في ( الخلاصة ) (٥) ، والميرزا في كتابه الكبير ، والوسيط (٦) ، والشيخ عبد النبيّ الجزائري ، نقلاً عنه في ( الحاوي ) ، والفاضلُ المجلسي في ( الوجيزة ) (٧) ، وابن داود في خلاصته ، فإنّه وإنْ ذكره في الباب الأوّل بعنوان ( إسحاق بن عمّار ) لكنّه وصفه في البابين بالفطحية ، وجمع في الأوّل (٨) بين عبارتي ( النجاشي ) (٩) و ( الفهرست ) (١٠) ، واقتصر في الثاني (١١) على ( الفهرست ) ومنهم المحقّقُ الشيخ البحراني في ( المعراج ) (١٢) و ( البُلغة ) (١٣) ، والأمينُ الكاظمي في المشتركات (١٤).

والسيّد مصطفى التفريشي في ( النقد ) (١٥) ، على الاتّحاد ، وأنّه فطحيّ.

ولكنّ الحقّ كما اختارهُ جمعٌ من المحقّقين ، كالشيخ البهائي في مشرقه (١٦) ، وتلميذه الشيخ علي بن سليمان القدمي (١٧) المعروف بـ ( أُمِّ الحديث ) في حواشيه على كتب الحديث ، والفاضل الكاشاني في وافية (١٨) ، والمحدِّث المنصف الشيخ

__________________

(١) رجال الشيخ الطوسي : ٤٨٩.

(٢) إنّما نسبه لل ( قيل ) ، لأنّ روايته عن إسحاق بن عمّار لا تستلزم روايته عن الكاظم عليه‌السلام ، بل ولا عن غيره من الأئمّة الأعلام ، « منه وفّقه الله ». (٣) زاد المجتهدين ١ : ١٠٣.

(٤) التحرير الطاووسي : ٣٨ / ٢١ ، ٢٢. (٥) الخلاصة ، القسم الثاني : ٣١٧.

(٦) عنه في منتهى المقال ٢ : ٢٨. (٧) الوجيزة : ١٥٨ / ١٧٣.

(٨) رجال ابن داود : ٤٨ / ١٦٤. (٩) رجال النجاشي : ٧١ / ١٦٩.

(١٠) الفهرست : ٥٤ / ٩٦. (١١) رجال ابن داود : ٢٣١ / ٥٠.

(١٢) معراج أهل الكمال : ٢١٧ ٢١٨ / ٨٧.

(١٣) بلغة المحدّثين ( ضمن معراج أهل الكمال ) : ٣٣٢ / ١٠.

(١٤) هداية المحدّثين : ١٧ ١٨. (١٥) نقد الرجال : ٤٠ / ٢٤.

(١٦) مشرق الشمسين : ٩٥. (١٧) عنه في الدرر النجفيّة : ١٣٠ ، منتهى المقال ٢ : ٢٧.

(١٨) الوافي ١ : ٢١.

٩٤

يوسف في كشكوله (١) ودرره (٢) ، والشيخ أبي علي في منتهاه (٣) ، ونقله عن المولى عناية الله في مجمعه (٤) ، وعن الآقا رحمه‌الله في ( التعليقة ) (٥) ؛ وكالفاضلين المعاصرين الشيخ محمد طه النجفي في إحيائه ؛ والملّا إبراهيم الخوئي في ملخّصه ، ونسبه لجمع من المحقّقين أنّهما اثنان : إسحاقُ بن عمّار بن موسى الساباطي ، وهو فطحي ، وإسحاق بن عمّار بن حيان الكوفي الصيرفي ، وهو ثقةٌ ، إمامي ، وأنّ الراوي عن الصادق عليه‌السلام هو الصيرفيّ الثقة ، وهو الذي قال الصادق عليه‌السلام فيه ، وفي أخيه إسماعيل : « وقد يجمعهما الله لأقوام ». يعني : الدنيا والآخرة (٦).

ويستفادُ تعدُّدهما من الفاضل الميرزا رحمه‌الله أخيراً ، فإنّه وإن اقتصر في كتابيه على الاتّحاد لكنّه في حاشية الوسيط كتب رحمه‌الله ما لفظه : ( الظاهرُ من التتبّع أنّ إسحاق بن عمّار اثنان : ابن حيّان الكوفي ، وهو المذكور في ( النجاشي ) (٧) ، وابن عمّار بن موسى الساباطي ، وهو المذكورُ في ( الفهرست ) (٨) ، وأنّ الثاني فطحيٌّ ، دون الأول ، فتدبّر ). انتهى.

وظاهرهُ الرجوعُ عمّا ذكره في كتابيه. ولعلّ أمره بالتدبّر للتنبيه على إرادة العدول عمّا ذكره في متن الكتابين ، وعلى أمره بالتتبّع لقرائن الأحوال ، الكاشفةِ عن تعدد الرجلين ، واختلافهما. وصفا حجاب الرين.

وقصارى ما يستفادُ منه الاتّحاد : اقتصارُ الشيخ رحمه‌الله على ( الساباطي ) ؛ والنجاشي على ( ابن حيان الصيرفي ) أوّلاً ، ثمّ جمع العلّامة في ( الخلاصة ) (٩) بين العبارتين ثانياً.

وشي‌ءٌ منهما لا يدلُّ على الاتّحاد ، كما لا يخفى على النقّاد. وبسطُ المقال موكولٌ إلى علمِ الرجال ، وسنحقّقه إن شاء اللهُ تعالى في كتابنا المذكور ، عند الوصول إليه.

وحينئذٍ ، فالمرادُ به هنا الصيرفيُّ الثقة ؛ بقرينة غياث بن كلّوب ، كما يستفادُ من

__________________

(١) الكشكول ١ : ١١. (٢) الدرر النجفية : ١٣٠.

(٣) منتهى المقال ٢ : ٢٣. (٤) منتهى المقال ٢ : ٢٨ ، ومجمع الرجال ١ : ١٨٨.

(٥) نقلاً عن منتهى المقال ٢ : ٢٤.

(٦) رجال الكشي ٢ : ٧٠٥ / ٧٥٢ ، من غير لفظ الجلالة.

(٧) النجاشي : ٧١ / ١٧٩. (٨) الفهرست : ٥٤ / ٩٦.

(٩) الخلاصة / القسم الثاني : ٣١٧.

٩٥

النجاشي ، وبقرينة روايته عن الصادق عليه‌السلام ؛ بناءً على ما قاله المحقّق المبرور ، الشيخ علي ابن سليمان المذكور من أنّه : ( متى وردت روايةُ إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله ، فهو ابن حيان الثقة الإمامي ، فاحتمال الاشتراك أنّما يكون في روايته عن الكاظم عليه‌السلام ).

لكنّه لا يخلو من نظرٍ ، عند اولي النظر.

وبمعونة ما سمعتَ من الكلام على حال رجال هذا السند يكون إنْ لم نجعله من الموثّق ، كما جزم به التقيُّ المجلسيُّ في ( شرح الفقيه ) (١) من القويّ المعتمد ، لا من الضعيفِ المحض ، كما قاله بعضُ العُمَد.

وفي الخبر الثاني الحسين بن محمّد ، وهو ابن محمّد بن عامر بن عمران بن أبي عمر الأشعري ، الثقة. وقد يعبّر عنه بابن محمّد بن عمران ، بحذف جدِّه الأدنى ، اختصاراً لاشتهاره به ، كما في كثيرٍ من الرواة. ولذا صرّح به الصدوق رحمه‌الله في ( مشيخة الفقيه ) ، في طريقه الثاني إلى عبيد الله بن علي الحلبي ، حيث قال : ( ورويته عن أبي ، ومحمّد بن الحسن ، وجعفر بن محمّد بن مسرور ، عن الحسين بن محمّد بن عامر ، عن عمّه عبد الله بن عامر ) (٢) .. إلى آخره. وفي طريقه أيضاً إلى المُعلّى بن محمّد البصري (٣).

وكذا النجاشي في ترجمة عمّه عبد الله بن عامر بن عمران الأشعري ، حيث قال : ( له كتابُ النوادر ، أخبرنا الحسينُ بن عبيد الله ، عن جعفر بن محمّد بن قولويه ، قال : حدّثنا الحسين بن محمّد بن عامر ، عن عمِّه ، به ) (٤). وفي ترجمة المُعلّى بن محمّد أيضاً حيث قال : ( حدثنا الحسينُ بن محمّد بن عامر ، عن معلّى بن محمّد ) (٥).

وفي ( الفهرست ) مثله (٦).

وفيه أيضاً : معلّى بن محمّد ، وهو البصري بالباء الموحّدة ، ثمّ الصاد المهملة ـ

__________________

(١) روضة المتقين ١٤ : ٥١.

(٢) مشيخة الفقيه ( ضمن من لا يحضره الفقيه ) ٤ : ١٦.

(٣) مشيخة الفقيه ( ضمن من لا يحضره الفقيه ) ٤ : ١٣٦.

(٤) النجاشي : ٢١٨ / ٥٧٠.

(٥) النجاشي : ٤١٨ / ١١١٧.

(٦) الفهرست : ٣٣٥ / ٧٣١.

٩٦

وهو كثيرُ الكتب والرواياتِ ، المستفادِ منها استقامته وجلالتهُ. ولم يَطْعن فيه إلّا الغضائري ، فقال : ( يُعرف حديثُهُ ويُنكر ، ويروي عن الضّعفاء ، ويجوز أن يخرج شاهداً ) (١).

وقد حقّقنا في كتابنا المذكور (٢) : إنّ طعنه غيرُ مقبول مطلقاً ، بل مع مشاركة غيره ، أو ثبوت مستنده. ولو عُمل بطعنه مطلقاً لم يَسْلم أحدٌ من الثقات ، كما لا يخفى على ذي الالتفات. مع أنّ في كثرة رواية الحسين بن محمّد الثقة عنه إشعاراً بوثاقته. واللهُ العالم.

وفيه أيضاً : الوشّاء ، وهو الحسنُ بن علي بن زياد البجلي الكوفي ، الخزّاز بالمعجمات ويُعرف بابن بنت إلياس الصيرفي. وهو وجهٌ من وجوه هذه الطائفة وأعيانهم ، ويكفي في وثاقته وجلالته استجازةُ أحمد بن محمّد بن عيسى منه ، كما في ( النجاشي ) (٣).

وفيه أيضاً ـ : أبان بن عثمان ، وهو المعروف بالأحمر. وقد نفينا في كتابنا المذكور (٤) ناووسيّته ، وأثبتنا بوجوهٍ عشرةٍ كاملةٍ إماميّتَهُ وعدالتَهُ ، مع أنّه ممّن اجتمعت العصابةُ على تصحيح ما يصحُّ عنهم ، والإقرار لهم بالفقه.

وفيه أيضاً ـ : سَلَمَةُ ، المشترك بين جماعةٍ كثيرة ، لم يوثّق منهم إلّا سَلَمَة بن محمّد ، وهو وإن تعيّن في زيادات فقه الحجّ من ( التهذيب ) (٥) وفي مواضع أُخر منه (٦) ، ومن ( الاستبصار ) (٧) ككتاب الصيد والذباحة بسلمة بن أبي حفص ، أو سلمة بن حفص ، أو سلمة أبي حفص على اختلاف النسخ لكنّه مجهول ، بل غيرُ مذكورٍ في كتب الرجال.

ولكن بالنظر إلى رواية أبان بن عثمان عنه ، الذي هو من أهل الإجماع ، وإلى ما حقّقناه من وثاقة المذكورين في هذا السند من الرجال ، تصحّ الروايةُ من غير نظر إلى

__________________

(١) عنه في الفهرست : ٣٣٥ / ٧٣١.

(٢) زاد المجتهدين ١ : ٣٥١.

(٣) النجاشي : ٣٩ / ٨٠.

(٤) زاد المجتهدين ١ : ٢١٦ ٢٢١.

(٥) التهذيب ٥ : ٤٦٠ / ١٥٩٩.

(٦) التهذيب ٤ : ٨٢ / ٢٣٧ ، و ٩ : ٧ / ٢٤.

(٧) الاستبصار ٤ : ٩١ / ٢١٤.

٩٧

مَنْ بعدهُ ، على المعنى المشهور في معنى التصحيح المزبور ، كما حقّقناه في كتابنا المذكور (١).

مع أنّ بعضَ المحقّقين كالفاضل التقيّ المجلسيّ صرّح بأنَّ الاطمئنان بخبر المجهول أقوى من الاطمئنان بخبر الضعيف. وهو غيرُ بعيدٍ ؛ لقضاء التتبّع بأنّ مدار القدماء ولا سيّما أصحاب الكتب الأربعة على الكتب المشهورة ، والأُصولِ المعتبرة ، وأنَّ ذكر السند للتيمّن بذكر سلسلة الرجال ، ولئلّا يتوهّم في الخبر الإرسال.

النقاش في المتن

وإمّا من حيث المتن ، فلا ريبَ في ظهورهما في التخيير للنائي في الحضور ، وإنّما الكلامُ في دلالتهما على اختصاصه بالنائي ، وذلك لا ينافي الظهور.

بل قد يقال : إنّ منع دلالتهما على اختصاص الرخصة بالنائي كما في ( المدارك ) (٢) محتجا بأنّ استحباب الإذن في الخطبة للنائي في عدم الحضور لا يقتضي وجوبَ الحضور على غيره ممنوعٌ ؛ فإنّ مقتضى تخصيص القاصي بالتخيير عدمُ التخيير للقريب ؛ لأنّ تعليق الحكم على الوصفية مشعرٌ بالعليّة.

وبما ذكرناه يظهر أنّ ما قيل من ضعفِ الخبرينِ ، سنداً ودلالةً ، في حيّز المنع ، كما لا يخفى على ذي نبالة.

كما أنّ ما في ( الجواهر ) من المناقشة في خبر سَلَمَة بـ ( أنّه ليس فيه كون المنزل نائياً ) (٣). إنّما يتمُّ على ما استظهره من ( أنّ قوله : « يعني مَنْ كان متنحّياً » لم يُعلمْ أنّه من كلام الإمام عليه‌السلام ) (٤) لا مطلقاً.

بل قد يقال مع تسليمه ـ : إنّ تفسير الراوي والكليني قدس‌سره ممّا يكشف عن مراده عليه‌السلام ؛ لأنّهم لقربِ عهدهم أعرفُ بعرفِ أئمّتهم الأعلام ، ومرادِهم من معاريض الكلام ، كما قال الصادق عليه‌السلام

لا يكونُ الرجلُ منكم فقيهاً حتى يعرفَ معاريضَ كلامِنا (٥).

__________________

(١) زاد المجتهدين ١ : ٢٠٩.

(٢) مدارك الأحكام ٤ : ١١٩ ١٢٠.

(٣) الجواهر ١١ : ٣٩٦.

(٤) الجواهر ١١ : ٣٩٧.

(٥) معاني الأخبار : ٢ / ٣.

٩٨

ولهذا قال الشاعر :

لحنتْ لكمْ لحناً لكيما تفهموا

واللحنُ يعرفُهُ ذوو الألبابِ

ولقد أجاد فاضل ( الرياض ) (١) حيث تنظّر في هذا التضعيف ، لدقّةِ نظرِهِ الشريف.

ومثلُ هذين الخبرين في الدلالة ما عن ( الجعفريات ) بسنده إلى جعفر ، عن أبيه ، قال : « اجتمعَ في زمانِ عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام عيدان ، فصلّى بالناس صلاةَ العيد ، ثمّ قال : أذنت لمن كان قاصياً يعني : أهلَ البوادي أنْ ينصرف إنْ أحبَّ. ثمّ راحَ فصلّى بالناس العيدَ الآخر » (٢). انتهى.

ونحوه عن ( النوادر ) ، و ( الدعائم ) (٣) ، و ( الجعفريات ) أيضاً في خبرٍ آخر.

وهذه الأخبار إن مُنِع من صلاحيّتها للتأسيس والتشييد ، لم يُمنع من صلاحيّتها للتأكيد والتأييد ، مع شيوعها في مثل هذه الأعصار بين علمائِنا الأبرار.

[ الأمر ] الثالث : إنّ العمل بهذه الأخبار أولى ؛ لاستلزامه قلّة التخصيص في عموم أدلّة الوجوب أوّلاً ، ولأنّ فيه جمعاً بينها ، وبين صحيح الحلبي ثانياً. واللهُ العالمُ.

وأمّا المسألة الثالثة : فالمشهورُ أيضاً نقلاً وتحصيلاً هو التخيير.

ويدلُّ عليه مضافاً للشهرة إطلاقُ ما رواه الصدوق رحمه‌الله في ( الفقيه ) عن الحلبي أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفطر والأضحى إذا اجتمعا يوم الجمعة؟ فقال عليه‌السلام : « اجتمعا في زمان عليّ عليه‌السلام ، فقال : مَنْ شاء أنْ يأتي الجمعة فليأتِ ، ومَنْ قعد فلا يضرّه ، وليصلِّ الظهر » (٤).

والموجودُ في الموجود من نسخه ، والمنقول عنها : « قعدَ » بالقاف لا بَعُد بالباء ليحتجَّ به على اختصاص التخيير بالبعيد.

وفي ( المقنعة ) : قال الصادق عليه‌السلام : « اجتمع صلاةُ عيدٍ وجمعةٍ في زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : مَنْ شاء أن يأتي [ الجمعة (٥) ] فليأتِ ، ومَنْ لم يأتِ فلا يضرّه » (٦). والظاهر أنّه صحيح

__________________

(١) رياض المسائل ٢ : ٤٦٠.

(٢) عنه في المستدرك ٦ : ١٣١ ، أبواب صلاة العيد ، ب ١٢ ، ح ١.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٩ ، بتفاوت. (٤) الفقيه ١ : ٣٢٣ / ١٤٧٧.

(٥) من المصدر.

(٦) المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٤ : ٢٠١.

٩٩

الحلبي بالمعنى كما في ( الوسائل ) (١).

والكلام فيه ، أمّا من حيث السند : فطريقُ الصدوق رحمه‌الله إلى الحلبي صحيحٌ. والمرادُ به هنا أبو جعفر محمّد بن علي بن أبي شعبة ، وجهُ أصحابنا ، وفقيهُهُم ، والثقة الذي لا يُطعن عليه. واشتراكُ النسبة بينه وبين إخوته غيرُ مضرٍّ ؛ لانصرافِ الإطلاق إليه أوّلاً ، ولاشتراكهم في التوثيق ثانياً ، ولتميّزه برواية عبد الله بن مُسْكَان ، وصفوان بن يحيى عنه ثالثاً.

والصدوق رحمه‌الله وإنْ لم يذكر السند هنا اختصاراً ، إلّا إنّه ذكره في آخر الكتاب ، فقال : ( وما كانَ فيه عن محمّد الحلبي ، فقد رويتُهُ عن أبي ، ومحمّد بن الحسن ، ومحمّد بن موسى المتوكّل رضي‌الله‌عنهم عن عبد الله بن جعفر الحِمْيري ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان ابن يحيى ، عن عبد الله بن مُسْكَان ، عن محمّد بن علي الحلبي ) (٢).

وتوثيق هؤلاء الرجال لا يخفى على ذي بال ، فلذا لم نتعرّض له بحال.

ومقتضى التتبّع لكتب الحديث والرجال أنّ صفوان بن يحيى ، تارةً يروي عنه بواسطة عبد الله بن مُسْكَان ، وتارةً يروي عنه بلا واسطته ، فلا منافاة بين ما ذكرناه ، وبين ما ذكره الصدوق ، ولا إشكال. واللهُ العالمُ بحقيقة الحال.

وأمّا من حيثُ المتن : فلا تخفى صراحتُهُ في التخيير على الناقدِ الخبير.

ومن طريق الخصم ما رُوي عن ابن عبّاس ، قال : اجتمع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمعةٌ وعيد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ». فصلّى العيدَ في أوّل النهار ، ثمّ رخّص في الجمعة ، وقال : « مَنْ شاء أن يجمِّعَ فليجمِّعْ ، ومَنْ شاء أجزأه عن الجمعة ». ثمّ صلّى الجمعة (٣).

وعن أبي هريرة ، قال : اجتمع عيدان في يومٍ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى صلاةَ العيد ، وقال : « أيّها الناس إنَّ هذا يومٌ قد اجتمع فيه عيدان ، فمَنْ أحبَّ أنْ يشهدَ الجمعةَ معنا فليفعلْ ، ومَنْ أحبَّ أنْ ينصرفَ فلينصرف » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٤٤٧ ، أبواب صلاة العيد ، ب ١٥ ، ح ١.

(٢) مشيخة الفقيه ( ضمن من لا يحضره الفقيه ) ٤ : ١٣.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٤١٦ / ١٣١١ ، بتفاوت.

(٤) سنن أبي داود ١ : ٢٨١ / ١٠٧٣ ، باختلاف.

١٠٠