الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

وذكر مثل هذا السند في موضعين من الكتاب (١) ، كما نقله بعض ثقات الرجال والحديث. وكلّه شاهد على رواية محمّد بن سنان أخي عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام مشافهة وليس هو محمّد بن سنان الزاهري ؛ لأنّه لم يروِ عن الصادق عليه‌السلام بالأصالة كما يدلّ عليه التتبّع أيّ دلالة ، والاعتذار بأنّ محمداً نادر الرواية غير مجدٍ ؛ لإمكان وقوع النادر.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ تقريبه أنّما يتمّ على تقدير كون السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً ، والسوْقُ يأباه والأُسلوب يدفعه ؛ لأنّه أنّما يتمّ على جعل قوله : ( وقال : « يجزيك التسبيح في الأخيرتين » ) (٢) خبراً مستقلا ، ولا يخفى أنّ اقتطاع بعض الحديث وإفراده عن باقيه بمجرّد ظنّ الاستقلال بعيدٌ مُوقعٌ في الخطأ في الاستدلال ، والفصل بكلمة ( قال ) لما بين حكم الأُوليين والأخيرتين من الاختلاف ، لا للانتقال ، بل لو صحّ كون السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً لكان دلالة على المراد أظهر من الشمس في ساعة الراد ، كما قرّرناه في الرسالة.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ مجرّد السؤال لا يستلزم خفاء فعل الإمام ، ولا ينافي كثرة الصحبة له عليه‌السلام.

أمّا الأوّل ؛ فلعدم المانع من جعل الغرض من السؤال طلب معرفة حقيقة الحال ، وأنّ قراءته عليه‌السلام هل هي موافقة لمعتقده المطابق لنفس الحكم الواقعي ، أم لنوع من التقيّة ، أو غير ذلك؟ لاختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والأحوال ، وتفويض أمر الشريعة لهم عليهم سلام ذي الجلال.

ويؤيّده إطلاق القول إطلاقاً شائعاً على الرأي والاعتقاد ، واختلاف الإماميّة الاختلاف الكثير في حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، إلّا إن الغرض من الاستفهام طلب معرفة الحكم فقط ، كما لا يخفى على ثاقبي الأفهام.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ كثرة الصحبة لا تستلزم معرفة جميع الأحكام في أوّل جزء من أجزاء زمان صحبة الإمام ، وإنّما تتجدّد الصحبة آناً فآناً ومكاناً فمكاناً ، كما يشهد به

__________________

(١) طبّ الأئمة : ١٥ ١٦.

(٢) انظر : ص ٣٨ هامش ٧.

٤١

قصّة عمّار الذي هو جلدة بين عيني المختار (١) ، وسؤال داود بن النعمان (٢) الذي هو من أفاضل رواة الأعيان عن كيفيّة التيمّم مع طول صحبته للإمام ، ونرى عليّ بن جعفر مع طول صحبته لأخيه عليه‌السلام ، وزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وأضرابهما من أوتاد الأنام قد يسألون عمّا لا يجهله سائر العوامّ من أحكام الشكوك والطهارة والصلاة والصيام ، كما لا يخفى على المتتبّع الحاذق بالتتبّع الصادق ، مع أنّه لم يؤثّر نقصاً في جلالتهم وفقاهتهم وطول صحبتهم وملازمتهم ، بل هذا وأمثاله ممّا يدلّ على جلالتهم حيث إنّهم لا يكتفون في معرفة الأحكام بمجرّد السماع من الإمام أو بما تخيّله الأفهام والأوهام ، بل لا بدّ من السؤال في الجزئيّات والكلّيّات والكسبيّات والبديهيّات عمّا يأمرهم به في عامّة الأوقات.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ مجرّد الإخفاء لا يدلّ على عدم جواز الإجهار ؛ لعدم المانع من كون ذلك الإخفاء لنوع من التقيّة والاضطرار ، بناءً على عموم التقيّة لها كما هو خفاء بعض الأخبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

ثمّ قال شدّ الله عليه نطاق النوال ـ : ( لا يقال : إنّ ( اقرأ ) فعل أمر لا مضارع ؛ لأنّا نجيب عنه :

أوّلاً : بأنّه لم يحتمله أحد من أصحابنا ، بل استدلّوا به على أفضليّة القراءة للإمام لأنّه عمل الصادق عليه‌السلام.

وثانياً : بأنّه استفهام عن فعل الإمام عليه‌السلام في الأخيرتين ، فيجاب عنه بالخبر لا بالإنشاء ؛ لأنّه من المقطوع به في اللغة العربيّة أنّه لا يجاب عن الاستفهام عمّا يفعله المخاطب إلّا بالخبر وهو فعله ، ووقوع غير ذلك غير موجود ، وإنْ وُجِد نادراً فغير قادح ، لأنّ كلام الأئمّة عليهم‌السلام يُحْمل على الوجه الأكمل ؛ لكونه تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، وحملُهُ على إضمار الجواب أبعدُ من الأوّل ؛ لأنّ الأصل عدم التقدير ، بل الحذف ممتنع ؛ لعدم القرينة على تعيين المحذوف ، ولأنّ الاستفهام عمّا يفعله الإمام إذا كان إماماً لا [ ما (٣) ] يفعله السائل ، فيتعيّن ما ذكرناه ، وهو

__________________

(١) كشف الغمّة : ٢٦٠ ، البحار ٣٣ : ١٢ / ٣٧٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٥٩٨ ، الوسائل ٣ : ٣٥٩ ، أبواب التيمّم ، ب ١١ ، ح ٤.

(٣) من المصدر.

٤٢

واضح ).

أقول : غير خفيّ على اولي الألباب ضَعْفُ هذا الجواب.

أمّا قوله : ( إنّه لم يحتمله أحد من الأصحاب ) ففي حيّز المنع والخروج عن نهج الصواب ؛ إذ قد احتمله على ما عثرت عليه المحدّث الكاشاني في ( الوافي ) (١) ، والمحقّق العليّ الشيخ عليّ المقابي ، ولا مانع من وجود غيرهما ؛ لأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

وأمّا قوله : ( إنّه استفهام عن فعل الإمام ) .. إلى آخره.

ففيه : أوّلاً : ما عرفت أنّ مورد الخبر أنّما هو حكم المأموم لا الإمام ، كما لا يخفى على من لاحظ صدر الخبر بالتأمّل التامّ.

وثانياً : أنّ هذا الوجه وإنْ احتمل إلّا إنّه غير متعيّن في المقام ؛ إذ الشائع على لسان العرف العامّ في مقام السؤال والاستفهام استعمال : ما تقول في ما تأمر به وتفتي؟ لإطلاقه على الرأي والاعتقاد إطلاقاً شائعاً ، كما لا يخفى على ذي فهم وقّاد.

وثالثاً : أنّا لو تنزّلنا وسلمنا جعل ( اقرأ ) فعلاً مضارعاً ، فلا دلالة فيه على مدّعاه ؛ لأنّ مورد الخبر بيان حكم المأموم ، فلمّا بيّن عليه‌السلام أنّ المأموم يجزيه التسبيح في الأخيرتين عرف الراوي أنّ هنا شيئاً فوق المجزي ، فسأله عمّا يترجّح على التسبيح ويفضل عليه ، حتى إنّه يفعله حال ائتمامه بوالده عليه‌السلام في حياته ؛ لعلمه بمواظبتهم عليهم‌السلام على ما كان الفضل فيه أكثر وأرجح وآثر.

وأمّا قوله : ( لأنّه من المقطوع به في اللغة العربيّة ) .. إلى آخره.

ففيه : أوّلاً : أنّه أنّما يتمّ على تقريبه فقط ، وقد علمت أنّه ليس متعيّناً ، بل ولا راجحاً ، بل الراجح هو السؤال عمّا يأمره به ، فيطابق الجواب السؤال ، ويزول غَيْهبُ الإشكال.

وثانياً : بالقول بالموجب ، إذ لا يشكّ أُولو الألباب في وجوب مطابقة السؤال والجواب ، وأنّ كلام أُولئك الأطياب فوق كلام المخلوق وتحت كلام ربّ الأرباب ،

__________________

(١) الوافي ٨ : ١٢٠٤.

٤٣

وأنّ إضمار الجواب مع عدم الحاجة إليه خلاف الصواب ، إلّا إنّ جميع هذا خارج عن محلّ النزاع ، كما لا يخفى على ذي تأمّل واطّلاع.

وأمّا قوله : ( وإنّ الاستفهام عمّا يفعله الإمام إذا كان إماماً لا ما يفعله السائل ).

ففيه : ما مرّ مراراً من عدم تعيّنه ، بل رجحان خلافه ؛ لما عرفت من أنّ مورد الخبر أنّما هو بيان حكم المأموم ، ولا تعلّق له بحكم الإمام ، كما لا يخفى على مَنْ لاحظ سوق الكلام من ثاقبي الأفهام.

دلالة صحيحة زرارة

ثمّ قال ساعده ذو الجلال ـ : ( وصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إذا كنت خلف إمام فلا تقرأ شيئاً في الأُوليين وأنصت لقراءة الإمام ، ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين ، فإنّ الله يقول ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (١) ، والأخيرتان تبع للأُوليين » (٢).

فقوله عليه‌السلام ( والأخيرتان تبع للأُوليين » بعد حكمه بالإنصات لقراءة الإمام في الأُوليين يعطي أنّ الأخيرتين لا جهر فيهما بشي‌ء أبداً ، وإنّما ينصت المأموم فيهما لكونه يجب عليه الإنصات في الأُوليين ؛ لأنّهما تابعتان لهما ، وهو دفع لما عساه يتوهّم فيقال : إنّك أمرت بالإنصات في الأُوليين لاستماع قراءة الإمام ، والأخيرتان لا جهر فيهما بشي‌ء للإمام ، فأجاب بأنّ الإنصات فيهما تابع للإنصات في الأُوليين ، لا لأنّ الإمام يجهر فيهما بشي‌ء من قراءته وتسبيحه ، ومن هنا يُعلم ضَعْفُ تعميم الشيخ البهائي [ للحكم (٣) (٤) ]. وأنت إذا ضمّيت هذه الرواية إلى سابقتها كانتا كالنصّ في عدم الجهر في الأخيرتين للإمام قراءةً وتسبيحاً وبسملةً ، وهذا بحمد الله ظاهر ).

أقول : لا يخفى على مَنْ وعى واستعمل الإنصاف ورعى ، أنّه لا دلالة في هذا الصحيح على المدّعى :

أمّا أولاً ؛ فلأنّها كما تحتمل ما ذكره تحتمل احتمالاً مساوياً إنْ لم نقل راجحاً غيره ، وذلك بجعل قوله

فإنّ الله يقول ..

إلى آخره ، علّة لترك القراءة في الركعات

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤. (٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٠ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) من المصدر. (٤) الحبل المتين : ٢٢٨.

٤٤

كلّها لسماعة قراءة الإمام في الأخيرتين أيضاً ، وقوله : « والأخيرتان تبع للأُوليين » بالرفع كما في بعض النسخ ، أو « تبعاً » بالنصب كما في بعضها علّة ثانية لترك القراءة في الأخيرتين ، فيحصل فيها علّتان ، ويكون الفرق بين الأُوليين والأخيرتين عدم القراءة والتسبيح في الأُوليين ، وسقوط القراءة دون التسبيح في الأخيرتين.

وحينئذٍ ، فينقلب الدليل عليهم ؛ لأنّ نهيه عن أنْ يقول شيئاً فيهما وأمره بالإنصات لقراءة الإمام أنّما يكون مع جهرة بها ، فيصير ترجيح احتماله على احتمالنا ترجيحاً لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح ، وهو باطل ، وجِيدُهُ عن عِقْد القبول عاطل.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ قصارى دلالته على تقدير تقريبه أنّ ترك المأموم القراءة ليس لسماع الإمام ، وإنّما كان لتبعيّتهما الأُوليين ، وهُو لا يدلّ على الإخفات بالبسملة ؛ لخروجها عن سائر أجزاء الفاتحة بالدليل الخارجي.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ حكمه بتبعيّة الأخيرتين للأُوليين ممّا يدلّ على الجهر بها فيهما كما فيهما ؛ لأنّه ليس نصّاً في أنّ المتبوع فيه سقوط القراءة فقط ، بل كما يحتمل غيره من الجهر والإخفات ، كما احتمله بعض الثقات.

وأمّا قوله : ( ومن [ هنا (١) ] يعلم ضعف تعميم الشيخ البهائي الحكم ).

ففيه : ضعف من وجهين :

الأوّل : أنّ التعميم غير مختصّ بالبهائي كما تقدّم.

الثاني : أنّ ما ذكره غير وارد عليهم ؛ لأنّ قصاراه الإخفات بالقراءة لا يستلزم الإخفات بالبسملة ، كما هو محطّ فسطاط النزاع الذي تكلّل (٢) فيه حدّ اليراع.

وأمّا قوله : ( وأنت إذا ضمّيت هذه الرواية ) .. إلى آخره. فجوابه يعلم من الكلام على كلّ من الروايتين ، فيسقط الاستدلال بهما من البين.

مناقشة أدلة الاستحباب

ثمّ قال أورق الله له روح الآمال ـ : ( احتجّ الأكثر على استحباب الجهر في الأُوليين

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه من النصّ المنقول سابقاً.

(٢) كلّل السيف : إذا لم يقطع. لسان العرب ١٢ : ١٤٢ كلل.

٤٥

والأخيرتين بصحيحة صفوان (١) وحَسَنة الكاهلي (٢) المتقدّمتين مستندين إلى أنّهما مطلقتان ، وبما رواه الشيخ عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : « إنّ علامة المؤمن خمسٌ : صلاة الخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختّم في اليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ». ) (٣).

أقول : هذا الكلام صريح في قصر الاستدلال على هذه الروايات الثلاث ، مع أنّ الأخبار الصالحة للاستدلال ممّا استفاضت ، بل بلغت حدّ التواتر كما صرّح به بعض الأبدال (٤) ، ويؤيّده عمل مَنْ لا يعمل بالآحاد بهما كالسيد المرتضى (٥) وابن إدريس (٦) وابن البرّاج (٧) ، وقد وفّقنا الله للوقوف منها على ما ينوف على عشرين حديثاً زيادة على هذه الثلاثة المذكورة ، ومَنْ أراد الوقوف عليها فليرجع إلى رسالتنا الكبرى في هذه المسألة المزبورة ، وكأنّ الذي حداه على ذلك قصر النظر على ( المدارك ) ، والله العالم بما هنالك.

ثمّ قال ضوعف له الإجلال ـ : ( والجواب : أمّا عن الروايتين فباستحالة كونهما مطلقتين ، والوجه في ذلك ما قرّرناه ، فراجعه. بل يستفاد منهما الإخفات في الأخيرتين ، وكلّ ذلك معلوم ممّا أسلفناه ، ومع تسليم إطلاقهما فهما دالّان على الجهر للإمام خاصّة ، فهما إلى مذهب أبي الصلاح (٨) وابن الجنيد (٩) أقرب منهما إلى المشهور ).

أقول : قد مرّ نقض هذا الكلام في ذيل الروايتين ، فلا حاجة إلى ذكرها في البين ، والمنصف تكفيه الإشارة ، والمتعنّت لا ينتفع ولو بألف عبارة.

وأمّا قوله : ( ومع تسليم إطلاقها ) .. إلى آخره ، فلا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ فعل الإمام أنّما هو فرد من أفراد ما دلّ عليه العامّ ، فهو من باب موافقة حكم الخاصّ حكم العامّ ، وهو ليس مخصّصاً بإجماع علمائنا الأعلام.

__________________

(١) انظر : ص ٢١ هامش ٥.

(٢) انظر : ص ٣٠ هامش ٢.

(٣) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢ ، مصباح المتهجّد : ٧٣٠.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠ ، نقلاً عن ابن أبي عقيل.

(٥) عنه في المعتبر ٢ : ١٧٦.

(٦) السرائر ١ : ٢١٨ ٢١٩.

(٧) المهذّب ١ : ٩٧.

(٨) الكافي ( أبو الصلاح ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ٣ : ٢٦٣.

(٩) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥.

٤٦

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ هذين الخبرين (١) وإنْ كان موردهما الإمام ، إلّا إنّ عندنا من أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام ما هو للمنفرد وغيره عامّ وإنْ تأكّد ذلك له ، كما يدلّ عليه خبر الثمَالي عن السجاد عليه‌السلام (٢) ، [ و (٣) ] كمتواتر ابن أُذينة (٤) ، وخبر الأعمش (٥) ، وصحيح الفضل بن شاذان (٦) ، ومرسل ( الدعائم ) (٧) و ( البحار ) (٨) ، وما دلّ على أنّ الجهر بها مطلقاً من علامة شيعتهم ، كخبر ( التهذيب ) (٩) ، و ( المصباح ) (١٠) ، وصحيح ( إعلام الورى ) ، ومرسل ( كنز الفوائد ) للكراجكي (١١) ، ورواية أبي بصير (١٢)، و ( مختصر البصائر ) ، وصحيح زرارة (١٣) ، وصحيح عبد الله بن أبي أوفى المرويّ في ( الروضة ) (١٤)، و ( فضائل ابن شاذان ) (١٥)، إلى غير ذلك من الأخبار الواضحة المنار.

وأمّا قوله : ( فهما إلى مذهب أبي الصلاح وابن الجنيد أقرب منهما إلى المشهور ) ، فلا يخفى ما فيه ظاهراً من الاضطراب التامّ والقصور.

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّه اعترف بدلالتهما على الجهر للإمام ، وفرّع عليه قربهما إلى مذهب أبي الصلاح وابن الجنيد ، وهو يقتضي كون مذهب أبي الصلاح الاختصاص بالإمام قضاء لحقّ التفريع القاضي به سياق الكلام ، ولا يخفى بطلانه على ثاقبي الأفهام.

وأمّا ثانياً ؛ فلدلالة كلامه على دلالة الروايتين على استحباب الجهر للإمام في الأخيرتين كما هو مختار ابن الجنيد (١٦)، مع أنّه حكم بتحريم الجهر فيهما مطلقاً من غير قيد.

ثمّ قال لا زال راقياً مدارج الكمال ـ : ( وأمّا رواية الشيخ (١٧) فهي إنّما تدلّ على

__________________

(١) انظر : ص ٤٦ هامش ١ ، ٢. (٢) التهذيب ٢ : ٢٩٠ / ١١٦٢.

(٣) زيادة اقتضاها السياق. (٤) مستدرك الوسائل ٤ : ١٨٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ١٧ ، ح ٧.

(٥) الخصال : ٦٠٣ ٦٠٤. (٦) عيون أخبار الرضا ٧ ٢ : ١٢١ ١٢٣ / ١.

(٧) دعائم الإسلام ١ : ٢٠٩. (٨) البحار ٧٧ : ٣٠٠ / ٦١.

(٩) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢. (١٠) مصباح المتهجّد : ٧٣٠.

(١١) عنه في البحار ٣٦ : ٦٩ / ١٦ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٨٦ ١٨٧ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ١٧ ، ح ١٠. (١٢) تأويل الآيات الظاهرة : ٤٨٥ ٤٨٦.

(١٣) تفسير العيّاشي ٢ : ٣١٨ / ٨٦. (١٤) عنه في البحار ٨٢ : ٨٤ / ٢٨.

(١٥) عنه في البحار ٨٢ : ٨٤ / ٢٨. (١٦) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥.

(١٧) التهذيب ٦ : ٥٢ / ١٢٢.

٤٧

مطلق الجهر ، وهو يتأدّى ببعض أفراده ، وهو الجهر في الأولتين ، بل يتأدّى بالجهر في الصلاة الجهريّة ؛ لأنّه من علامات المؤمن وهو ضدّ المخالف ، والمخالفون قاطبة لا يجهرون بالبسملة في الصلاة الجهريّة والإخفاتيّة ، بل هم فيهما مختلفون ، فالأكثر يخافت بها ، ومنهم مَنْ يحذفها ، فبالجهر بها في الصلاة الجهريّة تتحقّق مخالفتهم ، وثبت كونها علامة للمؤمن يمتاز بها عن المخالف ).

أقول : لا يخفى على ذي بالٍ مَنْعُ ما قاله بلا إشكال :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّه خلاف ما صرّح به أرباب الفقاهة والجلالة من إفادات العموم ، فضلاً عن الإطلاق ، فدعوى عكسه مفضٍ لنسبة أُولئك الأقطاب إلى الفهاهة (١) والجهالة.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ آية العموم صحّة الاستثناء ، وآية الإطلاق العدم ، ولا يخفى تحقّق آية الأُولى هنا على مَنْ له في المعرفة أدنى قدم.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ مَنْ قصر النظر عن حاقِّ اللفظ وسياقه هجم به التوفيق على إفادة عمومه وإطلاقه ؛ لعدم تقييد تلك الصفة المترتّب عليها المدح العظيم الذي من أجلها قال تعالى ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) (٢) بشرط ولا صفة.

وأمّا رابعاً ؛ فلإتيان هذا الخبر بلفظ الجهر الذي هو مفرد ومحلّى باللّام الجنسيّة ، فيفيد العموم قطعاً ، كما هو مختار الشيخ (٣) والأكثر (٤) ، وهو الحقّ الأظهر لصحّة وصفه بالجمع ، كالحكاية المشهورة عن البعض : ( أهلكَ الناسَ الدرهمُ البيضُ والدينارُ الصفرُ ) ، وصحّة الاستثناء المقتضي في قوله تعالى ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا .. ) (٥).

والجواب بعدم الاطّراد واضح الفساد ، كالاعتراض بأنّه لو كان للعموم لصحّ تأكيده بـ ( كلّ ) و ( أجمع ) ، ولصحّ وصفه بالجمع :

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ اسم الجنس المعرّف بلامه أنّما يُراد به حقيقة ذلك الجنس ، وهو أمر واحد لا تعدّد فيه ولا كثرة ، وإنّما يدخل تحتها الحقائق الخارجيّة لكونها أفرادها ،

__________________

(١) فهَّ عن الشي‌ء : نَسِيَهُ. لسان العرب ١٠ : ٣٤٣ فهه.

(٢) الصافّات : ٨٣.

(٣) عدّة الأُصول : ١١٢ ١١٥.

(٤) عنهم في معالم الأُصول : ١٤٦.

(٥) العصر : ٢ ٣.

٤٨

فلحيثيّة أنّ المراد به الحقيقة الواحدة اعطي حكم المفردات ، فلم يطّرد وصفه بأجمع وتأكيده بالجمع ، ومن حيث دخول الحقائق الخارجيّة المتعدّدة أُعطي حكم الشمول في إفادة العموم ، كما أنّ المعرّف باللّام المشار بها إلى نفس الحقيقة المراد به واحد من أفرادها في المعنى كالنكرة ، فيوصف بالجعل كما في قوله : ( ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني .. ) (١) و ( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) (٢) وإنْ جرى عليه في اللفظ أحكام المعارف ، فيقع مبتدأ وذا حال ووصفاً للمعرفة وموصوفاً بها.

وأمّا ثانياً ؛ فلوجود الوصف بالجمع ، وعدم وجدان التأكيد بـ ( أجمع ) لا يدلّ على عدم الوجود ، فقد مرّ أنّ اللغات تتبدّل بتبدّل القرون والأوقات ، كما صرّح به بعض الثقات.

وروى ابن جنّي : إنَّ الشعر علمُ قومٍ لم يكن علمٌ أصحّ منه ، فتشاغلت العرب عنه بعد ظهور الإسلام بالجهاد ، فلمّا اشتهر رجعت العرب إلى أوطانها وراجعوا الشعر وقد هلك أكثر العرب ، ولا كتاب هناك يرجع إليه ، فلم يُظْفر إلّا بالقليل ).

وروى أيضاً عن يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء : ( إنّ ما انتهى إلينا ممّا قالت العرب إلّا أقلّه ).

وبهذا اندفع ما يقال بأنّه لو وُجِدَ لنُقِلَ ، هذا مع أنّه وُجِدَ ونُقِلَ ، كما في دعاء كلّ يوم من شهر رمضان ، ودعاء كلّ ليلة من العشر الأواخر منه ، كما في كتاب ( الإقبال ) و ( زاد المعاد ) ، وهو قوله عليه‌السلام

أيْ (٣) كاشِفَ الضرِّ والكَرْبِ العِظَامِ عَنْ أيُّوب (٤)

بفتح الكاف وسكون الراء ، كما في نسخ الصحيفة المضبوطة الصريحة في المراد ، كما لا يخفى على المنصف المرتاد ، على أنّ محقّق ( المعالم ) أنّه من القائلين بعدم إفادته العموم ، قال :

( إنّه لا مجال لإنكار إفادة [ المفرد (٥) ] المعرّف [ باللّام (٦) ] العمومَ في بعض الموارد حقيقة إلى أنْ قال ـ : ( إنّ الغرض من نفي دلالة المفرد المعرّف على العموم

__________________

(١) حاشية المطوّل : ٢٣٢. (٢) الجمعة : ٥.

(٣) في المصدر : يا ، بدل : أي. (٤) الإقبال ١ : ٣٦٤ ٣٦٥ ، زاد المعاد : ٢٠٤.

(٥) من المصدر. (٦) من المصدر.

٤٩

كونه ليس على حدّ الصيغ الموضوعة لذلك ، لا عدم إفادته إيّاه مطلقاً ) (١). انتهى. وهو نصّ صريح في الباب ، كما لا يخفى على اولي الألباب.

[ ثالثاً : (٢) ] وأمّا الاحتجاج بأنّ ( أكلتُ الخبزَ ) و ( شربت الماءَ ) كلام صحيح وليس فيه دلالة على أكل وشرب جميع الأخباز والمياه ، ولو كان له لدلّ عليه.

ففيه : أنّا لا نسلّم أنّ ( اللّام ) هنا هي الجنسيّة ، بل الظاهر من حاقِّ اللفظ أنّها العهديّة الذهنيّة ، فإنّ المراد منه بعضٌ خارجي مطابق للماهيّة الكلّيّة في الذهن ، على حدّ قولك : ( ادخل السوق واشترِ اللحم ) ، وليس المراد إلّا واحداً من الأسواق واللّحوم المطابقة للماهيّة الكلّيّة ، وهو خارج عن محلّ النزاع بالكلّيّة ؛ لعدم عموم مثله بلا مِرية لذوي رويّة.

إذا تقرّر هذا ثبت المطلوب وحصل المراد وارتفع من البين الإيراد ؛ لدلالته حينئذٍ على أنّ كلّ فرد من أفراد الجهر بها سواء وقع في الأُوليات أو الاخريات أو الجهريّات أو الإخفاتيّات من علامات شيعتهم الثقات ، المترتّب على اقتفائها الوعد بالثواب وعلى مخالفتها العقاب ، حتى دعا النبيّ الجليل إبراهيم الخليل ربّه أنْ يجعله من أُولئك الشيعة الولاة في الآيات والروايات.

فروى العيّاشي في تفسيره عن أبي بصير ، قال : سألَ جابر الجعفي أبا عبد الله عليه‌السلام عن تفسير قوله تعالى ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) (٣) ، فقال عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لمّا خلق إبراهيم كشف له عن بصره ، فنظر فرأى نوراً إلى جنب العرش ، فقال : إلهي ، وما هذا النور؟ فقيل له : هذا نور عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ناصر ديني ، وإذا على جنبيه ثلاثة أنوار فقال : إلهي ، ما هذه الأنوار؟ فقيل له : هذا نور فاطمة فَطَمْتُ محبّيها من النار ، ونور ولديها الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال : إلهي ، وأرى تسعة أنوار قد حفّوا بهم؟ قيل : يا إبراهيم ، هؤلاء الأئمّة من ولد علي وفاطمة ، فقال : إلهي وسيّدي ، وأرى أنواراً قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلّا أنت؟ قيل : يا إبراهيم ، هؤلاء شيعتهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال إبراهيم : وبِمَ تُعرف شيعته؟ قال : بصلاة الإحدى والخمسين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والقنوت قبل الركوع ، والتختّم

__________________

(١) معالم الأُصول : ١٤٧ ١٤٨.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

(٣) الصافّات : ٨٣.

٥٠

باليمين ، فعند ذلك قال إبراهيم : اللهمَّ اجعلني من شيعة أمير المؤمنين ، قال : فأخبر الله في كتابه ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) »(١).

ورواه أيضاً الشيخ حسن بن سليمان في ( مختصر البصائر ) (٢) ، ومثله روى صاحب كتاب ( الروضة ) (٣) وابن شاذان في فضائله (٤).

وروى الطبرسي في ( إعلام الورى ) (٥) صحيحاً عن صفوان ، والكراجكي في ( الكنز ) (٦) ، والشيخ حسن بن سليمان في ( مختصر البصائر ) ، كلّهم عن الصادق عليه‌السلام بألفاظ متقاربة ، قال : « إذا كان يوم القيامة تقبل قوم على نجائب من نور ينادون بأعلى أصواتهم : الحمدُ للهِ الذي صدقنا وعده وأورثنا أرضه نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء ، فتقول الخلائق كلّهم : هذه زمرة الأنبياء ، فإذا النداء من قبل الله تعالى : هؤلاء شيعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهم صَفْوتي من عبادي وخيرتي من بريّتي ، فتقول الخلائق : إلهنا وسيّدنا بِمَ نالوا هذه الدرجة؟ فقال : بتختّمهم باليمين ، وصلاتهم إحدى وخمسين ، وإطعامهم المسكين ، وتعفيرهم الجبين ، وجهرهم ببسم الله الرحمن الرحيم ». إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار ، ولا يخفى ما في هذين الخبرين من العموم للأخيرتين.

أمّا الأوّل ؛ فلإتيانه بلفظ الجهر الذي هو اسم جنس محلّى بـ ( اللّام ) الجنسيّة ، فيفيد العموم قطعاً.

وأمّا الثاني ؛ فلإتيانه بلفظ « جهرهم » الذي هو مصدر مضاف ، وقد ذكر جمع من علماء المعاني والأُصول كصاحب ( المطوّل ) (٧) ، والچلبي في ( الحاشية ) (٨) ، والبهائي في حواشي زبدته ، والكاظمي في شرحها ، والمحقّق الثالث في ( المعالم ) ، والمازندراني في شرحه ، والعضدي في ( شرح المختصر الحاجبي ) ، والمحقّق

__________________

(١) عنه في البحار ٨٢ : ٨٠ / ٢٠. (٢) عنه في البحار ٨٢ : ٨١ / ٢١.

(٣) عنه في البحار ٨٢ : ٨٤ / ٢٨. (٤) عنه في البحار ٨٢ : ٨٤ / ٢٨.

(٥) عنه في مستدرك الوسائل ٤ : ١٨٧ ، ونسب مثله في البحار لإعلام الدين ( الديلمي ). راجع البحار ٨٢ : ٨٠ / ١٩ ، إعلام الدين : ٤٤٧ ٤٤٨.

(٦) عنه في البحار ٨٢ : ٧٩ ٨٠ / ١٩ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٨٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ١٧ ، ح ١٠.

(٧) المطوّل : ١٧٦.

(٨) الحاشية على المطوّل : ٢٣٤.

٥١

الشريف في كثير من حواشيه (١) ومؤلّفاته وفوائده : أنّه يفيد العموم عند عدم العهد ؛ لأنّ اسم الجنس إذا استُعْمل ولم تقم قرينة تخصّصه ببعض ما يقع عليه كان لاستغراق الجنس. ولا يخفى أنّه لا عهد هنا ، فيثبت المطلوب أيضاً ، مع أنّ الجهر بها فيهما غير مقيّد بحالة من الحالات ، والله الهادي في المبادئ والغايات.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّه لو تمّ ما ذكره من قصر دلالتها على مطلق الجهر لم يكن لتخصيص تأديته بالجهر في الأُوليين فائدة ، بل يكفي الجهر في الثالثة فقط ، أو الرابعة فقط ، أو بالجهر في بسملة الفاتحة من الأُوليات دون السورة ، أو بالعكس ، وهو باطل ؛ إذ لا قائل به من الأصحاب ، وما ذاك إلّا للعموم ، وما يستلزم باطلاً فهو باطل ، وجِيدُهُ من القبول عاطل.

وأمّا خامساً ؛ فلأنّه أنّما يتأتّى على تقدير أنّ المطلق ما دلّ على واحد لا بعينه ، والظاهر فساده ، فإنّ كونه واحداً وكونه غير معيّن قيدان زائدان على ماهيّته ، كما صرّح به العلّامة في نهايته.

وأمّا سادساً ؛ فلأنّه إنّما يتمّ لو سلّم أن لو كانت الدلالة بالإطلاق فقط ، إلّا إنّ جلّ المحقّقين قد صرّحوا بأنّ الدلالة بالعموم ، وإذا دار الأمر بين العموم والإطلاق عمل بمقتضى العموم ؛ لما فيه من يقين البراءة دون الإطلاق ، والجمع بين الدليلين مهما أمكن بالعمل بهما خير من الطرح في البين.

وأمّا قوله : ( بل يتأدّى بالجهر في الصلاة الجهريّة ).

ففيه : أوّلاً : ما مرّ في ما ذكره من التأدية بالجهر في الأُوليين.

وثانياً : أنّ الجهر بها حينئذٍ لا يتحقّق به إقامة الشعار ؛ لأنّه أنّما وقع تبعاً لما لا بدَّ فيه من الإجهار ؛ لأنّ الأُمور اللّابديّة العاديّة لا يُعمل فعلُها موافقةً وطاعة مرضيّة ، ولهذا استثني من السنّة الأُمور العادية.

وثالثاً : خروج الشعار عن كونه شعاراً بجهر المخالف الذي يراها آية من الفاتحة في المواضع الجهريّة ، كما لا يخفى على ذي رويّة.

__________________

(١) الهامش على كتاب المطوّل : ١٧٦.

٥٢

وأمّا قوله : ( والمخالفون قاطبة لا يجهرون بالبسملة في الصلاة الجهريّة والإخفاتيّة ) ، ففيه ما لا يخفى ؛ إذ الشافعي وأتباعه يجهرون بها مطلقاً ، كما حكاه عنهم المحقّق في ( المعتبر ) (١) ، والعلّامة في ( المنتهى ) (٢).

وأمّا قوله : ( فبالجهر بها في الصلاة الجهريّة تتحقّق مخالفتهم ).

ففيه : ما مرّ أوّلاً من أنّ الجهر في الجهريّة أمر عادي لابديّ يشترك فيه مَنْ يرى البسملة جزءً من كلّ سورة ، كما هو مذهب ابن المبارك (٣) ، وأهل مكّة كابن كثير (٤) ، وأهل الكوفة كعاصم والكسائي (٥) وغيرهما سوى حمزة (٦) ، وجمهور أصحاب الشافعي كما حكاه المحقّق البهائي في ( حاشية تفسير القاضي البيضاوي ) ، وإنّما تتحقّق المخالفة وإقامة الشعار في الجهر بها في مواضع الإسرار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

ثمّ قال ألبسه الله حلّة الكمال ـ : ( وليست تدلّ على الجهر مطلقاً في الجهريّة والإخفاتيّة في الأُوليين والأخيرتين ، بل إنّما تدلّ على نفس الجهر من حيث هو من غير اعتبار وحدة ولا إطلاق ، فيتأدّى بما ذكرناه ضرورة تأدية مطلق الشي‌ء ببعض أفراده ، بخلاف الشي‌ء المطلق ، فسقط الاستدلال بها رأساً ، فلا يحسن التعلّق بها في إثبات هذا الحكم ، مع معارضة إطلاقها المدّعى بصحيحة عبد الله بن سنان (٧) وصحيحة زرارة (٨) المتقدّمتين.

وعلى ما ذكرناه في جواب هذه الرواية يحمل قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (٩) ، ويحمل أيضاً قول ابن أبي عقيل (١٠) بتواتر الأخبار عن الأئمّة : بأنّه لا تقيّة في الجهر بالبسملة ).

أقول : أمّا قوله سلّمه الله ـ : ( وليست تدلّ على الجهر مطلقاً ).

ففيه : ما مرّ آنفاً من أنّه خلاف ما صرّح به الأصحاب من إفادة العموم ، فضلاً عن الإطلاق ، أوّلاً.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٨٠. (٢) المنتهى ١ : ٢٧٨.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٩٣. (٤) المحلّى ٣ : ٢٥١ / ٣٦٦.

(٥) المحلّى ٣ : ٢٥١ / ٣٦٦. (٦) مجمع البيان ١ : ١٩.

(٧) انظر : ص ٣٨ هامش ٧. (٨) انظر : ص ٤٤ هامش ٢.

(٩) الكافي ٨ : ٥١ / ٢١ ، وفيه « وألزمت ».

(١٠) عنه في مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠.

٥٣

ومن إفادة المفرد المحلّى بلام الجنس العموم ، فيدلّ على كلّ فرد من أفراد الجهر سواء في ذلك الأُوليات والأُخريات ، أو أنّ الجهر من حيث هو من غير قيد بحالة من الحالات من علامة الشيعة السُّراة ، ثانياً. إلى غير ذلك من الوجوه التي مرّ ذكرها هناك.

وأمّا قوله : ( بل إنّما تدلّ على نفس الجهر من حيث هو ).

ففيه : أوّلاً : ما مرّ.

وثانياً : أنّ ما جعله مناطاً للفرق بين الأمرين أنّما هو فرق بين العامّ والمطلق ، فإنّ المطلق هو اللفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي من غير اعتبار وحدة أو كثرة أو عموم أو خصوص ، والعامّ ما دلّ عليها مع قيد الكثرة الشاملة ، كما صرّح به العلّامة في نهايته ، والمقداد السيوري في كنزه (١) ، وغيرهما من المحقّقين.

فغاية ما يمكن أن يقال : إنّها أنّما أفادت الإطلاق لا العموم ، وهو كافٍ في الاستدلال ، كما لا يخفى على مَنْ عرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال.

وثالثاً : أنّه قد اعترف بدلالته على استحباب الجهر من حيث هو بلا شرط شي‌ء ، فلا بدّ من تقييده ببعض الركعات من المقيّد ، كما لا يخفى على نبيه.

ورابعاً : أنّ عدم اعتبار الإطلاق فيه لا يدلّ على عدمه ؛ لعدم الملازمة بين عدم الاعتبار وبين العدم ، وعدم المنافاة بين الشي‌ء وعدم اعتباره ، وإنّما المنافاة بين اعتبار الشي‌ء واعتبار عدمه ، ألا ترى أنّ الحضور الذهني معتبر في المعرّف بلام الحقيقة ، وغير معتبر في أسماء الأجناس مع تجويزهم دخول لام الحقيقة عليها؟! كما هو مقرّر في محلّه ، وما ذاك إلّا لأنّ عدم اعتبار الحضور لا يستلزم عدمه ، وإلّا لزم الجمع بين المتنافيين.

وحينئذٍ ، فغاية ما يمكن أنْ يقال بعد التنزّل وتسليم الفرق ـ : إنّ دلالة مطلق الشي‌ء على الكثرة ليس كدلالة المطلق ، كما أنّ دلالة المطلق ليست كدلالة العامّ ، وكما أنّ دلالة المفرد المحلّى بـ ( اللّام ) على العموم ليست كدلالة سائر صيغ العموم.

وأمّا قوله : ( فيتأدّى بما ذكرناه ضرورة تأدية مطلق الشي‌ء ببعض أفراده ) ، فهو مجرّد

__________________

(١) كنز العرفان ١ : ٤.

٥٤

تطويل بلا طائل ، لا يرجع إلى نائل ، وقد مرّ ما فيه مراراً.

وأمّا قوله : ( مع معارضة إطلاقها المدّعى بصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة زرارة المتقدّمتين ) ، فضعفه يُعْرف ممّا أسلفناه في ذيل هاتين الصحيحتين ، ومن هنا يُعْلم ما في ضعف كلامه ، فلا حاجة إلى التعرّض لنقضه بتمامه.

ثمّ قال حقّق الله الآمال ـ : ( ودعوى إطلاق الأخبار وقع تقليداً من المتأخّرين للمتقدّمين ، هذا ولو لم يكن في الإخفات بالبسملة إلّا الاحتياط لكفى ؛ لأنّ المشهور لا يوجبون الجهر ، وأبو الصلاح (١) وابن إدريس (٢) مانع من الجهر ، وابن البرّاج (٣) قد علمت أنّه لا يوجب إلّا في الأُوليين ، ومع صحّة ما ادّعى عليه من إيجاب الجهر على الإطلاق لا يلتفت إلى قوله ؛ لعدم وجود حجّة صالحة للوجوب ، بل الاستحباب ، فانظر ولا تغفل ).

أقول : أمّا أنّ دعوى الإطلاق وقع تقليداً للمتقدّمين فلا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً ؛ فللإزراء بأساطين التحقيق وفساطيط التدقيق ، حيث لم يميّزوا الغثّ من السمين والبائر من الثمين ، مع أنّ تحقيق أحوال الفقه وتطبيق فروعه عليها إنّما صدر من أُولئك الجهابذة المتقنين ، فإن اعترف بفهم أُولئك الأقدمين منها الإطلاقَ ، كفانا دليلاً فَهْمُ أُولئك الأعلمين.

وأمّا ثانياً ؛ فلقول جلّهم أو كلّهم بعدم جواز تقليد أحد من الأموات ، فنسبته إليهم خلاف ما قرّروه من تلك القواعد والاصطلاحات ، وهذا وإنْ لم يكن حكماً شرعيّاً ، إلّا إنّه قانون كلّي ينطبق عليه كثير من جزئيّات الأحكام الشرعيّات.

وأمّا قوله : ( ولو لم يكن في الإخفات بالبسملة إلّا احتياط لكفى ).

ففيه : أولاً : عدم الداعي للاحتياط هنا ، إذ مع فقد الدليل على الإخفات لا يمكن القول بتوقّف يقين البراءة ؛ إذ مجرّد خلاف أحد لا يستلزم الاحتياط ، وعدم يقين البراءة لا يخفى على مَنْ عنده من الاعتساف براءة ، وإلّا لاستحبّ الإخفات للمنفرد في أُوليي الإخفاتيّة خروجاً من خلاف ابن الجنيد (٤) ، لكن لا قائل به ، مع أنّ بعض

__________________

(١) الكافي ( أبو الصلاح ) ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ٣ : ٢٦٣.

(٢) السرائر ١ : ٢١٨.

(٣) المهذّب ١ : ٩٧.

(٤) عنه في المختلف ٢ : ١٥٥ ، فتاوى ابن الجنيد : ٥٦.

٥٥

المحقّقين (١) صرّح بأنّ الاحتياط في الجهر بها لدوران الأمر بين الوجوب والاستحباب ؛ لضعف دليل التحريم عنده ، بل لعدم الاعتداد به.

وثانياً : أنّه يلزم منه المصير إلى الاحتياط في وفاق الفتوى دون الأخبار ولو كانت صريحة في المطلوب معتمدة الطريق ؛ لأنّ الحقّ في الفتوى ، ولا يلتزمه ذو تقوى ، إذ الفتوى لا يجب الرجوع إليها من حيث هي ، فإنّ المفتي من حيث هو غير مأمون الخطأ ، إلّا أنْ تنضمّ إليها قرينة أُخرى كالعلم بدخول فتوى المعصوم في جملتها فيعلم كونها حقّا لانضمام فتوى المعصوم لا من حيث نفسها ، فإذا خلت عنه فلا وجه للاحتياط في وفاقها مع قيام الدليل على خلافها.

وثالثاً : أنّ مورد أخبار الاحتياط أنّما هو أمران :

الأوّل : تيقّن اشتغال الذمّة بشي‌ء ، وتوقّف يقين البراءة على الأخذ به ، كما في صحيحي عبد الرحمن بن الحجاج ، وعبد الله بن وضّاح.

فالأُولى : في رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء عليهما ، أم على كلّ واحد منهما؟ قال : « بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما عن الصيد » قلتُ : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدرِ ما عليه؟ فقال : « إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط » (٢).

والثانية : كتبتُ إلى العبد الصالح : يتوارى القرص ويُقبل الليل ، ثم يزيد الظلام ارتفاعاً ، وتستتر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويُؤذّن المؤذّنون ، فأُصلّي حينئذٍ وأفطر إنْ كنتُ صائماً ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام : « إنّي أرى لك أنْ تنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل ، وتأخذ الحائطة لدينك » (٣).

وأنت خبير بأنّ مورد الأُولى أنّما هو اشتراك جماعة في قتل صيدٍ حَرَمي ، فذمّة كلّ منهما مشغولة بالكفّارة ، لكنّهما لم يعلما أنّها كفّارة واحدة عنهما ، أو عن كلّ منهما كفّارة.

__________________

(١) رياض المسائل ٢ : ٣٠٧ ٣٠٨.

(٢) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣١ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

٥٦

ومورد الثانية أنّما هو اشتغال الذمّة بالصيام والصلاة في وقتها ، ولا يحصل يقين البراءة بالإفطار والصلاة قبل زوال الحمرة ؛ لجواز عدم دخول الوقت ، وبزوالها يحصل اليقين قطعاً ، وغير خفيّ على نبيل أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، ولا انسلاك له في سلك هذا السبيل.

الثاني : قيام الدليل من الطرفين مع تعارضهما بلا مرجّح في البين ، كما نطقت به المرفوعة الزراريّة ، حيث قال فيها عليه‌السلام بعد التساوي في جملة من المرجّحات ـ : « خُذْ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط » (١).

وأنت عليم بأنّه ما أمر عليه‌السلام بالاحتياط إلّا بعد التساوي في تلك المرجّحات ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ الجهر موافق لشعار الإماميّة ومخالف لتلك الفرقة الغويّة ، وأمّا ما ورد من الأخبار مطلقاً في الأمر بالاحتياط كقوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » (٢) و « دع ما يريبك » (٣) فما فيها من الإجمال بالإطلاق أوجب حملها على المقيّد البيّن بلا إشكال للاتّفاق.

وأمّا قوله : ( وأبو الصلاح وابن إدريس مانع من الجهر ، وابن البرّاج قد علمت أنّه لا يوجب إلّا في الأُوليين ) ، فقد مرّ ما فيه من أنّ أبا الصلاح قائل بالوجوب حتى في الأخيرتين.

وحينئذٍ ، يدور الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فيكون الاحتياط في الجهر بلا ارتياب ، كما مرّ التصريح به من بعض المحقّقين ؛ لضعف دليل التحريم وقوّة الاستحباب. وابنُ البرّاج وإنْ قصر الوجوب على الأُوليين إلّا إنّه حاكم بالاستحباب في الأخيرتين ، وخلافُ ابن الجنيد في المنفرد شامل للموضعين ، فالخلاف في الأخيرتين لم يقع إلّا من الحلّي ، وهو ليس مبنيّاً على أصل جليّ.

المناقشة في الشهرة

ثمّ قال سقاه [ الله ] من رحيق التحقيق لطريقة الآل ـ : ( لا يقال : إنّ الشهرة أمارة الرجحان فيقوى الظنّ [ فيها (٤) ] ؛ لأنّا نقول : إنّ الشهرة لا تكون مرجّحة إلّا في نقل الرواية ،

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩. (٢) الأمالي ( الطوسي ) : ١١٠ / ١٦٨.

(٣) الذكرى : ١٣٨. (٤) في المخطوط : ( فيهما ) ، وما أثبتناه من المصدر.

٥٧

وحديث : « خذ ما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذَّ النادر » (١) مورده اختلاف الروايتين ، وأمّا في مدلول الرواية فليست الشهرة دليل الرجحان ، فربّ مشهور لا أصل له ، بل على ذي الرواية ومَنْ أفاض الله عليه الملكة القدسيّة إمعان النظر في دلائل العترة المحمّدية ومعاريض كلام الذريّة العلويّة ، فقد ورد عن الصادق عليه‌السلام : « إنّكم لن تكونوا فقهاء حتى تعرفوا معاريض كلامنا » (٢) ، ولا ينظر إلى مَنْ قال ، بل ينظر إلى ما قيل (٣) ).

أقول : فيه أوّلاً : مَنْ نظر ببصر البصيرة الثاقبة ، وأعمل عامل الفكرة الثاقبة ، وسرّح بريد الرؤية في فيافي المقبولة الحنظليّة والمرفوعة الزراريّة ، أنْ لا دلالة فيهما على الاختصاص بصورة الترجيح حال تعارض الأخبار المرويّة.

دلالة المقبولة الحنظلية

أمّا المقبولة ، فقصارى ما دلّت عليه النهي عن التحاكم عند قضاة الجور المستبدّين بالأهواء والآراء والمستمدّين من شراب الشيطنة والنكراء ، والأمر بالرجوع إلى مَنْ استند في فتاواه وأحكامه إلى سادات الورى ، فهي ظاهرة في شهرة الفتويين ، والقول باختصاصها بترجيح الروايتين لا أثر له ولا عين.

فدونكها مجلوّة الأشراف ، محمودة الأطراف ، فاستقبل غرّتها بوجه الألطاف ، واستنطقها بقصد الإنصات والإنصاف ، تظفر منها بالنصيب الأوفى ، والكأس الأصفى ، وهي بحذف الأسناد :

عن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة إلى أنْ قال ـ : فكيف يصنعان؟

قال : « ينظران مَنْ كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حاكماً » إلى أنْ قال ـ : فإنْ كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أنْ يكونا الناظرين في حقهما ، فاختلفا في ما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩. (٢) معاني الأخبار : ٢ / ٣.

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم : ٧٤٤ / ٤٠ ، بالمعنى.

٥٨

قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (١) .. إلى آخرها.

فتدبّر ما نظم بنانُها من فرائد الفوائد الكثيرة ، وأتى به بيانُها من فوائد العوائد الأثيرة ، ألا تراها ناطقة :

أوّلاً : بتوصيف مَنْ يرجع في الحكم إليه ، وتعريف مَنْ يُعوَّل في الفتاوى عليه.

وثانياً : إنّ كلّا من المتنازعين اختار رجلاً فرضيا أنْ يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا في ما حكما ، وهذا نصّ في أنّ المرضيّ بهما غير راويين ، وإنّما هما مفتيان ، فاختلفت فتواهما بقرينة قوله : « الناظرين » و « حكما » ، فإنّ النظر هو ترتيب أُمور معلومة للتأدّي إلى مجهول ، والحكم هو نتيجة ذلك الترتيب المذكور.

وأمّا قوله : ( وكلاهما اختلفا في حديثكم ) ، فمعناه أنّ كلّاً من المفتيين اختلفا في تفريع الحكم على الأصل الوارد عنكم ، حيث قد أذنتم لهما في التفريع بقولكم : « علينا أنْ نلقي إليكم الأُصول ، وعليكم أنْ تفرّعوا » (٢).

أو ( اختلفا في ما استند إليه من حديثكم ) يعني : أن كلّاً منهما أفتى بقول واستند فيها إلى حديث عنكم.

وقوله عليه‌السلام أخيراً : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به » ، أي : ينظر إلى ما فرّعا عليه الحكم إلى الحديث الذي استندا إليه في الدلالة على مدّعاهما صريحاً فيعمل بالمشهور منهما ، أي : بفتوى الحكم الذي استند إلى الحديث المشتهر عند أصحابك ، بقرينة قوله سابقاً : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما .. » إلى آخره ، وترك الذي ليس بمشهور ، أي : فتوى الناظر الآخر الذي

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ٦٨ / ١٠.

(٢) السرائر ٣ : ٥٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٦١ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٥١.

٥٩

استند إلى الحديث الغير المشهور.

وحينئذٍ ، فقصارى ما دلّت عليه المقبولة المذكورة قبول الفتوى المشتهرة المستندة إلى المشهورة ، ولا يخفى أنّ محطّ خيام النزاع أنّما هو إثبات مثل هذه الفتوى ؛ إذ الفتوى المجرّدة من وفاق الكتاب والسنّة لا تصلح وسيلة للعمل ولا مَجَنَّة (١) ، فهي في حال الشهرة والندرة على حدّ سواء في الانحراف عن سَمْتِ حدّ الاستواء.

فلنفرض أنّ الحاكمِين باستحباب الجهر استندوا في فتواهم هذه إلى روايات مشهورة ، وابن إدريس استند في فتواه إلى ما كان عكس ذلك من الرواية وشطيره ، فالواجب الأخذ بالفتوى المشهورة ؛ لأمر الإمام عليه‌السلام الظاهر بالأخذ بهما وترك ذاك النادر.

دلالة المرفوعة الزراريّة

وأمّا المرفوعة (٢) فظهورها في أنّ مورد الشهرة ترجيح إحدى الروايتين لا يمنع إرادة الفتويين :

أمّا أوّلاً ؛ فلاندراجه تحت خصوص سبب السؤال ، وهو غير مخصّص بلا إشكال ، كما حقّقه جمهور العلماء الأبدال ، فإنّ اللفظ الوارد هنا بعد السؤال أعمّ من المسئول عنه ظاهر الاستقلال ؛ لقوله عقيب السؤال عن حال الخبرين المختلفين : « خذ ما اشتهر بين أصحابك » ، و ( ما ) من ألفاظ العموم قطعاً ، فيعمّ الأخذ بشهرة الفتوى والعمل معاً ، ولا عبرة بخصوص السؤال ، بل المدار على عموم الجواب ، كما هو الحقّ والصواب ، فيبقى على عمومه حيث لا مخصّص ، ولا تخصيص بغير مخصّص.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ أظهريّة بعض أفراد العامّ من غيره لا يقتضي الاختصاص ، ولات حين مناص ، فإنّ العامّ لا يجب تساوي نسبته إلى جميع جزئيّاته في الدلالة عليها ، بل يقبل التفاوت شدّةً وضعفاً ، كما صرّح به العلّامة في نهايته.

__________________

(١) المَجَنَّة : الموضع الذي يستتر فيه. لسان العرب ٢ : ٣٨٧ جنن.

(٢) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٦٠