الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وأمّا ثالثاً ؛ فلعدم المقتضي الفرق بين مشهور الفتوى والعمل ، وبين مشهور الرواية إذا كان كلّ منهما مطابقاً للدليل المعتبر من الكتاب والسنّة ، فإنّ كلّاً من الفتوى والعمل إذا كانا كذلك فَهُمَا فرعا الرواية ، فما يجري في الرواية يجري فيهما ، كما أنّها إذا لم تكن كذلك وجبَ ردّها ، وإنْ لم يكونا كذلك فلا يجوز الأخذ بهما ، سواء اشتهرا أو لا.

وقد عُلِم من طريقة علماء الإماميّة أنّهم لا يفتون إلّا بما أدّى إليه الكتاب والسنّة المعصوميّة ، طاوون كَشْحاً عن العمل والفتوى بالآراء والقياسات والاستحسانات الرديّة.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ قوله عليه‌السلام : « خذ ما اشتهر بين أصحابك » وصف لموصوف محذوف ، أي : خذ الحكم الذي اشتهر ، والتعليق بالوصف مشعر بالعليّة ، كما لا يخفى على ذي فكرة جليّة ، وهو يدلّ على أنّ علّة الأمر بالأخذ بذلك الحكم أنّما هو الاشتهار الداخل فيه قول المعصوم عليه‌السلام ، فكلّما تحقّق في فتوًى أو عمل أُخذ به امتثالاً لأمر الإمام ؛ للاشتراك في العلّية وفقدان الخصوصيّة.

وأمّا خامساً ؛ فلأنّ مشهور الفتوى والعمل إذا لم يحصل في مستند غيره ما يقابله من صحّة الدليل ومقابلة إجماع مشهور أو محصّل ولم يحتمل ذلك احتمالاً مساوياً ، كان حجّة لا لمجرّد الشهرة ، بل مع حكم القرائن القطعيّة بعدم خروج قول الحجّة بحكم قطعي محصّل من قوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » ، ومن إهماله الدليل الصارف عنه عند الحاجة إلى العمل الذي أُمر به مع أمره بالأخذ بهذا المشتهر ، وليس إلّا لعلمه بدخول قوله في جملة أقوال المشهور ، وإلّا لنصب الدليل الصارف عنه ولما أمر به ، وإلّا لكان مغرياً بالباطل ، وهو باطل.

وأمّا سادساً ؛ فلأنّ الرواية كثيراً ما يخالفها عمل راويها ، فإنْ كان لعدم صحّتها عنده أو وجود ما هو أصحّ منها لديه أو عدم معرفة الحكم منها ، فلا عبرة بروايته لها ، ولا يكون ذلك مرجّحاً ، وإنْ كانت عنده صحيحة سالمة من المعارض الأقوى فلا عبرة بروايته أيضاً ؛ لأنّه يصير حينئذٍ فاسقاً بتركه العمل بها مع وجود المقتضي وعدم

٦١

المانع ، فلا فرق إذن بين الرواية والفتوى والعمل ، ولا مزيّة فيها عليهما.

وأمّا سابعاً ؛ فلأنّ المرفوعة قد دلّت على الأخذ بشهرة الرواية ، والمقبولة قد عرفت ظهورها أيضاً في شهرة الفتوى ، وأمّا مشهور العمل فعدم ذكره بخصوصه لا يدلّ على عدم إرادته ؛ لما مرّ ، ولأنّ ذكر بعض ما يتناوله العامّ لا يتخصّص به العموم ، كما صرّح به محقّقو الأُصول من علمائنا الأعلام ، خلافاً لأبي ثور (١) من أُولئك الأقوام ، وبهذا ظهر لك ما في قوله سلّمه الله : ( وأمّا في مدلول الرواية فليست الشهرة دليل الرجحان ).

وأمّا ما استدلّ به من المثل ، فهو لا ينهض دليلاً لإثبات الأحكام الشرعيّة حتى يعارض به مفاهيم أخبار العترة النبويّة ، إذ الظاهر مفاد ( ربّ ) هنا إنّما هو التقليل ، فلا يتناول كلّ فرد من الأقاويل.

وأمّا قوله : ( بل على ذي الرويّة ) .. إلى آخره ، فهو ممّا لا نزاع فيه ، إلّا إنّه خارج عن المتنازع فيه ، كما لا يخفى على نبيل نبيه.

مناقشة الاحتجاج لابن الجنيد

ثمّ قال سقاه الله من كأس التوفيق العذب الزلال ـ : ( احتجّ ابن الجنيد (٢) بأنّ الأصل وجوب المخافتة بالبسملة في ما يخافت به ، لأنّها بعض الفاتحة ، خرج عنه الإمام بالنصّ والإجماع ، فيبقى المنفرد على الأصل.

والجواب : أنّ الروايات كرواية علامات المؤمن (٣) ، ورواية زرارة ، وفيها : « ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحج » ، وغيرهما عامّة تتناول الإمام والمنفرد والمأموم ، خرج المأموم بدليل آخر ، فيبقى الباقي تحت العموم ، وقد ورد للمنفرد الجهر بالخصوص أيضاً ، كما في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) (٤) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرفع صوته بالبسملة في صلاته فإذا سمعها المشركون

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام ١ : ٥٣٤.

(٢) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥ ، الحدائق ٨ : ١٧٠.

(٣) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢.

(٤) الإسراء : ٤٦.

٦٢

من خلفه ولوا مدبرين (١) ؛ كي لا يسمعوها ، وهذا كافٍ في استحباب الجهر للمنفرد ، ولأنّه لا مزيّة في تخصيص الإمام على المنفرد لعدم الفارق. وأجاب بعض الفضلاء عن احتجاج ابن الجنيد بعد تسليم كون الأصل وجوب المخافتة ـ : ( بل قضيّة الأصل عدمه ) ، وفيه نظر يظهر للمتأمّل ).

أقول : هذا الجواب موافق للصواب ، إلّا إنّه اشتمل على خلل واضطراب :

أمّا أوّلاً ؛ فلقوله : احتجّ ابن الجنيد ، وصوابه : احتُجّ لابن الجنيد ، لأنّ هذا الاحتجاج ليس منه نفسه ، وإنّما احتُجّ به له ، مع أنّه لا يرضى به ولا يجري على أصله الذي هو عدم وجوب الجهر والإخفات في مواضعهما ، فكأنّ هذا الاستدلال جرى غفلةً عن حقيقة الحال ، كما لا يخفى على مَنْ عرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال.

وأمّا ثانياً ؛ فلعدّه في صحيح زرارة من جملة ما لا تقيّة فيه الجهر بالبسملة ، وهو ناشٍ عن محض الاستعجال وعدم مراجعة الصحيح المذكور في تلك المحالِّ ، لأنّ هذا الصحيح مذكور في ( الكافي ) و ( التهذيب ) فقط ، وهو على ما وقفنا عليه فيهما وبالنقل منهما ليس فيه من التعرّض للبسملة عين ولا أثر ، ولم نعثر له على خبر ، ومتنها في ( التهذيب ) و ( الكافي ) هكذا.

عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، قال : قلت له : في مسح الخفّين تقيّةٌ؟ فقال : « ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحجّ »(٢) ، إلّا إنّها في ( التهذيب ) و ( الكافي ) مضمرة على ما وقفت عليه.

إلّا إنّ شيخنا فقيه ( الحدائق ) نقلها من ( الكافي ) متّصلة بأبي جعفر عليه‌السلام ، قال بعد ذكر صحيح زرارة ، المذكور ما لفظه : ( ومثل خبر زرارة المذكور ما رواه في ( الكافي ) أيضاً في الصحيح عن زرارة عن غير واحد ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : في المسح على الخفين تقيّة؟ قال : « لا تتّقِ في ثلاث » قلت : وما هنّ؟ قال : « شرب الخمر ، أو قال : شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ » ) (٣). انتهى.

ولم أقف عليها في ( الكافي ) إلّا موافقة لما في ( التهذيب ) كما مرّ متناً وسنداً ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١ : ٩٧ ٩٨ / ٢٣٨.

(٢) الكافي ٣ : ٣٢ / ٢ ، التهذيب ١ : ٣٦٢ / ١٠٩٣ ، الوسائل ١ : ٤٥٧ ، أبواب الوضوء ، ب ٣٨ ، ح ١.

(٣) الحدائق ٢ : ٣١١.

٦٣

وهذا غريب منه رحمه‌الله ، وكأنّه نقله بالمعنى ، مع إنّي تتبّعت مظانّه من ( الكافي ) فلم أقف إلّا على خبر محمّد بن الفضل الهاشمي ، المرويّ في كتاب الحجّ ، قال : دخلتُ مع إخوتي على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلنا : إنّا نريد الحجّ وبعضنا صرورة ، فقال : « عليكم بالتمتّع ، فإنّا لا نتّقي في العمرة إلى الحجّ سلطاناً ، واجتناب المسكر ، والمسح على الخفّين » (١).

ورواه الصدوق في ( الفقيه ) (٢) والشيخ في ( التهذيب ) (٣) كلاهما في كتاب الحجّ أيضاً بالسند والمتن المذكورين ، إلّا إنّ فيهما : « فإنّا لا نتّقي أحداً في التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ».

وبالجملة ، فما نقله شيخنا المذكور عن ( الكافي ) لم أقف عليه في مظانّه ، وما ذكره مؤلِّف الرسالة سلّمه الله تعالى من اشتمال صحيح زرارة على عدّ الجهر بالبسملة ممّا لا تقيّة فيه ظاهر الفساد وطافح الكساد ؛ لما عرفت من أنّ الأخبار الواردة في هذا المعنى التي نقلناها هنا كلّها خالية عمّا ادّعاه ، وإنّما هو مذكور في ما نقله ابن أبي عقيل (٤) متواتراً عن آل الرسول ، وفي ( البحار ) (٥) و ( الدعائم ) (٦) مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام.

وأمّا ثالثاً ؛ فلإخراجه حكم المأموم مع اعترافه بالعموم ، وقد مرّ الكلام عليه ، وأنّ ظاهر الأخبار وعلمائنا الأخيار هو عموم استحباب الجهر لكلّ مصلٍّ كان ، كما مرّ الكلام عليه في ذلك المكان.

وأمّا رابعاً ؛ فلتنظّره في أصالة الجهر ، مع أنّ ظاهر الكتاب والسنّة أنّ الأصل أنّما هو الجهر ، كما حقّقناه في رسالتنا الكبرى بما لا مزيد عليه ؛ لقوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (٧).

والتقريب من وجوهٍ :

منها : أنّ الجهر والإخفات حقيقتان متضادّتان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فلا بدّ من

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٩٣ / ١٤. (٢) الفقيه ٢ : ٢٠٥ / ٩٣٦ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٦ / ٧٧ ، بتفاوتٍ يسيرٍ. (٤) عنه في مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠.

(٥) البحار ٧٧ : ٣٠٠. (٦) دعائم الإسلام ١ : ٢٠٩.

(٧) الإسراء : ١١٠.

٦٤

إرادة أحدهما ، إذ ليس عندنا غيرهما ، ولا يجوز إرادة الإخفات الوسط ؛ لعدم تصوّره أو ندرته وشيوع مقابله ، فليس المراد والله العالم إلّا الجهر الوسط ؛ لإطلاق الجهر بالتشكيك على أفراد كثيرة متفاوتة قوّةً وضعفاً دون الإخفات.

فالمراد حينئذٍ والله العالم ـ : وابتغ بين أدنى الجهر وأعلاه سبيلاً ، وهو المطلوب. وإرادةُ الإخفات الوسط لكونه مشكّكاً كالجهر مردودٌ :

أوّلاً : بأنّ ذلك مُشارٌ بهِ إلى الجهر على القياس من وضعه للبعيد.

وثانياً : بأنّه لو أراد البينيّة لقال : وابتغ بين ذينك.

وثالثاً : يمنع التشكيك وإن سُلِّم كونه ذا أفراد ، إذ ليس له طرفان أدنى وأعلى.

ورابعاً : بمنع كونه ذا وسط بين القوّة والضعف ، إذ أدناه إسماع النَّفْس ، وأعلاه إسماع القريب الصحيح السمع ، ولا واسطة ؛ لترتّب أحدهما على الآخر ، فإذا تجاوز إسماع نفسه بلغ إسماع القريب الصحيح السمع ، بخلاف الجهر.

وخامساً : بأنّه لو سلّم إمكان وجوده بالقسمة العقليّة من أنّ كلّ ذي طرفين فله وسط ، إلّا إنّ العرف يقطع بعدم الوسط في مثله ، ولهذا لا تكاد تسمع إخفاتاً وسطاً ، إذ ليس إلّا ما يُسمع الإنسانُ نفسه ، وما يُسمعُ القريبَ الصحيحَ السمع ، وما بينهما تقصر العبارة عن تحديده ، بل لا يعقل إلّا بالقسمة العقليّة ، وما تشتمل عليه لا يلزم وقوعه ، إذ أكثر أفرادها يكون في جانب المحال.

وله أمثلة كثيرة في علوم كثيرة ، كضروب الأشكال الأربعة المنطقيّة وتقسيمهم بحسبها ما يتعلّق بالوجود نفياً وإثباتاً ، وجوازاً ووجوباً إلى واجب الوجود وجائزه وممتنعه ، ولا ريب أنّ الثالث غير متصوّر ، بل تسميته بالممتنع كافٍ في المطلوب مع فرضهم إيّاه.

ومنها : صحيح عبد الله بن سنان المرويّ في ( الكافي ) و ( تفسير العياشي ) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإمام هل عليه أنْ يُسمع مَنْ خلفه وإنْ كثروا؟ قال : « ليقرأ قراءة وسطاً ، إنّ الله يقول ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (١) » (٢) الحديث.

__________________

(١) الإسراء : ١١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٧ / ٢٧ ، تفسير العيّاشي ٢ : ٣٤١ / ١٧٤.

٦٥

وبالضرورة أنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : « قراءة وسطاً » الجهر والوسط في القراءة ؛ لأنّه في مقام البيان ، مع أنّ السؤال عن غاية الجهر وحدِّ إسماع الإمام من خلفه.

ومنها : سبب النزول (١) ، فإنّ سببه أنّه عليه‌السلام كان يجهر بمكّة فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فنزلت ، ولا يخفى ما فيه من الدلالة الصحيحة الصريحة على مداومته عليه‌السلام على الجهر وأنّه الأصل ، لكنّه عليه‌السلام أُمِر بالقراءة بالجهر الوسط دون الذي كان يجهر به أوّلاً ؛ صوناً لنفسه وعرضه ، ورعايةً لحال آله عن أذى المشركين ، ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وليس هذا نسخاً بل دفاعاً عنه عليه‌السلام ، إذ الضرورة تتقدّر بقدرها. هذا ومن أراد بسط المقالة فليرجع إلى تلك الرسالة.

مداومة أهل البيت عليهم‌السلام على الجهر

ثمّ قال أصلح الله له الحال والبال ـ : ( احتجّ موجبو الجهر بأنّ أئمّتنا سلام الله عليهم كانوا يداومون على الجهر بالبسملة على ما دلّت عليه أخبارهم ، ولو كان مسنوناً لأخلّوا به في بعض الأحيان ، ويمكن الاحتجاج لهم أيضاً بقول أمير المؤمنين : « ولألزمتُ الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (٣).

والجواب عن الأوّل من وجهين : الأوّل : أنّ هذا من باب التأسّي ، والتأسّي في ما يعلم وجهه مستحبّ لا واجب إجماعاً ، لأنّهم يداومون على السنن كما يداومون على الفرائض.

الثاني : خلوّ الأخبار الكثيرة الواردة في مقام البيان من ذكر الجهر بالبسملة بالكلّيّة :

منها : صحيح محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقرأ في الأُوليين من صلاة الظهر سرّاً » (٤) ، ولم يقل : ويجهر بالبسملة ، وترك الاستفصال دليل العموم.

ومنها : صحيحة أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا كنت إمام قوم فعليك أنْ تقرأ في الركعتين الأُوليين » (٥) ، ولم يقل : واجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فيستفاد من هذه الرواية أنّ

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٤١ / ١٧٥. (٢) النجم : ٢ ٣.

(٣) الكافي ٨ : ٥١ / ٢١. (٤) التهذيب ٢ : ٩٧ / ٣٦٢.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٧٥ / ٨٠٠.

٦٦

البسملة تابعة للفاتحة ، إنْ سرّاً فسرٌّ ، وإنْ جهراً فجهر.

ومنها : صحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا كنت إمام قومٍ فاقرأ في الركعتين الآخرتين فاتحة الكتاب » (١) ، ولم يقل : واجهر بالبسملة.

ومنها : ما رواه علي بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها : « فإنْ شئت فاقرأ فاتحة الكتاب » (٢) ، يعني : في الآخرتين.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الآخرتين ، فقال له الإمام عليه‌السلام : « يقرأ فاتحة الكتاب ، ومَنْ خلفه يسبّح » (٣).

ومنها : ما رواه جميل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال : « بفاتحة الكتاب » (٤).

ومنها : صحيحة عُبَيْدِ بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الركعتين الآخرتين ، قال : « تسبيح وتحميد ، وتستغفر لذنبك ، وإنْ شئت فاتحة الكتاب فإنّها تحميد ودعاء » (٥).

فهذه الأخبار كلّها كما ترى واردة للبيان خالية من ذكر البسملة بالمرّة ، فلو كان الجهر بها واجباً لاشتملت عليه ؛ لأنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لكونه قبيحاً واستلزامه تكليف ما لا يطاق ، والإجماع على عدم جوازه ، وقد نقل إجماع أهل العدل غير واحد من المتقدّمين والمتأخّرين كالسيّد (٦) والشيخ (٧) والمحقّق (٨) وأضرابهم ، بل منع السيّد المرتضى (٩) من تأخير بيان العامّ المراد به غير ظاهره والمطلق والأسماء الشرعيّة المنقولة من معانيها اللغويّة إلى وقت الحاجة ، وقريب منه كلام العلّامة رحمه‌الله (١٠) ، وهو الأقرب في نظري ، فحينئذٍ ينتقض الاستدلال على الوجوب بما ذكروه ).

أقول : أمّا الجواب الأوّل فهو الحقّ الذي عليه المعوّل ، وأمّا الثاني فهو وإنْ كان له وجه في الجملة إلّا إنّه يمكن المناقشة فيه

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٩٩ / ٣٧١. (٢) التهذيب ٢ : ٩٨ / ٣٦٩.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٩٤ / ١١٨٥. (٤) التهذيب ٢ : ٢٩٥ / ١١٨٦.

(٥) التهذيب ٢ : ٩٨ / ٣٦٨ ، وفيه : « تسبّح وتحمد ».

(٦) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٣٦١. (٧) عدّة الأُصول : ١٧٠.

(٨) معارج الأُصول : ١١١. (٩) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٣٧٦ ٣٧٩.

(١٠) مبادئ الوصول الى علم الأُصول : ١٦١.

٦٧

أوّلاً : بأنّ الأحكام لا تؤخذ كلّها من مقام واحد.

وثانياً : بأنّ الجهر بها لمّا كان من شعارهم ومعلوماً عندهم لم يحتج إلى بيانه ، فلا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل ولا الخطاب.

فقوله : ( وقد نقل إجماع أهل العدل غير واحد ) .. إلى آخره ، لا نزاع فيه ولا شكّ يعتريه ، إلّا إنّه خارج عن محلّ النزاع ، كما لا يخفى على نبيه.

وقوله : ( وقريب منه كلام العلّامة ) .. إلى آخره.

وجه القرب : أنّ السيّد المرتضى قال : ( إنّ المجمل يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة وإنْ كان ممّا له ظاهر وأُريد به غير ظاهره ، كالعامّ إذا أُريد به الخصوص لم يجز تأخير بيانه ) (١).

والقول الذي حكاه العلّامة في نهايته وجعله الحقّ هو جواز تأخير البيان لما ليس له ظاهر كالمجمل ، وأمّا ما له ظاهر وقد استعمل في غيره كالعامّ أو المطلق أو المنسوخ ، فيجوز تأخير بيانه التفصيلي لا الإجمالي.

ولا يخفى أنّه لا يكاد يظهر بين القولين فرق إلّا في التقييد بالتفصيلي وفي جهة النسخ ؛ فإنّ أصحاب القول الأوّل قيدوا البيان بالأوّل دون السيّد ، والسيّد لم يتعرّض للثاني في البحث ، إلّا إنّه نقل الإجماع (٢) على حسن تأخير بيان مدّة الفعل المأمور به والوقت الذي بيّنه فيه عن وقت الخطاب ، ثمّ إنّ اختيار العلّامة ذلك القول مع رغبته ظاهراً عن قول السيّد بعيد من مثله :

أمّا أوّلاً ؛ فلمخالفته ما هو المعروف منهم من اشتراط تأخير الناسخ ، حتى جعلوه فارقاً بين النسخ والتخصيص.

وأمّا ثانياً ؛ فلمخالفته نفسه في ذلك الكتاب بعينه ، حيث عدّه في مباحث النسخ شرطاً لتحقّقه من غير توقّف ، وجعله كغيره فارقاً بين النسخ والتخصيص ، اللهمّ إلّا أن يجعل عدولاً عن اشتراط التأخير ، وفيه ما فيه.

ثمّ قال أزال الله عنه البلبال ـ : ( والجواب عن الرواية أنّها لا تدلّ إلّا على مطلق الجهر ،

__________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٣٦٣.

(٢) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٣٧٤.

٦٨

وهو نفس الماهيّة ، ولا إشعار فيها بدلالة على الإطلاق ، بل جاز قصرها على الصلاة الجهريّة ؛ لأنّها واردة [ في خلاف العامّة (١) ] ، ويظهر خلافهم والإتيان بالمأمور بالجهر بها في الصلاة الجهريّة ، وقد حرّرناه سابقاً فلا نطيل هنا الجواب.

وبالجملة ، فالقول بالوجوب في الأُوليين أو فيهما وفي الأخيرتين كما هو المدّعى على ابن البرّاج لا وجه له ولا برهان.

فكيف كان ، فالقول الذي ذهب إليه ابن إدريس (٢) لا معدل عنه ، فإنْ كان للخصم حجّة غير ما سمعت فليوردها ، وإنْ كانت هي الحجّة فقد أبنّا فسادها وأظهرنا استحالة تلك الدعاوي بالأدلّة الواضحة والبراهين اللّائحة ).

أقول وبالله الثقة وبلوغ المأمول ـ : لا يخفى على ثاقبي الأفهام ما في هذا الكلام من التهافت التامّ :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ المدّعى أنّما هو دلالة الرواية على الوجوب ، وجوابه أنّما تضمّن أنّ الرواية غير مطلقة ولا عامّة ، وكم بينهما من البون ؛ لأنّ مقتضاه تسليم دلالتهما على الوجوب ، إلّا إنّها غير عامّة ولا مطلقة كما يظهر لمن راجع كلامه وتحقّقه ، وهو بمراحل عمّا أراده ورامه وحاولَ عقده وإبرامه.

وأمّا ثانياً ؛ فلما قرّرناه سابقاً من دلالتها على العموم فضلاً عن الإطلاق ، كما لا يخفى على مَنْ له في المعرفة خَلاق.

وأمّا قوله : ( بل جاز قصرها على الصلاة الجهريّة ) .. إلى آخره ، فقد تقدّم ما فيه مراراً فلا حاجة إلى إعادته.

وأمّا قوله : ( فالقول بالوجوب في الأُوليين أو فيهما وفي الأخيرتين كما هو المدّعى على ابن البرّاج ـ ) .. إلى آخره ، فهو حقيق بالقبول لولا نسبة قول ابن البرّاج إلى الدعوى ، فإنّه خلاف ما صرّح به أُولئك الفحول ، وتظافرت به النقول.

وأمّا قوله : ( وكيف كان ، فالقول الذي ذهب إليه ابن إدريس لا معدل عنه ) ، ففيه ما مرّ مراراً من وجود المقتضي للعدول عنه ، والتزام ما هو المشهور إنْ لم نقل ما هو المجمع

__________________

(١) في المخطوط : ( عن خلاف العلّامة ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) السرائر ١ : ٢١٨.

٦٩

عليه بين الطائفة المحقّة والثلة الحقّة.

وأمّا قوله : ( فإن كان للخصم حجّة غير ما سمعت فليوردها ) .. إلى آخره ، فقد مرّ أنّ ما ذكره بالنسبة إلى غيره مضافاً إلى الشهرة المأمور بالأخذ بها ، والإجماع المنقول مَنْ غير واحد من الفضلاء الرؤساء أقلّ قليل كما لا يخفى على ذي تحصيل ، ومن أراد البسط في المقال فليرجع إلى رسالتنا في ذلك المجال ، والله العالم بحقيقة الحال.

خاتمة

ثمّ قال ختم الله لنا وله وللمؤمنين بصالح الأعمال ـ : ( ونسأل الله تعالى شأنه أن يجعل الحقّ ما ذهبنا إليه ، وأنْ يعصمنا عن التعسّف والزيغ عن صراط الحقّ والتيه ، وأنْ يمنحنا بقبول الأعمال ، ويجعل ما رسمناه مقبولاً عند العارفين من أصحابنا الأبدال ، إنّه كريم مفضال ، ولما يشاء فعّال ، ونُصلّي على النبيّ والآل.

حرّره فقير ربّه المتعال ، تراب أقدام العلماء الأبدال : عليّ بن عبد الله بن عليّ المهزي الستري ، باليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ١٢٧٤ الرابعة والسبعين والمائتين والألف من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآله الصلاة والسلام ).

أقول : وأنا أسألُ الله المنّان ذا الجود والإحسان أنْ يوفّقني وإيّاه والمؤمنين لما فيه النجاة والعصمة من الهفوات ، وأنْ يختم أعمالنا بالصالحات ، ويوفّقنا لسلوك جادّة الإنصات للحقّ والإنصاف ، واجتناب عمياء التعنّت والاعتساف ، وأنْ يجعلنا من المقبولين عنده ، إنّه ذو الفضل العظيم والطول العميم ، وأنْ يهدينا لما اختلِف فيه من الحقّ إنّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأنْ يجعل ساعة لقائنا إيّاه ساعة رضاه ، وآخر أيّامه يوم نلقاه ، بحقّ محمّد وآله أصل كلّ خير ومبدأه وغايته ومنتهاه.

وليكن هذا آخر ما سمح به الحال ، وسنح بالبال على مزيد بلبال ، وإخلال أحوال ، واختلاف أهوال ، عافانا الله منها ذو الجلال بمحمّد والآل ، فالمأمول من ناظرها أنْ ينظر إلى ما قيل لا إلى مَنْ قال ، ويعرف الرجال بالحقّ لا الحقّ بالرجال.

وقد استتمّ هذا التحرير واستتبّ هذا التقرير بليلة الجمعة الشريفة المباركة المنيفة ، وهي الليلة السابعة والعشرون من شهر ربيع المولود من السنة ١٢٧٥ من هجرة النبيّ علّة كلّ موجود ،

٧٠

عليه وآلهِ أفضل صلاة مَن ألبسَ كلَّ موجود حلةَ الوجود ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

وقد حرّر نسخها الفقير المسكين المستعين بربّ العالمين ، الراجي عفوَ ربّه يوم الدين والنشور : محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد النبيّ بن مال الله آل مستور ، غفر الله لهم أجمعين والمؤمنين بمحمّد وآله الطاهرين ، بضحى الثلاثاء سادس شهر رجب الأصبّ ، أحد شهور السنة ١٢٨٨ من هجرة النبيّ الأوّاب ، صلى‌الله‌عليه‌وآلهِ الأطياب ما طلع نجم وغاب ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمدُ لله ربّ العالمين.

٧١
٧٢

الرسالة التاسعة

مسألة في الجهر بالبسملة

٧٣
٧٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ، وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى.

أمّا بعدُ :

فإنّ مسألة الجهر بالبسملة ممّا يعمّ بها البلوى لجميع المكلّفين ، وقد اتّسعَتْ فيها دائرةُ القيلِ والقال على وجه قوِيَ به الإشكال ، وتضاعَفَ الإعضال ، فبين قائلٍ باستحباب الجهر بها في جميع مواضع الإخفات كما هو المشهور (١) بين علمائنا الثقات ، بل استفاضت عليه حكاية الإجماعات (٢) ، وبين قائلٍ بالوجوب مطلقاً (٣) ، وبين قائلٍ بالاستحباب في الأُوليين وتحريمه في الأخيرتين (٤) ، وبين مَنْ جعل الاحتياط في الجهر فيهما ؛ كما انّ جملةً جعلوا الاحتياط في الإخفات فيهما (٥) ؛ وبين مَنْ جعل الاحتياط في تكرار الصلاة مرّتين ، كالأستاذ الأعظم المرتضى الشيخ مرتضى قدس‌سره في ( فرائد الأصول ) (٦) ، وبين من جعل الاحتياط في ذلك ، أو تكرار

__________________

(١) المختلف ٢ : ١٥٥ ، الذكرى : ١٩١.

(٢) الخلاف ١ : ٣٣١ ٣٣٢ / مسألة ٨٣ ، كنز العرفان ١ : ١٣٠.

(٣) المهذّب ( ابن البرّاج ) ١ : ٩٧ ، عنه في المختلف ٢ : ١٥٤ / مسألة.

(٤) السرائر ١ : ٢١٨.

(٥) انظر الرسالة السابعة في هذا الكتاب ( قرّة العين ) القول السادس.

(٦) فرائد الأُصول ٢ : ٥٠٢ ٥٠٣.

٧٥

البسملة من دون تكرار الصلاة مرّتين كالأستاذ الشيخ محمّد حسين بن الشيخ هاشم ، الكاظمي منبعاً ، النجفيّ موضعاً ، في كتابه المسمّى بـ ( هداية الأنام في شرح شرائع الإسلام ) ، تصريحاً منهُما ، وتلويحاً من غيرهما.

وحيث قد ذكرنا حجج ما عدا القولين الأخيرين في رسالتنا المؤلّفة في المسألة المسمّاة بـ ( قرّة العين في حكم البسملة فيما عد الأوليين ) (١) ، وفي ردّ الرسالة التي ألّفها بعضُ المعاصرين في وجوب الإخفات (٢) ، فلنقتصر هُنا على بيان وجه القولين الأخيرين اللذين مرجعهما إلى قولٍ واحدٍ عند التحقيق ، بما يطمئنّ به الناقد البصير ، حيث إنّ بعض الفضلاء أنكروا وجههما بالكلّيّة ، وقالوا : إنّه لا نظير لها في المسائل الفقهيّة ، فنقول :

لا يكاد يخفى على مَنْ خاض في الفقه وأصوله ، ووقفَ من قوانينه وضوابطه وقواعده وعلى محصوله : أنّ لعلماء الإماميّة الاثني عشريّة في القواعد الكلّيّة التي تبتني عليها الأحكام الفروعيّة مسالك مختلفة ، تختلف بها فتاواهم في الأحكام الشرعيّة ، وذلك أنّ المكلّف مطلقاً إذا التفت إلى حكمٍ شرعيّ كلّي أو جزئيّ ، فإمّا أن يحصل له العلمُ به ، أو الظنّ به ، أو الشكّ فيه. فإنْ حصل له العلمُ فلا إشكال في وجوب العمل به ما دام موجوداً ؛ لكونه بنفسه طريقاً منجعلاً للواقع ، ولا تتوقّف طريقيّته على جعل الشارع ، ولا فرق فيه بين خصوصيّاته عالماً ومعلوماً ، وسبباً وزماناً ؛ لأنّه متى كان طريقاً لمتعلّقه ترتّبت عليه أحكامه ، ولم ينه الشارع عن العمل به ، هذا إذا كان طريقاً لمتعلّقه للواقع وكاشفاً عنه.

وأمّا العلمُ الموضوعي : وهو ما اعتبره الشارع قيداً في الموضوع ، فإنّه يتبع في اعتباره إيجاباً كلّيّاً أو جزئيّاً دليل الحكم المأخوذ في موضوعه.

وإنْ حصل له الظنُّ ففي إمكان التعبّد به عقلاً وعدمه الخلافُ المشهور بين ابنِ قبّة (٣) وغيره ، وفي وقوعه مطلقاً عقلاً أو شرعاً أو في الجملة ، المعركةُ العظمى بين المحدّثين والمجتهدين.

__________________

(١) وهي الرسالة السابعة في هذا الكتاب.

(٢) وهي الرسالة الثامنة في هذا الكتاب.

(٣) عنه في معارج الأُصول : ١٤١ ، فرائد الأُصول ١ : ٤٧.

٧٦

وإنْ حصل له الشكّ والتردّد ؛ إمّا لإجمال الدليل أو معارضته بغيره ، أو لاشتباه الموضوع ، فالمرجع أنّما هو القواعد الشرعيّة والأصول العمليّة التي وضعها الشارع للمكلّف الشاكّ في مقام العمل ، وهي قاعدة الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.

ووجه الانحصار فيها أنّ الشكّ ؛ إمّا أنْ يلاحظ فيه الحالةُ السابقة ، أو لا. والأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني ؛ إمّا أن يكون الشكّ في التكليف ، أو المكلّف به. فالأوّل مجرى الثاني ، والثاني ؛ إمّا أنْ يمكن فيه الاحتياط أو لا. فالأوّل مجرى الثالث ، والثاني مجرى الرابع.

ولكلٍّ من الأصحاب في هذه الموارد خلافات متكثرة وتفاصيل منتشرة ، مَنْ أرادها فليطلبها من مظانّها ، الّا إنّ ما ذكرناه هو الحقّ في مجاري هذه الأصول ، كما اختاره جملةٌ من الفحول.

ولا يخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به ، والحقّ فيه ما اختاره جملةٌ من مشايخنا وعلمائنا من تحكيم أصل الاحتياط ، الذي يُؤْمن به من الاختباط ويُسلك به سواء الصراط ، لا ما اختاره البعضُ (١) من تحكيم أصل البراءة ، لوجوه ليس هذا محلّها.

إلّا إنّ الاحتياط تارةً يكون بالتزام الفعل ، وتارةً بالتزام الترك ، وتارةً بالجمع بين الأفراد المتعدّدة ولو توقّف على تكرار العبادة المتّحدة ، كما إذا تردّد المكلّف به بين أمرين أو أمور يحتمل التكليف بجميعها ؛ إمّا لإجمال الدليل من أصله ، أو طريان الإجمال عليه بعد تعيينه ، أو اشتباه موضوعه ، أو تردّده بين الشرطيّة والمانعيّة ، أو الزيادة والجزئيّة كتردّده بين الركعتين والأربع في يوم الجمعة ، وبين القصر والتمام في بعض المواضع ، وتردّد القبلة بين الجهات الأربع ، وتردّد الفائتة بين صلوات لا يعلمها بعينها ، وتردّد البسملة في الأخيرة والأخيرتين بين الجهر والإخفات ، وتردّد الجزء المتيقّن الترك بين اثنين أو أكثر ، .. إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا تُحصر.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٩.

٧٧

فإنّ الذّمّة لا تبرأ بيقينٍ في هذا ونحوه إلّا بالإتيان بجميع الأفراد ؛ لأنّ الشغل اليقينيّ بالتكليف يستدعي الفراغ اليقينيّ منه ؛ لأنّ الحقّ فيما نحن فيه وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المقتضي لوجوب الامتثال موجود ، والمانع منه مفقود ، وكلّما كان كذلك اجتمعت شرائط تنجّز التكليف من الخبير اللطيف.

أمّا المقتضي ؛ فلأنّ المفروض ثبوت الأمر في الواقع بالواجب المردّد ، الشامل للعالم والجاهل ؛ لعدم اختصاص موضوع الوجوب في الأوامر بالعالم ، وإلّا لزم الدور ، لتوقّف العلم بالوجوب على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم دار.

وأمّا عدم المانع ؛ فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل بشخص الفرد المكلّف به ، وهو لا يصلح للمانعيّة ؛ لعدم استقلال العقل بمعذوريّة الجاهل بسبب عجزه عن الإتيان بالواقع ؛ لجواز التكليف بالمجمل في الجملة ، كما اعترف به مَنْ قال بتحكيم أصل البراءة (١).

ولمنع عدم قابليّة الجاهل لتوجّه التكليف إليه ، وإلّا لزم جواز المخالفة القطعيّة ، ولجاز إهمالُ الواجب المعلوم إجمالاً ، وقبُحَ عقاب الجاهل المقصّر على ترك الواجبات وفعل المحرّمات الواقعيّة ، ولعدم جريان أدلّة البراءة في مثل المقام ؛ لاستلزام العمل بها في كلّ من الفردين بخصوصه طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله ، فإنّ وجوب ذلك الأحد ممّا لم يحجب الله علمَهُ عنّا ، فليس موضوعاً عنّا ، ولا نحن في سعةٍ منه ، فإنّ العلم بوجوب كلٍّ منهما لنفسه وإنْ كان محجوباً عنّا ، إلّا إنّ العلم بوجوبه من باب المقدّمة ليس كذلك ، مع معارضة أخبار البراءة بأخبار الاحتياط الكثيرة.

وممّن اختار هذا الطّريق المحدّث المنصف الشيخ يوسف العصفوري قدس‌سره النّوريّ فإنّه قال في مقدّمة الحدائق : ( ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها : ما إذا اشتغلت ذمّته يقيناً ، لكن تردّد بين فردين أو أزيد من أفراد ذلك الواجب ، فإنّه يجب عليه الإتيان بالجميع ، ومنهُ مَنْ اشتغلَت ذمّته بفريضة

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٩.

٧٨

يوميّة مع جهلها في الخمس مثلاً ، فإنّه يجب عليه الإتيان بالخمس ، مقتصراً فيما اشترك منها في عددٍ على الإتيان بذلك العدد مردّدا في نيّته ، ومنه التردّد في وجوب الجمعة ، فإنّه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر. إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع ) (١). انتهى.

وقال أيضاً في بعض أجوبة المسائل : ( متى علم المكلّف اشتغال الذمّة بعبادةٍ مثلاً ، لكنّها صارت متردّدة بين فردين أو أكثر مثلاً ، فأصلُ العبادة معلومةُ الاستقرار في الذمّة ، لكن الكيفيّة مجهولة في ضمن هذين الفردين أو الأفراد ، فالاحتياطُ الواجب شرعاً هو الإتيان بفردي ما شكّ فيه أو الأكثر إنْ كان. ومنه التردّد في وجوب الجمعة أو تحريمها ؛ لتعارض الأدلّة عنده ، أو لعدم مَنْ يقلّده في الحكم ، فإنّه يعلم اشتغال ذمّته في هذا الوقت بفريضة يقيناً ، لكنّه شاكٌّ في كونه ظهراً أو جمعةً ، فيقينُ الخروج من عهدة التكليف ويقينُ البراءة يتوقّف على الإتيان بالفرضين المذكورين معاً.

ومثلُهُ مَنْ نوى الإقامة ثم بدا له الخروج قبل الصلاةِ أو بعدها ، ولم يعلم الحكمَ الشرعيّ في حقّه ، ولم يتمكّن من السؤال ، فإنّ الواجب عليه بمقتضى ما ذكرنا هو الصلاةُ تماماً وقصراً. وهكذا جميعُ ما هو من هذا الباب ، بلا شكّ ولا ارتياب .. ).

إلى أن قال بعد كلامٍ رَدّ به على بعض مَنْ عاصره ، حيث استشكل في العمل بالاحتياط ما لفظه : ( على أنّ نظائر هذه المسألة المذكورة غير عزيز في الأحكام التي صرّحت بها العلماء الأعلام ، ووردت بها أخبارُ أهل الذّكر عليهم‌السلام ، كَمَنْ فاتته صلاة لا يعلمها بعينها ، وقد ظنّها في صلاتين أو أكثر ، والصلاة في الثوبين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر ، وصلاة المتحيّر في جهة القبلة إلى أربع جهات ) .. إلى آخر كلامه ، زيد في إكرامه.

ومنهم الفاضل المحقّق التقي الشيخ محمّد تقي رحمه‌الله في ( هداية المسترشدين ) ، فإنّه قال في بحث أصالة البراءة ما لفظه : ( ثم إنّ ما ذكرنا في أصالة البراءة فيما إذا

__________________

(١) الحدائق ١ : ٧٢.

٧٩

تعلّق الشكّ بنفس التكليف ، وأمّا إذا تعلّق بخصوصيّة المكلّف به ، فلا وجه لجريان الأصل المذكور فيه على كلِّ الوجوه.

وتفصيل الكلام فيه : إنّ ما تعلّق التكليف به قد لا يتعيّن عند المجتهد ، فيكون دائراً بين أمرين أو أمور عديدة ، يتعذّر عليه تعيينُهُ بعد بذل وسعه ، وقد يتعيّن المكلّف به عنده إلّا إنّه يتعذّر عليه تفسيره وتعيين حقيقته ، وعلى كلٍّ منهما ؛ فإمّا أنْ يندرج أحدُ الوجهين أو الوجوه في الباقي ، أو لا. ثمّ مع تكثّر الوجوه ؛ إمّا أن تنحصر الاحتمالات بحيث يمكن اليقين بالامتثال بالجميع ، أو لا.

وتوضيح الحال فيها : إنّه إذا دار التكليف بين أمرين غير متداخلين ، أو أمور مختلفة كذلك ، مع إمكان الإتيان بالجميع ، قضى ذلك بلزوم الإتيان بها أجمع ؛ لاقتضاء اليقين بالشغل اليقين بالفراغ ، ولا يحصل بدون التكرار والإتيان بجميع المحتملات.

واحتمالُ سقوط التكليف بمجرّد ذلك مع كونه خلاف الأصل ممّا لا وجه له ؛ لإمكان تفريغ الذمّة بما قلناه.

ومع القول ببقاء التكليف لا وجه للتّرجيح مع انتفاء المرجّح ، ولا التخيير ، فيتعيّن طريق الجمع المحصّل لليقين بالفراغ ، وكذا الحال إذا تعيّن المتعلّق ، لكن طرأ الإجمال ودار بين أمرين أو أمور ) (١) .. إلى آخر كلامه ، زيد في إكرامه.

وبمثل هذا الكلام صَرّح غيرُ واحدٍ من الأعلام ، كصاحب ( الفصول الغرويّة ) (٢) ، والشيخ المرتضى في ( الفرائد الأصولية ) (٣) ، والعلّامة المحقّق الخونساري رحمه‌الله في ( شرح الدروس ) في بعض كلماته وإنْ خالف في بعض صور القاعدة ، كالتردّد الحاصل من تعارض الدليلين أو اختلاف الفتويين ، حيث لم يوجب الجمع في تين الصورتين.

بل ظاهر الميرزا القمّي في ( القوانين ) مع إجرائه أصل البراءة في أكثر صُوَر القاعدة وجوبُ الجمع أيضاً في بعضها ، فإنّه بعد أنْ حكى عن الخونساريّ

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٢١.

(٢) الفصول الغروية : مبحث البراءة / المقام الثاني. ( طبعة حجرية غير مرقمة ).

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٥٠٢ ٥٠٣.

٨٠