الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

الرسالة الحادية والعشرون

مسألة في الوصيّة

٣٦١
٣٦٢

مقدّمة المؤلِّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا يُردّ سائله ولا ينفدُ نائله ولا يخِيب آملُه ولا يخيب عامله ، والصلاة والسلام على محمّد وآله ، الذين وضُح بهم الحقّ ودلائله ، وصحّ بهم الدين ووسائله.

أمّا بعد :

فيقولُ الأقلُّ الجاني والأذل الفاني ، أحمد بن صالح البحراني أفاض الله عليه شآبيب فيضه البحراني ـ : قد وردت عليّ مسائل ، ليس المسئول بها أعلم من السائل ، فلذا لم أُصرّح باسمه الشريف الفاضل ؛ لكونه من الأفاضل لا زال مُحَمَّداً في المحافل ، وممجّداً منزّهاً من الرذائل ، فتشرّفتُ بامتثال أمره الشريف تلذّذاً بخطابه المنيف ، مع ما أنا فيه من كثرة الاشتغال ، وتشتّت البال ، واختلاف الأهوال ، واختلال الأحوال ، وفقد ما أُراجعهُ في هذا المجال.

٣٦٣

مسألة في الوصية (*)

قال أيّدهُ الله وسدّده وأسعفه وأسعده ـ : ( فالمعروضُ على جنابكم المحفوظ أنّ العبد كان على سيرة مسلّمة عنده ، فناقشه بعض إخوانه في الدين وأجلّ خلّانه على اليقين ، مزرياً عليه ذلك العمل ، فجرى بينه وبينه ما جرى ، فاخترمه الأجل قبل إحكام ما فيه دخل ، ولم يكن لي بسواه انسٌ سواكم ، فما برحت أُقدّم رجلاً في سؤالكم أُؤخّر أُخرى ، ثم رأيت أنّ القدوم أحرى.

والسيرةُ المشار إليها : رجلٌ حرّ بالغ رشيد أوصى بفاضل ثلثه لذكور أولاده لصلبه ، متفاوتين فيه أو متساوين ، على أنّ مَنْ مات منهم قبل أنْ يعقب رجع حقّه من الثلث لمَنْ بقي منهم ، فإنْ انقرضوا من غير عقب رجع فاضل الثلث جميعه لجهةٍ أيّ جهة من الجهات التي يتقرّب بها العقلاء.

فأبطل ذلك الفاضل المقدّس ذلك موجّهاً : أنّ ذلك الموصى إليه بعد ملكه إليه لا سبيل للموصي عليه.

فأجبتُه : إنّ الموصى إليه ملك مشروطاً ، والوفاءُ بالشرط غير المخالف للكتاب والسنّة لا خلاف في وجوب الوفاء به.

وافترقنا على المراجعة ، وحال القضاء والقدر عن الاجتماع ، فاختار اللهُ له دار بقائه ، وأسألُ الله أنْ يحشره في زمرة أوليائه ، إلّا إنّه قدس‌سره أوقع الإشكال ، فالرجاء كشفُ قناع ذلك الإعضال ).

أقولُ وبالله الثقة وعليه الاتّكال ، ومنه التسديد في الأفعال والأقوال ـ : إنّ تحقيق المرام بإبرام النقض ونقض الإبرام يتوقّف على تمهيد مقدّمة لها النفعُ التامّ في كلّ مقام ، مأخوذة من تتبّع أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام وكلمات فقهائنا الأعلام ، وهي :

إنّ الوصية كسائر العقود والإيقاعات لها مقتضيات بحسب الذات ومقتضيات بحسب الإطلاقات ؛ لقبول ذاتها شرعاً للإطلاق والتقييد ، بحسب الصفات والأمكنة والأوقات وسائر الكيفيّات والخصوصيّات. ويترتّب على الاولى بطلان الشروط

__________________

(١) وردت هذه المسألة ضمن مجموعة مسائل ، وزّعناها على محالّها من الكتاب ، وهي : الثالثة ، الحادية والعشرون ، الثانية والعشرون ، الحادية والثلاثون ، بحسب ترتيب الكتاب.

٣٦٤

المنافية لمقتضى الذات ، وعلى الثاني عدم بطلان الشروط المنافية للإطلاقات ، كما ذكره أصحابنا الثقات (١).

فالمرادُ بمقتضى الذات ما يدور تحقّق الماهيّة وصحّتها مداره وجوداً وعدماً ، بمعنى : أنّ ماهيّته لا تتحقّق إلّا بذلك ، كالتمليك في العقود المملِّكة للعين أو المنفعة أو الانتفاع ، فإنّ فواته موجبٌ لانتفائها ، فلو شرط فيها ما ينافيه بطل لمنافاته الجعل أو المراد الشرعيّين المخرجين عن الموضوع ، فيبطل التابع ببطلان المتبوع.

والمرجع في ذلك إلى الشرع في بعضٍ بملاحظة الشروط والموانع الشرعيّة ، وإلى المفاهيم العرفية في آخر ، فالوقف مثلاً الذي ذاتُه تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة يحكم العرف بفساده وإنْ وافقه الشرع ، لو لم يكن هناك عينٌ ولا منفعة ، أو لم يكن من شأنه البقاء كوقف ماء يسير في ظرف صغير لا ينتفع به إلّا بوجه حقير في وقت قصير ، أو لم يتحقّق التمليك أو لم يحبس العين ، وغير ذلك من الأُمور المنافية لذاته ومقتضى ماهيّته ، والمتوقّف تحقّق اسمه عليها ولو بمتفاهم العرف ومصطلحاته.

وكذا عقود المعاوضات الحقيقية قطعاً ، وما فيه شائبة العبادة في وجهٍ قويٍّ ظاهراً ، وقد يكون مقتضى الذات شرعيّاً ، بمعنى : كونه مجعولاً للشارع أو مراداً له وإنْ لم يحكم به العرف ، وعرفيّاً بمعنى : استقلال العرف به وإنْ حكم به الشرع ، كالتسليط على سائر التصرّفات في العقود المملّكات.

والمراد بمقتضى الإطلاق كلّ ما يترتّب على العقد من الآثار الشرعيّة واللوازم العرفيّة بعد إحراز ذاته وخلوّه من المقيّدات ، وهي الأُمور المترتّبة على العقد ، وليس لها مدخليّة في تقويم الماهيّة ، بحيث لو لم يكن كذلك لكان موضوع العقد مندرجاً تحت أدلّته ، كعدم الإِرث والنفقة في المنقطع وخيار المجلس في البيع ، وكاقتضاء إطلاق الوقف والوصيّة الاقتسام بالسويّة ولو مع الاختلاف ذكوريّة وأُنوثيّة ، واقتضاء

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٩ ٢٠.

٣٦٥

إطلاق الوكالة التصرّف في البيع بثمن المثل فصاعداً والشراء به فنازلاً ، فلا مانع من اشتراط ما ينافيها لاندراجه تحت أدلّة الوفاء بالعقود والشروط.

والفرقُ بين هذه المقتضيات : أنّ ما تقتضيه الذات مستحيلُ التخلّف والانفكاك ، فيلزم من فواته الفوات ، فلو شرط خلافه بطل ؛ لإخراجه العقد عن الموضوع وبطلان التابع ببطلان المتبوع ، وأنّ ما يقتضيه الإطلاق قابل شرعاً للتغيير والتقييد بالشروط وسائر المقيّدات ؛ لعدم إخراجها عن الموضوع فتندرج في أدلّة الوفاء بالعقود والشروط ، كما هو معلوم مِنْ تتبّع موارد الفروع.

ولهذا جاز مخالفة الإطلاقات بالشروط والمقيّدات ، كتقييد الموصي بالمال بجهة معيّنة وكيفيّة خاصّة وأوقاتٍ خاصّة ، وشرط الأجل في العوض والمعوّض على وجه لا يستلزم تجهّلهما ، وتقييد الأعواض ببعض النقود وإنْ لم تتعارف في البلد المعهود ، وتقييد الأداء والتسليم مطلقاً بغير البلد ، واشتراط نفقة العامل في عقد المضاربة على نفسه كلّاً أو بعضاً ، وتقييد كون شخص وصيّاً بزمانٍ أو مكان ، واستقلال أو اجتماع ، أو على بعض المنافع أو بعض الأعيان ، إلى غير ذلك من القيود والشرائط الموافقة للسنّة والقرآن.

إذا انتقش هذا في لوح الفطنة السليمة والفطرة المستقيمة غير السقيمة ، فلا إشكال حينئذ في جواز الوصية على الوجه المذكور ، كما اقتضاه نظركم الحديد ورائكم السديد ، لوجود المقتضي وزوال المانع.

أمّا المقتضي ؛ فلاندراجها في إطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، وعموم قوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) (٢) ، وقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٣) ، وقوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (٤) ، وعموم قوله تعالى ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (٥) ، وقوله تعالى ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) (٦).

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ١٨١.

(٣) النساء : ١١.

(٤) البقرة : ١٨٠.

(٥) البقرة : ١٤٨.

(٦) الطلاق : ٦.

٣٦٦

وإطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المؤمنون عند شروطهم » (١) ، وإطلاق قول العسكري عليه‌السلام في مكاتبة الصفّار : « جائز للميت ما أوصى به على ما أوصى [ به (٢) ] إنْ شاء الله » (٣) ، وقوله عليه‌السلام في مكاتبة سهل بن زياد : « ينفذون وصيّة جدّهم كما أمر » (٤) ، وفي مكاتبته الأُخرى : « ينفذون فيها وصيّة أبيهم على ما سمّى » (٥). ولا يضرّ ضعف سهل (٦) ، لأنّ الأمر في ( سهل ) سهل ، خرج من ذلك ما قام الإجماع على فساده فيبقى الباقي. إلى غير ذلك من الإجماعات والإطلاقات.

مضافاً إلى صحيح أبي بصير على الصحيح ، وحسنه على المشهور في إبراهيم بن هاشم ، المرويّ في ( الكافي ) و ( الفقيه ) المشتمل على وصيّة فاطمة عليها‌السلام بحوائطها السبعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، « فإن مضى فإلى الحسن ، فإن مضى الحسن فإلى الحسين ، فإنْ مضى الحسين فللأكبر من [ ولدي ] (٧) » (٨).

ومثله حسنه الآخر ، بل صحيحه على الصحيح ، المرويّ في ( الكافي ) ، في وصيّتها عليها‌السلام بها بلفظ « هذا ما عهدتْ به فاطمة » (٩) .. إلى آخره.

والتقريب فيهما : أنّه لو لم تكن الوصيّة قابلة للتقييد لما كان وجه لتخصيصها بولدها دون ولده ، مع انتقال الموصى به له عليه‌السلام بالقبول وموتها عليها‌السلام ، فتكون كسائر أمواله المستحقّة لجميع ورثته عليه‌السلام.

ويويّده خبر يعقوب بن شعيب القويّ ، بل الحسن المرويّ في ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل تكون له خادمة تخدمه ، فيقول : هي لفلان تخدمه

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الوسائل ٢١ : ٢٧٦ ، أبواب المهور ، ب ٢٠ ، ح ٤.

(٢) من المصدر.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥ / ٢ ، الفقيه ٤ : ١٥٥ / ٥٣٧ ، التهذيب ٩ : ٢١٥ / ٨٤٧ ، الوسائل ١٩ : ٣٩٤ ، كتاب الوصايا ، ب ٦٣ ، ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٤٥ / ١ ، التهذيب ٩ : ٢١٤ / ٨٤٦ ، الوسائل ١٩ : ٣٩٥ ، كتاب الوصايا ، ب ٦٤ ، ح ١.

(٥) الكافي ٧ : ٤٥ / ١ ، الفقيه ٤ : ١٥٥ / ٥٣٦ ، التهذيب ٩ : ٢١٤ ٢١٥ / ٨٤٦ ، الوسائل ١٩ : ٣٩٥ ، كتاب الوصايا ، ب ٦٤ ، ح ٢. (٦) الفهرست : ١٤٢ / ٣٣٩.

(٧) في المخطوط : ( ولدها ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٨) الكافي ٧ : ٤٨ / ٥ ، الفقيه ٤ : ١٨٠ / ٦٣٢. (٩) الكافي ٧ : ٤٩ / ٦.

٣٦٧

ما عاش ، فإذا مات فهي حرّة ، فتأبق الأمة قبل أنْ يموت الرجل بخمس سنين أو ستّ ، ثمّ يجدها ورثته ، ألهم أنْ يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال « إذا مات الرجل فقد اعتقت » (١).

وإطلاقه ظاهر في صحّة التقييد ، كما لا يخفى على ذي الرأي السديد.

وأمّا زوال المانع ؛ فلعدم صلوح هذا التقييد والشرط للمانعيّة ؛ لعدم إخلاله بالذات والماهيّة.

وكأنّ ذلك المقدّس المبرور توهّم منافاة هذا الشرط والتقييد لذات عقد الوصيّة ، وغفل عن مجرّد منافاته الإطلاق بالتقييد الذي لا بأس به بعد إحراز الماهيّة.

نعم ، يلزم الموصى إليه الأوّل عدم التصرّف في الأعيان الموصى بها على الوجه المذكور تصرّفاً ناقلاً لها ببيع أو عتق أو غيرهما من الأسباب الناقلة ؛ لتعلّق حقّ الغير بها ، بل يقتصر على التصرّف والانتفاع بمنافعها ونمائها ، أو أعيانها غير القابلة لبقائها كالأشجار والنخيل بعد موتها ؛ لاستلزام التصرّف بنقل الأعيان إتلاف حقّ الغير اللاحق وإنْ ترتّب على انقراض السابق ؛ لإطلاق قوله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٢) ، وقوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) (٣) الشامل لمثل المقام.

فإنْ قيل : إنّ منعه من التصرّف بنقل الأعيان يرجع للشرط المخالف لذات العقد المقتضي للبطلان ؛ لأنّ اشتراط عدم تصرّف خاصّ كالمنع من مطلق التصرّف في المنافاة لمقتضى الذات.

قلت : هذا لا يجري في مثل عقد الوصيّة ، الذي لا تقتضي ذاته إلّا مطلق التمليك الأعمّ من تمليك الأعيان والمنافع والانتفاعات ؛ لحصوله بتسلّطه على سائر التصرّفات ، بل لا يجري أيضاً حتى في العقود المقصود منها تمليك الأعيان ؛ للفرق بين الوجهين في العنوان ؛ لأنّ معنى منافاة مقتضى الذات كون نفس الشرط

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٤ / ٢٣.

(٢) البقرة : ١٨٨.

(٣) البقرة : ١٨١.

٣٦٨

مانعاً من جميع التصرّفات كاشتراط عدم البيع مثلاً في عقد البيع ، مع أنّ اشتراط إبقاء العين المتعلّق بها حقّ الغير غير المنع عن سائر التصرّفات ؛ إذ المانع حينئذٍ أنّما هو عدم إمكان الاجتماع في التصرّفات ، وعدم إمكان الاجتماع مع التصرّف المشروط للغير لا يقتضي كون أصل الشرط مانعاً يترتّب عليه البطلان ؛ فإنّ المناط في المنافاة والعدم أنّما هو مفهوم الشرط ومدلوله ، لا لوازمه المترتّبة عليه في تحقّقه في الخارج كما لا يخفى على اولي الأفهام وإنْ توقّف على غور تامّ ، والله العالم بحقائق الأحكام.

٣٦٩
٣٧٠

كتاب النكاح

الرسالة الثانية والعشرون

مسألة في من رجع ولم يخبر الزوجة بالرجوع

حتى تزوجت

٣٧١
٣٧٢

الرسالة الثانية والعشرون

مسألة في من رجع ولم يخبر الزوجة بالرجوع حتى تزوّجت

٣٧٣
٣٧٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة : في من رجع ولم يخبر الزوجة بالرجوع حتى تزوّجت (١)

ثمّ قال سلّمه الله ذو الجلال ـ : ( ثمّ ما يقول المولى المعتمد سلّمه الله من النكد في رجلٍ طلّق زوجته في طهر غير طهر المواقعة ، وأشهد على طلاقها عدلين ، ثم راجعها في العدّة قبل انقضاء المدّة ، وأشهد على رجعتها ، ولم يبلغها حتى خرجت من العدّة ، فأقام البيّنة ، فهل له سبيل عليها ، أم لا؟ استكتم الشهود أم لا ، حاضراً كان أو غائباً ، تزوجت بآخر أم لا؟ ).

أقول ومنه سبحانه التسديد في كلّ مقول ـ : متى ثبتت الرجعة بالبيّنة الشرعيّة فظاهر كلمات أصحابنا الأشراف وصريح الشيخ في ( الخلاف ) (٢) نفي الخلاف نصاً وفتوى ، بل حصول الإجماع من غير استشكال ولا نزاع في صحّة الرجعة في جميع شقوق المسألة ؛ لإطلاق قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (٣) في ذلك ، ولخبر المرزبان المرويّ في ( الكافي ) ، قال : سألتُ أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : اعتدّي فقد خلّيت سبيلك ، ثمّ أشهد على رجعتها بعد ذلك بأيّام ، ثمّ غاب عنها قبل أنْ يجامعها حتى مضت لذلك أشهر بعد العدّة أو أكثر ، فكيف تأمره؟ فقال : « إذا أشهد على رجعته فهي زوجته » (٤).

ولا ريب في صراحة دلالته على المسألة بحذافيرها ، كما لا ريب في اعتبار سنده ؛

__________________

(١) وردت هذه المسألة ضمن مجموعة مسائل ، وزّعناها على محالِّها من الكتاب ، وهي : الثالثة ، الحادية والعشرون ، الثانية والعشرون ، الحادية والثلاثون ، بحسب ترتيب الكتاب.

(٢) الخلاف ٤ : ٥٠١ ٥٠٢ / مسألة (٥).

(٣) البقرة : ٢٢٨.

(٤) الكافي ٦ : ٧٤ / ٢.

٣٧٥

إذ ليس فيه مَنْ يُتوقّف فيه إلّا المرزبان ، وهو ابن (١) عمران بن عبد الله الأشعري ، وقد ذكر النجاشي أنّ له كتاباً (٢).

وروى الكشّي في كتاب رجاله حديثاً يُشعر بحسن حاله ، وهو ما رواه : عن إبراهيم بن محمّد بن عبّاس (٣) الخَتْلِي ، قال : حدّثني أحمد بن إدريس ، عن الحسين بن أحمد بن يحيى بن عمران ، عن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن علي ، عن المرزبان بن عمران القمّي الأشعري (٤).

ورواه أيضاً المفيد في ( الاختصاص ) : عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن علي ، عنه ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أسألك عن أهمّ الأُمور إلىّ أمن شيعتكم أنا؟. قال : « نعم ». قال : قلت : اسمي مكتوب عندكم؟. قال : « نعم » (٥).

فينتظم حديثه في سلك الحسن ، كما جزم به المجلسيّ في وجيزته (٦) ، ولكن تنظّر فيه الشيخ سليمان في بلغته (٧) ، ولعلّه لكون الراوي هو نفسه ، وعدم اعتبار السند عنده ؛ ولأنّ كون الرجل ذا أصل أو كتاب لا يفيده الحسن الاصطلاحي كما ذكرته في ( زاد المجتهدين ) (٨) ، فما حكم به بعض المحققين من صحّة خبره لذلك غير متين ؛ لأنّه لا يفيد غير تشيّعه ، وهو لا يكفي في تصحيح روايته وإنْ كان في رواية صفوان بن يحيى (٩) عنه إشعار بوثاقته ، إلّا إنّ القدح بضعف السند مع الانجبار بعمل الأصحاب العمد غير المعتمد.

__________________

(١) في المخطوط : ( هو ابن عم عمران ) ، وما أثبتناه وفقاً لما في المصادر. انظر رجال الكشي ٢ : ٢٩٤ / ٩٧٠ ، رجال النجاشي : ٤٢٣ / ١١٣٤.

(٢) رجال النجاشي : ٤٢٣ / ١١٣٤.

(٣) في المصدر : ( العباسي ) بدل ( عباس ).

(٤) رجال الكشّي ٢ : ٧٩٤ / ٩٧٠.

(٥) الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٨٨.

(٦) الوجيزة : ٣١٩ / ١٨٤٢.

(٧) بلغة المحدّثين ( ضمن معراج أهل الكمال إلى معرفة الرجال ) : ٤١٧ / ٨.

(٨) زاد المجتهدين ١ : ١٦٧.

(٩) رجال النجاشي : ٤٢٣ / ١١٣٤ ، التهذيب ٦ : ١٦١ / ٢٩٣.

٣٧٦

وفيه أيضاً : عن الحسن بن صالح ، قال : سألتُ جعفر بن محمَّد عليهما‌السلام عن رجل طلّق امرأته وهو غائب في بلدة اخرى ، وأشهد على طلاقها رجلين ، ثم إنّه راجعها قبل انقضاء العدّة وقد تزوّجت ، فأرسل إليها : إنّي قد راجعتك قبل انقضاء العدّة ولم اشهد؟ قال : « لا سبيل له عليها ، لأنّه قد أقرّ بالطلاق وادّعى الرجعة بغير بيّنة ، فلا سبيل له عليها ، ولذلك ينبغي لمن طلّق أنْ يُشهد ، ولمن راجع أنْ يُشهد على الرجعة كما أشهد على الطلاق ، وإنْ كان قد أدركها قبل أنْ تتزوّج كان خاطباً من الخطّاب » (١).

والتقريب فيه : دلالةُ مفهوم قوله : « وادّعى الرجعة بغير بيّنة ، فلا سبيل له عليها » ثبوت السبيل له متى أقام البيّنة ، وإنّ المانع أنّما هو عدم ثبوت دعواه بقوله مع إقراره بالفرقة ، وهو إجماع الفرقة المحقّة ، كما أنّ ضعف سنده منجبرٌ بعمل أعيان الفرقة ، واشتماله على ابن محبوب الذي هو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (٢).

وفيه : بسنده عن محمّد بن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام : « فإنْ أراد أنْ يُراجعها أشْهد على رجعتها قبل أنْ [ تمضي (٣) ] أقراؤها » (٤).

وخبره الآخر عنه عليه‌السلام ، وقد سُئل عن رجلٍ طلّق امرأته واحدة ثمّ راجعها قبل أنْ تنقضي عدّتها ولم يُشهد على رجعتها. قال : « هي امرأتُه ما لم تنقض عدّتها ، وقد كان ينبغي له أنْ يشهد على رجعتها ، فإنْ جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأساً » (٥).

وقوله عليه‌السلام في خبر زرارة ومحمّد بن مسلم : « فإنْ أرادَ أَنْ يراجعها أشهد على رجعتها قبل أنْ [ تمضي (٦) ] أقراؤها » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٨٠ / ٤.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠ / ١٠٥٠ ، الفهرست : ٩٦ / ٢٠٣.

(٣) في المخطوط : ( تنقضي ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) الكافي ٦ : ٤٦ / ١.

(٥) الكافي ٦ : ٧٣ / ٤.

(٦) في المخطوط : ( تنقضي ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) الكافي ٦ : ٦٤ / ١ ، والرواية عن محمّد بن مسلم ، وأمّا رواية زرارة ومحمّد بن مسلم فهي : « وأنّ الرجعة بغير شهود رجعة ، ولكن ليشهد بعد ، فهو أفضل ». الكافي ٦ : ٧٣ / ٣ ، التهذيب ٨ : ٤٢ / ١٢٨.

٣٧٧

وهذه الأخبار ظاهرة في عدم توقّف صحّة الرجعة على الإعلام بها ، ومطلقة في علم المرأة بها وعدم علمها تزوّجت أم لا ، وأنّ الإشهاد ليس شرطاً في صحّة الارتجاع وإنْ كان ينبغي إرشاداً لحسم مادّة النزاع ، فلو صدقته قبل التزويج صحّ كما نُقل عليه الإِجماع (١) ، حتى إنّ فقهاءنا الثقات يرسلون الصحّة إرسال المسلّمات ؛ إذْ لم يُنقل التصريحُ بالخلاف إلّا عن المقدّس الشيخ علي بن سليمان البحراني القدمي ، المعروف بأُمّ الحديث (٢) ، وهو منه عجيب. ولم أقف على مَنْ استشكل في الحكم المذكور إلّا ما عن المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح (٣) ؛ لعدم النصّ الصريح ، وهو أعجبُ.

وهذه المسألةُ هي التي وقع النزاعُ فيها بين الشيخ علي المذكور وبين المحقّق الأوحد الشيخ أحمد بن الشيخ محمّد بن علي بن يوسف المقشاعي (٤) ، حيث وقعت في زمنهما ، وقد استكتم الشهود حتى تزوّجت ، فحكم فيها الشيخ أحمد بردّها لزوجها الأوّل ، حيث كان متولّي القضاء في البحرين المحروسة من قبل الشيخ علي ، وحكم الشيخ علي رضى الله عنه ببقائها على نكاح الثاني ، واستفتيا فيها فقهاء عصرهما ، وكتبا لسائر البلدان كشيراز وأصفهان ، فصحّحوا كلام الشيخ أحمد ، وخطّؤوا الشيخ علي ، وآل ذلك إلى عزل الشيخ علي إيّاه عن القضاء.

كذا نقله المحقّق المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في إجازته الكبرى (٥)

__________________

(١) الجواهر ٣٢ : ١٨٤.

(٢) الدرر النجفيّة : ١٢٩ ، الحدائق الناضرة ٢٥ : ٣٧١. الشيخ علي بن سليمان بن حسن بن سليمان بن درويش بن حاتم البحراني القدمي ، وهو أوّل من نشر علم الحديث في بلاد البحرين ، وكان رئيساً في بلاد البحرين ، تولّى الأُمور الحسبيّة وقام بها أحسن قيام. توفي سنة ١٠٦٤ ه‍. من مصنّفاته : رسالة في الصلاة ، رسالة في جواز التقليد ، .. وغيرها. لؤلؤة البحرين : ١٤.

(٣) المسائل الحسينيّة ( السماهيجي ) : ١٨٠. مخطوط. الشيخ عبد الله بن الحاجّ صالح السماهيجي ، نسبة إلى سماهيج قرية من قرى البحرين. من مصنّفاته : كتاب جواهر البحرين ، كتاب الصحيفة العلوية ، وغيرها كثير ، توفي سنة ١١٣٥. لؤلؤة البحرين : ٩٦ ١٠٣.

(٤) عالم فاضل محقّق ، كان معاصراً للشيخ علي بن سليمان القدمي. لؤلؤة البحرين : ١٣٨ ١٣٩.

(٥) الإجازة الكبيرة ( الجارودي ) : ٦٩ ٧٠.

٣٧٨

للشيخ ناصر الجارودي (١) ، وفي ( المسائل الحسينيّة ) (٢) ، والمحدث المنصف الشيخ يوسف في ( لؤلؤة البحرين ) (٣) و ( الدرر النجفيّة ) (٤).

وقد احتجّ الشيخ علي المذكور بأنّ الرجوع لا بدّ فيه من الإعلام في العدّة ، والنكاح قد وقع صحيحاً فلا ينتفي بالرجوع الذي لم يُعلم به إلّا بعد التزويج. وأنت خبير بما فيه من المصادرة والمخالفة لظواهر الأخبار المذكورة المتكاثرة (٥).

نعم ، في ( الكافي ) في الحسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور بل الصحيح على الصحيح ، كما حقّقته في ( زاد المجتهدين في شرح بلغة المحدّثين ) (٦) عن محمّد بن قيس البجلي بقرينة عاصم بن حميد عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنّه قال في رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ، ثمّ أشهد على رجعتها سرّاً منها ، واستكتم الشهود ، فلم تعلم المرأة بالرجعة حتى انقضت عدّتها ، قال : « تُخيّر المرأةُ ، فإنْ شاءت زوجها وإن شاءت غير ذلك ، وأيّا تزوّجت قبل أنْ تعلم بالرجعة التي أشهد عليها زوجها فليس للذي طلّقها عليها سبيل ، وزوجها الأخير أحقُّ بها » (٧).

وهي وإنْ كانت صريحةً في وفاقه ، إلّا إنّها مخالفة لما وقع عليه الإجماع (٨) نصّاً وفتوى ، وموافقة لمذهب الثاني المأبون الذي قال فيه باب مدينة العلم إنّه : « لا يقضي به مجنون ».

ففي كتاب سُليم بن قيس الهلالي المعدود من الأُصول المعتمدة ، كما صرّح به المحقّقون المحدّثون والمجتهدون (٩) عنه عليه‌السلام في خبر يذكر فيه بدع ذلك المفتون ،

__________________

(١) عالم فاضل محقّق محدّث نسبة إلى الجاروديّة قرية من قرى القطيف. حضر عند العلّامة الشيخ سليمان الماحوزي وأجازه ، وأجازه أيضاً العالم المحدّث الشيخ عبد الله بن صالح ، من مصنّفاته : كتاب في مكارم الأخلاق ، وله ترتيب مسائل الثقة علي بن جعفر الصادق عليه‌السلام. أنوار البدرين : ٢٩٧ ٢٩٨.

(٢) المسائل الحسينيّة ( السماهيجي ) : ١٨٠. مخطوط.

(٣) لؤلؤة البحرين : ١٣٨ ١٣٩ / ٥٤.

(٤) الدرر النجفيّة : ١٢٨.

(٥) انظر : الوسائل ٢٢ : ١٣٤ ١٣٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٣.

(٦) زاد المجتهدين ٢ : ١٧٢ ١٩٤.

(٧) الكافي ٦ : ٧٥ / ٣.

(٨) الخلاف ٤ : ٥٠١ ٥٠٢ / مسألة (٥) ، الجواهر ٣٢ : ١٩٩.

(٩) البحار ١ : ٣٢ ، الغيبة ( النعماني ) : ١٠١ ١٠٢.

٣٧٩

قال عليه‌السلام : « وأعجب من ذلك أنّ أبا [ كنف (١) ] العبدي أتاه ، فقال : إنّي طلّقت امرأتي وأنا غائب ، فوصل إليها الطلاق ، ثم راجعتها وهي في عدّتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتابُ حتى تزوّجت. فكتب له : إنْ كان هذا الذي تزوّجها دخل بها فهي امرأتُهُ ، وإنْ كان لم يدخل بها فهي امرأتك. وكتب له ذلك وأنا شاهدٌ ولم يشاورني ولم يسألني ، يرى استغناءه بعلمه عنّي ، فأردت أنْ أنهاه ، ثمّ قلت : ما أُبالي أنْ يفضحه الله ، ثمّ لم يُعبه الناس ، بل استحسنوه واتّخذوه سنّة وقبلوه [ منه (٢) ورأوه صواباً ؛ وذلك قضاء لا يقضي (٣) به مجنون » (٤).

ولا يخفى ما فيه من تلك المخالفات والطعون التي لا تنفعها صحّة السند مع فساد المضمون ، حتى إنّ المحدّث المجلسي قدّس سره القدّوسي نُقل عنه أنّه كتب محشّياً عليه : ( ظاهره اشتراط علم الزوجة في تحقّق الرجعة ، ولم أر به قائلاً ، ويمكن حمله على ما إذا لم تثبت بالشهود ، وهو بعيد ) (٥).

ولا يخفى على الناقد البصير ذي النظر الحديد ما هو عليه من طول الباع وسعة الاطّلاع على مواضع الخلاف والنزاع.

ومثله ما رواه الشيخ بسنده عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن عليّ عليه‌السلام في رجل أظهر طلاق امرأته ، وأشهد عليه وأسرّ رجعتها ، ثمّ خرج فلمّا رجع وجدها قد تزوّجت. قال : « لا حقّ له عليها ؛ من أجل أنّه أسرّ رجعتها وأظهر طلاقها » (٦) ، لظهوره في المخالفة للأبرار والموافقة للأشرار ، وكل ما هو كذلك ساقط عن درجة الاعتبار ، فلا يخرج بها عمّا استفاض عليه إجماع أُولئك الأبدال (٧).

فتخرج المسألة حينئذ عن قالب الإشكال ، وينجلي عنها غَيْهب الإعضال ، والله العالم بحقائق الأحوال.

__________________

(١) في المخطوط : ( كيف ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) ] في المخطوط : ( عنه ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في المصدر : لو قضى.

(٤) كتاب سُليم بن قيس ٢ : ٦٨١ ٦٨٢.

(٥) مرآة العقول ٢١ : ١٢٧ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٢٥ : ٣٧٢.

(٦) التهذيب ٨ : ٤٤ / ١٣٦.

(٧) الخلاف ٤ : ٥٠١ ٥٠٢ / مسألة ٥ ، الخلاف ٣٢ : ١٩٩.

٣٨٠