الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

ما حال عليه الحول » (١).

وهذه الأخبار وإنْ كانت مطلقةً لكنّها محمولة على حال استقلالها في النصاب ؛ لأنّه موضع اليقين الخالي عن الخلاف والارتياب.

ثم قال رحمه‌الله : ( أمّا لو كان غير مستقلّ ).

أقول : أي : لو كان نصاب الأولاد غير مستقلّ بعد نصاب أُمّهاتها ، كما لو ولدت الخمسُ من الإبل أربعاً ، والثلاثون والأربعون من البقر ما دون ذلك ، والأربعون من الغنم ما دون مائة وإحدى وعشرين.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( ففي ابتداء حوله مطلقاً ).

أقول : الضمير يعود على النصاب الكائن للأولاد ، وقوله ( مطلقاً ) أي : سواءً كمل بها النصاب الثاني الذي بعد الأوّل ، وهو العشر في الإبل ، والأربعون في البقر ، والمائة والإحدى والعشرون في الغنم ، كما لو كان عنده ثمانون شاة فولدت اثنين وأربعين ، أو لم يكمل ، كأربعين شاة ولدت أربعين ، كما يدلّ عليه قوله :

( أو مع إكماله النصاب الذي بعده ).

أقول : أي : الذي بعد النصاب الأوّل للأنعام الثلاث كما مرّ في الاثنين والأربعين بعد الثمانين ، وإنمّا اشترط الاثنتان مع كمال النصاب الثاني بواحدة وأربعين لأجل الواحدة الواجب إخراجها في نصاب الأمّهات ، فلو لم توجد الاثنتان لنقص النصاب.

ثمّ قال : ( أو عدم ابتدائه حتى يكمل الأوّل فيجزي الثاني لهما ).

أقول : أي : عدم ابتداء حول السخال المستقلّ في نفسه لو انفرد حتى يكمل الحول الأوّل.

وقوله : ( فيُجزي الثاني لهما ).

أي : الحول الثاني للنصابين من الأُمّهات والسخال جميعاً.

ثمَّ قال : ( أوجه أجودها الأخير ).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٤٢ / ١٠٨ ، الوسائل ٩ : ١٢٣ ، أبواب زكاة الأنعام ، ب ٩ ، ح ٥.

٢٦١

أقول : أراد بالأوجه ما تضمّنته العبارة من الشقوق الثلاثة :

فالوجهُ الأوّل : ابتداء الحول لها مطلقاً سواءً كمّلت النصاب الثاني أم لا.

والثاني : ابتداء الحول لها مع إكمالها إيّاه لا مطلقاً.

والثالث : إنّه لا يبتدأ لها حول حتى يكمل الحول الأوّل فيُجزي الحول الثاني للنصابين. وهذا هو الوجه الأخير الذي جعله الأجود من الأوّلين.

ولمّا ذكر الوجوه الثلاثة ذكر مثالاً يظهر به أثرها ، فقال :

( فلو كان عنده أربعون شاةً فولدت أربعين لم يجب فيها شي‌ء ).

أقول : أي : لو ملك أربعين شاة ثمّ ولدت أربعين لم يجب في السخال شي‌ء ، أمّا أُمّهاتها فيجب فيها شاةٌ عند تمام حولها ، وإنّما لم يجب في أولادها شي‌ءٌ لأنّ الزائد من النصاب الأوّل عفو حتى تبلغ النصاب الثاني وهو مائة وإحدى وعشرون.

وهذا على ما اختاره هو قدس‌سره من عدم ابتداء الحول لها مطلقاً حتى يكمل الحول الأوّل.

وأمّا على الوجه الأوّل وهو ابتداء حولها مطلقاً فتجب شاةٌ أيضاً في سخالها ، وإليه أشار بقوله : ( وعلى الأوّل فشاة عند تمام حولها ).

ونقل هذا الوجه عن محقّق ( المعتبر ) (١) محتجّاً بإطلاق ما دلّ على أنّ في أربعين شاة شاةً (٢).

وفيه : أنّ ذلك مخصوص بالنصاب الابتدائي لا مطلقاً بحكم التبادر وفحوى الخطاب وصريح الإجماع (٣) ، ولهذا لو ملك ثمانين شاةً دفعةً لم يجب عليه إلّا شاةٌ واحدة إجماعاً (٤) من الفرقة المعتمدة.

ولمّا كان هذا المثال لا تظهر فيه ثمرة الاحتمال الثاني وهو ابتداء حولها مع إكمالها النصاب الثاني أتى بمثال آخر تظهر فيه فقال :

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٠٩ ٥١٠.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ٥٣٥ / ١ ، الوسائل ٩ : ١١٦ ، أبواب زكاة الأنعام ، ب ٦ ، ح ١.

(٣) الخلاف ٢ : ٢٢ ، منتهى المطلب ١ : ٢٩١.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٢٩٠.

٢٦٢

( أو ثمانون فولدت اثنين وأربعين ، فشاة للأُولى خاصّة ).

أي : لو ملك ثمانين شاة فولدت ما يكمل النصاب الثاني كاثنتين وأربعين ، فإنّها إذا أُضيفت إلى الأُمّهات الثمانين صارت مائةً واثنتين وعشرين لم يجب فيها إلّا شاة للأُولى ، أي : الأُمّهات خاصّة بعد الحول ، أو الأربعين المنضمّة في جملة الثمانين.

وإنّما لم يجب في السخال شي‌ء ؛ لأنّه متى وجب إخراج زكاة النصاب في حال انفراده امتنع اعتباره لو انضمّ لغيره في الحول ؛ لعموم قولهم عليهم‌السلام : « لا ثنيى في صدقة » (١) و « لا يزكّى المالُ من وجهين في عام واحد » (٢). ولأصالة براءة الذمّة وخلاء العهدة من الوجوب.

وإنّما اعتُبر اثنتان وأربعون مع كمال النصاب بإحدى وأربعين نظراً للشاة الواجبة في زكاة الأُمّهات لئلّا ينتقص النصاب الثاني بإخراجها ؛ لصيرورته حينئذٍ بعده مائة وعشرين ، فلا يتحقّق فرض الاستقلال إلّا باثنتين وأربعين.

وعلى هذا الوجه لا بدّ بعد ذلك من استئناف حول واحد ، وإليه أشار بقوله :

( ثمّ يستأنف حول الجميع بعد تمام الأوّل ).

أي : يستأنف حول الأُمّهات والأولاد في النصاب الثاني بعد تمام حول النصاب الأوّل ، ويجزي ذلك الحول الذي بعد حول النصاب الأوّل إلى النصابين كليهما.

هذا كلّه على ما اختاره من الوجه الأجود.

وأمّا على الوجهين الأوّلين فلا ، ولهذا قال :

( وعلى الأوّلين تجب اخرى عند تمام حول الثانية ).

أي : على وجه ابتداء حول للسخال مطلقاً كما هو المنقول عن محقّق ( المعتبر ) (٣) ، أو إذا كمل بها النصاب الثاني خاصّة كما استقربه علّامة ( المنتهى ) (٤) أوّلاً لكنّه عدل

__________________

(١) في نهاية ابن الأثير ١ : ٢٢٤ : « لا ثِنى في الصدقة » : أي لا تؤخذ الزكاة مرّتين في السنة. ونقلها صاحب المدارك ٥ : ٧٨ ، كنز العمال ٦ : ٣٣٢ / ١٥٩٠٢.

(٢) الكافي ٣ : ٥٢٠ / ٦ ، الوسائل ٩ : ١٠٠ ، أبواب من تجب عليه الزكاة ، ب ٧ ، ح ١.

(٣) المعتبر : ٢ : ٥١٠.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٤٩١.

٢٦٣

عنه أخيراً ، لو ملك ثمانين شاة فولدت اثنتين وأربعين تجب شاة أُخرى عند تمام حول الثانية ، أي : السخال الاثنتين والأربعين الناتجة من الثمانين. أمّا على المذهب الأوّل فلأنّ السخال حينئذٍ مشتملة بنفسها على الأربعين ، وأمّا على المذهب الثاني فلإكمال النصاب الذي بعد نصاب الأُمّهات.

وهنا وجهان آخران احتملهما بعض المحقّقين (١) :

أحدهما : سقوط اعتبار النصاب الأوّل وصيرورة الجميع نصاباً واحداً.

وثانيهما : وجوب زكاة كلّ من الأُمّهات وأولادها عند انتهاء حولها.

فعلى الأوّل يجب إخراج مسنّة لو ملك ثلاثين بقرة فصارت أربعين ، وإخراج شاتين لو ملك ثمانين فصارت مائة وإحدى وعشرين.

وعلى الثاني يجب إخراج تبيع في المثال الأوّل عند انتهاء حول النصاب الأوّل ، وشاة في المثال الثاني كذلك ، فإذا مضى له حول من ملك الزيادة أخرج مسنّةً في الأوّل ؛ لأنّها الفرض في النصاب الثاني منه ، وشاتين لأنّها كذلك في الثاني من الثاني.

ثمّ إنّ هذه الوجوه المذكورة لا تختصّ بالسخال ، بل تجري أيضاً فيما لو ملك النصاب الثاني بعد جريان الأوّل في الحول. نصّ عليه جمع من المحقّقين ، كشهيد ( المسالك ) (٢) والسيّد السند في ( المدارك ) (٣).

وكيف كان ، فالوجه في الموضعين هو ما استوجهه شيخنا الشهيد السعيد واختاره فاضل ( الرياض ) (٤) ونقله عن جماعة من المتأخّرين ؛ لانطباقه على الأخبار المذكورة والطريقة المأثورة ، والله العالم العاصم.

حرره المتعطّش للفيض السبحاني أحمد بن صالح بن طعان البحراني في الليلة الخامسة والعشرين من شهر شعبان من السنة ١٢٧٨. والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) الحدائق الناظرة ١٢ : ٧٧ ٧٨.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٣٧٢.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٧٧.

(٤) رياض المسائل ٣ : ١٧٩.

٢٦٤

كتاب الصوم

الرسالة الرابعة عشرة

الرسالة العاشورية

٢٦٥
٢٦٦

الرسالة الرابعة عشرة

الرسالة العاشورية

٢٦٧
٢٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي فضَّل هذه الأُمّة المرحومة بالعاشوراء ، وجعلَ السعي فيه مشكوراً ، وضاعف لمن بكى أو تباكى فيه اجوراً ، وجعل التلذّذ بالطعام والشراب فيه محظوراً ، والصلاة والسلام على عبادِهِ الذين اصطفى محمّد سيّد الأصفياء والأنبياء ، وآله الحلفاء الحنفاء ، حلفاء الصفاء وألفاء الوفاء ، الممتحَنِين بصروف الكربِ والبلاء ولا سيّما شهيد كربلاء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد

فيقول فقير ربّه المنّان أحمد بن صالح بن طعّان عامله الله سبحانه بالعفو والغفران ـ :

قد سألني الأخ الصفيّ والخلّ الوفيّ العالم العامل الأمجد ، والفاضل الكامل الأرشد ، الشيخ محمّد بن المقدّس الشيخ عبد الله بن المقدّس الشيخ أحمد (١) ، لا زال كاسمه محمّد ، وفي أُموره مسدّد بحقّ محمّد وآله العُمَد ، عن مسألة تنحلّ إلى

__________________

(١) عالم فقيه ، كنّي بأبي المكارم لما عُرِف عنه من دماثة الخُلق وكرم الفعال ، له مؤلّفات عدّة ، منها : ( الخلافيّة والاستدلال ) ، وقد حرّر فيه المناظرات العلميّة التي دارت بينه وبين المصنِّف ( الشيخ أحمد آل طعان ). وكانت ولادته سنة ١٢٥٥ ه‍ ، ووفاته رحمه‌الله سنة ١٣١٨ ه‍. أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين ٢ : ٧٨١.

٢٦٩

مسائل جليلة ، وتنطوي على فوائد جزيلة.

وكان هو الحريّ بكشف نقابها وابن بجدة جوابها ، إذ مثلي لا يصلح أنْ يكون من حجّابها فضلاً عن المتأهّلين لإماطةِ حجابها ، ولا ممّن يحظى بسماعِ خطابِها فضلاً عن أنْ يُعَدّ من خطّابِها ، لِما أنا عليه من قُصورِ الباعِ وقلّةِ الاطّلاعِ.

لكن لمَّا كانَ أمره الشريف واجب الامتثال ، قابلته بالإطاعة على ما أنا عليه من كثرة الإضاعة وقلّة البضاعة ، واختلال الأحوال واختلافِ الأهوال ، ولا سيّما في هذه الأيّام التي وقع فيها ما وقع من الحوادثِ التي لا تُنيم ولا تَنام ، قاصداً بالجواب محض الاستفادة منه والاستزادة ، لا روم الإفادة له والإزادة.

والمأمول منه سلّمه الله تعالى سَدْل ذيلِ العفوِ على ما يجده من الهفو ، فإنّه أهلُ ذلك ، سلك اللهُ به أحسنَ المسالِك.

قال أيّده الله وسدّده ، وساعده وأسعده ـ :

( ما العاشوراء؟

وما صوم العاشوراء؟ وهل هو صوم أو إمساك؟

وما الصوم وما الإمساك؟

وما العصر ، وما الساعة في قول سليل صاحب الشفاعة

بعد العصر بساعة

؟ وما وقت الإفطار؟ وما ثواب الصوم في ذلك اليوم؟ ).

معنى العاشوراء

أقول سائلاً منه تعالى التوفيق لارتقاء سلّم الوصول لتحقيق الفروع والأُصول ـ :

أمّا العاشوراء ممدوداً ومقصوراً ، ويقال فيه أيضاً : العاشور والعشوراء مدّاً وقصراً أيضاً ـ : فالحقّ أنّه هو اليوم العاشر من المحرّم (١) ، الذي ذبح فيه الذبح العظيم الأعظم.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٤٠٥ ، المصباح المنير : ٧٥ ، ٤١١ ، تاج العروس ٣ : ٤٠٠.

٢٧٠

قيل : وهو من الأسماء الإسلاميّة ، وليس فاعولاء بالمدّ غيره في اللغة العربيّة (١).

وأمّا تاسوعاء لتاسع من المحرّم أيضاً ـ : فهو مولَّد ملحق بعاشوراء كما هو صريح الكتب اللغويّة (٢).

كما أنّ صريحها أيضاً اختصاص العاشوراء بالعاشر من خصوص شهر المحرّم (٣) دون غيره من سائر الشهور حتى أشهر الحرم ، كأنّ الواضع لاحظ بزيادة مبناه زيادة معناه ؛ تنبيهاً على ما يتضمّنه من الأمر الفضيع ، والخطب الفجيع ، والرزء الوجيع ، والفعل الشنيع.

وكذلك التاسوعاء أيضاً ؛ لأنّه يوم حاصر فيه الأعداءُ الأدعياء سعيد الشهداء وشهيد السعداء ، روحي له الفداء.

وما ذكرناه من اختصاص العاشوراء بخصوص العاشر من المحرَّم هو الذي اعتمد عليه المعظم ، بل الخلاف فيه كاد أن ينقرض أو يعدم ، لأنّ العاشر هو المتبادر من لفظه عند الإطلاق والمفهوم منه والمنساق ، والأصل في التبادر كونه وضعيّاً لا إطلاقيّاً ، والتبادر الوضعي علامة كون المعنى حقيقيّا.

مضافاً إلى ما يدلّ عليه من الأخبار المعتبرة القويّة ، والآثار المشتهرة الجليّة من طريق الخاصّة (٤) والعامّة (٥). على وجه أغنى اشتهارها عن ذكرها ، وكَلَّ بنانُ اليراعِ عن حصرها :

و ليس يصحّ في الأذهان شي‌ء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وقيل : إنّ عاشوراء هو التاسع ، ونسب إلى ابن عبّاس في أحد النقلين عنه (٦) ،

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ٣ : ٢٤٠.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ١٥ ، المصباح المنير : ٧٥ ، تاج العروس ٥ : ٢٩٠.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٤٠٥ ، المصباح المنير ٧٥ ، ٤١١ ، القاموس المحيط ٢ : ١٢٧.

(٤) الكافي ٤ : ١٤٧ / ٧ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٩ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٢.

(٥) سنن الدارمي ٢ : ٢٢ ، المعجم الكبير ( الطبراني ) ٣ : ١٠٣ / ٢٨٠٣.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٦٥٦ / ١٣٤.

٢٧١

بجعله مأخوذاً من العِشر بالكسر في أوراد الإبل في قول العرب : وردت الإبل عشراً ، إذا وردت اليوم العاشر أو التاسع.

ولعمري إنّه تأويل لا داعي إليه ولا وجه له يُعَوَّل عليه ، لمخالفته القوانين القطعيّة والقواعد الكلّيّة من وجوب حمل الألفاظ على ظواهرها الحقيقيّة ومداليلها الظاهريّة ، إلّا أنْ يمنع من ذلك وجود إحدى الصوارف من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ، ومدافعته لما نصّ عليه في الأحاديث المتكثّرة والتواريخ المعتبرة : من أنّ العاشوراء هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين الطاهر ، والفرخ الزاهر (١) ، مع ضميمة الإجماع نصّاً وفتوى : على أنّ ذلك اليوم هو خصوص اليوم العاشر (٢).

نعم ، سيأتي في بعض أخبار المسألة إطلاق العاشوراء على التاسع أيضاً ، كما في خبر مسعدة بن صدقة ، حيث قال عليه‌السلام فيه : « صُوموا العاشوراء التاسع والعاشر »(٣).

إلّا إنّ قُصَارى ما فيه إطلاقه عليه والاستعمال فيه ، والاستعمال هنا أعمّ من الحقيقة ، فلا دلالة فيه على أنّ عاشوراء هو خصوص التاسع كما هو المدّعى ، بل أُطلق عليه مجازاً لعلاقة المجاورة ، كجري الميزاب لمجاورته الماء في وجه ، وكإطلاق الراوية على ظرف الماء لمجاورته الراوية التي يُحمل عليها الماء من الدوابّ الثلاث.

أو لمشابهته له في الصفة ، ومشاركته إيّاه في الحكم ، كما يقال : الفقاع خمر ، والطواف بالبيت صلاة ، والرجل الشجاع أسد ، حيث شابه كلّ منهما الآخر في الصفة ، أو شاركه في كثير من الأحكام وإن غايره في بعضها ، فالتاسع لمّا شارك العاشر وشابهه في المصائب العظام والرزايا الجسام أُطلق عليه اسمه ، كما يقال : كلّ يوم من الأيام عاشوراء ، قال البوصيري في الهمزيّة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٥ ، مروج الذهب ٣ : ٧٤ ، البداية والنهاية ٨ : ١٨٥.

(٢) المقنعة : ٣٧٧ ، المبسوط ١ : ٢٨٢ ، منتهى المطلب ٢ : ٦١١.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٩٩ / ٩٠٥ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٣٧ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٧ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢٠ ، ح ٢.

٢٧٢

كلّ يومٍ وكلّ أرضٍ لكربي

منهم كربلا وعاشوراء

هذا .. وقد اشتمل لفظ الحديث المذكور على إشكال ظاهر لا مدفع له بحسب الفهم القاصر والفكر الفاتر ، وهو أنّ إطلاق العاشوراء على التاسع والعاشر وإرادتهما منه معاً لهما من باب الإطلاق الحقيقي فيهما معاً ، أو الحقيقي في أحدهما والمجاز في الآخر.

وأيّا ما فالإشكال ظاهر للزوم استعمال المشترك في أكثر من معنىً على الأوّل ، واستعمال اللفظ في معنَيَيْه : الحقيقي والمجازي على الثاني.

اللهمّ إلّا أن يتكلّف فيه بالتأويل وإخراجه عن هذا السبيل ، أو يلتزم بأحد الوجهين ، ويكون هذا الحديث دليلاً للمجوّزين في المسألتين ؛ لانتفاء الائتلاف فيهما والاجتماع ، وانتشار سبب الاختلاف والنزاع ، والله العالم.

وأمّا ما في حديث مناجاة موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام من تفسير العاشوراء بالبكاء والتباكي على سبط محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والمرثيّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى ، فلا ينافي ما قدّمناه من أنّ المراد به نفس اليوم العاشر ؛ لأنّ تفسيره في حديث المناجاة من باب المجاز لا الحقيقة ، تسمية للحالّ باسم المحلّ ؛ لأنّ الحالّ والمحلّ قد يسمّى أحدهما باسم الآخر ، كما في إطلاق الرحمة على الجنّة في قوله تعالى ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (١) ، وإطلاق القرية على أهلها في قوله سبحانه ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (٢) في أحد الوجهين ، وكتسمية المجلس بحُضَّارِهِ ، وبالعكس ، وهو باب واسع المجال مطّرد في جميع المحالّ.

وفي آخر الحديث ما يدلّ على ما قلناه ، ويؤيّد ما ذكرناه ، حيث قال تعالى شأنه : « وعزّتي وجلالي ، ما مِن رجل أو امرأة سال دمع عينَيْهِ في يومِ عاشوراء أو غيره ، قطرة واحدة إلّا

__________________

(١) آل عمران : ١٠٧.

(٢) يوسف : ٨٢.

٢٧٣

وكتبتُ له أجرَ مائة شهيد » (١). انتهى.

وهو نصٌّ في أنّ المراد بالعاشوراء خصوص ذلك اليوم المشؤوم والوقت المعلوم.

وأمّا قوله تعالى : « يا موسى ما مِن عبدٍ من عبيدي في ذلك الزمان ، بكى أو تباكى أو تعزّى على ولد المصطفى » (٢) .. إلى آخره.

فيحتمل أنّ المراد بذلك الزمان خصوص اليوم العاشر ، ويحتمل أنّه أشار به إلى مطلق الزمان المتأخّر عن زمن موسى عليه‌السلام الذي يقع فيه قتل الحسين عليه أفضل صلوات الله وسلامه ، والله العالم بحقائق أحكامه.

صوم العاشوراء هل هو صوم أو إمساك؟

وأمّا صوم العاشوراء ، وهل هو صوم أو إمساك؟

فقد اختلفت فيه كلمات فقهائنا الأبرار لاختلاف الأخبار الواردة في هذا المضمار ، فإنّ منها ما دلّ على استحباب صومه ، كخبر أبي همّام ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « صامَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عاشوراء » (٣).

وكخبر مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، أنّ عليّاً عليه‌السلام قال : « صُوموا العاشوراء التاسع والعاشر ، فإنّه يكفّر ذنوب سنة » (٤).

وخبر الزهري ، عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، المشتمل على بيان وجوه الصيام ، حيث قال فيه : « وأمّا الصوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة ، والخميس ، والاثنين ، وصوم أيّام البيض ، وصوم ستّة أيّام من شوّال بعد شهر رمضان ، وصوم يوم عرفة ، ويوم

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٠ : ٣١٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٤٩ ، ح ١٤.

(٢) مستدرك الوسائل ١٠ : ٣١٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٤٩ ، ح ١٤ ، وفيه : ( وتعزّى ) بدل ( أو تعزّى ).

(٣) التهذيب ٤ : ٢٩٩ / ٩٠٦ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٣٨ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٧ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢٠ ، ح ١.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٩٩ / ٩٠٥ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٣٧ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٧ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢٠ ، ح ٢.

٢٧٤

عاشوراء ، كلّ ذلك صاحبه فيه بالخيار إنْ شاء صام وإن شاء أفطر » (١).

وخبر عبد الله بن ميمون القدّاح ، عن [ جعفرٍ (٢) ] ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : « صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة » (٣).

وخبر كُثَيْرِ النَّوَّاء ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « لزقت السفينة يوم عاشوراء على الجودي ، فأمر نوح عليه‌السلام من معه من الجنِّ والإنسِ أن يصوموا ذلك اليوم ». وقال أبو جعفر عليه‌السلام : « أتدرون ما هذا اليوم؟! هذا اليوم الذي تابَ اللهُ فيه على آدم وحوّاء ، وهذا اليوم الذي فلقَ اللهُ فيه البحر لبني إسرائيل فأغرق فرعون ومن معه ، وهذا اليوم الذي غلب فيه موسى عليه‌السلام فرعون ، وهذا اليوم الذي ولد فيه إبراهيم عليه‌السلام ، وهذا اليوم الذي تاب الله فيه على قوم يونس عليه‌السلام ، وهذا اليوم الذي ولد فيه عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، وهذا اليوم الذي يقوم فيه القائم عليه‌السلام » (٤).

ومنها : ما دلّ على بدعيّته ونسخه بصوم شهر رمضان ، لصحيح زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، أنّهما سألا أبا جعفر عليه‌السلام عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال عليه‌السلام : « كان صومه قبل صوم شهر رمضان ، فلمّا نزل شهر رمضان تُرِك » (٥).

وخبر [ نجبة (٦) ] بن الحارث العطّار ، قال : سألتُ أبا جعفر عليه‌السلام عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال : « صوم متروك بنزول شهر رمضان ، والمتروك بدعة ».

قال [ نجبة ] : فسألتُ أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك من بعد أبيه؟ فأجاب بمثل جواب أبيه ، ثمّ قال لي : « أمَا إنّه صيام يومٍ ما نزل به كتاب ، ولا جرت به سنّة إلّا سنّة آل زياد بقتل الحسين عليه‌السلام » (٧).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٤٨ / ٢٠٨ ، الوسائل ١٠ : ٤١١ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٥ ، ح ١.

(٢) في المخطوط : ( عن أبيه جعفر ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الاستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٣٩ ، التهذيب ٤ : ٣٠٠ / ٩٠٧ ، وفيه : ( عن أبي جعفر ) وما أثبتناه هو الصحيح. راجع معجم رجال الحديث ( الخوئي ) ١٠ : ٣٥٧.

(٤) التهذيب ٤ : ٣٠٠ / ٩٠٨ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٨ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢٠ ، ح ٥.

(٥) الفقيه ٢ : ٥١ / ٢٢٤ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٩ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ١ ، وفيهما : ( قبل شهر رمضان ). (٦) في المخطوط : ( نخبة ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) الكافي ٤ : ١٤٦ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٠١ / ٩١٠ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٤١ ، الوسائل ١٠ : ٤٦١ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٥. وقد ورد في الثلاثة الأخيرة : نجية ، ولا يبعد الاتّحاد. انظر معجم رجال الحديث ٢٠ : ١٣٧.

٢٧٥

ومنها : ما دلّ على النهي عن صومه بالنهي الشديد والزجر الأكيد والوعيد ، الذي ليس عليه من مزيد ، كخبر عبد الملك ، قال : سألتُ أبا عبد الله عليه‌السلام عن صوم تاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرّم؟ فقال عليه‌السلام : « تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين عليه‌السلام وأصحابه بكربلاء ، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الحسين عليه‌السلام وأصحابه كرّم الله وجوههم ، وأيقنوا ألّا يأتي الحسين عليه‌السلام ناصرٌ ولا يمدُّهُ أهلُ العراق ، بأبي المستضعف الغريب ».

ثمّ قال : « وأمّا يوم عاشوراء فيوم أُصيبَ فيه الحسين عليه‌السلام صريعاً بين أصحابه ، وأصحابه صرعى حوله ، أفصومٌ يكون ذلك اليوم؟! كلّا وربّ البيت الحرام ، ما هو يوم صوم ، وما هو إلّا يوم حزن ومصيبة دخلَتْ على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين ، ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام ، غضب الله عليهم وعلى ذريّاتهم. وذلك يوم بكتْ عليه جميع بقاع الأرض خلا بقعة الشام ، فمن صام أو تبرّك به حشرهُ اللهُ مع آل زياد ممسوخَ القلبِ ومسخوطاً عليه ، ومن ادَّخر فيه إلى منزله ذخيرة أعقبه الله نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه ، وانتزع البركة عنه وعن أهل بيته وولده ، وشاركه الشيطان في جميع ذلك »(١).

وكخبر زيد النَّرسي قال : حدثنا عبيد بن زرارة ، قال : سمعت زرارة يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال : « مَن صامَه كان حظّه من صيام ذلك اليوم حظّ ابن مرجانة وآل زياد ».

قال : قلتُ : وما حظّهم من ذلك اليوم؟ قال : « النار » (٢).

وفي بعض نسخ هذا الحديث : « أعاذنا الله من النار ، ومن عملٍ يُقرِّبُ من النار » (٣).

وخبر الحسين بن أبي [ غُنْدُر (٤) ] ، عن أبيه ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفيه : قلتُ : فصوم

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٤٧ / ٧ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٩ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٠١ / ٩١٢ ، الإستبصار ٢ : ١٣٥ / ٤٤٣.

(٣) الكافي ٤ : ١٤٧ / ٦ ، الوسائل ١٠ : ٤٦١ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٤.

(٤) في المخطوط : ( منذر ) ، وما أثبتناه من المصدر.

٢٧٦

عاشوراء؟ قال : « ذلك يوم قتل فيه الحسين عليه‌السلام ، فإن كنتَ شامتاً فصُم ، فإنّ آلَ زيادٍ نذروا نذراً إنْ قُتِلَ الحسين عليه‌السلام أن يتّخذوا ذلك اليوم عيداً لهم ، فيصومون شكراً ويفرحون ، فصارتْ في آلِ سفيان سنّةً إلى ذلك اليوم ».

ثمّ قال : « إنّ الصوم لا يكون للمصيبة ولا يكون إلّا شكراً للسلامة ، وإنّ الحسين عليه‌السلام أُصيبَ يوم عاشوراء ، فإنْ كنتَ فيمن أُصيب به فلا تصم ، وإن كنتَ شامتاً ممّن سرّه سلامةُ بني أُميّة فصُم » (١).

وخبر جعفر بن عيسى ، قال : سألتُ الرضا عليه‌السلام عن صوم عاشوراء وما يقول الناس فيه؟ فقال : « عن صوم ابن مرجانة تسألني؟ ذلك يوم صامه الأدعياء من آلِ زياد لقتل الحسين صلوات الله عليه ، وهو يوم يَتشأَّمُ به آلُ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويتشاءمُ به أهلُ الإسلام ، واليوم المُتشئِّم به الإسلامُ وأهلُه لا يصام ولا يُتبرَّكُ به ، ويوم الاثنين يوم نحسٍ قبضَ اللهُ فيه نبيَّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أُصيب آل محمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا في يوم الاثنين فتشأَّمْنا به وتبرّك به أعداؤنا ، ويوم عاشوراء قتل فيه الحسين عليه‌السلام وتبرّك به ابن مرجانة ، وتتشأَّمُ به آلُ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن صامهما وتبرّك بهما لقي الله عزوجل ممسوخ القلب ، وكان محشره مع الذين سَنّوا صومهما والتبرّك بهما » (٢).

ومنها : ما هو ظاهر في الكراهة من دون احتمال التحريم ، وهو خبر زرارة ، عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، قالا : « لا تصم يوم عاشوراء ، ولا عرفة بمكّة ، ولا في المدينة ، ولا في وطنك ، ولا في مِصرٍ من الأمصار » (٣).

أقول : وإنّما جعلنا هذا الخبر ممّا ظاهره الكراهة فقط ؛ لجمعه مع صيام عرفة الذي لا قائل فيه بالتحريم ، فيكون ذلك قرينة على صرف النهي عن حقيقته.

وأمّا خبر جعفر بن عيسى السابق فلا مانع فيه من احتمال التحريم إلّا اشتماله

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٦٧ / ١٣٩٧ ، الوسائل ١٠ : ٤٦٢ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٧ ، بتفاوت.

(٢) الكافي ٤ : ١٤٦ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٣٠١ / ٩١١ ، الإستبصار ٢ : ١٣٥ / ٤٤٢ ، الوسائل ١٠ : ٤٦٠ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٣ ، باختلاف فيهما.

(٣) الكافي ٤ : ١٤٦ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٣٠٠ / ٩٠٩ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٤٠ ، الوسائل ١٠ : ٤٦٢ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٦.

٢٧٧

على صوم الاثنين الذي قد تمتنع مانعيّته بالتزام التحريم كما ذهب إليه ابن الجُنيد (١) وبعض مشايخنا المتأخّرين (٢) ، وإن كان الاستحباب هو الذي عليه جلّ الأصحاب.

ومن هذا القسم ما أرسله المحقّق الشيخ علي في حاشية الإرشاد عن الصادق عليه‌السلام ، حيث قال بعد قول الماتن : ( وعاشوراء حزناً ) (٣) ـ : ( الأفضلُ فيه الإمساك مع النيّة إلى العصر ، ثمّ يفطر بعد ذلك ، كما بيّنه في ( التذكرة ) (٤) وغيرها (٥) لقول الصادق عليه‌السلام : « صومُهُ مكروهٌ » ).

أقول : هذا اللفظ للصادق عليه‌السلام وإن لم أقف عليه في شي‌ءٍ من الأخبار ولا على مَنْ نقله من نقلةِ الآثار ، إلّا أنّ نقله إيّاه على جهة البتِّ والجزم ، فلا يقصر عن سائر المراسيل لما هو عليه من الوثاقة والمقام الجليل.

ولعلّه أراد نقل تلك الأخبار بمعناها بعد جعل الكراهة هو مؤدّاها.

فهذا جملةُ ما وقفتُ عليه من أخبار الباب الواردة عن الأئمّة الأطياب مضافاً إلى ما سيأتي من صحيحتي عبد الله بن سنان ومعاوية بن وهب ، المرويّة أُولاهما في ( المصباح ) و ( الإقبال ) ، وثانيتهما في ( المنتخب ) وهي كما ترى مختلفة الدلالة غير متطابقة المقالة ، ولاختلافها اختلفت كلمة الأصحاب.

فالمشهور بينهم استحباب صومه حزناً على ذلك المصاب لا شماتةً وشكراً ، كما هو سنّة أُولئك النُّصّاب ، ونفى عنه في ( الجواهر ) (٦) الخلاف ، وظاهر عبارة السيّد ابن زهرة في ( الغنية ) (٧) حصول الإجماع.

إلّا أنّهما ممنوعان غايةَ المنعِ ؛ لشيوع الخلاف والنزاع.

واحتجّوا على ذلك بالجمع بين الأخبار الآمرة بصيامه ، وبين الأخبار الأُخرى الناهية عن الحَوْم حولَ خيامه ، بحمل الاولى على الصوم للحزن والفضيلة ، والثانية

__________________

(١) عنه في المختلف ٣ : ٥٠٥.

(٢) المختلف ٣ : ٥٠٦.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٣٠١.

(٤) التذكرة ٦ : ١٩٢.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ٣٨٤.

(٦) جواهر الكلام ١٧ : ١٠٥.

(٧) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥١١.

٢٧٨

على جعل صومه للشماتة والشكر وسيلة اقتداءً بفعل تلك الثلّة الرذيلة.

وهذا الجمع للشيخ المفيد (١) ، وتبعه عليه تلميذه شيخ الطائفة في كتابي الأخبار وعوَّل عليه أيضاً في نهايته (٢).

قال في ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) بعد إيراده لتلك الأخبار : ( فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ما كان يقوله شيخنا رحمه‌الله ، وهو أنّ مَنْ صام يوم عاشوراء على طريق الحزن بمصايب آلِ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والجزع لما حلَّ بعترتِه فقد أصاب ، ومن صامه على ما يعتقد فيه مخالفونا من الفضل في صومه والتبرّك والاعتقاد لبركته وسعادته فقد أثِمَ وأخطأ ) (٣) انتهى.

ثمّ وافقهما أكثر المتأخّرين عنهما (٤).

وجزم جمع من المتأخّرين بالتحريم والنهي عن صومه مطلقاً (٥) ، والتأثيم ؛ حملاً للأخبار الآمرة على التقيّة ، إذ هي أقوى الأسباب الناشئة عنها تلك البليّة ، وللأخبار الناهية على ما هو ظاهر أكثرها من تحريم صومه مطلقاً ، لأنّه شعارُ بني أُميّة.

وجنح الباقون للكراهة (٦) ؛ حملاً للنهي عليها ، لعدم نهوض أخباره بالتحريم فيها ، خصوصاً مع ظهور بعضها فيها ، حيث اشتملت على جمعه مع صوم الاثنين وعرفة ، الذي قيل : إنّه لا قائل فيه بالتحريم من معتبري الفرقة المحقّة المشرّفة.

وأقول مستمدّاً من سيبِ الكريمِ المنّان ـ : لا يخفى على من سرّح بريد نظره الثاقب بتدبّرٍ وإمعانٍ أنّ ما جنح إليه المشهور منهدمُ الأركان مُتداعي البنيان.

وأمّا ما استُدِلَّ به لهم من نفي الخلاف ومنقول الإجماع والأخبار ، فهو من الضعف بمكان

__________________

(١) المقنعة ( سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٤ : ٣٦٦ ٣٦٧.

(٢) النهاية ( الطوسي ) : ١٦٩.

(٣) التهذيب ٤ : ٣٠٢ ، الاستبصار ٢ : ١٣٥.

(٤) مدارك الأحكام ٦ : ٢٦٧.

(٥) جامع المقاصد ٣ : ٨٦ ، مسالك الأفهام ٢ : ٧٨ ، الحدائق الناضرة ١٣ : ٣٧٦.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ١٨٩ ، كشف الغطاء : ٣٢٤ ، جواهر الكلام ١٧ : ١٠٨.

٢٧٩

أمّا الأوّلان ؛ فلما لا يخفى على من رقى ذُرى العِرفان من شُيوع الخلاف في سائر الأزمان على وجه ينتفي فيه مناط الحجّيّة الذي هو الكشف عن قول المعصوم سيّد البريّة.

وأمّا الأخبار ، فالجواب عنها :

إمّا إجمالاً ؛ فلمعارضتها بما هو أقوى عمداً ، وأكثرُ عدداً ، وأصحُّ سنداً ، وأبعدُ عن مذاهب أهلِ الخلاف أمداً ، وقد تكثّرت الأخبار عن الأئمّة الأطهار في بيان ميزان الترجيح والمعيار باطّراح ما وافق أُولئك الأشرار ، معلّلاً في كثير منها ب

أنّ الرشد في خلاف أُولئك الفجّار (١)

وحيث قد وافقت هذه الأخبار مذهبهم سقطت عن درجة الاعتبار.

وإمّا تفصيلاً ، فأمّا خبر أبي همّام (٢) ؛ فلأنّ قُصارى ما فيه إخبار أبي الحسن عليه‌السلام عن صيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه في الجملة ، فهو قضيّة مهملة وواقعة غير مفصّلة ، فلعلّ صومه إيّاه كان قبل نسخه بنزول شهر رمضان لا مستمرّاً في جميع الأزمان.

وقد سمعتَ دلالة صحيح زرارة ، ومحمد بن مسلم (٣) ، وخبر [ نجبة (٤) ] بن الحارث (٥) على ترك صومه بعد ذلك ، وبدعيّته هنالك.

فتجتمع هذه الأدلّة وتزول تلك العلّة ، لتضمّن خبر أبي همّام مشروعيّته سابقاً ، ولتضمّن هذين الخبرين ترك صومه لاحقاً ، لما ورد من أنّ « أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجري فيه النسخ كالقرآن » ، كما في خبر سليم بن قيس الهلالي المرويّ في ( الكافي ) ، و ( الخصال ) ، و ( الاحتجاج ) ، و ( غيبة النعماني ) المشتمل على سبب اختلاف

__________________

(١) الكافي ١ : ٨ / خطبة الكتاب ، الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٩ / ٩٠٦ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٣٨ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٧ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢٠ ، ح ١.

(٣) الفقيه ٢ : ٥١ / ٢٢٤ ، الوسائل ١٠ : ٤٥٩ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ١.

(٤) في المخطوط : ( نخبة ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٥) الكافي ٤ : ١٤٦ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٠١ / ٩١٠ ، الإستبصار ٢ : ١٣٤ / ٤٤١ ، الوسائل ١٠ : ٤٦١ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ٢١ ، ح ٥ وقد ورد في الثلاثة الأخيرة : نجية.

٢٨٠